مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

(٧) المثال السابع في : الفوقية

(المثال السابع) : مما ادعى المعطلة مجازه : (الفوقية) وقد ورد ربه القرآن مطلقا بدون حرف ومقترنا بحرف.

(فالأول) كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (الأنعام : ١٨ ، ٦١) في موضعين.

(والثاني) كقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) وفي حديث الأول لما ذكر السموات السبع وذكر البحر الذي فوقها والعرش فوق ذلك كله ، والله فوق ذلك لا يخفى عليه أعمالكم وحقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره ، فادعى الجهمي أنها مجاز في فوقية الرتبة والقهر ، كما يقال الذهب فوق الفضة ، والأمير فوق نائبه ، وهذا وإن كان ثابتا للرب تعالى ، لكن إنكار حقيقة فوقية سبحانه وحملها على المجاز باطل من وجوه عديدة :

أحدها : أن الأصل الحقيقة والمجاز على خلاف الأصل.

الثاني : أن الظاهر خلاف ذلك.

الثالث إن هذا الاستعمال المجازي لا بد فيه من قرينة تخرجه عن حقيقته ، فأين القرينة في فوقية الرب تعالى.

الرابع : إن القائل إذا قال : الذهب فوق الفضة قد أحال المخاطب على ما يفهم من هذا السياق ، والمعتد بأمرين عهد تساويهما في المكان وتفاوتها في المكانة فانصرف الخطاب إلى ما يعرفه السامع ، ولا يلتبس عليه ، فهل لأحد من أهل الإسلام وغيرهم عهد بمثل ذلك في فوقية الرب تعالى حتى ينصرف فهم السامع إليها.

٥٦١

الخامس : إن العهد والفطر والعقول والشرائع وجميع كتب الله المنزلة على خلاف ذلك وأنه سبحانه فوق العالم بذاته فالخطاب بفوقيته ينصرف إلى ما استقر في الفطر والعقول والكتب السماوية.

السادس : إن هذا المجاز لو صرح به في حق الله كان قبيحا ، فإن ذلك إنما يقال في المتقاربين في المنزلة وأحدها أفضل من الآخر ، وإما إذا لم يتقاربا بوجه فإنه لا يصح فيهما ذلك ، وإذا كان يقبح كل القبح أن تقول الجوهر فوق قشر البصل ، وإذا قلت ذلك ضحكت منك العقلاء للتفاوت العظيم الذي بينهما فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم ، وفي مثل هذا قيل شعرا.

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

السابع : إن الرب سبحانه لم يمتدح في كتابه ولا على لسان رسوله بأنه أفضل من العرش وأن رتبته فوق رتبة العرش ، وأنه خير من السموات والعرش والكرسى ، وحيث ورد ذلك في الكتاب ، فإنما هو في السياق الرد على من عبد معه غيره ، وأشرك في إلهيته ، فبين سبحانه أنه خير من تلك الآلهة كقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩) وقوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) وقول السحرة : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٣) ولكن أين في القرآن مدحه نفسه وثناؤه على نفسه بأنه أفضل من السموات والعرش والكرسي ابتداء ، ولا يصح إلحاق هذا بذلك ، إذ يحسن في الاحتجاج على المنكر وإلزامه من الخطاب الداحض لحجته ما لا يحسن في سياق غيره ، ولا ينكر هذا إلا غبي.

الثامن : إن هذا المجاز وإن احتمل في قوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (الأعراف : ١٢٧) فذلك لأنه قد علم أنهم جميعا مستقرون على الأرض ، فهي فوقية قهر وغلبة ، لم يلزم مثله في قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) إذ قد علم بالضرورة أنه عباده ليسوا مستويين في مكان واحد حتى تكون فوقية قهر وغلبة.

