مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

(لو ، وليت) في الريح ، لأن اعتراض المعترض عليه مردود ، واقتراح المقترح ما ظن أنه أولى منه سفه ، وجملة الشريعة مشتملة على أنواع الحكمة علما وعملا ، حتى لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم تكن لها إليها نسبة ، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان ـ فهي متكفلة بتعريف الخليقة ربها وفاطرهم المحسن إليهم بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه.

ويقابل ذلك تعريف حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه ، وحال السالكين تلك الطريق وإلى أين تنتهي بهم ، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل بالتسليم والإذعان ، وتستدير حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها ، فمن ناصر باللغة الشائعة ، حام بالعقل الصريح ، ذاب عنه بالبرهان ، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ـ ومتفقة في الحلال والحرام. ومعتن بتفسير القرآن ـ وحافظ المتون والسنة وأسانيدها ـ ومفتش عن أحوال رواتها ـ وناقد لصحيحها من سقيمها ـ ومعلولها من سليمها.

فهذه الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه ـ ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيئاتها ومقادير الأجرام ـ ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، واشتباك الاستفاضات وامتزاجها وقوامها ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وما الفاعل منها وما المنفعل ، ولا فيها حديث لمهندس ولا لباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها. وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها ، وما الكرة وما الدائرة والخط المستقيم والمنحنى ولا فيها هذيان المنطقيين ونحوهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام ، والمقولات العشر والمختلطات والموجهات : الصادر عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ، ولا يصدق بمعاد الأبدان ، ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان.

فجعل هؤلاء المعارضون بين العقل والنقل ، عقل هذا الرجل معيارا على

١٦١

كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله. فما زكاه منطقه وآليه وقانون الذي وضعه بعقله قبلوه ، وما لم يزكه تركوه.

ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء صحيحة لكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعمالها ، وكان الله تعالى ينبه عليها ويحض على التمسك بها.

فيا للعقول أين الدين من الفلسفة؟ وأين كلام رب العالمين من آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين؟ والوحى حاكم والعقل محكوم عليه. فإن قالوا : إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء ، فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه. وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح. هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا ، وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هى الطريقة البرهانية للحكمة كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء : ١٧٤) ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء : ١٣) فالطريقة البرهانية (١) هي الواردة بالوحي الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ، الواعدة لحسن المآب المبينة لحقائق الأنباء ، المعرفة بصفات رب الأرض والسماء. وأن الطريقة التقليدية التخمينية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان وضع بعقله قانونا يصحح زعمه علوم الخلائق وعقولهم ، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم ؛ بل ما وزن به علم إلا أفسده ، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان.

الحادي عشر : إن الله تعالى قد تمم الدين بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكمله به ، ولم يحوجه هو لا أمته إلى عقل ولا نقل سواه. ولا رأى ولا منام. ولا كشف ؛ قال الله

__________________

(١) يعنى التى قامت على البرهان والدليل.

١٦٢

تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة : ٣) وأنكر على من لم يكتف بالوحي فقال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت : ١٥) ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه ، فأخبر أنه يكفيهم من كل آية. فلو كان ما تضمنه من الأخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه ؛ فضلا عن أن يكون كافيا. وسيأتى في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة.

والمقصود أن الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بعثه به ؛ فلم يحوج أمته إلى سواه.

فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا تاما في نفسه. وفي «مراسيل» أبي داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى بيد عمر ورقة فيها شيء من التوراة فقال : «كفى بقوم ضلالة ان تبعوا كتابا غير كتابهم ، أنزل على نبي غير نبيهم» (١) فأنزل الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، وقال تعالى (فَلا وَرَبِّكَ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (٤٥٤) ، ورواه الدارمي (١ / ١٣٤) من طريق سفيان عن عمر بن يحي بن جعدة قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتف فيه كتاب فقال : «كفى بقوم ضلالا أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به نبى غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم» فأنزل الله عزوجل : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ...) الآية.

قلت : ويحيى بن جعدة هو المخزومى ، قال أبو حاتم والنسائي : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات وهو تابعى فالرواية مرسلة.

وقال الحافظ في «التقريب» : ثقة وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه أه.

والحديث ذكره الحافظ في «الفتح» : كتاب فضائل القرآن ، باب : من لم يتغن بالقرآن ، وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ). وعزاه

١٦٣

لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).

فأقسم سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه فلا يبقى فيها حرج ، ونسلم لحكمه تسليما ؛ فلا نعارضه بعقل ولا رأى ، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول ، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه.

وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى : ١٠) وهذا نص صريح في أن حكمة جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده ، فهو الحاكم فيه على لسان رسوله ، فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بكتابه. وقال تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (الأعراف : ٣) فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهي عما خالفه ، وأخبر أن كتابه بينه وهدى وشفاء ورحمة ونور مفصلا وبرهانا ؛ وحجة وبيانا. فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك ، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه.

