مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها ، فالذنوب والأمراض يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال في الكلام ، فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ فيقال : هو عقوبة أيضا على عدم ما خلق له وفطر عليه ؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتألهه والإنابة إليه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود يولد إلا على الفطرة» (١) وقال : «يقول الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (٢).

وقد قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (الروم : ٣٠) فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فلأنه صادف قلبا فارغا خاليا قابلا للخير والشر ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر (٣) كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف : ٢٤) ، وقال إبليس لعنه الله (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص : ٨٢ ـ ٨٣) ، وقال تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (الحجر : ٤٠ ـ ٤١).

__________________

(١) رواه البخاري (١٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، ٤٧٧٥ ، ٦٥٩٩) ، ومسلم (٢٦٥٨).

(٢) رواه مسلم (٢٨٦٥) ، والإمام أحمد (٤ / ١٦٥).

(٣) وقال في «الفوائد» : قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده ، وهذا كما أنهن في الذوات والأعيان ، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات ، فإذا كان القلب ممتلئا بالباطل اعتقادا ومحبة ، لم يبق فيه الاعتقاد الحق ومحبته موضع ، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكليم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.

فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والإنس به ، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلي لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره ، ولا حركة للسان بذكره وللجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته ، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق ، والعلوم التى لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه. ـ

٣٢١

والإخلاص : خلوص القلب من تأله من سوى الله وإرادته ومحبته ، فخلص الله قلبه ، فلم يتمكن الشيطان من إغوائه. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك تمكن منه بحسب فراغه وخلوه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة على عدم هذا الإخلاص ؛ وهذا محض العدل.

فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه قلت : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به. فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض والشر ليس إلى الرب تبارك وتعالى ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الاستفتاح : «لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك» (١) وكذلك يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة يوم القيامة : «يقول الله تعالى : يا محمد فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك» (٢) وقد أخبر تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (٣) فلما تولوه دون الله وأشركوه معه عوقبوا على

__________________

ـ وسر ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن ، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه ، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته ، فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان ، ولهذا في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه ، خير له من أن يمتلئ شعرا ، فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر ، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التى لا وجود لها ، والعلوم التي لا تنفع ، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها. وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الّذي به كماله وسعادته فلم تجد فراغا لها ولا قبولا فتعدته وجاوزته إلى محل سواه ، كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة ولذلك قيل :

نزه فؤادك من سوانا تلقنا

فجنابنا حل لكل منزه

والصبر طلسم لكنز وصالنا

من حل ذا الطلسم فاز بكنزه

(١) رواه مسلم (٧٧١).

(٢) رواه البخاري (٤٤٧٦).

(٣) وذلك في قوله تعالى : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل : ١٠٠).

٣٢٢

ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الأولوية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص والإنابة العاصمة من ضدها. فقد بين أن إخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان ، لأن فعل السيئات التى توجب العذاب. فإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده ؛ وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة خلوّه من الإخلاص.

فإن قلت : هذا الترك إن كان أمرا وجوديا عاد السؤال ؛ وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم؟ قلت : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه فهذا قد يقال إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم خلو عن أسباب الخير وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عما تريده وتحبه بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها. والعقوبة على الأمر العدمي هى بفعل السيئات لا بالعقوبات التى تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل.

فلله سبحانه عقوبتان. إحداهما جعله خاطئا مذنبا لا يحس بألمها ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته ، وهى في الحقيقة من أعظم العقوبات ، والثانية العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات. وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ٤٤) ، فهذه العقوبة الأولى. ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فهذه العقوبة الثانية.

واعط هذا الموضع حقه من التأمل ؛ وانظر كيف ترتبت هاتان العقوبتان إحداهما على الأخرى ، لكن العقوبة (الأولى) عقوبة موافقته لهواه وإرادته ، والثانية مخالفته لما يحبه ويتلذذ به. وتأمل عدل الرب تعالى في هذه وهذه ؛ وأنه سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها الّذي لا يليق بها غيره ، وهذا أمر لو لم تشهده القلوب وتعرفه لما جاز أن ينسب إلا إلى الله تعالى ، ولا يظن به غيره ، فإنه من ظن السوء بمن يتعالى ويتقدس عن كل سوء وعيب.

فإن قلت : هل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من

٣٢٣

غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له أو ذلك محض جعله في قلوبهم؟ قلت : لا ، بل هو محض منته وفعله وهو من أعظم الخير الّذي هو في يده ، فالخير كله في يديه ولا يقدر أحدنا أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.

فإن قلت : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال : وكان منعهم منه ظلما ولزمك القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه؟ قيل : لا يكون بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه ؛ وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأما منع غيره ما ليس حقا محض فضله ومنته عليه لم يكن ظالما بمنعه.

