مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

فصل في كسر الطاغوت الثالث

الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات

وهو طاغوت المجاز

هذا الطاغوت لهج به المتأخرون ، والتجأ إليه المعطلون ، وجعلوه جنة يترسون بها من سهام الراشقين ويصدرون عن حقائق الوحى المبين فمنهم من يقول : الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا. ومنهم من يقول : الحقيقة هى المعنى الّذي وضع له اللفظ أولا والمجاز استعمال اللفظ فيما وضع له ثانيا ، فها هنا ثلاثة أمور : لفظ ومعنى واستعمال. فمنهم من جعل مورد التقسيم هو الأول ، ومنهم من جعله الثاني ، ومنهم من جعله الثالث ، والقائلون حقيقة اللفظ كذا ومجازه كذا يجعلون الحقيقة والمجاز من عوارض المعانى. فإنهم إذا قالوا مثلا : حقيقة الأسد هو الحيوان المفترس ومجازه الرجل الشجاع ، جعلوا الحقيقة والمجاز للمعنى لا للألفاظ ، وإذا قالوا هذا الاستعمال حقيقة وهذا الاستعمال مجاز جعلوا ذلك من توابع الاستعمال ، وإذا قالوا هذا اللفظ حقيقة في كذا ، مجاز في كذا جعلوا ذلك من عوارض الألفاظ ، وكثير منهم في كلامه هذا وهذا وهذا.

والمقصود أنهم سواء قسموا اللفظ ومدلوله أو استعماله في مدلوله طولبوا بثلاثة أمور (أحدها) تعيين ورود التقسيم ، (الثاني) صحته بذكر ما تشترك فيه الأقسام وما ينفصل وما يتميز به فلا بد من ذلك المشترك ؛ والمميز ضرورة صحة التقسيم (الثالث) التزام الطرد والعكس فإن التقسيم من جنس التحديد إذ هو مشتمل على القدر المشترك والقدر المميز الفارق فإن لم يطرد التقسيم وينعكس كان تقسيما فاسدا.

٣٨١

فنقول : تقسيمكم الألفاظ ومعانيها واستعمالها فيها إلى حقيقة ومجاز ؛ إما أن يكون عقليا أو شرعيا ، أو لغويا أو اصطلاحيا ، والأقسام الثلاثة الأول باطلة ، فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول عليه حقيقة كان أو مجاز فإن دلالة اللفظ على معناه ـ وليست كدلالة الانكسار على الكسر والانفعال على الفعل ـ لو كانت عقلية لما اختلفت باختلاف الأمم ولما جهل أحد معنى لفظ ، والشرع لم يرد بهذا التقسيم ولا دل عليه ، ولا أشار إليه ؛ وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ، ولا وجد في كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ولا بواسطة ذلك ، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل وسيبويه والفراء وأبى عمرو بن العلاء والأصمعى وأمثالهم ، كما لم يوجد ذلك في كلام رجل واحد من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين ، ولا في كلام أحد من الأئمة الأربعة.

* * *

وهذا الشافعي وكثرة مصنفاته ومباحثه مع محمد بن الحسن وغيره لا يوجد فيها ذكر المجاز البتة ؛ وهذه رسالته التي هي كأصول الفقه لم ينطق فيها بالمجاز في موضع واحد ، وكلام الأئمة مدون بحروفه لم يحفظ عن أحد منهم تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز ، بل أول من عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه صنف في تفسير القرآن كتابا مختصرا سماه مجاز القرآن ، وليس مراده به تقسيم الحقيقة ، فإنه تفسير لألفاظه بما هي موضوعة له ، وإنما عنى بالمجاز ما يعبر به من اللفظ ويفسر به كما سمي غيره كتابه معانى القرآن ، أى ما يعنى بألفاظه ويراد بها ، كما يسمى ابن جرير الطبري وغيره ذلك تأويلا ، وقد وقع في كلام أحمد شيء من ذلك ؛ فإنه قال في «الرد على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن» : وأما قوله (إِنِّي مَعَكُمْ) [المائدة :

٣٨٢

١٢] فهذا من مجاز اللغة. يقول الرجل للرجل : سيجري عليك رزقك. أنا مشتغل بك. وفي نسخة ، وأما قوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] فهو جائز في اللغة. يقول الرجل للرجل : سأجري عليك رزقك وسأفعل بك خيرا.

قلت : مراد أحمد أن هذا الاستعمال مما يجوز في اللغة ، أي هو في جائز اللغة لا من ممتنعاتها ، ولم يرد بالمجاز أنه ليس بحقيقة وأنه يصح نفيه ، وهذا كما قال أبو عبيدة في «تفسيره» إنه مجاز القرآن ، ومراد أحمد أنه يجوز في اللغة أن يقول الواحد المعظم نفسه : نحن فعلنا كذا : فهو مما يجوز في اللغة ، ولم يرد أن في القرآن ألفاظا استعملت في غير ما وضعت له ، وأنها يفهم منها خلاف حقائقها ، وقد تمسك بكلام أحمد هذا من ينسب إلى مذهبه أن في القرآن مجازا كالقاضى أبي يعلى وابن عقيل وابن الخطاب وغيرهم ، ومنع آخرون من أصحابه ذلك ، كأبي عبد الله بن حامد ، وأبي الحسن الجزرى وأبي الفصل التميمي.

وكذلك أصحاب مالك مختلفون ، فكثير من متأخريهم يثبت في القرآن مجازا وأما المتقدمون كابن وهب وأشهب وابن القسم فلا يعرف عنهم ، في ذلك لفظة واحدة.

وقد صرح بنفي المجاز في القرآن محمد بن خوازمنداد البصرى المالكي وغيره من المالكية وصرح بنفيه داود بن على الأصبهاني وابنه أبو بكر ، ومنذر بن سعيد البلوطي ؛ وصنف في نفيه مصنفا ، وبعض الناس يحكى في ذلك عن أحمد روايتين.