__________________

للطبري وغيره بلفظ : جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها ما سمعوا من اليهود ، وفقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره وسكت عنه الحافظ ثم قال :

وقد خفى وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثير من الناس كابن كثير فنفي أن يكون لذكرها وجه ، على أن ابن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال : قال أهل التأويل في هذه الآية ، فذكر ابن يحيى بن جعدة مختصرا ، قال : فالمراد بالآية الاستغناء عن أخبار الأمم الماضية وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر ، قال وإتباع البخاري الترجمة بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك ، وقال ابن التين : يفهم من الترجمة أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن الاستغناء لكونه أتبعه الآية التى تتضمن الإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره ، وحمله على ضد الفرق من جملة ذلك ا ه.

١٦٤

(صريح العقل موافق لصحيح النقل)

الثاني عشر : إن ما علم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة. ومن تأمل ذلك فيما تنازع العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خلف النصوص الصريحة الصحيحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها ، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها. فتأمل ذلك في مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد ، تجد ما يدل عليه صريح النقل لم يخالفه لما دل عليه العقل. ونحن نعلم قطعا أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول وإن أخبروا بمجازات العقول ، فلا يخبرون بما يحيله العقل.

الثالث عشر : إن الشبهات القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الرب ومعاد الأبدان : التي يسميها أربابها حججا عقلية في كل معارضة للنقل ، وهى أقوى من الشبه التي يدعي النفاة للصفات أنها معقولات خالفت النقل ومن جنسها أو قريب منها كما قيل :

دع الخمر يشربها الغواة فإني

رأيت أخاه مغنيا عن مكانها

فإن لم يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها

قد أورد على القدح في النبوات ثمانين شبهة أو أكثر ، وهي كلها عقلية ؛ وأورد على إثبات وجود الصانع سبحانه نحو أربعين شبهة ، وأورد على المعاد مثل ذلك ، والله يعلم أن هذه الشبهة من جنس شبه نفاة الصفات وعلو الله على خلقه وتكليمه وتكلمه ؛ ورؤيته بالأبصار عيانا في الآخرة ، لكن نفقت هذه الشبهة بجاه نسبة أربابها إلى الإسلام ؛ وأن القوم يذبون على دين الله وينزهون الرب عما لا يليق به : وإلا فعند التحقيق القاع عرفج ولا فرق بين الشبه المعارضة لأصل نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الشبه المعارضة لما أخبر به. ومن تأمل هذا وهذا تبين له حقيقة الحال ، وربما وجد الشبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه المعارضة لما أخبرت به الرسل.

فنقول لمن قدم المعقول على ما أخبر به الرسول : هل تقدم المعقول المعارض

١٦٥

لأصل الرسالة والنبوة وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما تعلم أن صدرك لم ينثلج له ، فإن تلك الأجوبة مبنية على قواعد قد اضطرب فيها قولك ، فمرة تثبتها ، ومرة تنفيها ، ومرة تقف فيها؟ أن تطرح تلك المقولات وتشهد بفسادها؟ فهلا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرسول ما سلكت في تلك ، فكانت السبيل واحدة؟ يوضحه.

الوجه الرابع عشر : وهو أن أرباب تلك الشبه إنما استطالوا على النفاة الجهمية بما ساعدوا عليه من تلك الشبه ، وقالوا : كيف يكون رسولا صادقا من يخبر بما يخالف صريح العقل ، ولا يتكلم ؛ ولا يرى ؛ ولا يشار إليه ، ولا ينتقل من مكان إلى مكان ، ولا تحله الحوادث ، ولا له وجه ، ولا يد ولا إصبع ، ولا سمع ولا بصر ؛ ولا علم ولا حياة ؛ ولا قدرة زائدة على مجرد ذاته. ومن أصولنا وأصولكم إنه لم يقم بذاته فعل ولا وصف ؛ ولا حركة ، ولا استواء ، ولا نزول ، ولا غضب ولا رضى ، فضلا عن الفرح والضحك. ونحن وأنتم متفقون في نفس الأمر أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل وإنما ذلك كلام شيء عنه بإذنه عندكم وبواسطة العقل الفعال عندنا. ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يراه أحد ، ولا رآه ، ولا يسمع كلامه أحد ، وأن هذا محال ، فهو عندنا وعندكم بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التى نفت هذه الأمور وهى بعينها تنفى صحة نبوة من أخبر بها فكيف يمكن أن يصدق من جاء بها. وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده؟ فما للحرب بيننا وبينكم وجه. فكما تساعدنا نحن وإياكم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل. فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا جميعا على إبطال الأدلة النقلية به.