٥٦٢

التاسع : هب أن هذا يحتمل في مثل قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : ٧٦) لدلالة السياق والقرائن المقترنة باللفظ على فوقية الرتبة ، ولكن هذا إنما يأتي مجردا عن (من) ولا يستعمل مقرونا بمن فلا يعرف اللغة البتة أن يقال : الذهب من فوق الفضة ولا العالم من فوق الجاهل ، وقد جاءت فوقية الرب مقرونة بمن كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) فهذا صريح في فوقية الذات ، ولا يصح حمله على فوقية الرتبة لعدم استعمال أهل اللغة ، له.

العاشر : إن لفظ الحديث صريح في فوقية الذات ، وهذا لفظه.

قال العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنا بالبطحاء فمرت سحابة ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا. قال : إما واحد وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم عد سبع سماوات ثم قال : وبين السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال ما بين أظلافهم وركبهم كما بين سماء إلى سماء على ظهورهم العرش ثم الله فوق ذلك ، وهو يعلم ما أنتم عليه» رواه أبو داود بإسناد جيد (١).

فتأمل الفوقية في ألفاظ هذا الحديث هل أريد بها فوقية الرتبة في لفظ واحد من ألفاظها.

الحادي عشر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أنشده عبد الله بن رواحة قوله :

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة الإله مسومينا

__________________

(١) [ضعيف] رواه أبو داود (٤٧٢٣) ، والترمذي (٣٣٢٠) وابن ماجه في «مقدمة سننه» (١٩٣) ، والحاكم (٢ / ٢٨٨) وضعفه الشيخ الألباني في : «ضعيف ابن ماجه» ، وفي «ظلال الجنة» (٢٧٧).

٥٦٣

لم ينكر عليه ذلك ، بل ضحك حتى بدت نواجذه ، ومعلوم قطعا أن ابن رواحة لم يرد بقوله «فوق العرش رب العالمينا» إنه أفضل من العرش وخير منه ، وهو كان أعلم بالله وصفاته وكماله من أن يقول ذلك ، إنما أراد فوقية الذات التي هي حقيقة اللفظ وليس فيه ما يعين المجاز بوجه من الوجوه ، فكيف يجوز إطلاق الحقيقة الباطلة عند الجهمية ويقره الرسول عليها ، ولا ينكر ذلك عليه.

الثاني عشر : ما رويناه بالإسناد صحيح عن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يقوم بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأنا أشهد» (١) وقوله بإذن الله ، أي بأمره ومرضاته ، فهل شهد حسان وشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شهادته إلا على فوقية ذاته؟ وهل أراد أنه رسول الذي خير من السموات وأفضل منها.

الثالث عشر : ما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتى سبقت غضبي» (٢) وفي لفظ : فهو عنده موضوع على العرش. فتأمل قوله فهو عنده فوق العرش هل يصح حمل الفوقية على المجاز ، وفوقية الرتبة والفضلية بوجه من الوجوه.

وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) والظاهر والباطن بقوله «أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء» (٣)

__________________

(١) رواه ابن سعد في «الطبقات» ولكن بسند فيه انقطاع.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه مسلم (٢٧١٣).

٥٦٤

فجعل كمال الظهور موجبا لكمال الفوقية ، ولا ريب أنه ظاهر بذاته فوق كل شيء. والظهور هنا العلو ومنه قوله : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) (الكهف : ٩٧) أي يعلوه ، وقرر هذا المعنى بقوله «فليس فوقك شيء» أي أنت فوق الأشياء كلها ليس اللفظ معنى غير ذلك ، ولا يصح أن يحمل الظهور على الغلبة لأنه قابله بقوله : وأنت الباطن.

فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان لأزل الرب تعالى وأبده ، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود بإسناد حسن عنده عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت المواشي فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، قال : «ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب» (١).

فتأمل هذا السياق هل يحتمل غير الحقيقة بوجه من الوجوه ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ رضى الله عنه «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» (٢) وقول زينت رضى الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات» (٣) لا يصح فيه فوقية المجاز أصلا إذ يصير المعنى : زوجني الله حال كونه أفضل من سبع سماوات.

وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بعجوز فاستوقفته فوقف

__________________

(١) [ضعيف] رواه أبو داود (٤٧٢٦) وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود» وفي «ظلال الجنة» (٥٧٥).