فإن قلت : فإذا كان العطاء والبذل والتوفيق إحسانا (ورحمة) وفضلا ؛ فهلا كانت الغلبة له كما أن «رحمته تغلب غضبه؟» (١) قيل : المقصود من هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم. وهذا سؤال عن الحكمة التى أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ، وهلا ساوى بين العباد في الفضل ، وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على هذا؟ وقد تولى سبحانه الجواب عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢١) ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢٩) ، وليس في الحكمة اطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ؛ بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣١٩٤) ، ومسلم (٢٧٥١) عن أبى هريرة رضى الله عنه يرفعه بلفظ : لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ، هو يكتب على نفسه فهو عنده فوق العرش :

(إن رحمتى تغلب غضبى). ، وفي رواية (إن رحمتى سبقت غضبى) وهذا لفظ مسلم.

٣٢٤

وتأمل أحوال محال ذلك ، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة بالغة لا توزن بعقول المخلوقين ، فقد وفق للصواب.

ولما استشكل المشركون هذا التخصيص قالوا (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) فقال لهم الله مجيبا لهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام : ٥٣) وهذا جواب شاف كاف ؛ وفي ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر من المحل الّذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (الأنعام : ١٢٤).

* * *

فصل

فلنرجع إلى تمام المقصود فنقول : اختلف الناس في العقوبة على الأمور العدمية فمنكرو الحكم والتعليل لا ضابط للعقوبة عندهم إلا محض المشيئة. وأما مثبتوا الحكم والتعليل فالأكثرون منهم يقولون لا يعاقب على عدم المأمور لأنه عدم محض ، وإنما يعاقب على تركه ، والترك أمر وجودي ، وطائفة منهم أبو هاشم وغيره يقولون يعاقب على الأمور الوجودية ، فيكون عقابه بالآلام. وهذا القول الذي ذكرناه قول وسط بين القولين ، وهو أن العقوبة نوعان : فيعاقب على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة المؤلمة ، ثم يعاقب على فعل السيئات بالآلام ، ولا يعاقب عليها حتى تقوم الحجة عليه بالرسالة ، فإذا عصى الرسول استحق العقوبة التامة ، وهو أولا إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بعد قيام الحجة عليه ، أو التوبة بعد قيام الحجة عليه فإذا لم تقم عليه الحجة كان الصبى الذي يشتغل بما لا ينفعه ، بل بما هو من أسباب ضرره ، ولا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ ، فإذا بلغ عوقب ، ثم يكون ما اعتاده من فعل القبائح قبل البلوغ وإن لم يعاقب عليها سبب لمعصيته بعد البلوغ ، فتكون تلك المعاصى الحادثة منه قبل البلوغ ، فلم يعاقب العقوبة المؤلمة على معصية. وأما العقوبة الأولى فلا يلزم أن

٣٢٥

تكون على ذنب بل هي جارية مجرى توله الآلام عما يأكله ويشربه ويتمتع به ، فتولدت تلك الذنوب بعد البلوغ عن تلك الأسباب المتقدمة قبله ، وهذا القول الوسط في العقوبة على العدم ، وهو الذي دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام : ١١٠) فأخبر سبحانه عن عقوبتهم على عدم الإيمان بتقليب أفئدتهم وأبصارهم.

فإن قلت : هذه عقوبة على أمر وجودى وهو تركهم الإيمان بعد إرسال الرسول ودعائه لهم ، قلت : الموجب لهذه العقوبة الخاصة هو عدم الإيمان ، ولكن إرسال الرسول وترك طاعته شرط في وقوع العذاب ، فالمقتضى قائم هو عدم الإيمان لكنه مشروط وقوعه بشرط وهو إرسال الرسول ، ففرق بين انتفاء الشيء لانتفاء موجبه ومقتضيه ، وانتفائه لانتفاء شرطه بعد قيام المقتضى.

* * *

فصل

وكذلك قوله في الحديث الذي رواه أبو داود ، والحاكم في «مستدركه» من حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» (١). وهو ما يحتج به الجبرية ، وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق وتلقوه بالقبول ، وعلموا من عظمة الله وجلاله وقدر نعمه على خلقه عدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإما إضاعة وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ولو من بعض الوجوه ، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا

__________________

(١) رواه الإمام أحمد (٥ / ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٩) ، وأبو داود (٤٦٩٩) ، وابن ماجه (٧٧) ، وصححه الألباني.

٣٢٦

يكفر. وتكون قوة القلب كلها ، وقوة الإنابة والتوكل ، والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ، جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته. وقد استسلمت له القلوب أتم استسلام ، وذلت له أكمل ذل ، وخضعت له أعظم (خضوع) ، وقد فنيت بمراده ومحابه عن مرادها ومحابها ، فلم يكن لها مراد محبوب غير مراده ومحبوبه البتة.

ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ولكن النفوس تشح به ؛ وهى في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى ، وأكثر المطيعين يشح به من وجه وإن أتى به من وجه ولعل ما لا تسمح به نفسه أكثر مما تسمح به مع فضل زهده وعبادته وعلمه وورعه. فأين الّذي لا يقع منه إرادة تزاحم إرادة الله وما يحبه منه ، فلا يعتريه غفلة واسترسال مع حكم الطبيعة والميل إلى داعيها ، وتقصير في حق الله تعالى معرفة ومراعاة وقياما به؟ ومن الذي ينظر في كل نعمة من النعم دقيقها وجليلها إلى أنها منة ربه وفضله وإحسانه ، فيذكره بها ويحبه عليها ، يشكره عليها ، ويستعين بها على طاعته ، ويعترف مع ذلك بقصوره ، وأن حق الله تعالى عليه أعظم مما أتى به ، ومن الّذي يوفى حقا واحدا من الحقوق وعبودية واحدة حقها من الإجلال والتعظيم والنصح لله تعالى فيها ، وبذل الجهد في وقوعها على ما ينبغى لوجهه الكريم مما يدخله على قدرة العبد ظاهرا وباطنا؟ ومع هذا فيراها محض منة الله عليه وفضله عليه ، وأن ربه هو المستحق عليها الحمد ، وأنه لا وسيلة توسل بها إلى ربه حتى نالها ؛ وأنه يقابلها بما تستحق أن تقابل به من كمال الذل والخضوع والمحبة ، والبراءة من حوله وقوته ، وبمحو نفسه من البين ؛ وأن يكون فيها بالله لا بنفسه ولله لا لنفسه؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ولو في وقت من الأوقات من حركة نفسه وجوارحه ، أو يترك بعض ما خلق ؛ أو يؤثر بعض حظوظه ومراده على مراد الله ومرضاته ويزاحمه به.

ومن المعلوم عقلا وشرعا وفطرة أن الله تعالى يستحق على عبده غاية التعظيم

٣٢٧

والإجلال والعبودية التي تصل إليها قدرته ، وكل ما ينافى التعظيم والإجلال يستحق عليه من العقوبة ما يناسبه. والشرك والمعصية والغفلة واتباع الهوى وترك بذل الجهد والنصيحة في القيام بحق الله باطنا وظاهرا ؛ وتعلق القلب بغيره ، والتفاته إلى ما سواه ، ومنازعة ما هو من خصائص ربوبيته ؛ ورؤية النفس والمشاركة في الحول والقوة ، ورؤية الملكة في شيء من الأشياء فلا ينسلخ منها بالكلية ، كل ذلك ينافي التعظيم والإجلال. فلو وضع سبحانه العدل على العباد لعذبهم بعدله فيهم ولم يكن ظالما ، وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه به ، وقبول التوبة ومحض فضله وإحسانه ؛ وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها ، لكن أوجب على نفسه بمقتضى فضله ورحمته ألا يعذب من تاب من ذنبه واعترف به رحمة وإحسانا ، وقد كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجوا به من النار أو يدخل به الجنة كما قال أطوع الخلق لربه ؛ وأفضلهم عملا وأشدهم تعظيما له «لن ينجى أحدا منكم عمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل الخلق استغفارا ، وكانوا يعدون عليه في المجلس الواحد مائة مرة «رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم» (٢) وكان يقول «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فو الله إني لأتوب إليه ـ وفي لفظ ـ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة» (٣) وكان إذا سلم في صلاته استغفر ثلاثا.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٦٤٦٣) ، ومسلم (٢٨١٦) وغيرهما.

(٢) ذكره الحافظ في «الفتح» كتاب الدعوات باب استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم والليلة. وعزاه للنسائي من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر ، وسكت عنه.

(٣) المصدر السابق وعزاه للنسائي أيضا بلفظ : «فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».

ورواه البخاري (٦٣٠٧) عن أبي هريرجة بلفظ : «والله إنى لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

قال الحافظ : وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو معصوم ، والاستغفار ـ

٣٢٨

وكان يقول بين السجدتين «رب اغفر لي» (١) وكان يقول في سجوده «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدى ، وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا

__________________

ـ يستدعى وقوع معصية ، وأجيب بعدة أجوبة : منها ما تقدم في تفسير الغين (راجع الفتح ١١ / ١٠٤) ، ومنها قول ابن الجوزى : هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد ، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر فلم يعصموا من الصغائر ، كذا قال ، وهو مفرع على خلاف المختار ، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا ، ومنها قول ابن بطال : الأنبياء أشد الناس اجتهادا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة ، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير ا ه ومحصل جوابه أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الّذي يجب لله تعالى ، يحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو لمخاطبة الناس والنظر في مصالحهم ، ومحاربة عدوهم تارة ، ومداراته أخرى ، وتأليف المؤلفة ، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه ومشاهدته ومراقبته فيرى ذلك ذنبا بالنسبة إلى المقام العلى وهو الحضور في حظيرة القدس.

ومنها أن استغفاره تشريع لأمته ، أو من ذنوب الأمة فهو كالشفاعة لهم ، وقال الغزالي في «الإحياء» : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائم الترقى ، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها دونها فاستغفر من الحالة السابقة ، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقا بحسب تعدد الأحوال ، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك.