فانظر هذا الإخاء. ما ألصقه. والنسب ما أقربه. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردهم عليهم وبحوثهم معهم وخضوعهم لهم فيها.

الخامس عشر : إن الرجل إما أن يكون مقرا بالرسل أو لا ، فإن كان منكرا فالكلام معه في إثبات النبوة. فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل.

١٦٦

فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض. وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات : أحدها صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به ، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة ، وإن زعم أنه مقر بها ، وإن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا لأفهامهم ، ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة. وهذه حقيقة قول هؤلاء. وهو عندهم كذب حسن. وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به ، فالكلام معه في المقام الثاني : وهو أنه هل يقر بأنه أخبر به أو لا يقر به. فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه دعا إلى الله وحارب أعداءه ، فإن أصر على إنكار ذلك فقد أنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة.

وإن أقر أنه أخبر بذلك فالكلام معه في المقام الثالث : وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟ فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في المقام الرابع. وهو أن هذا المراد هل هو حقيقة في نفسه أو باطل ؛ فإن كان حقا لا يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة ؛ وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى مقام خامس ، وهو أنه هل يعلم الحق في نفس الأمر أو (لا) يعلمه؟ فإن قال : لم يكن عالما به فقد نسبه إلى جهل ، وإن قال كان عالما به ، انتقلنا معه إلى مقام سادس : وهو أنه هل يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم ، أم لم يكن ذلك ممكنا له؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود ، وأوقاح المعتزلة والجهمية. وإن كان ممكنا له ولم يفعل ذلك غشا لأمته ، وتوريطا لهم في الجهل بالله وأسمائه وصفاته : واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه ؛ وأن الجهمية وأفراخ الصابئة واليونان نزهوا الله عما لا يليق به ، وتكلموا بالحق الذي كتمه الرسول. وهذا أمر لا محيد لكم عنه. فاختاروا أي قسم شئتم من هذه الأقسام. والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار ، وأن عقلاءكم يختارون أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعرف الحق في خلاف ما أخبر به ، وأنه كان قادرا على التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير. فخاطب الناس خطابا جمهوريا بما يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه. وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء به.

١٦٧

السادس عشر : أن طرق العلم ثلاثة : الحس ، والعقل ، والمركب منهما ، فالمعلومات ثلاثة أقسام : أحدها : ما يعلم بالعقل ، والثاني : ما يعلم بالسمع ، والثالث : ما يعلم بالعقل والسمع. وكل منهما ينقسم إلى ضروري ونظري. وإلى معلوم ومظنون وموهوم. فليس كل ما يحكم به العقل يكون علما. بل قد يكون ظنا أو وهما كاذبا. كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك.

فلا بد من حاكم يفصل بين هذه الأنواع. فإذا اتفق العقل والسمع أو العقل والحس على قضية كانت معلومة يقينية. وإذا انفرد بها الحس عن العقل كانت وهمية ، كما ذكر من أغلاط الحس في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنا ، والساكن متحركا ، والواحد اثنين ، والاثنين واحدا ، والعظيم الجرم صغيرا ، والصغير كبيرا ، والنقطة دائرة وأمثال ذلك وهذه الأمور يجزم بغلطها لمتفرد الحس بها عن العقل.

وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبا ، وقد يكون صادقا ، ضرورة ونظرا. وقد يكون ظنيا ، فإذا قارنه العقل كان حكمه علما ضروريا كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة. فإنه حصل بواسطة السمع والعقل فإن السمع أدى إلى العقل ما سمعه من ذلك ، والعقل حكم بأن المخبرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فأفاده علما ضروريا أو نظريا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبر به ، والنزاع في كونه ضروريا أو نظريا لا فائدة فيه. وكذلك الوهم يدرك أمورا لا يدرى صحيحة هي أم باطلة ، فيردها إلى العقل الصريح ، فما صححه منها قبله ، ما حكم ببطلانه رده. فهذا أصل يجب الاعتبار به ، وبه يعرف الصحيح من الفاسد.

إذا عرف هذا فمعلوم أن السمع الذي دل العقل على صحته أصبح من السمع الذي لم يشهد له عقل. ولهذا كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد ، وما ذلك إلا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطئون على الكذب ، وإن كان الذي أخبروا به مخالف لما اعتاده المخبر وألفه وعرفه ، فلا نجد محيدا عن تصديقهم ، والدلالة العقلية البرهانية على صدق الرسل أضعاف

١٦٨

الأدلة الدالة على صدق المخبرين خبر التواتر فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل ، ولكن اجتماعهم على الخبر دليل على صدقهم ، والرسل عليهم الصلاة والسلام قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم ، فقد اتفقت كلمتهم وتواطأت أخبارهم على إثبات العلو والفوقية لله تعالى ، وأنه تعالى فوق عرشه ، فوق سماواته بائن من خلقه ، وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ، ويثيب ويعاقب ، ويحب ويبغض ، فأفاد خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من الأخبار المتواترة لمخبرها. فإن الأخبار المتواترة مستندة إلى حس قد يغلط ، وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط فالقدح فيها بالعقل من جنس شبه السوفسطائية القادحة في الحس والعقل (١) ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل أو بهما. يوضحه :