(٢) رواه البخاري (٣٠٤٣ ، ٣٨٠٤ ، ٤١٢١) ، ومسلم (١٧٦٨ ، ١٧٦٩).

(٣) رواه البخاري (٧٤٢٠).

٥٦٥

يحدثها فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز ، فقال ويحك أتدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التى أنزل الله فيها (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أخرجه الدارمي وغيره (١).

فسل المعطل هل يصح أن يكون المعنى سمع الله قولها حال كونه خيرا وأفضل من سبع سماوات؟

وروى أبو القاسم اللالكائى والبيهقي وغيرهما بالإسناد الصحيح عن عبد الله ابن مسعود قال : «ما بين السماء القصوى والدنيا خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء كذلك ، والعرش فوق الماء والله فوق العرش ، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم» (٢) رواه الطبراني وابن المنذر ، وعبد الله بن أحمد وابن عبد البر ، وأبو عمر الطلمنكي وأبو أحمد العسال ، وهذا تفسير قوله (وهو القاهر فوق عباده) وروى أبو القاسم الطبراني عن ابن مسعود أيضا قال «إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة : اصرفوه عنه ، فإني إن يسرته له أدخلته النار» (٣) وإسناده صحيح.

ولم يزل السلف الصالح يطلقون مثل هذه العبارة إطلاقا لا يحتمل غير الحقيقة ، فثبت عن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سماوات. وروى

__________________

(١) قال الألباني في «مختصر العلو» : أخرجه أبو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» ص ٢٦ من طريق أبي يزيد عن عمر به ، قال الذهبي : وهذا إسناد صالح فيه انقطاع فإن أبا يزيد لم يدرك عمر.

(٢) ذكره الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٨٦) وعزاه للطبراني في «الكبير» وقال : رجاله رجال الصحيح ا ه.

(٣) انظر «مختصر العلو» للألبانى ص (١٠٤).

٥٦٦

يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن كعب قال : قال الله تعالى في التوراة «أنا الله فوق عبادي ، وعرشي فوق جميع خلقي ، وأنا على عرشي أدبر أمر عبادي ، ولا يخفى علي شيء في السماء ولا في الأرض» ورواه ابن بطة وأبو الشيخ وغيرهما بإسناد صحيح (١).

وهب أن المعطل يكذب كعبا ويرميه بالتجسيم ، فكيف حدث به عنه هؤلاء الأعلام مثبتين له غير منكرين؟

وذكر أبو نعيم بإسناد صحيح عن مالك بن دينار أنه كان يقول خذوا ويقرأ ويقول : اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه إيمانا بكلامه وعلوه على عرشه. وصح عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية (المجادلة : ٧) ، قال هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا ، صح عن جرير أنه لما قصد عبد الملك ليمدحه قال له : ما جاء بك يا جرير؟ قال :

أتى بي لك الله الذي فوق عرشه

ونور إسلام عليك دليل

وفي كتاب «العرش» لابن أبي شيبة أن داود عليه‌السلام كان يقول في دعائه «اللهم أنت ربي تعاليت فوق عرشك ، وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض» وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الحافظ أخبرني محمد بن علي الجوهري ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي قال سمعت الأوزاعي يقول «كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته» ورواته كلهم أئمة ثقات (٢).

وذكر البيهقي عن مقاتل في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) هو الأول قبل كل شيء ، والظاهر فوق كل شيء ، والباطن أقرب

__________________

(١) المصدر السابق (ص ١٢٨).

(٢) وأورده ابن تيمية في «الحموية» وقال : إسناده صحيح أ. ه.

٥٦٧

من كل شيء ، وإنما يعني بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه (١) (وهو بكل شيء عليم).

وصح عن عبد الله بن المبارك أنه قيل له : بم نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سماواته على عرشه ، ولا نقول كما قالت الجهمية إنا هاهنا ، يعني في الأرض (٢).