وقال السهروردي : لما كان روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل في الترقى إلى مقامات القرب يستتبع القلب ، والقلب يستتبع النفس ، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس فكانت خطا النفس تقصر عن مداهما في العروج ، فاقتضت الحكمة حركة القلب لئلا تنقطع علامة النفس عنه فيبقى العباد محرومين ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفزع إلى الاستغفار لقصور النفس عن شأو ترقي القلب ، والله أعلم ا ه «الفتح» (١١ / ١٠٥).

(١) [صحيح] أخرجه الإمام أحمد (١ / ٣١٥ ـ ٣٧١ ، ٥ / ٣٩٨) ، وأبو داود (٨٧٤) ، والنسائي (٢ / ٢٣١) ، وابن ماجه (٨٩٧) ، والحاكم (١ / ٢٧١) ، والدارمى (١٣٢٤) ، وصححه الألباني في «صحيح ابن ماجه» ، وانظر «الإرواء» (٣٣٥).

٣٢٩

أنت» (١) وكان يستغفر في استفتاح الصلاة وفي خاتمة الصلاة. وعلم أفضل الأمة أن يستغفر في صلاته ويعترف على نفسه بظلم كثير.

وقد قال تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (محمد : ١٩) وقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (الفتح : ٢) فأهل السموات والأرض محتاجون إلى مغفرته كما هم محتاجون إلى رحمته. ومن ظن أنه يستغنى عن مغفرة الله فهو كمن ظن أنه مستغنى عن رحمته فلا يستغنى أحد عن مغفرته ورحمته ، كما لا يستغنى عن نعمته ومنته. فلو أمسك عنهم فضله ومنته ورحمته لهلكوا وعذبوا ، ولم يكن ظالما ؛ وحينئذ فتصيبهم النقمات بإمساك فضله ، وكل نقمة منه عدل.

ومما يوضح هذا أن الظلم الذي يقدس عنه : أن يعاقبهم لما لم يعملوا ويمنعهم ثواب ما يستحقون ثوابه ، وهو سبحانه لا يعذب إلا بسبب كما إذا أراد تعذيب الأطفال والمجانين ومن لم تقم عليه حجته في الدنيا امتحنهم في الآخرة ؛ فعذب من عصاه منهم بأسباب أظهرها بالامتحان ، كما أظهر امتحان إبليس سبب عقوبته. فلو أراد تعذيب أهل سماواته وأرضه كلهم لامتحنهم امتحانا يظهر أسباب تعذيبهم فيكون عدلا منه ، فإنه يعلم من العبد ما لا يعلمه العبد من نفسه.

قال الحسن البصرى : «لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا» ومما يوضح ذلك أن مذهب أهل السنة أن الأنبياء والمرسلين أفضل من الملائكة. وقد طلبوا كلهم من المغفرة والرحمة. فقال أول الأنبياء وأبو البشر (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (الأعراف : ٢٣) فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦٣٩٨ ، ٦٣٩٩) ، ومسلم (٢٧١٩) وفيه : كان يقول في آخر الصلاة ... الحديث فذكره.

٣٣٠

وأسكنه جنته وعلمه أسماء كل شيء ، وإنما انتفع في المحنة باعترافه وإقراره على نفسه بالظلم وسؤاله المغفرة والرحمة.

وهذا نوح أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض يسأله المغفرة ويقول (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (هود : ٤٧) ، وهذا يونس يقول (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : ٨٧) ، وإبراهيم الخليل يقول (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء : ٨٢) ، ويقول (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (البقرة : ١٢٨) الآية. وكليم الرحمن موسى يقول (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص : ١٦) ، ويقول (أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (الأعراف : ١٥٥) ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضلهم وأكملهم وقد تقدم بعض ما كان يستغفر به ربه. وسأله الصديق أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فقال : «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم» (١) وإذا كان هذا حال الصديق الّذي هو أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، وأفضل من الملائكة عند أهل السنة وهو يخبر بما هو صادق فيه من ظلم نفسه ظلما كثيرا ؛ فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته وجلاله ؛ وما ينبغى له وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره في ذلك ، وأنه لم يقم به كما ينبغى ، فأقر على نفسه إقرارا هو صادق فيه أنه ظلم نفسه ظلما وسأل ربه أن يغفر له ويرحمه.

سحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغنى عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ؛ وليس وراء هذا الجهل بالله وعظمته وحقه غاية.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٨٣٤) ، ومسلم (٢٠٧٥).