وقد أنكرت طائفة أن يكون في اللغة مجاز بالكلية ، كأبي إسحاق الأسفرائيني وغيره ، وقوله له غور لم يفهمه كثير من المتأخرين ؛ وظنوا أن النزاع لفظي ؛ وسنذكر أن مذهبه أسد وأصح عقلا ولغة من مذهب أصحاب المجاز. وطائفة أخرى غلت في ذلك الجانب وادعت أن أكثر اللغة مجاز ، بل كلها ، وهؤلاء أقبح قولا وأبعد عن الصواب من قوله من نفي المجاز بالكلية ؛ بل من نفاه أسعد بالصواب.

٣٨٣

فصل

وإذا علم أن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا فهو اصطلاح محض ؛ وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص (١) ، وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من المتكلمين وأشهر ضوابطهم قولهم : إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا. والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا ، ثم زاد بعضهم : في العرف الذي وقع به التخاطب لتدخل الحقائق الثلاث وهي : اللغوية ، والشرعية والعرفية.

والكلام على ذلك من وجوه (أحدها) : ما تعنون باللفظ سواء كانت اللغات توقيفية كما هو قول جمهور الناس ، أو اصطلاحية كما هو قول أبى هاشم الجبائي ومن تبعه ، أتعنون به جعل اللفظ دليلا على المعنى ، أم تعنون به غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير فيه أشهر من غيره ، أم تعنون به مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة في صورة واحدة كما قلتم من شرط المجاز الوضع ، فإن الوضع في كلامكم ما يدور علي هذه المعانى الثلاثة ، وهذا كله إنما يصح إذا علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ثم استعملت فيها ثم وضعت لمعان أخر بعد الوضع الأول والاستعمال بعده والوضع الثاني والاستعمال بعده ، ولا تتم لكم دعوى المجاز إلا بهذه المقامات الأربع ، وليس معكم ولا مع غيركم سوى استعمال اللفظ في المعنى ، وأما أنهم وضعوه لمعنى ثم استعملوه فيه ، ثم وضعوه بعد ذلك لمعنى آخر غير معناه الأول ثم استعملوه فيه ، فدعوى ذلك قول بلا علم ، وهو حرام في حق المخلوق. فكيف فى كلام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن يمكنه من بني آدم أن يثبت ذلك ، وهذا لو أمكن العلم به لم يكن له طريق إلا الوحي وخبر الصادق المعلوم بالضرورة صدقه.

__________________

(١) يشير إلى ما أخرجه البخارى وغيره من حديث عبد الله بن مسعود وغيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ... الحديث ورد من عدة طرق وبألفاظ متقاربة.

٣٨٤

الوجه الثاني : إن هذا إنما يمكن دعواه إذا ثبت أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، ثم استعملوا تلك الألفاظ في تلك المعاني ، ثم بعد ذلك اجتمعوا وتواطئوا على أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معان أخر غير المعاني الأول ، لعلاقة بينها وبينها ، وقالوا هذه الألفاظ حقيقة في تلك المعاني مجاز في هذه وهذه ، ولا نعرف أحدا من العقلاء قاله قبل أبي هاشم الجبائي ، فإنه زعم أن اللغات اصطلاحية ، وأن هل اللغة اصطلحوا على ذلك ، وهذا مجاهرة بالكذب ، وقول بلا علم ، والذي يعرفه الناس استعمال هذه الألفاظ في معانيها المفهومة منها.

الوجه الثالث : إن قولكم : الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضوعه ، فلزم منه انتفاء كونه حقيقة قبل الاستعمال وليس بمجاز ، فتكون الألفاظ قبل استعمالها لا حقيقة ولا مجاز ، هذا وإن استلزموه فإنه يستلزم أصلا فاسدا ، ومستلزم لأمر فاسد ، أما الأصل الفاسد فهو أن هاهنا وضعا سابقا على الاستعمال ثم طرد عليه الاستعمال فصار باعتباره حقيقة ومجازا ؛ وهذا مما لا سبيل إلى العلم به كما تقدم ، ولا يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال بل تجردها عن الاستعمال محال وهو كتجرد الحركة عن المتحرك. نعم إنما تتجرد في الذهن وهي حينئذ ليست ألفاظا وإنما هي تقدر ألفاظا لا حكم لها ؛ وثبوتها في الرسم مسبوق بالنطق بها ، فإن الخط يستلزم اللفظ من غير عكس.

وأما استلزامه الأمر الفاسد فإنه إذا تجرد الوضع عن استعمال جاز أن يوضع للمعنى الثاني من غير أن يستعمل في معناه الأول ، وحينئذ فيكون مجازا لا حقيقة له ، فإذا الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه وقد نقل عنه إلى مجازه ، وهل هذا إلا نوع من الكهانة الباطلة ؛ اللهم إلا أن يأتي وحي بذلك فيجب المصير إليه.

الوجه الرابع : إن هذا يستلزم تعطيل الألفاظ عن دلالتها على المعاني وذلك ممتنع ؛ لأن الدليل يستلزم مدلوله من غير عكس.

(فإن قيل) لا يلزم من عدم الاستعمال عدم الدلالة فإنهما غير متلازمين

٣٨٥

(قيل) بل يلزم لزوما بينا ، فإن دلالته عليه إنما تتحقق باستعماله ، فإن الدلالة هي فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه فلا تحقق لها بدون الاستعمال البتة والاستعمال إما أن يكون هو معنى الحقيقة والمجاز وهذا إنما يقوله من يقول إن الحقيقة استعمال اللفظ في موضعه ، أو جزء مسمى الحقيقة ، كما يقول من يقول : إنها اللفظ المستعمل في موضعه ، وعلى التقديرين فليزم تجرد اللفظ عن حقيقته ومجازه قبل الاستعمال مع وجود دلالته على أحدهما. وهذا جمع بين النقيضين فتأمله.

الوجه الخامس : إن القائلين بالمجاز مختلفون ، هل يستلزم المجاز الحقيقة أم لا على قولين ، ولم يختلفوا أن الحقيقة لا تستلزم المجاز ، فإنه لا يجب أن يكون لكل حقيقة مجاز ، والذين قالوا باللزوم احتجوا بأنه لو لم يكن المجاز مستلزما للحقيقة لعرى وضع اللفظ للمعنى عن الفائدة ، وكان وضعه عبثا ، والحقيقة عندهم إنما استعمال اللفظ وإما وضع اللفظ المستعمل في موضوعه ؛ فلا يتصور عندهم مجاز حتى يسبقه استعمال في الحقيقة ، وهذا السبق مما لا سبيل لهم العلم به بوجه من الوجوه ، فيستحيل على أصلهم التمييز بين الحقيقة والمجاز.