وصح عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة (٣) أنه قال : من لم يؤمن بأن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وطرح على مزبلة» (٤) رواه الحاكم عنه في «علوم الحديث» و «التاريخ».

وقال الإمام محمد بن يسار : بعث الله ملكا من الملائكة إلى نمرود فقال : «هل تعلم يا عدو الله كم بين السماء والأرض؟ قال لا. قال إن بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وغلظها مثل ذلك إلى أن ذكر حملة العرش ، إلى أن قال وفوقهم يبدو العرش عليه ملك الملوك تبارك وتعالى ، أي عدو الله فأنت

__________________

(١) وأورده الحافظ الذهبى في «العلو» وعزاه للبيهقي وقال : مقاتل بن حيان ، إمام معاصر للأوزاعي ، ما هو بابن سليمان ، ذلك مبتدع ليس بثقة أه. وانظر «المختصر» للألبانى (ص ١٣٣ ، ١٣٩).

(٢) أورده الذهبي في «العلو» قال : صح عن على بن الحسن بن شقيق قال : قلت لعبد الله بن المبارك : كيف نعرف ربنا ... فذكره ، وقال الألباني في «المختصر» : وهو صحيح كما قال ، وانظر «مختصر العلو» (ص ١٥٢).

(٣) قال الحافظ الذهبي : كان ابن خزيمة رأسا في الحديث رأسا في الفقه ، من دعاة السنة ، وغلاة المثبتة ، له جلالة عظيمة بخراسان ، أخذ الفقه ، عن المزني وسمع من على بن حجر وطبقته ، توفى سنة (٣١١ ه‍) وله بضع وثمانون سنة ، رحمة الله عليه أ. ه (مختصر العلو / ص ٢٢٦).

(٤) المصدر السابق ، وعزاه الألبانى للهروى أيضا في «ذم الكلام ، وقال : وصححه ابن تيمية في «الحموية» (ص ١١٧).

٥٦٨

تطلع إلى ذلك ، ثم بعث عليه البعوضة فقتلته». رواه أبو الشيخ في كتاب «العظمة».

وقصة أبي يوسف مشهورة في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره ، وبشر لم ينكر أن الله أفضل من العرش وإنما أنكر ما أنكرته المعطلة أن ذاته تعالى فوق العرش.

وروى الدارقطني في «الصفات» وعبد الله بن أحمد في «السنة» بإسناد صحيح عن أبي الحسن ابن العطار قال سمعت محمد بن مصعب العابد يقول : من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك ، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سماوات ، ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة (١).

وفي وصية الشافعي : أنه أوصى أنه يشهد أن لا إله الا الله ، وحده لا شريك له ، فذكر الوصية إلى أن قال فيها والقرآن كلام الله غير مخلوق وأنه يرى في الآخرة عيانا ، ينظر إليه المؤمنون ويسمعون كلامه ، وأنه تعالى فوق عرشه ، ذكره الحاكم والبيهقي في «مناقب الشافعي».

وقال الشافعي : السنة التي أنا عليها ورأيت أهل الحديث عليها ، مثل سفيان ومالك وغيرهما ، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلى أن قال : وإن الله فوق عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل على سماء الدنيا كيف شاء. ذكره الحافظ عبد الغنى في كتاب «اعتقاد الشافعي» (٢).

وقال حنبل : قلت لأبي عبد الله : ما معنى قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ

__________________

(١) رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» (٣٤) ، والخطيب (٣ / ٢٨٠) ، والذهبي في «العلو» وانظر «المختصر» للألباني (ص ١٨٣).

(٢) وذكره الحافظ الهيثمى في «العلو» من طريق أبي الحسن الهكاري ، وأبي محمد المقدسي ، وانظر «المختصر» (ص ١٧٦).

٥٦٩

ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) قال : علمه محيط بالكل وربنا على العرش بلا حد ولا صفة ، أراد أحمد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه ، وبنفي الحد نفي حد يدركه العباد ويحدونه (١).

