مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

وقال تعالى آمرا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (الأحقاف : ٩) وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر : ٩) وقال تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قالوا فعلم أن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدين كله وحي من عند الله ، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله ، وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (النساء : ١١٣) فالكتاب القرآن ، والحكمة السنة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أوتيت الكتاب ومثله معه» (١) فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب ، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر ، وقالوا فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذبا لم تكن من عند الله ولا كانت مما أنزله الله على رسوله وآتاه إياه تفسيرا لكتابه وتبيينا له ، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذبا في نفس الأمر ، فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد ، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه ، فلو جاز أن تكون كذبا وغلطا لبطلت حجة الله على العباد ، ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسيره : هذا في خبر واحد لا يفيد العلم فلا تقوم علي حجة بما لا يفيد العلم ، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد. وأطرد الناس له أبعدهم عن العلم والإيمان.

والذي جاء يقضي منه العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها لا تفيد العلم ، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال ، ويزعمون أنها براهين عقلية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد فقال بعد ذكر التواتر : ـ

وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتوافر لفظه ولا معناه ، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات» (٢) وخبر ابن عمر «نهي عن بيع الولاء

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو صحيح.

(٢) رواه البخاري الحديث الأول في «صحيحه» ، ومسلم (١٩٠٧).

٧٢١

وهبته» (١) وخبر أنس «دخل مكة وعلى رأسه المغفر» (٢) وكخبر أبي هريرة «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (٣) وكقوله «يحرم من الرضاع من يحرم «من النسب» (٤) وقوله : «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» (٥) وقوله في المطلقة ثلاثا «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (٦) وقوله «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» (٧) وقوله : «إنما الولاء لمن أعتق» (٨) وقوله يعني ابن عمر : «فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر الأنثى» (٩) وأمثال ذلك ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأولين والآخرين.

أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة ، والمسألة منقولة في كتب الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنبلية مثل السرخسي ، وأبي بكر الرازي من الحنفية ، والشيخ أبي حامد ، وأبي الطيب ، والشيخ أبي إسحاق من الشافعية ، وابن خوازمنداد وغيره من المالكية ، ومثل القاضي أبي يعلى ، وابن موسى ، وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية ، مثل أبي إسحاق الأسفرائيني ، وابن فورك ، وأبي اسحاق النظّام من المتكلمين.

__________________

(١) رواه البخاري (٢٥٣٥ ، ٦٧٥٦) ، ومسلم (١٥٠٦).

(٢) رواه البخاري (٣٠٤٤ ، ٤٢٨٦ ، ٥٨٠٨) ، ومسلم (١٣٥٧).

(٣) رواه البخاري (٥١٠٨) ، ومسلم (النكاح : ٢ / ٣٧).

(٤) رواه البخاري (٢٦٤٥) ، ومسلم (النكاح : ٢ / ٩).

(٥) رواه البخاري (٢٩١) ، ومسلم (٣٤٨).

(٦) رواه البخاري (٥٣١٧).

(٧) رواه البخاري (١٣٥ ، ٦٩٥٤) ، والإمام أحمد (٢ / ٣١٨).

(٨) رواه البخاري (٢١٦٨) ، ومسلم (١٥٠٤).

(٩) رواه البخاري (١٥٠٣) ، ومسلم (٩٨٤).

٧٢٢

وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وقد ذكر أبو عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره ، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم ، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة ، وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور ، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب ، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى سيف الآمدي وإلى ابن الخطيب ، فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني.

قال : وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو ، والحجة على قول الجمهور ، أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن من عليه الخطأ فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية ، كما أن خبر التواتر بجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده ، ولا يجوز على المجموع ، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرى رؤياكم قد تواطأت علي أنها في العشر الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» (١) فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها ، فإذا قويت صارت علوما ، وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة.

قال أيضا : فلا يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو خلاف ما وصفهم الله تعالى به.

(فإن قيل) أما الجزم بصدقه فلا يمكن منه ، وأما العمل به وهو الواجب عليه وإن لم يكن صحيحا في الباطن ، وهذا سؤال ابن الباقلاني.

__________________

(١) رواه البخاري (٢٠١٥) ، ومسلم (١١٦٥).

٧٢٣

(قلنا) أما الجزم بصدقه فإنه قد يحتف به من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتفت بالمخبر ، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي أن العلم بمجرد الإخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول ما دون العدد لا يفيد أصلا وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه ، وأما العمل به فلو جاز أن يكون في الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لا نعقد الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس الأمر ، وهذا باطل فإذا كان تلقي الأمة له يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه (صدق) مقبول فإجماع السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه ، فإنه لا يمكن أحدا أن يدعي إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين ، وأما بعد ذلك فقد انتشرت انتشارا لا تضبط أقوال جميعها.