الوجه السابع عشر : أن المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل ، بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر ، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة ، والمعلومات التي تدرك بالحس. وهذا حجة من فضل السمع على البصر. ورجح آخرون البصر لقوة إدراكه وجزم بأنه يدركه ، وبعده من الغلط ؛ وفصل النزاع بينهما أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل ، وما يدرك بالبصر أتم وأكمل.

والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحس (نسبة) المحسوس إليها كقطرة من بحر ، ولا سبيل إلى العلم بها إلا الخبر الصادق ، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء

__________________

(١) السوفسطائية ثلاثة مذاهب : الأول ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام وهم «العنادية» ، والثانى ينكر العلم بثبوت الشيء ولا يعدم ثبوته ولا ينكر نفس الحقائق ولا يثبتها ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهم اللاأدريّة ، والثالث يزعم أن الحقائق تابعة للاعتقادات مع كونه ينكر ثبوتها وهم «العندية» ، وللمزيد انظر «تلبيس إبليس» لابن الجوزى الباب الخامس بتحقيقنا ط المكتب الثقافي بالقاهرة.

١٦٩

أنبأهم من أنباء الغيب بما يشاء ، وأطلعهم منها على ما لم يطلع عليه غيرهم كما قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (آل عمران : ١٧٩) وقال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن : ٢٦ ـ ٢٧) ، وقال تعالى (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج : ٧٥) فهو سبحانه يصطفى من يطلعه من أنباء الغيب على ما لم يطلع عليه غيره.

ولذلك سمى (نبيا) من الإنباء ، وهو الإخبار ، ولأنه مخبر من جهة الله ومخبر عنه فهو منبأ ، ومنبئ. وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم بل ولا أكثره. ولهذا كان أكمل الأمم علما أتباع الرسل ، وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم النجوم والهندسة ، وعلم الكم المتصل والمنفصل ، وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها ، ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم بها وآثروها على علوم الرسل ، وهي كما قال الواقف على نهايتها : «ظنون كاذبة ، وإن بعض الظن إثم» وهي علوم غير نافعة ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع ؛ وإن نفعت فنفعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها.

(العلم النافع هو ما أخبرت به الرسل)

فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عزوجل طلبا وخبرا فهو العلم المزكي للنفوس المكمل للفطر ، المصحح للعقول الذي خصه [الله] باسم العلم ، وسمى ما عارضه ظنا لا يغني من الحق شيئا وخرصا وكذبا فقال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (آل عمران : ٦١) وشهد لأهله أنهم أولو العلم فقال سبحانه وتعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) (الروم : ٥٦) ، وقال تعالى :

١٧٠

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران : ١٨) ، والمراد بهم أولو العلم بما أنزله على رسله ليس المراد بهم أولى العلم بالمنطق والفلسفة وفروعها ، وقال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه : ١١٤) ، فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة ، وقال تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء : ١٦٦) ، أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر ، فالباء للمصاحبة مثل قوله (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (هود : ١٤) أي أنزل وفيه علم الله ، وذلك من أعظم البراهين علي صدق نبوة من جاء به.

ولم يصنع شيئا من قال : ان المعنى أنزله وهو يعلمه. وهذا إن كان حقا فإن الله يعلم كل شيء فليس في ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوى ، فإن الله يعلم الحق والباطل بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه الله وأعلمه به ؛ فإن هذا من أعظم أعلام النبوة والرسالة. وقال فيما عارضه من الشبه الفاسدة التي يسميها أربابها قواطع عقلية (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : ٢٨) ، وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام : ١١٦) ، وقال لمن أنكر المعاد بعقله : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية : ٢٤) ، والظن الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوص الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الراجح بل هو أكذب الحديث وقال : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (الذاريات : ١٠ ، ١١).

وأنت إذا تأملت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصا ، وعلمت أنهم هم الخراصون ، وأن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحى على الأنبياء والمرسلين ؛ وهو الذي أقام الله به حجته ، وهدى به أنبياءه ورسله وأتباعهم وأثني عليهم فقال : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا

١٧١

وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٥١) وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء : ١١٣) ، وقال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران : ١٦٤) الآية ، فهذه النعمة والتزكية إنما هي لمن عرف زعم إن ذلك مخالف لصريح العقل ، وإن العقول مقدمة عليه ، والله المستعان.