فإن قالوا نحن نختار القول الأول وأن المجاز لا يستلزم الحقيقة ، فإن العرب تقول : شابت لمة الليل. وقامت الحرب على ساق ، وهذه مجازات لم يسبق لها استعمال في حقائقها ولم تستعمل في غير مدلولاتها المجازية.

قيل لهم الجواب من وجهين (أحدهما) أن المجاز وإن لم يستلزم استعمال اللفظ في حقيقته فلا بد أن يستلزم وضع اللفظ لمعناه الحقيقى ، فلو لم يتقدم وضع هذه الألفاظ لحقائقها لكانت قد وضعت هذه المعاني وضعا أوليا ، فتكون حقيقة لا مجازا ، فإذا لم يكن لهذه الألفاظ موضوع سوى معناها لم تكن مجازا ، وإن كان لها موضوع سواه بطل الدليل.

(الثاني) إنكم إنما تعنون بقولكم : لو استلزم المجاز الحقيقة لكان كنحو قامت الحرب على ساق ، وشابت لمة الليل ، حقيقة إنه لا بد لمفرداتها من حقيقة ، أو لا بد للتركيب من حقيقة ، فإن أردتم الأول فمسلم ، وهذه المفردات

٣٨٦

لها حقائق فبطل الدليل ؛ وإن أردتم الثاني فهو بناء على أن دلالة المركب تنقسم إلى حقيقية ومجازية. وهذا ينازع فيه جمهور القائلين بالمجاز ، ويقولون إن المجاز في المفردات لا في التركيب ؛ إذ لا يعقل وقوعه في التركيب ، لأنه لا يتصور أن يكون للإسناد جهتان : إحداهما جهة حقيقة ، والأخرى جهة مجاز ، بخلاف المفردات ، والفرق بينهما أن الإسناد لم يوضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى غيره ولا يتصور فيه ذلك وإن تصور في المفرد.

الوجه السادس : إن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لا يدل على وجود المجاز بل ولا على مكانه ، فإن التقسيم لا يدل على ثبوت كل واحد من الأقسام في الخارج ، ولا على إمكانها ، فإن التقسيم يتضمن حصر المقسوم في تلك الأقسام ، هي أعم من أن تكون موجودة أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة فها هنا أمران (أحدهما) انحصار المقسوم في أقسامه ؛ وهذا يعرف بطرق : منها أن يكون التقسيم دائرا بين النفي والإثبات. ومنها أن يجزم العقل بنفي قسم آخر وغيرها ومنها أن يحصل الاستقراء التام المفيد للعلم ، أو الاستقراء المفيد للظن.

(والثانى) ثبوت تلك الأقسام أو بعضها في الخارج ، وهذا لا يستفاد من التقسيم بل يحتاج إلى دليل منفصل يدل عليه ، وكثير من أهل النظر يغلط في هذا الموضع ، ويستدل بصحة التقسيم على الوجود الخارجية وإمكانه ، وهذا غلط محض ، كما يغلط كثير منهم في حصر ما ليس بمحصور ، فإن الذهن يقسم المعلوم إلى موجود ومعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم ، والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ؛ وإما لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره. وإما قائم بنفسه وغيره. وإما داخل العالم أو خارجه ، أو داخله ، أو داخله وخارجه ، أو لا داخله ولا خارجه وأمثال ذلك من التقسيمات الذهنية التى يستحيل ثبوت بعض أقسامها في الخارج.

إذا عرف ذلك فالذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز إن أرادوا بذلك التقسيم الذهنى لم يفدهم ذلك شيئا ، وإن أرادوا التقسيم الخارجى لم يكن معهم دليل

٣٨٧

يدل على وجود الجميع في الخارج سوى مجرد التقسيم. وهو لا يفيد الثبوت الخارجى ، فحينئذ لا يتم لهم مطلوبهم حتى يثبتوا أن هاهنا ألفاظا وضعت لمعان حتى تقلب عنها بوضع ثان على معان أخر غيرها ، وهذا مما لا سبيل لأحد إلى العلم به.

الوجه السابع : أن تقسيم الألفاظ إلى ألفاظ مستعملة فيما وضعت له ، وألفاظ مستعملة في غير ما وضعت له تقسيم فاسد يتضمن إثبات الشيء ونفيه ، فإن وضع اللفظ للمعنى هو تخصيصه به بحيث إذا استعمل فهم منه ذلك المعنى ، ولا يعرف للوضع معنى غير ذلك ، ففهم المعني الذي سميتموه أو سميتم اللفظ الدال عليه أو استعماله على حسب اصطلاحكم مجازا مع نفى الوضع جمع بين النقيضين ، وهو يتضمن أن يكون اللفظ موضوعا غير موضوع.

فإن قلتم : لا تناقض في ذلك فإنا نفينا الوضع الأول وأثبتنا الوضع الثاني.

قيل لكم : هذا دور ممتنع ، فإن معرفة كونه مجازا متوقف علي معرفة الوضع الثاني ومستفاد منه ، فلو استفيد معرفة الوضع من كونه مجازا لزم الدور الممتنع ، فمن أين علمتم أن هذا وضع ثان للفظ ، وليس معكم إلا أن ادعيتم أنه مجاز ، ثم قلتم فيلزم أن يكون موضوعا وضعا ثانيا ، فإنكم إنما استفدتم كونه مجازا من كونه مستعملا في غير موضوعه فكيف يستفاد كونه مستعملا في غير موضوعه من كونه مجازا؟!.

يوضحه الوجه الثامن : إنه ليس معكم إلا استعمال ؛ وقد استعمل في هذا وهذا ، فمن أين لكم أن وضعه لأحدهما سابق على وضعه للآخر ، ولو ادعى آخر أن الأمر بالعكس كانت دعواه من جنس دعواكم ، وسيأتي الكلام على الإطلاق والتقييد الذي هو حقيقة ما تعرفونه به ، وأنه لا يفيدكم شيئا البتة.