قال : واعلم أن جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من العلماء كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره ، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم ، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء ، كذلك لا يتعبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم ، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم.

فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا أن يتواتر عندهم ، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به البتة ، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات ، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما وكذلك يعلمون بالضرورة

٧٢٤

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وعند الجهمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل ذلك ، ويعلمون بالضرورة أن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة ، وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك ، وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة قاطعون بصحتها عنه ، وغيرهم لا علم عنده بذلك. والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند الجمهور العقلاء.

وأما خبر الواحد الذي أوجبت الشريعة تصديق مثله والعمل به بأن يكون خبر عدل معروف بالصدق والضبط والحفظ ، فهذا في إفادته للعلم قولان ، هما روايتان منصوصتان عن أحمد (أحدهما) إنه يفيد العلم أيضا وهو أحد الروايتين عن مالك ، اختاره جماعة من أصحابه منهم محمد بن خوازمنداد ، واختاره جماعة من أصحاب أحمد منهم ابن أبي موسى وغيره ، واختاره الحارث المحاسبي وهو قول جمهور أهل الظاهر وجمهور أهل الحديث ، وعلى هذا فيحلف على مضمونه ويشهد به.

(والقول الثاني) إنه لا يوجب العلم وهو قول جمهور أهل الكلام وأكثر المتأخرين من الفقهاء وجماعة من أهل الحديث ، وعلى هذا فلا يحلف على مضمونه ولا يشهد به ، وقد حلف الإمام على كثير من مضمون كثير من الأخبار الآحاد حلف على البت ، وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين ، بل يقولون ذلك الأمر يرجع إلى المخبر وأمر يرجع إلى المخبر عنه وأمر يرجع إلى المخبر به ، وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ.

فأما ما يرجع إلى المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق الخلق لهجة ، وأعظمهم أمانة وأحفظهم لما يسمعونه ، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم ؛ فكانت طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة ؛ ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة ؛ وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمرا معلوما لهم بالاضطرار ، كما يعلمون إسلامهم

٧٢٥

وإيمانهم وجهادهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم وحصول الثقة بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم من سائر الخلق بعد الأنبياء.

فقياس خبر الصديق على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم ، وكذلك الثقات العدول الذين رووا عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحريا للصدق والضبط حتى تعرف في جميع طوائف بني آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحريا للصدق منهم ، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس ، مع ظهور الفرق المبين بين المخبرين ، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد الناس في عدم إفادة العلم ، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل.

وأما ما يرجع إلى المخبر عنه فإنه الله سبحانه تكفل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يظهر دينه على الدين كله ، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول لمن بعده فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته ، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس. قال سفيان ابن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث. قال عبد الله بن المبارك لو هم رجل أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب.

وقد عاقب الله الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالا وعبرة حفظا لوحيه ودينه ، وقد روى أبو القاسم البغوي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن بريدة عن أبيه قال جاء رجل في جانب المدينة فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا ، وكان خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا فاقتله فإن أنت وجدته ميتا فأحرقه بالنار ، فانطلق

٧٢٦

فوجده قد لدغ فمات فحرقه بالنار ، فعند ذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (١).

وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الأوزاعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تقول عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (٢) وذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض.

فالله سبحانه لم يقر من كذب عليه في حياته وفضحه ، وكشف ستره للناس بعد مماته.

وأما ما يرجع إلى المخبر به فإنه الحق المحض وهو كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كلامه وحى فهو أصدق ، وأحق الحق بعد كلام الله ، فلا يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح ، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما يشهد بصدقه ، والحق عليه نور ساطع يبصره وذو البصيرة السليمة ، فبين الخبر الصادق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار والضوء والظلام ، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق ، فكيف نسبته بالكذب ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخباره وسنته ، ومن سواهم في عمى عن ذلك ، فإذا قالوا أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منه العلم ، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم ، كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة.

وأما ما يرجع إلى المخبر نوعان : نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط ، وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوا إلى الأمة وتلقاه بعضهم عن بعض بالقبول ، وتلقته الأمة ، عنهم كذلك ، وقامت شواهد صدقهم فيه ، فهذا المخبر يقطع بصدق

__________________

(١) رواه البخاري (١١٠ ، ٣٤٦١) ، ومسلم (٣٠٠٤).