وقال أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي (٢) : سألت أبو حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ، قال قد كفر ، لأن الله تعالى يقول : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ولكن لا يدري العرش في السماء أم في الأرض ،

__________________

(١) قال الحافظ الذهبي : المنقول عن هذا الإمام ـ يعنى أحمد بن حنبل ـ في هذا الباب طيب كثير مبارك فيه ، فهو حامل لواء السنة ، الصابر في المحنة ، والمشهود بأنه من أهل الجنة ، فقد تواتر عنه تكفير من قال بخلق القرآن العظيم جل منزله ، وإثبات الرؤية والصفات والعلو والقدر ، وتقديم الشيخين وأن الإيمان يزيد وينقص ، إلى غير ذلك من عقود الديانة مما يطول شرحه أه وانظر «مختصر العلو» (ص ١٨٩ ـ ١٩١).

(٢) أبو مطيع هذا من كبار أصحاب أبى حنيفة وفقهائهم ، قال الذهبي في «الميزان» : كان بصيرا بالرأى ، علامة ، كبير الشأن ، ولكنه واه في ضبط الأثر ، وكان ابن المبارك يعظمه ويجله لدينه وعلمه ، قال ابن معين : ليس بشيء أ. ه أفاده الألبانى في «مختصر العلو» (ص ١٣٦).

[فائدة] : ورد في «العلو» للحافظ الذهبى قوله : وبلغنا عن أبى مطيع الحكم بن عبد الله البلخي صاحب «الفقه الأكبر» قال : ... فذكره ، قال الألباني في «المختصر» : وفي قوله «صاحب الفقه الأكبر» إشارة قوية إلى أن الكتاب ليس للإمام أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى خلافا لما هو مشهور عند الحنفية ، وقد طبع عدة طبعات منسوبا إليه ، مشروحا من غير واحد من الحنفية منهم : أبو منصور الماتريدي الذي ينتمى إليه أكثر الحنفية في العقيدة ، وجمهورهم فيها من المؤولة ، فترى أبا منصور هذا قد تأول قول أبى حنيفة المذكور في الكتاب وفي «الفقه الأكبر» ـ قلت : وهو قوله ردا على من سأل : عمن يقول : لا أعرف ربى في السماء أو في الأرض فقال رحمه‌الله : قد كفر ، لأن الله تعالى يقول (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وعرشه فوق سماواته ، فقيل : إنه يقول : أقول على العرش استوى ، ولكن قال : لا يدرى العرش في السماء أو في الأرض ، قال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ، فقد تأول أبو منصور الماتريدى هذا القول ـ تأويلا يعود إلى إفساد كلام أبى حنيفة وإخراجه عن جماعة السلف في عدم التأويل ، فقال في تأويل قوله رحمه‌الله «فقد كفر» قال (ص ١٩ ـ طبعة مصر): ـ

٥٧٠

فقال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر (١) ، وقال مالك : الله في السماء علمه في كل مكان ، ذكره الطلمنكي وابن عبد البر وعبد الله بن أحمد وغيرهم.

__________________

ـ قال : «لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له مكان فكان مشركا» ولم يلتفت إلى تمام كلامه المبطل لتأويله وهو قوله رحمه‌الله : لأن الله تعالى يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

قال : الألبانى ـ : فهذا صريح في أن علة كفره إنما هو إنكاره لما دلت هذه الآية صراحة من استعلائه سبحانه على عرشه ، لا لأنه يوهم أن له تعالى مكانا ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، ولما ذكرنا قال شارح الطحاوية رحمه‌الله تعالى بعد أن ذكر رواية أبى مطيع البلخى :

«ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبى حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم مخالفون له في كثير من اعتقاداته ، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم ، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسى لما أنكر أن يكون الله عزوجل فوق العرش مشهورة ، رواها عبد الرحمن بن أبى حاتم وغيره» أ. ه.