الوجه التاسع : إن هذا يتضمن التفريق بين المتماثلين ، فإن اللفظ إذا أفهم هذا المعني تارة وهذا تارة فدعوى المدعى أنه موضوع لأحدهما دون الآخر ، وأنه عند فهم أحدهما يكون مستعملا في غير ما وضع له تحكم محض ، وتفريق بين المتماثلين.

٣٨٨

الوجه العاشر : إن هذا تقسيم فاسد لا ينضبط بضابط صحيح ، ولهذا عامة ما يسميه بعضكم مجازا يسميه غيره حقيقة ، وهذا يدعي أنه استعمل فيما لم يوضع له ؛ وذلك يدعى أن هذا موضوعه ، وذلك أنه ليس في نفس الأمر فرق يتميز به أحد النوعين عن الآخر فإن الفرق إما في نفس اللفظ وإما في المعنى وكلاهما منتف قطعا ، أما انتفاء الفرق في اللفظ فظاهر ، فإن اللفظ بما سميتموه حقيقة وما سميتموه مجازا واحد ، وأما الفرق المعنوى فمنتف أيضا إذ ليس بين المعنيين من الفرق ما يدل على أنه وضع لهذا ولم يوضع لهذا بوجه من وجوه الدلالة ، ولهذا لما تفطن بعض الفضلاء لذلك قال : إنما يعرف الفرق بين الحقيقة والمجاز بنص أهل اللغة على أن هذا حقيقة وهذا مجاز ، فإن أراد بأهل اللغة العرب العاربة الذين نقلت عنهم الألفاظ ومعانيها ، فلم ينص أحد منهم البتة على ذلك ؛ وإن أراد من نقل عنهم الألفاظ ومعانيها مشافهة من أئمة اللغة كالأصمعى والخليل والفراء وأمثالهم فكذلك وإن أراد المتأخرين منهم الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز كابن جني والزمخشري وأبي علي وأمثالهم فهذا اصطلاح منهم لا إخبار عن العرب ، ولا عن نقلة اللغة أنهم نقلوه عن العرب ، وحينئذ فتعود المطالبة لهم بالفرق المطرد المنعكس بين ما سموه حقيقة وما سموه مجازا ، وسنذكر إن شاء تعالى فرقهم ونبطلها. يوضحه :

الوجه الحادي عشر : إن تمييز الألفاظ والتفريق بينها تابع لتمييز المعانى والتفريق بين بعضها وبعض ، فإذا لم يكن المعني الذي سموه حقيقيا منفصلا متميزا من المعنى الذي سموه مجازيا بفصل يعلم به أن استعماله في هذا حقيقة ، واستعماله في الآخر مجاز ، لم يصح التفريق في اللفظ ، وكان تسميته لبعض الدلالة حقيقة ولبعضها مجازا تحكما محضا.

الوجه الثاني عشر : إنهم اختلفوا هل تفتقر صحة الاستعمال المجازي إلى النقل في كل صورة ؛ كما تفتقر إلى ذلك الحقيقة أم لا ـ على قولين. والصحيح عندهم أنه لا يشترط. قالوا : وليس مورد النزاع في الأشخاص كزيد وأسد وبحر وغيث ، إذ لا تتوقف صحة هذا الإطلاق على كل شخص على النقل.

٣٨٩

فنقول : لا يتحقق ذلك في الأشخاص ولا في الأنواع ، أما الأشخاص فظاهر ، فإنه لا يشترط في استعمال اللفظ في كل واحد منها النقل عن أهل اللغة إذا كانت العلاقة موجودة في الأفراد. وأما الأنواع فلا يكفى في استعمال اللفظ في كل صورة ظهور نوع من العلاقة المعتبرة ، فأن من العلاقات عندهم علاقة اللزوم ، بحيث يتجوز عن الملزوم إلى لازمه وعكسه ، وعلاقة التضاد بأن يتجوز من أحد الضدين إلى الآخر ، وعلاقة المشابهة ، وعلاقة الجوار والقرب ، وعلاقة تقدم ثبوت الصفة للحمل ، وعلاقة كونه آئلا إليها ، فبعضهم جعل أنواع العلاقات أربعة ، وبعضهم أوصلها إلى اثنى عشر علاقة ، وبعضهم أوصلها إلى خمسة وعشرين ، ولو أوصلها آخر إلى خمسة وسبعين لقبلوا منه.

ومن المعلوم أنه ما من شيئين إلا وبينهما علاقة من هذه العلاقات ، فإذا لم يشترط النقل في آحاد الصور واكتفى بنوع العلاقة لزم من ذلك صحة التجوز بإطلاق كل لازم على لازمه ، وكل لازم على ملزومه ، وكل ضد على ضده ، وكل مجاور على مجاوره وكل شيء كان على صفة ثم فاقها على ما اتصف بها ، وكل مشبه على مشبهه ، وفي ذلك من الخبط وفساد اللغات وبطلان التفاهم ووقوع اللبس والتلبيس ما يمنع منه العقل والنقل ومصالح الآدميين ، فيجوز تسمية الليل نهارا والنهار ليلا ، والمؤمن كافرا والكافر مؤمنا ، والصادق كاذبا والكاذب صادقا ، والمسك نتنا والنتن مسكا ، والبول طعاما والطعام بولا ، وتسمية كل شيء باسم ضده ، ومجاوره ومشابهه ، ولازمه وملزومه. فهل يقول هذا أحد من عقلاء بني آدم؟ وهل في العالم قول أفسد من قول هذا لازمه؟

ولما ورد عليهم وعرفوا أنه وارد لا محالة قالوا المانع يمنع من ذلك ، ولو لا المانع لقلنا به. فيقال : يا لله العجب ما أسهل الدعوى التي لا حقيقة لها عليكم. أليس من المعلوم أن إضافة الحكم إلى المانع يستلزم أمرين. أحدهما قيام المقتضي والآخر إثبات المانع ، فقد سلمتم حينئذ أن المقتضي للتجوز المذكور موجود ، وادعيتم على العرب وأهل اللغة أن هذا العلاقات عندهم مقتضية لإطلاق اسم الضد على ضده ، واللازم على ملزومه والمجاور على مجاوره ، ثم