(٢) رواه البخاري (١٠٩).

٧٢٧

المخبر ويفيده خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته ، ونوع لا علم لهم بذلك ، وليس عندهم من المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين ، فإذا انضم عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر إليه ، أفاد ذلك علما ضروريا بصحة تلك النسبة ، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر رجل مبرز في الصدق والتحفظ ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود إنه سأله رجل معدم فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك ، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير ، فكيف إذا تعدد المخبرون عنه وكثرت روايتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة ، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة.

* * *

قال أبو محمد بن حزم : ومما يبين أن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفيد العلم أن الله تعالى قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) فصحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور ببيان القرآن للناس ، وفي القرآن مجمل كثير ، كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا يعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه ، لكن بتبيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا كان بيانه لذلك المجمل محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن ، وبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه إذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها مما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب ؛ ومعاذ الله من هذا.

قال : وأيضا فنقول لمن قال : إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يوجب العلم ، وأن يجوز فيه تعمد الكذب والوهم ، وأنه غير مضمون الحفظ : أخبرونا هل يمكن أن يكون عندكم شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة ، فجهلت حتى لا يعلمها علم اليقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا؟ وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطإ بالوهم قد جاوز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا. أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين؟ فإن قالوا لا يمكننا أبدا بل قد أمنا ذلك ،

٧٢٨

صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الديانة فإنه حق ، قد قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو ، وأنه يوجب العلم ويقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله قط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلاطا لا يتميز الباطل فيه من الحق أبدا ، وإن قالوا بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحدا أبدا ، وأنه لا يدرون أبدا ما أمرهم الله به مما لم يأمرهم به ولا ما وضع الكاذبون والمستخفون بما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث ، والذي لا يغني من الحق شيئا ، وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع.

ثم نقول لهم : أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم ، فهل أمركم الله بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لم يأمركم بالعمل به؟ ولا بد من أحدهما ، فإن قالوا لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة ، وسيأتي جوابهم عن هذا القول ؛ وإن قالوا بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك ، قلنا لهم : فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكاذبون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم أن تنسبوا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يأتكم به قط ، وما لم يقله الله ولا رسوله ، وهذا قطع عليه بأنه عزوجل أمر بالكذب عليه ، وافترض العمل بالباطل وبما شرعه الكاذبون مما لم يأذن به الله وبما ليس من الدين ، وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم.

ثم نسألهم عما قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يؤخذ عن أحد هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا؟ ولا بد من أحدهما ، فإن قالوا بل هو باق علينا ، قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا أبدا ، وهذا من تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله منه.

(وإن قالوا) بل قد سقط عنا العمل به (قلنا لهم) فقد أجزتم نسخ شريعة من شرائع دين الإسلام ، مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي محكمة باقية لازمة ،

٧٢٩

فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها ، وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي لازمة لنا غير منسوخة ، وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة.

(فإن قالوا) لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو لازم لنا ولم ينسخ ، قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ، ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة من أن لا تختلط بها باطل لم يأمر الله به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله به من الباطل الذي لم يأمر به قط ، وهذا لا مخلص لهم منه ، ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق أو أجاز اختلاطها بالباطل ، وبين ومن منع من اختلاط الحق في شريعة بالباطل ، وأجاز سقوط شريعة حق ، وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع ، قد أمنا كونه ولله الحمد.

وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق مقطوع به موجب للعلم والعمل جميعا. قال : وأيضا فإن الله تعالى قال : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة : ٦٧) فنسألهم هل بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنزل إليه من ربه أم لم يبين ، وهل بلغ ما أنزل إليه أم لم يبلغ ، فلا بد من أحد أمرين : فمن قولهم إنه بلغ ما أنزل إليه وبينه للناس ، وأقام الحجة على من بلغه ، فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان ؛ أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة ، أم هما غير باقيين؟ فإن قالوا بل هما باقيان إلى يوم القيامة ، رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله في الدين مبين مما لم ينزله ، مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة.

وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل (عن) مثله مسندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق مقطوع بغيبه موجب للعلم والعمل ، وإن قالوا بل هما غير باقيين ، دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل ، وأن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع ، وأن بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا

٧٣٠

يوجد معه أبدا ، وهذا قول الرافضة ، بل شر منه ، لأن الرافضة ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العلم ، وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ، ونعوذ بالله من كلا القولين.