الثامن عشر : إن العقل تحت حجر الشرع فيما يطلبه ويأمر به وفيما يحكم به ويخبر عنه فهو محجور عليه في الطلب والخبر ، كما أن من عارض أمر الرسل بعقله لم يؤمن بهم وبما جاءوا به ؛ فكذلك من عارض خبرهم بعقله ، ولا فرق بين الأمرين أصلا. يوضحه :

إن الله سبحانه حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم. أما الأول ففي قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة : ٢٧٥) ، فعارضوا تحريمه للربا بعقولهم التي سوت بين الربا والبيع. فهذا معارضة النص بالرأى ، ونظير ذلك ما عارضوا به تحريم الميتة من قياسها على المذكاة وقالوا. تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ، وفي ذلك أنزل الله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام : ١٢١).

وعارضوا أمره بتحويل القبلة وقالوا : إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركت الحق ، وإن كانت باطلا فقد كنت على باطل ، وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله ، فإنه من عارض أمر الله بعقله ، وزعم أن العقل يقتضي خلافه (١).

__________________

(١) وذلك بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف : ١٢) وتقدم نقل كلام العلماء في إفساد هذا القياس وإبطاله ورده على صاحبه فسبحان الله الحليم الصبور.

١٧٢

وأما الثاني وهو معارضة خبره بالعقل فكما حكى الله سبحانه عن منكري المعاد (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : ٧٨) وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم ، وعارضوا أخبار عن النبوات بعقولهم ؛ وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم ، وعارضوا أدلة نبوة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعقولهم فقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟) (الزخرف : ٣١) ، وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول.

وكذلك قولهم في قوله تعالى (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ : لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) (الفرقان : ٧ ، ٨). أي لو كان رسولا لخالق السموات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في المعيشة ؛ ولأغناه عن أكل الطعام ؛ ولأرسل معه ملكا من الملائكة أو ألقي إليه كنزا يغنيه عن طلب الكسب.

وعارضوا شرعه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية ، واستندوا فيها إلى القدر. فقال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ : كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام : ١٤٨ ـ ١٤٩) وحكى مثل هذه المعارضة في سورة النحل ، وفي سورة الزخرف ، وإذا تأملتها حق التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضة آيات الصفات بعقولهم ، فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله للكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر ، والنفاة عارضوا بأصول فاسدة هم وضعوها من تلقاء أنفسهم ، أو تلقوها عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس والفلاسفة ، وهي خيالات فاسدة.

وبالجملة فمعارضة أمر الرسل أو خبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار. فهم سلف الخلق بعدهم ، فبئس السلف الخلف ، ومن تأمل معارضة المشركين

١٧٣

للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوه على خلقه ، وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم. فإن كانت تلك المعارضة باطلة فهذه أبطل وأبطل ، وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها ، وهذا لا محيد لهم عنه. يوضحه :

التاسع عشر : أن القرآن مملوء من ذكر الصفات والعلو على الخلق والاستواء على العرش وتكلم الله وتكليمه للرسل ؛ وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر ، والحياة والمحبة والغضب والرضا للرب سبحانه ، وهذا عند النفاة مثل وصفه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم ، كل ذلك مستحيل عليه تعالى من أعظم المنفرات عنه ، ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه ؛ ولم يعارضه أعداؤه في حرف واحد من هذا الباب مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه. فهلا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنفاة ، وقالوا قد أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح ، فكيف يمكننا تصديقك؟ بل كان القوم على شركهم وضلالهم أعرف بالله وبصفاته من النفاة والجهمية ، وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السناوية والفارابية والطوسية (١).

العشرون : إن دلالة السمع على مدلوله متفق عليها بين العقلاء وإن اختلفوا في جهتها هل هي ظنية أو قطعية؟ وأرادت الرسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته ؛ أم أرادت الرسل إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصرفها عن ظاهرها؟ فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها. ثم قال أتباع الرسل : مدلولها ثابت في الأمر وفي الإرادة ، وقال النفاة أصحاب التأويل : مدلولها منتف في الأمر وفي بعض الإرادة ، وقال أصحاب التخييل : مدلولها ثابت في الإرادة منتف في الأمر.

وأما دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليل واحد منها ، بل كل طائفة منهم تقول في أدلة خصومها : إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها ، وأهل السمع مع كل طائفة في دلالة العقل على فساد

__________________

(١) يعني بهذه الأسماء : اتباع ابن سينا ، وأبي نصر الفارابي ونصير الدين الطوسي.

١٧٤

قول تلك الطائفة الأخرى المخالفة للسمع ، فكل طائفة تدعى فساد قول خصومها بالعقل ، يصدقهم أهل السمع على ذلك ، ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل.