٣٩٠

ادعيتم أنهم منعوكم من هذا التجوز فيما لا يحصيه إلا الله تعالى ، فمن أين لكم الشهادة عليهم بهذا المقتضى وهذا المانع ، وأين قالوا لكم أبحنا لكم إطلاق هذه الأضداد الخاصة على أضدادها ، وهذه اللوازم على ملزوماتها وحرمنا عليكم ما عداها وهل معكم غير الاستعمال الثابت عنهم. وذلك الاستعمال لا يفيد أن ذلك بوضعهم وعرفهم من خطابهم فما لم يستعملوه وما لم يتفاهموه من مخاطباتهم علمنا أنه ليس من لغتهم ، وما فهموه واستعملوه هو من لغتهم ، وإذا دار الأمر بين إضافة الحكم إلى عدم مقتضيه وإضافته إلى وجود مانعه تعينت حوالته على عدم مقتضيه تخلصا من دعوى التعارض والتناقض فإن الصورة الممنوع منها إذا كانت مثل الصورة المستعملة كان التفريق بينهما تفريقا بين المتماثلين ، والعقل يأباه ويمنع منه.

وهذه المحاولات إنما لزمت من تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم يوضحه :

الوجه الثالث عشر : إن الذين اشترطوا النقل قالوا : لو جاز الإطلاق من غير فعل لكان ذلك إما قياسا إن كان مستندا إلى وصف ثبوتي مشترك بين صورة الاستعمال وصورة الإلحاق. وإما اختراعا إن لم يستند إلى ذلك ، فأجابهم من لم يشترط النقل بأن قالوا : العلاقة مصححة للتجوز ، كرفع الفاعل ونصب المفعول ، فإنا لما استقرأنا لغتهم وجدناهم يرفعون ما نطقوا به من أسماء الفاعلين علمنا أن سبب الرفع هو الفاعلية وسبب النصب هو المفعولية ، فهكذا استقراء علاقات المجاز ، وليس كذلك إطلاقهم كل ضد على ضده ، وكل لازم على لازمه.

وهذا الجواب من أفسد الأجوبة ، فإنا نعلم بالضرورة من لغتهم رفع كل فاعل ونصب كل مفعول ، وجر كل مضاف ، ولا يختلف في ذلك صورة من الصور ، فإنا لم نجد ذلك بنقل تواتر ولا آحاد ولا استقراء يفيد علما ولا ظنا ولا اطراد استعمال ، فقياس التجوز بكل ضد على ضده ، وبكل ملزوم على ملزومه على رفع الفاعل ونصب المفعول من أفسد القياس.

٣٩١

الوجه الرابع عشر : أنهم قالوا : يعرف المجاز بصحة نفيه ، أى إذا صح نفيه عما أطلق عليه كان مجازا ، كما يقال لمن قال : فلان بحر وأسد وشمس ، وحمار وكلب وميت ليس كذلك. وهذا بخلاف الحقيقة ، فإنه لا يصح أن ينفى عما أطلق عليه لفظا ، فلا يقال للحمار والأسد والبحر والشمس ليس كذلك ، فإنه يكون كذبا ، وقد اعترفوا هم ببطلانه فقالوا : هذا فرق يلزم منه الدور ، وذلك أن صحة النفي وامتناعه يتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز ، فلو عرفناهما بصحة النفي وامتناعه لزم الدور.

الوجه الخامس عشر : إن كثيرا من الحقائق يصح إطلاق النفى عليها باعتبار عدم فائدتها ، وليست مجازا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان ليسوا بشيء (١) ، ومن هذا سلب الحياة والسمع والبصر والعقل عن الكفار ومن هذا سلب الإيمان عمن لا أمانة له وسلبه عن الزاني والسارق والشارب الخمر والمنتهب وسلب الصلاة عن الفذ خلف الصف وسلب الصلاة عمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ولم يطمئن في صلاته عند كثير من هؤلاء فإن هذه الحقائق ثابتة عندهم وقد أطلق عليها السلب ، وليس من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان» (٢) ، «ليس الشديد بالصرعة» (٣) ، ونحو ذلك فإن هذا لم ينف فيه صحة إطلاق الاسم ، وإنما نفي اختصاص الاسم بهذا الرسم وحده ، وإن غيره أولى بهذا الاسم منه ، فتأمله فإن بعض الناس نقض به عليهم قولهم : إن المجاز ما صح نفيه ، وهو نقض باطل. وأما النقض الصحيح فما صح نفيه لنقضه وعدم حصول المطلوب منه مع إطلاق الاسم عليه حقيقة والله تعالى أعلم.

__________________

(١) رواه البخارى (٥٧٦٢ ، ٦٢١٣) ، ومسلم (السلام / ١٢٣) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «سأل ناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان فقال : «ليس بشيء» ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة».

(٢) أخرجه مسلم (١٠٣٩).

(٣) أخرجه البخاري (٦١١٤) ، ومسلم (٢٦٠٩).

٣٩٢

الوجه السادس عشر : أن يقال ما تعنون بصحة النفي ، نفي المسمى عند الإطلاق أم المسمى عند التقييد أم القدر المشترك أم أمرا رابعا ، فإن أردتم الأول كان حاصله أن اللفظ له دلالتان :

دلالة عند الإطلاق ودلالة عند التقييد بل المقيد مستعمل في موضعه ، وكل منهما منفي عن الآخر ، وإن أردتم الثاني لم يصح نفيه فإن المفهوم منه هو المعنى المقيد فكيف يصح نفيه؟ وإن أردتم القدر المشترك بين ما سميتموه حقيقة ومجازا لم يصح نفيه أيضا ، وإن أردتم أمرا رابعا فبينوه لنحكم عليه بصحة النفي أو عدمه ، وهذا ظاهر جدا لا جواب عنه كما ترى.

الوجه السابع عشر : إن هذا النفي الّذي جعلتم صحته عيارا على المجاز ، وفرقا بينه وبين الاصطلاح الحقيقى ، هو الصحة عند أهل اللسان أو عند أهل الاصطلاح على التقسيم إلى الحقيقة والمجاز أو عند أهل العرف ، فمن هم الذين يستدل بصحة نفيهم ، ويجعل عيارا على كلام الله ورسوله ، بل كلام كل متكلم؟ فإن كان المعتبر نفي أهل اللسان ، طولبتم بصحة النقل عنهم بأن هذا يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا ، وإن كان المعتبر نفي أهل الاصطلاح لم يفد ذلك شيئا ، لأنهم اصطلحوا على أن هذا مجاز ، فيصح لهم نفيه ، وهذا حقيقة فلا يصح لهم نفيه ، فكان ما ذا؟ وهل استفدنا بذلك شيئا وإن كان الاعتبار بصحة نفي أهل العرف فنفيهم تابع لعرفهم وفهمهم ، فلا يكون عيارا على أصل اللغة.