٣٣١

فصل

فإن كثف علمك عن هذا ولم يتسع له عقلك ؛ فاذكر النعم وما عليها من الحقوق ووازن بين شكرها وكفرها (١) ، فحينئذ تعلم أنه لو عذب أهل السماوات

__________________

(١) وقال المصنف في كتاب «الفوائد» : من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له ، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها ، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة ، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه ، حتى إذا ضاق ذرعا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها ، واستحكم ملله لها سلبه الله إياها ، فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه ، اشتد قلقه وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه ، فإذا أراد الله بعبده خيرا ورشدا أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه ، ورضاه به ، وأوزعه شكره عليه ، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه ، استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته عاجز عنها ، مفوض إلى الله ، طالب منه حسن اختياره له.

وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله ، فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها ، بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة ، هذا وهى من أعظم نعم الله عليه فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمة وهم مجتهدون في دفعها وردها جهلا وظلما ، فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساع في ردها بجهده ، وكم وصلت إليه وهو ساع في دفعها وزوالها بظلمه وجهله ، قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

فليس للنعم أعدى من نفس العبد ، فهو مع عدوه ظهير على نفسه ، فعدوه يطرح النار في نعمه وهو ينفخ فيها ، فهو الّذي مكنه من طرح النار ثم أعانه بالنفخ فإذا اشتد ضرامها استغاث من الحريق ، وكان غايته معاتبة الأقدار :

وعاجز الرأى مضياع لفرصته

إذا فات أمر عاتب القدرا

ثم قال : فكرت في هذا الأمر ، فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده : نعم الطاعات ، ونعم اللذات ، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها.

قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).

وقال : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله ، فذكرها وشكرها لا ينال إلا ـ

٣٣٢

__________________

ـ بتوفيقه ا ه «الفوائد» بتصرف.

وعن الغفلة عن النعم قال الإمام ابن قدامة المقدسي في «مختصر منهاج القاصدين» :

أما الغفلة عن النعم فلها أسباب :

أحدها : أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة ، فلذلك لا يشكرون على جملة مما ذكرناه من النعم ، لأنها عامة للخلق ، مبذولة لهم في جميع أحوالهم ، فلا يرى واحد منهم اختصاصا به ، فلا يعده نعمة ، فلا تراهم يشكرون الله على روح الهواء ، ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ، ولو حبسوا في حمام أو بئر ماتوا غما ، فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا ، قدّر ذلك نعمة يشكر الله عليها ، وهذا غاية الجهل ، إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النعمة ، ثم ترد إليهم في بعض الأحوال ، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر ، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا أن يعمى ، فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها حينئذ وعدها نعمة ، وهو مثل عبد السوء يضرب دائما ، فإذا ترك ضربه ساعة ، شكر وتقلد ذلك منة ، وإن ترك ضربه أصلا ، غلبه البطر وترك الشكر ، فصار الناس لا يشكرون إلا على المآل الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم.

كما روى أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة ، وأظهر شدة اغتمامه بذلك ، فقال له : أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ قال : لا ، قال : أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ قال : لا ، قال : أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفا؟ قال لا ، قال : أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف؟ قال : لا ، قال : أما تستحى أن تشكو مولاك وله عندك عرض بخمسين ألفا.

وحكى عن بعض الفقراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعا ، فرأى في المنام كأن قائلا يقول له : أتود أنا أنسيناك سورة الأنعام ولك ألف دينار؟ قال : لا. قال : فسورة هود؟ قال : لا ، قال : فسورة يوسف؟ قال : لا ، قال : فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو؟ فأصبح وقد سرى عنه.

ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة ، فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال : يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه البشرية إلا بالدنيا وما فيها ، أكنت تفديها بها؟ قال : نعم ، قال : فاشرب ريا ، بارك الله فيك. فلما شرب ، قال له : يا أمير المؤمنين : أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها ، أكنت تفتدي ذلك؟ قال : نعم. قال : فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه! ـ

٣٣٣

__________________

ـ وهذا يبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها ، ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم ، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة.

اعلم : أن ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى من نعم الله نعما كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس ، بل قد يشاركه في ذلك كثير منهم ، من ذلك العقل ، فما من عبد إلا وهو راض عن الله سبحانه في عقله ، يعتقد أنه أعقل الناس ، وقلما يسأل الله العقل ، وإذا كان ذلك اعتقاده ، فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك.

ومن ذلك الخلق ، فإنه ما من عبد إلا يرى من غيره عيوبا يكرهها ، وأخلاقا يذمها ، ويرى نفسه بريئا منها ، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك ، حيث أحسن خلقه وابتلى غيره.

ومن ذلك أن ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به ، ولو كشف الغطاء عنه حتى اطلع عليه أحد من الخلق لافتضح ، فكيف لو اطلع الناس كافة؟ فلم لا يشكر الله بستر الجميل علي مساويه ، حيث أظهر الجميل وستر القبيح ، ولننزل إلي طبقة أعم من هذا القبيل ، فنقول : ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته ، أو أخلاقه أو صفاته ، أو أهله ، أو ولده ، أو مسكنه أو بلده ، أو رفيقه أو أقاربه ، أو جاهه ، أو سائر محابه ، أمورا ، لو سلب ذلك وأعطي ما خصص به من ذلك غيره ، لكان لا يرضى به ، وذلك مثل أن جعله مؤمنا لا كافرا ، وحيا لا جمادا ، وإنسانا لا بهيمة ، وذكرا لا أنثى ، وصحيحا لا مريضا ، وسليما لا معيبا ، فإن كل هذه خصائص.