وأيضا فإن الله تعالى قد قال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) إلى قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف : ٣٢ ، ٣٣) وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (النجم : ٢٣) وقال تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : ٢٨) وقال تعالى ذما لقوم في قولهم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) (الجاثية : ٣٢) (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام : ١٤٨) وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن نقول أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكذا ونهى عن كذا وفعل كذا والله تعالى حرم القول في دينه بالظن وحرم علينا أن نقول عليه إلا بعلم ، فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكان قد أمرنا أن نقول عليه ما لا نعلم ، فلو كان لخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكان قد أمرنا أن نقول عليه ما لا نعلم ، ولكان قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه ، والذي هو الباطل الذي لا يغني عن الحق شيئا ، والذي هو غير الهدى الذي جاء من عند الله وهذا هو الإفك والكذب والباطل الذي لا يحل القول به والذي حرم الله علينا أن نقول به.

فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه يوجب العلم والعمل معا ، وبالله التوفيق. فصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر واحد ، وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم قائلا بأن الله تعبدنا بأن نقول عليه ما ليس لنا به علم ، وأن نحكم في ديننا بالظن الذين قد حرم علينا أن نحكم به في الدين ، وهذا عظيم جدا. وأيضا فإن الله تعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة : ٣) وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران : ٨٥) وقال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (آل عمران : ١٩) فنقول لمن جوز

٧٣١

أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ ، وأنه يجوز فيه التبديل ، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا ، أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا ديننا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام. أكلّ ذلك باق علينا ولنا وإلى يوم القيامة ، أم إنما كان ذلك للصحابة رضى الله عنهم فقط ، أو لا للصحابة ولا لنا؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه.

فإن قالوا لا للصحابة ولا لنا ، كان قائل هذا القول كافر لتكذيبه الله جهارا وهذا لا يقوله مسلم ، وإن قالوا بل كل ذلك باق لنا وعلينا وإلى يوم القيامة ، وصاروا إلى قولنا ضرورة ، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة ، وإن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه ، لأنه هو الدين عنده متميز من غيره ، قد هدانا بفضله له ، وإنا على يقين أنه الحق ، وما عداه هو الباطل ، وهذا برهان ضروري قاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به ما ليس منه أبدا.

وإن قالوا : بل كان ذلك للصحابة فقط ، قالوا الباطل ، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة ، إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرها عموم لكل مسلم في الأبد ، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا ، والله تعالى رضي لنا منه ما لم يحفظه علينا وألزمنا منه ما لا ندري أين نجده ، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستحقون ووضعوه على لسان رسوله أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال لدين الإسلام جهارا ، ولو كان هذا (ومعاذ الله أن يكون) لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذين أخبر الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله ، وما هو من عند الله ، ونحن قد وثقنا بأن الله تعالى هو الصادق في قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (البقرة : ٢١٣) وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد هدانا تعالى له وأنه حق مقطوع به.

٧٣٢

قال ابن حزم : وقال بعضهم لما انقطعت به الأسباب : خبر الواحد يوجب علما ظاهرا.

قال : وهذا كلام لا يعقل ، وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر ، بل كل علم يتيقن فهو ظاهر لمن علمه وباطن في قلبه ، وكل ظن لم يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا ، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله.

ونقول لهم إذا كان عندكم يمكن أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا أن يكون كثير من الشرائع قد بطلت لأنه لم ينقلها أحد أصلا فإذا منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها ، لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك.

وأيضا فإنه لا يشك أحد من المسلمين أن كل ما علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمه أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها وحلالها ، فإنه سنة الله تعالى وقد قال تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر : ٤٠٣) وقال تعالى (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) (الأنعام : ٣٤) (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الكهف : ٢٧) فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه ويمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذبا ، وهذا لا يجيزه مسلم أصلا ، فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله عزوجل لرسوله وسنها رسوله لأمته ، فإنه لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدا ، وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله عزوجل.

وأيضا فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من الله في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه إلينا ونقول لهم : أخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له في إخباره الصحابة بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه

٧٣٣

الصلاة والسلام في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة؟ فإن قالوا بل هي له مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين من بعدهم ، قلنا لهم إذا قد جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته ، وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين ، فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده وبين ما منعتم من ذلك في حياته ، فإن قالوا لأنه يكون غير مبلغ لما أمروا به ولا معصوم والله تعالى يقول : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) (قيل) نعم وهذا التبليغ المفترض عليه الذي هو معصوم فيه ـ بإجماعكم معنا ـ من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة ولا فوق ، والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء ، فالعصمة واجبة في تبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة ، والحجة قائمة بالدين علينا وإلى يوم القيامة كما كانت قائمة على الصحابة سواء ، ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة ، والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم أكذب.