الوجه الثامن عشر : إن صحة النفي مدلول عليه بالمجاز فلا يكون دليلا عليه إذ يلزم منه أن يكون الشيء دليلا على نفسه ومدلولا لنفسه ، وهذا عين لزوم الدور.

الوجه التاسع عشر : أنكم فرقتم أيضا بينهما أن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن ، فالمدلول إن تبادر إلى الذهن عند الإطلاق كان حقيقة ، وكان غير المتبادر مجازا فإن الأسد إذا أطلق تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع ، فهذا الفرق

٣٩٣

مبنى على دعوى باطلة وهو تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية والنطق به وحده ، وحينئذ فيتبادر منه الحقيقة عند التجرد ، وهذا الفرض هو الذي أوقعكم في الوهم ، فإن اللفظ بدون القيد والتركيب بمنزلة الأصوات التى ينعق بها لا تفيد فائدة ، وإنما يفيد تركيبه مع غيره تركيبا إسناديا يصح السكوت عليه ، وحينئذ فإنه يتبادر منه عند كل تركيب بحسب ما قيد به ، فيتبادر منه في هذا التركيب ما لا يتبادر منه في هذا التركيب الأخير.

فإذا قلت هذا الثوب خطته لك بيدى ، تبادر من هذا أن اليد آلة الخياطة لا غير ، وإذا قلت : لك عندي يد الله يجزيك بها ، تبادر من هذا النعمة والإحسان ، ولما كان أصله الإعطاء وهو باليد عبر عنه بها ، لأنها آلة وهى حقيقة في هذا التركيب ، وهذا التركيب ، فما الّذي صيرها حقيقة في هذا ، مجازا في الآخر؟

فإن قلت : لأنا إذا أطلقنا لفظة يد تبادر منها العضو المخصوص قيل لفظة يد بمنزلة صوت ينعق به لا يفيد شيئا البتة حتى تقيده بما يدل على المراد منه ، ومع التقييد بما يدل على المراد لا يتبادر سواه ، فتكون الحقيقة حيث استعملت في معنى يتبادر إلى الفهم ، كذلك أسد لا تفيد شيئا ولا يعلم مراد المتكلم به حتى إذا قال زيد أسد أو رأيت أسدا يصلى ، أو فلان افترسه الأسد فأكله أو الأسد ملك الوحوش ونحو ذلك ، علم المراد به من كلام المتكلم ، وتبادر في كل موضع إلى ذهن السامع بحسب ذلك التقييد والتركيب ، فلا يتبادر من قولك : رأيت أسدا يصلى ، إلا رجلا شجاعا ، فلزم أن يكون حقيقة.

فإن قلتم : نعم ذلك هو المتبادر ، ولكن لا يتبادر إلا بقرينة ، بخلاف الحقيقة فإنها يتبادر معناها بغير قرينة. بل لمجرد الإطلاق ، قيل لكم : عاد البحث جذعا ، وهو أن اللفظ بغير قرينة ولا تركيب لا يفيد شيئا ولا يستعمل في كلامنا في الألفاظ المقيدة المستعملة في التخاطب.

فإن قلتم : ومع ذلك فإنها عند التركيب تحتمل معنيين أحدهما أسبق إلى

٣٩٤

الذهن من الآخر ، وهذا الذي نعنى بالحقيقة. مثاله أن القائل إذا قال رأيت اليوم أسدا ، تبادر إلى ذهن السامع الحيوان المخصوص ، دون الرجل الشجاع هذا غاية ما تقدرون عليه من الفرق وهو أقوى ما عندكم ، ونحن لا ننكره ولكن نقول اللفظ الواحد تختلف دلالته عند الإطلاق والتقييد ، ويكون حقيقة في المطلق والمقيد. مثاله لفظ العمل ، إنه عند الإطلاق إنما يفهم منه عمل الجوارح ، فإذا قيد بعمل القلب كانت دلالته عليه أيضا حقيقة. اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد. ولم يخرج بذلك عن كونه حقيقة. وكذلك لفظ الإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الأعمال. كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان» (١) فإذا قرن بالأعمال كانت دلالته على التصديق بالقلب. وكقوله : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (البقرة : ٨٢ ، ٢٧٧) فاختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الموضعين.

وكذلك لفظ الفقير والمسكين يدخل فيه الآخر عند الإطلاق. فإذا جمع بينهما لم يدخل مسمى أحدهما في مسمى الآخر ، وكذلك لفظ التقوى والقول السديد إذا أطلق لفظ التقوى تناول تقوى القلب والجوارح واللسان فإذا جمع بينهما تقيدت دلالته كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب : ٧٠) وكذلك لفظ التقوى عند الإطلاق يدخل فيه الصبر فإذا قرن بالصبر لم يدخل فيه كقوله تعالى : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) (آل عمران : ١٢٥) وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران : ١٨٦) ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر.

وأخص من هذا أن يكون اللفظ لا يستعمل إلا مقيدا كالرأس والجوارح واليد وغير ذلك فإن العرب لم تستعمل هذه الألفاظ مطلقة بل لا تنطق بها إلا مقيدة كرأس الإنسان ورأس الطائر ورأس الدابة ورأس الماء ورأس الأمر ورأس المال ورأس القوم. فها هنا المضاف والمضاف إليه جميعا حقيقة وهما موضوعان.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٩) ، ومسلم (الإيمان / ٥٨) وغيرهما.