وقد تضمنت دعوى الطوائف فساد ما يفهم العقل بشهادة بعضهم على بعض ، وشهادة أهل الوحي والسمع معهم ، ولا يقال : هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة الفرق كلها على بطلان ما دل عليه السمع وإن اختلفوا في أنفسهم ، لأن المطلوب أنهم كلهم متفقون على أن السمع دل على الإثبات ، ولم يتفقوا على أن العقل دل على نقيضه ، فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يتفق عليها على الدلالة المتفق عليها ، وهو المطلوب.

الحادي والعشرون : أن الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها كإثبات علو الله على خلقه ، واستوائه على عرشه ، وتكلمه ، ورؤية العباد له في الآخرة ؛ وإثبات الصفات له ، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول جاء بها ، وعلم بالاضطرار صحة نبوته ورسالته ، وما علم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليل وامتنع أن يكون له معارض صحيح. لأنه لو قام على بطلانه دليل لم يبق لنا وثوق بمعلوم أصلا لا حسي ولا عقلي. وهذا يبطل حقيقة الإنسانية ؛ بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات. فإن لها تمييزا وإدراكا للحقائق بحسبها. وهذا الوجه في غاية الظهور ، غنى بنفسه عن التأمل ، وهو مبني على مقدمتين قطعيتين : إحداهما أن الرسول أخبر عن الله بذلك. والثانية أنه صادق ؛ ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل؟!

الثاني والعشرون : أن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفطره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إياه وأرشده إليه ، وذلك السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلم به وأوحاه وعرف به الرسول ، فأمره أن يعرف الأمر ويخبرهم به ، ولا يكون أحدهما صحيحا حتى يكون الآخر مطابقا لمخبره ، وأن الأمر ما أخبر به ، وحينئذ فقد شهد العقل لخبر الرسول بأنه صدق وحق ، فعلمنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين ، بخبر الرسول به وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في

١٧٥

خبره ؛ وأما خبر العقل عن الله بما يضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلمه إياه فلم يشهد له الرسول بصحة هذا الخبر ، بل شهد ببطلانه فليس معه إلا شهادته لنفسه بأنه صادق فيما أخبره به ، فكيف تقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرسول ، فكيف مع تكذيبه إياه؟ فكيف مع تكذيب العقل الصريح المؤيد بنور الوحي؟ فكيف مع اختلاف سائر أصحابه وتكاذبهم وتناقضهم؟ يزيده إيضاحا.

الثالث والعشرون : وهو أن الأدلة السمعية نوعان : نوع دل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي ، فهو عقلي سمعي. فمن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد وما لا يقوم التنبيه على الدليل العقلي منه فهو يسير جدا. وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليل صحيح على معارضته لاستلزامه مدلوله ، وانتقال الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضرورة. وهو أصل النوع الثاني الدال بمجرد الخبر ، والقدح في النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة : أما الأول فلما تقدم ، وأما الثاني فلاستلزام القدح فيه : القدح في العقل الذي أثبته ؛ وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع ؛ بطل ما عارضه من العقليات كما تقدم تقريره. يوضحه :

الوجه الرابع والعشرون : أنه ليس في القرآن صفة إلا وقد دل العقل الصريح على إثباتها لله تعالى ؛ فقد تواطأ عليها دليل العقل والسمع. فلا يمكن أن يعارض ثبوتها دليل صحيح البتة ، لا عقلي ولا سمعي. بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا مفترى أو مما أخطأ المعارض به في فهمه. وإن كان عقليا فهي شبهة خيالية.

واعلم أن هذه دعوى عظيمة ينكرها كل جهمي وناف وفيلسوف ، ويعرفها من نور الله قلبه بالإيمان وباشر قلبه معرفة الذي دعت إليه الرسل ؛ وأقرت به الفطر ، وشهدت به العقول الصحيحة المستقيمة لا المنكوسة المركوسة. وقد نبه سبحانه في كتابه على ذلك في غير موضع ، وبين أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه ، فجاحده جاحد لكمال الرب تعالى. فإنه تمدح بكل صفة وصف بها نفسه وأثنى بها على نفسه ، ومجد بها نفسه ، وحمد بها نفسه ، فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم والتمجيد ، وتعرف بها إلى عباده

١٧٦

ليعرفوا كماله ومجده وعظمته وجماله. وكثيرا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه.

فذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتف عن آلهتهم. فيكون ذلك من أدل دليل علي بطلان إلهيتها وفساد عبادتها. ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته ، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجدون قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته والمسارعة إلى طاعته ، ويذكر صفاته لهم عن ترغيبهم وترهيبهم لتعرف القلوب من تخافه وترجوه. ويذكر صفاته أيضا عند أحكامه وأوامره ونواهيه. فقل أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من صفاته أو صفتين. وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : ١) ويذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه. ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه ، حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه. وصفاته ، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها ، يصحبها من أولها إلى آخرها وإنما أمر بإقامتها ليذكر بأسمائه وصفاته ، وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته ، ففتح لهم باب الدعاء رغبا ورهبا ليذكره الداعي بأسمائه وصفاته فيتوسل إليه بها. ولهذا كان أفضل الدعاء ما توسل فيه الداعي إليه بأسمائه وصفاته (١).