ثم نقول وكذلك قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (الحجر : ٩ ، المائدة : ٣ ، آل عمران : ٨٥ ، البقرة : ٢٥٦) وإن ادعوا إجماعا ، قيل من الكرامية من يقول إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير معصوم في تبليغ الرسالة ، فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع (قلنا لهم) صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ ، وإن كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز به الرشد من الغي ، ولا دين الله تعالى من دين إبليس.

(وإن قالوا) إن الفضيلة بعصمة ما أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين باقية إلى يوم القيامة ، صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد.

(فإن قيل) إن صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ ، وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة يوجب العلم إحالة الطبيعة وخرق العادة فيه.

(قلنا) لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان به ،

٧٣٤

فالعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة ، وهذا هو الذي أنكرتم بعينه ، بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض ، إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها ، وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس ، وحاش لله أن تجتمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل. فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان ولا سيما إذا كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق ، فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها.

فإن قالوا إنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار التي قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصومون في نقلها وإن كل واحد معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه.

(قلنا لهم) نعم هكذا نقول وبه نقطع ، وكل عدل روى خبرا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدين فذلك الراوي معصوم فيه من تعمد الكذب ، ومقطوع بذلك عند الله ، ومن جواز الوهم فيه إلا ببيان وارد ولا بد من الله ببيان ما وهم فيه كما فعل سبحانه بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سلّم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة مما ليس منها (قلت) وهذا الذي قاله أبو محمد حق في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول عملا واعتقادا دون الغريب الذي لم يعرف تلقي الأمة له بالقبول.

(قال ابن حزم) فإن قالوا قد تعبدنا الله سبحانه بحسن الظن به وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله تعالى يقول : «أنا عند ظن عبد بي فليظن بي خيرا» (١).

__________________

(١) رواه البخاري (٧٥٠٥) ، ومسلم (٢٦٧٥).

٧٣٥

(قلنا) ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه في الدين بالتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم ، وبين لنا كل ما لزمنا من ذلك ، فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار ، وتخليد المؤمنين في الجنة ، ولا فرق ، ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله.

فإن قالوا أنتم تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بم شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا ، وبما حلف عليه المدعى عليه إذ لم يقم المدعى بينه في إباحة الدماء والفروج والأبشار والأموال المحرمة ، وكل ذلك بإقرارهم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وحلف عليه الحالف ، وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا قوله في خبر الواحد.

قلنا لهم وبالله التوفيق : بين الأمرين فروق واضحة كالشمس (أحدها) أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبيينه من الغي ومما ليس منه ، ولم يتكفل تعالى بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا وأموالنا في الدنيا ، بل قدر كثيرا من ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا ، وقد نص على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» (١) ، وبقوله للمتلاعنين «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب» (٢).

(والفرق الثاني) أن حكمنا بشهادة الشاهد ويمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع لهم بأن الله تعالى افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع الشهادة العدل وبيمين المدعى عليه إذا لم تقم بينة وشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن الأمر كاذبين أو واهمين ، فالحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه.

__________________

(١) رواه البخاري (٢٦٨٠) ومسلم (١٧١٣).

(٢) رواه البخاري (٥٣٠٧) ومسلم (النكاح : ٢ / ٦).

٧٣٦

برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين ، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله تعالى ظالم ، سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم ، ونحن مأمورون يقينا بأمر الله تعالى لنا أن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل ، وأن نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب ، وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل ، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك ، وقضى تعالى بأننا إن لم نحكم بذلك فساق عصاة له ، ظلمة متوعدون بالنار على ذلك ، وما أمرنا أن نحكم في الدين بخبر وضعفه فاسق أو وهم فيه واهم فهذا فرق في غاية البيان.