٣٩٥

ومن توهم أن الأصل في الرأس للإنسان وأنه نقل منه إلى هذه الأمور فقد غلط أقبح غلط وقال ما لا علم له به بوجه من الوجوه. ولو عارضه آخر بضد ما قاله كان قوله من جنس قوله لا فرق بينهما. فالمفيد موضع النزاع والمطلق غير مستعمل ولا يفيد فتأمله. وكذلك الجناح لجناح الطائر حقيقة وجناح السفر حقيقة فيه وجناح الذل حقيقة فيه. فإن قيل ليس للذل جناح. قلنا ليس له جناح ريش وله جناح معنوي يناسبه. كما أن الأمر والمال والماء ليس له رأس الحيوان ولها رأس بحسبها. وهذا حكم عام في جميع الألفاظ المضافة كاليد والعين وغيرهما ، فيد البعوضة حقيقة ويد الفيل حقيقة وليست مجازا في أحد الموضعين حقيقة في الآخر ، وليست اليد مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا وكذلك إرادة البعوض وحياتها وقوتها حقيقة. وإرادة الملك وقوته وحياته حقيقة. ومعلوم أن القدر المشترك بين الأسد والرجل الشجاع وبين البليد والحمار أعظم من القدر المشترك الذي بين البعوضة والفيل وبين البعوضة والملك. وإذا جعلتم اللفظ حقيقة هناك باعتبار القدر المشترك فهلا جعلتموه حقيقة باعتبار القدر المشترك فيما هو أظهر وأبين. وهذا يدل على تناقضكم وتفريقكم بين المتماثلين وسلبكم الحقيقة عما هو أولى بها. يوضحه :

الوجه العشرون : وهو أنكم فرقتم بقولكم : إن المجاز يتوقف على القرينة والحقيقة لا تتوقف على القرينة. ومرادكم أن إفادة الحقيقة لمعناها الإفرادى غير مشروط بالقرينة وإفادة المجاز لمعناه الإفرادى مشروط بالقرينة فيقال لكم اللفظ ـ عند تجرده عن جميع القرائن التي تدل على مراد المتكلم بمنزلة الأصوات التى ينعق بها. فقولك تراب ماء حجر رجل بمنزلة قولك : طق غاق ونحوها من الأصوات فلا يفيد اللفظ ويصير كلاما إلا إذا اقترن به ما يبين المراد. ولا فرق بين ما يسمى حقيقة في ذلك وما يسمى مجازا. وهذا لا نزاع فيه بين منكرى المجاز ومثبتيه فإن أردتم بالمجاز احتياج اللفظ المفرد في إقامة المعنى إلى قرينة لزم أن تكون اللغات كلها مجازا. وإن فرقتم بين بعض القرائن وبعض كان ذلك تحكما محضا لا معنى له.

٣٩٦

وإن قلتم القرائن نوعان : لفظية وعقلية : فما توقف فهم المراد منه على القرائن العقلية فهو المجاز وما توقف على اللفظية فهو الحقيقة.

قيل : هذا لا يصح فإن العقل المجرد لا مدخل له في إفادة اللفظ لمعناه سواء كان حقيقة أو مجازا وإنما يفهم معناه بالنقل والاستعمال. وحينئذ فيفهم العقل المراد بواسطة أمرين (أحدهما) أن هذا اللفظ اطرد استعماله في عرف الخطاب في هذا المعنى ، (الثاني) علمه بأن المخاطب له أراد إفهامه ذلك المعنى. فإن تخلف واحد من الأمرين لم يحصل الفهم لمراد المتكلم. وأما القرينة المجردة بدون اللفظ فإنها لا تدل على حقيقة ولا مجاز. وإن دلت على مراد الحى فتلك دلالة عقلية بمنزلة الإشارة والحركة والأمارات الظاهرة. وإن أردتم أن المعني الإفرادى تقيده الحقيقة بمجرد لفظها ولا يقيده المجاز إلا بقرينة تقترن بلفظه ، قيل لكم : المعنى الإفرادى نوعان مطلق ومقيد ، فالمطلق يفيده اللفظ المطلق ، والمقيد يفيده اللفظ المقيد ، وكلاهما حقيقة فيما دل عليه فمعنى الأسد المطلق يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه وهو المقيد يفيده اللفظ المقيد ، وكلاهما حقيقة فيما دل عليه. فمعنى الأسد المطلق يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه وهو المقيد يفيده لفظه المقيد ، وليس المراد هنا بالمطلق الكلي الذهني ، بل المراد به المجرد عن القرينة وإن كان شخصا. وهذا الأمر معقول مضبوط يطرد وينعكس.

فإن قيل : فلم تشاححونا (١) فإنا اصطلحنا على تسمية المطلق بالاعتبار الّذي ذكرتموه حقيقة وعلى تسمية المقيد مجازا.

قيل : لم نشاححكم في مجرد الاصطلاح والتعبير. بل بينا أن هذا الاصطلاح غير منضبط ولا مطرد ولا منعكس ، بل هو متضمن للتفريق بين المتماثلين من كل وجه ، فإنكم لا تقولون إن كل ما اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد فهو مجاز ، إذ عامة الألفاظ كذلك. ولهذا لما تفطن بعضكم

__________________

(١) الشحناء : الحقد والعداوة والبغضاء ، وتشاحنوا : تباغضوا وتعادوا ا ه (الوجيز)

٣٩٧

لذلك التزمه وقال أكثر اللغة مجاز. وكذلك الذين صنفوا في مجاز القرآن هم بين خطتين إحداهما التناقض البين. إذ يحكمون على اللفظ بأنه مجاز وعلى نظيره بأنه حقيقة أو يجعلون الجميع مجازا ، فيكون القرآن كله إلا القليل منه مجازا حقيقة له وهذا من أبطل الباطل.

* * *

والمقصود أنه إن كان كل ما دل بالقرينة دلالته غير دلالته عند التجرد منها مجازا لزم أن تكون اللغة كلها مجازا فإن كل لفظ يدل عند الاقتران دلالة خاصة غير دلالته عند الإطلاق ، وإن فرقتم بين (بعض) القرائن اللفظية وبعض لم يمكنكم أن تذكروا أنواعا منها إلا عرف به بطلان قولكم ، إذ ليس في القرائن التي تعينوها ما يدل على أن هذا اللفظ مستعمل في موضعه ولا فيها ما يدل على أنه غير مستعمل في غير موضوعه. وإن طردتم ذلك وقلتم نقول إن الجميع مجاز كان هذا معلوم كذبه وبطلانه بالضرورة واتفاق العقلاء. إذ من المعلوم بالاضطرار أن أكثر الألفاظ المستعملة فيما وضعت له لم تخرج عن أصل وضعها وجمهور القائلين بالمجاز معترفون بأن كل مجاز لا بد له من حقيقة فالحقيقة عندهم أسبق وأعم وأكثر استعمالا وقد اعترفوا بأنها الأصل والمجاز على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة. ولو كانت اللغة أو أكثرها مجازا كان المجاز هو الأصل ، وكان الحمل عليه متعينا. ولا يحمل اللفظ على حقيقة ما وجد إلى المجاز سبيلا ، وفي هذا من إفساد اللغات والتفاهم ما لا يخفى.