قال الألباني : وفيها دلالة على أن أصحاب أبى حنيفة الأول كانوا مع السلف في الإيمان بعلوه تعالى على خلقه ، وذلك مما يعطى بعض القوة لهذه الروايات المروية عن الإمام أبي حنيفة ، ومن ذلك تصريح الإمام أبى جعفر الطحاوى الحنفى في عقيدته بأن الله تعالى مستغن عن العرش وما دونه محيط بكل شيء وفوقه أ. ه (مختصر العلو : ١٣٦ ـ ١٣٧) بتصرف.

وللمزيد راجع «اجتماع الجيوش» لابن القيم بتحقيقنا طبعة نزار الباز بمكة المكرمة.

(١) أورده الذهبى في «العلو» ، كما في «المختصر» (ص ١٣٦) ونقل المصنف في «اجتماع الجيوش» عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال : ففى هذا الكلام المشهور عن أبى حنيفة رحمه‌الله عند أصحابه أنه كفّر الواقف الّذي يقول :

لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قال : وعرشه فوق سبع سماوات وبيّن بهذا أن قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) بيّن في أن الله عزوجل فوق السموات فوق العرش ، وأن الاستواء على العرش ، ثم أردف ذلك بكفر من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض قال : لأنه أنكر أن يكون ـ

٥٧١

الرابع عشر : إن هذا اتفاق من أهل الإسلام حكاه غير واحد ، منهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي (قال في هذا الكتاب) قال أهل السنة : إن الله بكماله فوق عرشه ، يعلم ويسمع من فوق العرش ، لا يخفى عليه خافية من خلقه (١).

وقال سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة على رأس المائتين وذكر عنده الجهمية فقال : هم شر قولا من اليهود والنصارى ، قد اجتمع أهل الأديان من المسلمين وغيرهم على أن الله فوق السموات على العرش ، وقالوا هم ليس على العرش شيء (٢).

__________________

ـ في السماء وأن الله في أعلى عليين ، وأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل ، واحتج بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية ، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله عزوجل في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل ، وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف ، وهشام بن عبيد الله الرازي.

كما روى ابن أبى حاتم وشيخ الإسلام بأسانيدها أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلا في التجهم ، فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه ، فقال : الحمد لله على التوبة ، فامتحنه هشام فقال : أشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه ، فقال : أشهد أن الله على عرشه ولا أدرى ما بائن من خلقه فقال : ردوه إلى الحبس ، فإنه لم يتب أ. ه.

(١) أورده الحافظ الذهبى فى «العلو» ثم قال : قال أبو الفضل الفرات : ما رأينا مثل عثمان بن سعيد ، ولا رأى هو مثل نفسه ، أخذ الحديث عن يحيى بن معين وابن المدينى ، والفقه عن البويطى ، والأدب عن ابن الأعرابى ، فتقدم في هذه العلوم ، قال الذهبي : ولحق مسلم بن إبراهيم ، وسعيد بن أبي مريم والطبقة ، وما هو في العلم بدون أبى محمد الدارمي السمرقندي ، مات بعد الثمانين ومائتين بسجستان وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسى يبالغ فيها في الإثبات ، السكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث أ. ه.

أنظر «النقض على المريسى» (ص ٢٥ ، ٧٩ ، ٨٢ ، ٨٣).

قلت : وعثمان بن سعيد الدارمى ، غير أبو محمد الدارمى صاحب «السنن».

فذاك متقدم تاريخه (١٨١ ـ ٢٥٥ ه‍).

(٢) سعيد بن عامر الضبعى (١٢٢ ـ ٢٠٨ ه‍) وأثره أورده الذهبى في «العلو» كما جاء في «المختصر» (ص ١٦٨).

٥٧٢

وقال الإمام الحافظ الزاهد أبو عبد الله بن بطة في كتاب «الإبانة» له (١) :

(باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه)

أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه.

وقال أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب «الإبانة» : وأئمتنا كالثوري مالك وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته وأن علمه بكل مكان (٢).

وقال أبو نعيم الحافظ صاحب «الحلية» في «الاعتقاد» الذي ذكر أنه اعتقاد السلف وإجماع الأمة ، قال فيه : وإن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العرش واستواء الله تعالى عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه ، وخلقه بائنون منه ، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه (٣).