__________________

(١) قال د / عاصم القريوتي : التوسل نوعان : نوع متفق عليه مرغب فيه ، ونوع مختلف فيه فالمتفق عليه (أعلاه) :

(أ) التوسل بأسماء الله وصفاته ، ولقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف : ١٨٠) ، ولقد سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقول في تشهده : «اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد غفر له ، قد غفر له ، قد غفر له» رواه النسائي (٣ / ٥٢) وغيره عن محجن بن أذرع الأسلمي ، وانظر سنن أبي داود (١٤٩٣) وإسناده صحيح ، ي يا قيوم برحمتك استغيث» رواه الحاكم (١ / ٥٠٩) وحسن إسناده الشيخ الألباني في التوسل (ص ٣٠). كما في «التوسل أنواعه وأحكامه» (ص ٢٩) ، وكان من ادعيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا ح

١٧٧

قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠) وكان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : (١) : آية الكرسي ، وفاتحة آل عمران لاشتمالهما على صفة الحياة المصححة لجميع الصفات ، وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال. ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها (٢). ولهذا كانت سورة

__________________

(ب) توسل المسلم بعمله الصالح إلى ربه تبارك وتعالى.

(ج) توسل المسلم بدعاء المسلم الصالح.

ثم ذكر الأدلة على هذين القسمين. ثم قال :

وأما التوسل المختلف فيه مثل التوسل بالأنبياء والصالحين بذاتهم أو جاههم ونحو ذلك ، ويمكننا القول إن الأدلة التي في مشروعية هذا النوع تنقسم إلى قسمين : أدلة صحيحة ولكنها غير صريحة في الدلالة على المشروعية وأدلة صريحة في المشروعية لكنها لا تصح من حيث إسنادها : ثم سردها وناقشها ثم قال :

وخلاصة الأمر : أن التوسل بغير ما تقدم من التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العليا لله تبارك وتعالى ، وبعمل الداعي إلى ربه ، والتوسل بدعاء المرء الصالح مما لا دليل عليه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وكفى حجة على أن التوسل بالذات والجاه مبتدع أن الصحابة من عهد عمر رضي الله عنهم ، أجمعوا على تركه والتوسل بدعاء العباس رضي الله عنهم أجمعين ، وكذا توسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود الجرشى عند ما أصابهم القحط ورفع يزيد يديه ودعا لهم كما رواه الفسوى في «المعرفة والتاريخ» (٢ / ٣٨١) وعزاه الحافظ له ولأبي زرعة الرازي فى «تاريخه» وصحح إسناده في «الإصابة» (٣ / ٦٧٣).

ومن شاء البسط في أدلة التوسل المشروع والمبتدع فليراجع : «قاعده جليلة في التوسل والوسيلة» لشيخ الإسلام ، و «التوسل أنواعه وأحكامه» لناصر الدين الألباني وغيرها أه تحقيق «قطف الثمر» (ص ١٠٤ ـ ١٠٦) بتصرف وإيجاز.

(١) يشير إلى قوله تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة / ٢٢٥ ، وآل عمران / ٢) وقد ورد ما يفيد بأن اسم الله الأعظم في غيرهما كما سيأتى.

(٢) قال في «مختصر الأسئلة» : كانت آية الكرسى أعظم آية في كتاب الله ؛ لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فقد اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها ، فآية احتوت على هذه المعاني الجليلة يحق أن تكون أعظم آية في كتاب الله ويحق لمن قرأها

١٧٨

الإخلاص تعدل ثلث القرآن (١) لأنها أخلصت الأخبار عن الرب تعالي

__________________

بتدبر وتفهم أن يمتلئ من اليقين والعرفان والإيمان ، وأن يكون محفوظا بذلك من الشيطان كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : وكّلنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان ... الحديث.

وقال : ولما تضمنته من النفي والإثبات ، وما احتوت عليه من الأحكام التي أولها : إثبات ألوهية الله وانفراده بذلك ، ثانيا : إثبات صفة الحياة وهي من الصفات الذاتية.