* * *

الوجه الحادى والعشرون : إنكم فرقتم بين الحقيقة والمجاز بالاطراد وعدمه. فقلتم يعرف المجاز بعدم اطراده دون العكس أي لا يكون الاطراد دليل الحقيقة. أو لا يلزم من وجود المجاز عدم الاطراد. وعلى التقديرين فالعلامة يجب طردها ولا يجب عكسها وهذا الفرق غير مطرد ولا منعكس ونطالبكم قبل البيان

٣٩٨

بفساد الفرق بمعنى الاطراد للحقيقة ، والمنفى عن المجاز ما تعنون به أولا؟ فالاطراد نوعان : اطراد سماعى واطراد قياسي. فإن عنيتم الأول كان معناه ما اطرد السماع باستعماله في معناه فهو حقيقة وما لم يطرد السماع باستعماله فهو مجاز ، وهذا لا يفيد فرقا البتة فإن كل مسموع فهو مطرد في موارد استعماله وما لم يسمع فهو مطرد الترك فليس في السماع مطرد الاستعمال وغير مطرده ، وإن عنيتم الاطراد القياسي فاللغات لا تثبت قياسا إذ يكون ذلك إنشاء واختراعا ولو جاز المتكلم أن يقيس على المسموع ألفاظا يستعملها في خطابه نظما ونثرا لم يجز له أن يحمل كلام الله ورسوله وكلام العرب على ما قاسه على لغتهم. فإن هذا كذب ظاهر على المتكلم بتلك الألفاظ أولا. فإنه ينشئ من عنده قياسا يضع به ألفاظا لمعان بينها وبين تلك المعانى وهذا كثيرا ما تجده في كلام من يدعي التحقيق والنظر ، وهذا من أبطل الباطل القول به حرام. وهو قول على الله ورسوله بلا علم.

وإن أردتم بالاطراد وعدمه اطراد الاشتقاق فيصدق اللفظ حيث وجد المعنى المشتق منه. قيل لكم الاشتقاق نوعان : وصفي لفظي. وحكمي معنوى ؛ (فالأول) كاشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة. وأمثاله المبالغة من مصادرها ، (والثاني) كاشتقاق الخابية (١) من الخبء. والقارورة من الاستقرار (٢) والنكاح من الضم ، ونظائر ذلك ، فإن أردتم بالاطراد النوع الأول فوجوده لا يدل على الحقيقة. وعدمه لا يدل على المجاز. أما الأول فلأنه يجرى مجرى الألفاظ المجازية عندكم ، ولا سيما من قال : إن ضربت زيدا أو

__________________

(١) الخابية : وعاء الماء الّذي يحفظ فيه ، والخبء : المدخر والمخبوء ، وفي القرآن الكريم : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (الوجيز) بتصرف.

(٢) القارورة : وعاء من الزجاج تحفظ فيه السوائل ، وتشبّه به المرأة ، والجمع : قوارير ، وفي الخبر : «رفقا بالقوارير».

والمستقر : القرار والثبوت ، ويقال : لكل نبأ مستقر : غاية ونهاية. ومنها : المقر : موضع الاستقرار ، والمقار : محل يتخذه الإنسان مكانا لإقامته ا ه المصدر السابق بتصرف.

٣٩٩

رأيته وأكلت وشربت مجاز ، فإنها مستعملة في غير ما وضعت له. فإنها وضعت للمصادر المطلقة العامة ، فإذا استعملت في فرد من أفرادها فقد. استعملت في غير موضعها كما قال ابن جنى وغيره. ومعلوم أن هذه الألفاظ مطردة في مجازي استقاماتها ، فقد أطرد المجاز فأين عدم الاطراد الذي هو فرق بين الحقيقة والمجاز.

وكذلك حقائق كثيرة من الأفعال لا تطرد ولا يشتق منها اسم فاعل ولا مفعول ولا تدل على مصدر ، كالأفعال التى لا تتصرف ، مثل نعم وبئس ، وليس وحبذا وفعل التعجب.

وإذا أردتم بالاطراد الاشتقاق الحكمي المعنوي ، فلا يدل عدم اطراده على المجاز إذا ملوم منه أن تكون الألفاظ المستعملة في موضوعاتها الأول مجازا كالخابية والقارورة والبركة والنجم والمعدن وغيرها ، فإنها لم يطرد استعمالها فيما شاركها في أصل معناها.

فإن قلتم : منع المانع من الاطراد كما منع من اطراد الفاضل والسخي والعارف في حق الله تعالى. قيل لكم هذا دور ممتنع لأن عدم الاطراد حينئذ إنما يكون علامة المجاز إذا علم أنه لمانع.

ولا يعلم أنه لمانع إلا بعد العلم بالمجاز. وتقرير الدور أن يقال عدم الطرد له موجب وليس موجبه الشرع ولا اللغة. إذا التقدير بخلافه ، ولا العقل قطعا. فتعين أن يكون موجب عدم الطرد كون اللفظ مجازا. فيلزم الدور ضرورة.

الوجه الثاني والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بجمع مفرديهما. فإذا جمع الحقيقة على صفة ثم جمع ذلك اللفظ على صفة أخرى كان مجازا. مثله لفظ الأمر فإنه يجمع إذا استعمل في القول المخصوص على أوامره ويجمع إذا استعمل في الفعل على أمور وهذا التفريق من أفسد شيء وأبطله ، فإن اللفظ يكون له عدة جموع باعتبارهم مفهوم واحد كشيخ مثلا ، فإنه يجمع على عدة جموع أنشدناها شيخنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلى قال أنشدنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن مالك لنفسه :

٤٠٠