فإن كان لا يرى أن يبدل حاله بحال غيره ، مثل أن لا يعرف شخصا يرتضى لنفسه حاله بدلا عن حال نفسه ، إما على الجملة ، أو في أمر خاص ، فإن الله عليه نعما ليست له على أحد من عباده سواه ، وإن كان يرى أنه يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون بعض ، فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده ، فإنه يراهم عنده لا محالة أقل من غيرهم ، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير ممن فوقه ، فما باله ينظر إلى من فوقه ولا ينظر إلى من دونه؟!

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله وسلم : «إذا نظر أحدكم إلي من فضل عليه في المال والخلق ، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه» وقد رواه الترمذي بلفظ آخى : «انظروا إلي من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلي من فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».

٣٣٤

والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم. قال أنس بن مالك «ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم ، ديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه فتقوم تستوعب عمله فيه ثم تقول : أي ربي ، وعزتك وجلالك ما استوعبت ثمنى وقد بقيت الذنوب والنعم ؛ فإذا

__________________

ـ فإن من اعتبر حال نفسه ، وفتش على ما خص به ، وجد لله عليه نعما كثيرة ، لا سيما من خص الإيمان ، والقرآن ، والعلم ، والسنة ، ثم الفراغ والصحة والأمن وغير ذلك.

وقد روي في بعض الأحاديث «من قرأ القرآن فهو غنى» ، وفي لفظ : «القرآن غنى لا فقر بعده ، ولا غني دونه».

وفي حديث آخر : من «أصبح آمنا في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

وقال بعضهم :

إذا ما القوت يأتى ل

ك في الصحة والأمن

وأصبحت أخا حزن

فلا فارقك الحزن

فإن قيل : فما علاج القلوب الغافلة عن شكر نعم الله تعالى؟

فالجواب : أما القلوب المبصرة ، فتتأمل ما رمز إليه من أصناف نعم الله عزوجل ، وأما القلوب البليدة التى لا تعد النعمة إلا إذا نزل بها البلاء ، فسبيل صاحبها أن ينظر أبدا إلى من دونه ، ويفعل ما كان يفعله بعض القدماء ، فإنه كان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع البلاء عليهم ، ثم يتأمل صحته وسلامته ، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أيديهم وأرجلهم ويعذبون ، فيشكر الله على سلامته من تلك العقوبات ، ويحضر المقابر ، فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ، ليتدارك من عصى عصيانه ، وليزيد في الطاعة من أطاع ، فإن يوم القيامة يوم التغابن ، فإذا شاهد المقابر ، وعلم أحب الأشياء إليهم فليصرف بقية عمره في طاعة الله تعالى وشكره في الإمهال ، بأن يصرف العمر إلى ما خلق لأجله ، وهو التزود للآخرة.

ومما ينبغى أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن يعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت.

كان الفضيل رحمه‌الله تعالى يقول : عليكم بمداومة الشكر على النعم ، فقل نعمة زالت عن قوم فعاد إليهم.

٣٣٥

أراد الله بعبده خيرا قال : ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتي فيما بيني وبينك» (١).

ومما يوضح الأمر أن من حق الله على عبده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وهذا الرضى يقتضي رضاه بربوبيته له في كل ما يقضيه ويقدره عليه في عطائه له ومنعه ، وفي قبضه وبسطه ، ورضاه بالإسلام دينا يوجب عليه رضاه به وعنه في كل ما يأمره به وينهاه عنه ويحبه منه ويكرهه له ، فلا يكون في صدره من ذلك حرج بوجه ما. ورضاه بمحمد رسولا يوجب أن يرضى بحكمه له وعليه ؛ وأن يسلم لذلك وينقاد له ولا يقدم عليه غيره ، وهذا يوجب أن يكون حبه كله لله ، وبغضه كله الله ، وعطاؤه لله ومنعه لله ، وفعله لله وتركه لله وإذا قام بذلك كانت نعم الله عليه أكثر من عمله. بل فعله ذلك من أعظم نعم الله عليه ، وحيث وفقه له ويسره له وأعانه عليه وجعله من أهله وخصه به ، فهو يستوجب شكر آخر عليه ، فلا سبيل له إلى القيام فيما يجب لله تعالى عليه من الشكر أبدا. فنعم الله تطالبه بالشكر ، وأعماله لا يقبلها وذنوبه وغفلته وتقصيره

__________________

(١) واضح من نص الكلام أن ابن القيم لم يرفعه ، وروى مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها ، رواه الإمام أحمد (٦ / ٢٤٠) ، والحاكم (٤ / ٥٧٥) من طريق صدقة بن موسى بلفظ : «الدواوين عند الله عزوجل ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله ، فأما الديوان الّذي لا يغفره الله تعالى ، فالشرك قال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (المائدة : ٧٢) ، وأما الديوان لا يعبأ الله به شيئا ؛ فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله عزوجل يغفر ذلك ، ويتجاوز إن شاء ، وأما الديوان الّذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا ، فالقصاص لا محالة». وقال الحافظ العراقى : رواه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقة ابن موسى الدقيقي ، ضعفه ابن معين وغيره ، وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبرانى وهو منكر كما قال الذهبى ا ه.