ثالثا : إثبات صفة القيومية ـ ومعنى القيوم : الذي قام بنفسه ، واستغني عن غيره ، المقيم لما سواه ـ وورد أن اسم الحى واسم القيوم : الاسم الأعظم فإنهما متضمنان لصفات الكمال أعظم تضمن ، فالصفات الذاتية ترجع إلى اسمه الحى ، والصفات الفعلية ترجع إلى القيوم. رابعا : تنزيه الله عن السنة والنوم والعجز ، لما في ذلك من المنافاة لكمال حياته وقيوميته وقدرته. خامسا : إثبات سعة علمه وملكه. سادسا : إثبات الشفاعة بإذنه سبحانه. سابعا : إثبات صفة الكلام. ثامنا : إثبات صفة العلم وإحاطته سبحانه بالماضى والحال والمستقبل وأنه لا ينسى ولا يغفل ولا يلهيه شأن عن شأن. ثامنا : إثبات صفة العلم وإحاطته سبحانه. تاسعا : اختصاصه تعالى بالتعليم وأن الخلق لا يعلمون إلا ما أعلمهم الله جل وعلا ، عاشرا : أن عظمة الكرسي من جملة الأدلة الدالة على عظمة الله ، الحادي عشر : إثبات عظمة الله واقتداره ، الثاني عشر : إثبات صفة علو الله بأنواعه الثلاثة ، الثالث عشر : الترقي في نفي النقص من نفي الأضعف إلى نفي الأقوى لأن من لا تغلبه السنة قد يغلبه النوم لأنه أقوى ، والرابع عشر : إثبات المشيئة ، الخامس عشر : الرد على المشركين القائلين أن أصنامهم تشفع ، السادس عشر : الرد على القدرية والرافضة ونحوهم القائلين أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ـ تعالى عن ذلك علوا كبير ـ ، السابع عشر : الرد على من زعم أن الكرسي علمه أو أنه قدرته أو أنه ملكه أو نحو ذلك من أقوال أهل البدع أه.

(١) أخرج البخاري (٥٠١٣ ، ٦٦٤٣) ، ومسلم (صلاة المسافرين / ٨١١) عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها ، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ـ وكأن الرجل يتقالها ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن».

قال الشيخ عبد العزيز السلمان : لما كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؟!

١٧٩

وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه. وسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يدعوه «اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم» (١) وسمع آخر يقول «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (٢) فقال لأحدهما : «لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به

__________________

فقال : لأن القرآن اشتمل على ثلاثة مقاصد أساسية ، أولا : علوم الأحكام والشرائع ، ثانيا : ما فيه من قصص وأخبار عن أحوال الرسل مع أممهم ، ثالثا : علوم التوحيد وما يجب على العبد معرفته من أسماء الله وصفاته ، وهذا هو أشرفها وأجلها ، وهذه السورة تضمنت أصول هذا العلم واشتملت عليها إجماليا فهذا وجه كونها تعدل ثلث القرآن.

وفي بيان تسميتها بالإخلاص قال : لأنها أخلصت لوصف الله ، ولأنها تخلص قارئها من الشرك العملي الاعتقادي ، وأما دلالتها على أنواع التوحيد فدلالتها على توحيد الألوهية والعبادة بالالتزام ، وأما على توحيد الربوبية فبالتضمن ، وأما على توحيد الأسماء والصفات فالمطابقة لأن دلالة الدليل على كل معناه تسمى مطابقة ، وعلى بعضه تضمن وعلى ما يستلزمه من الخارج يسمى التزاما وتقدم موضحا أه (المصدر السابق).

وقال القرطبي في «المفهم» : اشتملت. (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) على اسمين يتضمنان جميع أوصاف الكمال : وهما الأحد والصمد ، فإنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال ، فإن الواحد والأحد وإن رجعا إلى أصل واحد فقد افترقا استعمالا وعرفا ؛ فالوحدة : راجعة إلى نفي التعدد والكثرة ، والواحد أصل العدد من غير تعرض لنفي ما عداه ، والأحد : يثبت مدلوله ويتعرض لنفى ما سواه ، ولهذا يستعملونه في النفي ويستعملون الواحد في الإثبات ، يقال ما رأيت أحدا ورأيت واحدا ، فالأحد : في أسماء الله تعالى مشعر بوجوده الخاص به الذي لا يشاركه فيه غيره ، وأما الصمد : فإنه يتضمن جميع أوصاف الكمال لأن معناه الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها وهو لا يتم حقيقة إلا لله أه أفاده الحافظ في «الفتح» (١٣ / ٣٧٠) فليراجع للأهمية.

(١) أخرجه الإمام أحمد (٣ / ١٢٠ ، ١٥٨) ، وأبو داود (١٤٩٥) ، والترمذي (٣٥٤٤) ، وابن ماجه (٣٨٥٨) ، والحاكم (١ / ٥٠٣) وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ا ه. وقال الترمذي : حديث غريب من حديث ثابت عن أنس ، وقد روى من غير هذا الوجه عن أنس ا ه.

(٢) أخرجه الإمام أحمد (٥ / ٣٥٠) وأبو داود (١٤٩٣) ، والترمذي (٣٤٧٥) ، وابن ماجه (٣٥٨٧) ، والحاكم (١ / ٥٠٤) قال الترمذي : حديث حسن غريب.

١٨٠