(وفرق ثالث) وهو أن الله تعالى فرض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، وأمرنا الله تعالى بكذا ، لأنه تعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (النساء : ٥٩ ، الحشر : ٧) ففرض علينا أن نقول : نهانا الله ورسوله عن كذا وكذا ، وأمرنا بكذا ، ولم يأمرنا قط أن نقول : شهد هذا الشاهد بحق ولا حلف هذا الحالف على حق ، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق يقينا ، ولكن الله قال : احكموا بشهادة العدل ، ويمين المدعى عليه إذا لم تقم عليه بينة ، وهذا فرق لا خفاء به ، فلم نحكم بالظن في شيء من ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع فإذا قالوا إنما قال الله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات : ١٢) ولم يقل كل الظن إثم (قلنا) قد بين الله تعالى لنا الإثم من البر ، وبين أن القول عليه بما لا يعلم حرام ، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.

قال ابن حزم : فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرناها ، وظنوا أنهم يتخلصوا بذلك ، ولم يتخلصوا ، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا فهو لازم لهم ، وذلك إنا نقول : أخبرونا عن الأخبار التي رواها ، الآحاد ، أهي كلها حق إذا جاءت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل. أم فيها حق وباطل؟ فإن قالوا فيها حق وباطل ، وذلك قولهم.

٧٣٧

قلنا لهم : فهل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى فيها إلى نبيه حتى تختلط بكذب وضعه فاسق فنسبه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو وهم فيه واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمه لنا ، أم هي غير محفوظة ولا كلها لازم لنا ، بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض علينا من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به ، أم لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين ، لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منه أبدا.

فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى بها إلى نبيه بما ليس من الدين وقالوا لم يقم الله علينا حجة فيما أمرنا به ، دخل عليهم من القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام وبطلان ضمان الله لحفظ الذكر ، كالذي دخل على غيرهم ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم أنهم يعملون بما ليس من الدين ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بطل بيانه وأن حجة الله بذلك لم تقم علينا ، وإن لجئوا إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ، ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا ، إذ قد بطل ضمان حفظ الله فيها.

وأيضا : فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغاير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر ، فإن لجأ لاجئ إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات إنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهذه مجاهرة ظاهرة ، ومدافعة لما يعلم بالضرورة خلافه ، وتكذيب لجميع الصحابة ولجميع فضلاء التابعين ، ولكل إنسان من علماء المسلمين جيلا بعد جيل لأن كل من ذكرنا رووا الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا شك واحتج بها بعضهم على بعض ، وعملوا بها ، وأفتوا بها في دين الله ، وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل لا تختلف النفوس فيه ، لأن بالضرورة يعلم أنه لا يمكن أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق في كلمة بل كلهم كذبوا ووضعوا كل ما رووا.

٧٣٨

وأيضا ففيه إبطال لأكثر الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليس في القرآن مبينة كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك ، وأنا إنما تلقيناها من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهذه ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا كلها أولها عن آخرها ، أو يكون فيها حق وباطل إلا أنه لا سبيل لنا إلى تمييز الحق من الباطل أبدا ، وهذا تكذيب لله في إخباره بحفظ الذكر المنزل بإكماله لنا الدين ، وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيء ولا سواه ، وفيه أيضا إفساد الدين واختلاطه بما لم يأمر الله به ولا سبيل لأحد في العالم أن يعرف ما أمر الله به في دينه مما لم يأمر به أبدا ، وأن حقيقة الإسلام قد بطلت بيقين ، وهذا انسلاخ ، من الإسلام ، أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى موجبة كلها العلم بإخبار الله بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا ، ولإخباره تعالى أنه قد تبين الرشد من الغي ، وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي فعله ، وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى عن لسان نبيه. وهذا قولنا انتهى كلامه.

* * *

فصل

(الأدلة على أن خبر الواحد العدل يفيد العلم)

ومما يبين أن خبر الواحد العدل يفيد العلم أدلة كثيرة :

(أحدها) أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة ، ولم ينكر عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى ، فلو لا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم ، وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترنته قرينة ،

٧٣٩

وكثير منهم يقول : لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها ، وهذا في غاية المكابرة ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرنا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها.

الدليل الثاني : أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات : ٦) وفي القراءة الأخرى (فتثبتوا) ، وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبيت ، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبيت حتى يحصل العلم ومما يدل عليه أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وفعل كذا ، وأمر بكذا ونهى عن كذا ، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة.

وفي «صحيح البخاري» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما سمعه من صحابي غيره ، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير علم.

الدليل الثالث : إن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك جزم منهم بأنه قاله ، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن ، بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفيد العلم وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه ، وأنه قال كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويروى عنه ونحو ذلك ، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم هذا الحديث الصحيح ، وبين قوله إسناده صحيح فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثاني شهادة بصحة سنده ، وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيحا ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه.

الدليل الرابع : قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ

٧٤٠