وذكره الهيثمى فى «المجمع» (١٠ / ٣٤٨) وقال : وفيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور ، وقال مسلم بن إبراهيم حثنا صدقة بن موسى وكان صدوقا وبقية رجاله ثقات ا ه ، وانظر «السلسلة الصحيحة» (١٩٢٧) للألباني.

٣٣٦

قد يستنفد عمله ؛ فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها ، هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمر به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة عليه بموجب العبودية فلا يستحق ثوابا ولا جزاء ؛ فلو أمسك الثواب والجزاء الّذي يتنعم به لم يكن ظالما ؛ فإنه يكون قد فعل ما وجب عليه بحق كونه عبدا ، ومن لم يحكم هذا الموضع فإنه عند الذنوب وعقوباتها يصدر منه من الأقوال ما يكون فيها أو في بعضها خصما لله متظلما منه شاكيا له ، وقد وقع في هذا من شاء الله من الناس ، ولو حركت النفوس لرأيت العجب.

ومما يوضح ذلك أنه سبحانه عادل ، لو عم أهل السماوات والأرض بالعذاب لكان عادلا ، فهو إنما ينزل العذاب بسبب من يستحقه منهم ثم يعم العذاب من لا يستحقه كما أهلك سبحانه الأمم المكذبين بعذاب الاستئصال وأصاب العذاب الأطفال والبهائم ومن لم يذنب ، وكذلك إذا عصاه أهل الأرض أمسك عنهم قطر السماء ، فيصيب ذلك العذاب البهائم والوحوش في الفلوات ، فتموت الحبارى في وكورها هزالا بخطايا بنى آدم ، ويموت الضب في جحره جوعا. وقد أغرق الله أهل الأرض كلهم بخطايا قوم نوح وفيهم الأطفال والبهائم ، ولو يكن ذلك ظلما منه سبحانه ، فالعقوبة الإلهية التى اشترك الناس في أسبابها تأتى عامة ، وقد كسر الصحابة رضي الله عنهم يوم أحد بذنوب أولئك الذين عصوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخلوا مراكزهم ، وانهزموا يوم حنين لما حصل لبعضهم من الإعجاب بكثرتهم ، فعمت عقوبة ذلك الإعجاب ، وهذا عين العدل والحكمة لما في ذلك من المصالح التي لا يعلمها إلا الله تعالى.

وغاية ما يقال : فهلا خصت العقوبة صاحب الجريمة؟ فيقال : العقوبة العامة التي تبقى آية وعبرة وموعظة ؛ لو وقعت خاصة لارتفعت الحكمة المقصودة منها ، وفاتت العبرة ولم يظهر للناس أنها بذلك السبيل ، بل لعل قائلا يقول : قدرا اتفق. وإذا أصاب العذاب من لا يستحقه. فمن يثاب في الآخرة معجل له

٣٣٧

الراحة في الدنيا بالموت الّذي لا بد منه ، ويتداخل الثواب في الآخرة ، ومن لا يثاب كالبهائم التى لا بد من موتها فإنها لا تتعجل الراحة وما يصيبها من ألم الجوع والعطش ، فهو من لوازم العدل والحكمة مثل الّذي يصيبها من ألم الحر والبرد والحبس في بيوتها التى مصلحتها أرجح من مفسدة ما ينالها ، وهكذا مصلحة هذه العقوبة العامة وجعلها عبرة للأمم أرجح من مفسدة تألم تلك الحيوانات.

* * *

فصل (حكمة الرب تعالى في خلق الضدين)

اعلم أن من أعظم حكمة الرب وكمال قدرته ومشيئته خلق الضدين إذ بذلك تعرف ربوبيته وقدرته وملكه ، كالليل والنهار ، والحر والبرد ؛ والعلو والسفل ، والسماء والأرض ، والطيب والخبيث ، والداء والدواء ، والألم واللذة ، والحسن والقبيح ، فمن كمال قدرته وحكمته خلق جبريل وخلقك ، فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها ، وأجرى على يديه كل خير ، وخلق أنجس الأرواح وأخبثها وأرداها وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق ومعصية وجعل الطيب منحازا إلى تلك الروح ، والخبيث منحازا إلى هذه الروح فتلك مغناطيس كل طيب وهذه مغناطيس كل خبيث وأى حكمة أبلغ من هذا؟

يوضحه : أن المادة الأرضية مشتملة على الطيب والخبيث ، وقد اقتضت الحكمة أن خلق منها آدم وذريته فلا بد أن يأتى بنو آدم كذلك مشاكلتهم لمادتهم. والمادة النارية فيها الخير والشر ؛ فلا بد أن يأتى المخلوق منها كذلك. والله تعالى يريد تخليص الطيب من المادة الأرضية من الخبيث ليجعل الطيب مجاورا له في دار كرامته مختصا برؤيته والقرب منه. ويجعل الخبيث في دار الخبث ، حظه البعد منه والهوان والطرد والإبعاد ، إذ لا يليق بحمده وحكمته

٣٣٨

وكماله أن يكون مجاورا له في داره مع الطيبين. فأخرج من المادة النارية من جعله محركا للنفوس داعيا لها إلى محل الخبث لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع ، وتميل إليه بالمناسبة ، فتتحيز إلى ما يناسبها وما هو أولى بها حكمة ومصلحة وعدلا ، لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها ، بل أقام داعيا يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوما لبارئها وخالقها من أحوالها ، وكان خفيا على العباد فلما استجابت لأمره ؛ ولبت دعوته ، وآثرت طاعته على طاعة ربها ووليها الحق الّذي تتقلب في نعمه وإحسانه ظهر لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس وطردها عنه وإبعادها عن رحمته ؛ وأقام للنفوس الطيبة داعيا يدعوها إليه إلى مرضاته وكرامته ، فظهر لهم حمده التام وحكمته البالغة في الأمرين ، وعلموا أن خلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه ، وخلق وليه وعبده جبريل وجنوده وحزبه ، هو عين الحكمة والمصلحة ، وأن تعطيل ذلك مناف لمقتضى حكمته وحمده.

يوضحه : أن من لوازم ربوبيته تعالى وإلهيته إخراج الخبأ في السماوات والأرض من النبات والأقوات والحيوان والمعادن وغيرها ، وخبأ في السماوات ما أودعها من أمره الّذي يخرجه كل وقت بفعله وأمره وهذا من تدبيره لملائكته وتصرفه في العالم العلوي والسفلى ، فبإخراج هذا الخبأ تظهر قدرته ومشيئته وعلمه وحكمته. وكذلك النفوس فيها خبأ كامن يعلمه سبحانه منها ، فلا بد أن يقيم أسبابا يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامنا فيها ، فإذا صار ظاهرا عيانا ترتب عليه أثره. إذ لم يكن يترتب على نفس العلم به دون أن يكون معلوما واقعا في الوجود.

* * *

(حكمة الابتلاء)

قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران : ١٧٩) ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

٣٣٩

(هود : ٧) فأخبر أنه خلق العالم العلوى والسفلى ليبلو عباده ، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه ، وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسبابا يحصل بها ؛ فلا بد من خلق أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف : ٧) فهذه ثلاث مواضع في القرآن تبين حكمته في خلق أسباب الابتلاء والاختبار ، فظهر أن من بعض الحكم في خلق عدو الله إخراج خبأ النفوس الخبيثة التي شرها وخبيثها كامن فيها فأخرج خبأها بزناد دعوته ، كما يخرج خبأ النار بقدح الزناد ، وكما يخرج خبأ الأرض بإنزال الماء عليها ، وكما يخرج خبأ الأنثى بلقاح الذكر لها ، وكما يخرج خبأ القلوب الذاكية بإنزال وحيه وكلامه عليها.

فكم له سبحانه من حكمة بالغة ، وآية ظاهرة في خلق عدوه إبليس؟ فإن من كمال الحكمة والقدرة إظهار شرف الأشياء الفاضلة بأضدادها ، فلو لا الليل لم يظهر فضل النهار ونوره وقدره ، ولو لا الألم لم يعرف فضل اللذة وشرفها وقدرها ، ولو لا المرض لم يعرف فضل العافية ، ولو لا وجود قبح الصورة لم يظهر فضل الحسن وجمالها. ولهذا كان خلق النار وعذاب أهلها فيها أعظم لنعيم أهل الجنة وأبلغ في معرفة قدرها وخطرها فكان خلق هذا القبيح الشنيع المنظر الذي صورته أشنع من باطنه ؛ وباطنه أقبح من صورته ، مكملا لحسن تلك الروح الزكية الفاضلة ، التى كمل الله تعالى بصورتها جمال الظاهر والباطن ؛ فلو كان الخلق كلهم على حسن يوسف مثلا ، فأى فضيلة وتمييز يكون له؟ ولو كانت الكواكب كلها شموسا وأقمارا فأى مزية كانت تكون للنيرين (١).

* * *

فصل

(كمال العبودية يظهر عند الاختبار)

إن كمال العبودية والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة والدواعى إلى الشهوات والإرادات المخالفة للعبودية ، وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند

__________________

(١) لنيرين : يعنى الشمس والقمر.

٣٤٠