__________________

(١) أورده الذهبي في «العلو» وقال : ابن بطة (٣٠٤ ـ ٣٨٧ ه‍) الإمام الزاهد أبو عبد الله بن بطة العكبرى شيخ الحنابلة قال في كتاب «الإبانة» من جمعه وهو ثلاث مجلدات ... فذكره ، ثم قال الذهبي : وكان ابن بطة من كبار الأئمة ذا زهد وفقه ، وسنة واتباع ، وتكلموا في إتقانه ، وهو صدوق في نفسه ، سمع من البغوى وطبقته أ. ه بتصرف من «المختصر» (ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣).

(٢) أورده الحافظ الذهبى في «العلو» وقال : هذا الذي نقله عنهم مشهور محفوظ ، سوى كلمة «بذاته» فإنهما من كيسه نسبها إليهم بالمعنى ليفرق بين العرش وبين ما عداه من الأمكنة ، ثم قال : أبو نصر (عبيد الله بن سعيد الوائلي السجزي) حافظ مجود ، روى عن أصحاب المحاملي وطبقتهم ، مات سنة (٤٤٤ ه‍) ، أ. ه «مختصر العلو» (ص ٢٦٧) بتصرف.

(٣) المصدر السابق وقال الذهبي : قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهانى : وذكره مطولا ، ثم قال : فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد ، وكان حافظ العجم في زمانه بلا نزاع ، جمع بين علو الرواية وتحقيق الدراية ، ذكره ابن عساكر الحافظ في أصحاب أبى الحسن الأشعرى ، توفى سنة (٤٣٠ ه‍) وله أربع وتسعون سنة أ. ه باختصار من «مختصر العلو» (ص ٢٦١).

٥٧٣

وقال الإمام أبو بكر الآجري في كتاب «الشريعة» : الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله عزوجل على عرشه فوق سماواته ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى ، وبجميع ما في سبع أرضين (١).

وكذلك أبو الحسن الأشعري نقل الإجماع على أن الله استوى على عرشه.

الخامس عشر : إنه سبحانه لو لم يتصف بفوقية الذات مع إنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضدها ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، وهو إبليس وجنوده.

فإن قيل : لا نسلم إنه قابل الفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها ، قيل لو لم يكن قابلا للفوقية والعلو لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط ، بل وجوده خارج الأذهان ، فقد علم العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده خارج الأذهان ، فهو إما في هذا العالم وإما خارج عنه ، وإنكار ذلك إنكار لما هو من أجلى البديهات ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أوضح منه ، وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصا ولا يوجب

__________________

(١) قال الذهبي : صنف الحافظ الزاهد أبو بكر محمد بن الحسين الآجرى المجاور بحرم الله كتاب «الشريعة في السنة» فمن أبوابه : «باب التحذير من مذهب الحلولية» : ... وذكر هذا الأثر مطولا وفيه : فإن قيل فإيش معنى قوله (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ).

قيل : علمه ، والله على عرشه ، وعلمه محيط بها ، كذا فسره أهل العلم ، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه ، وهذا قول المسلمين ، ثم ذكر : بإسناده عن مالك قال : الله في السماء ، وعلمه في كل مكان ، لا يخلو من علمه مكان أ. ه.

قال الذهبي : كان الآجرى فقيها محدثا أثريا ، حسن التصانيف ، جاور مدة ، روى عن الكجّيّ ، وأبي شعيب الحرانى وطبقتهما ، وحمل عنه خلق كثير من الحجاج ، توفى سنة (٣٦٠ ه‍) أ. ه (مختصر العلو ص ٢٤٧).

٥٧٤

محذورا ، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، فنفي حقيقتها عين الباطل ، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجود الصانع وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بذلك ، فكيف إذا شهدت بذلك العقول السليمة والفطر المستقيمة ، وحكمت به القضايا البديهيات والمقدمات اليقينيات ، فلو لم يقبل العلو والفوقية لكان كل عال على غيره أكمل منه ، فإن ما يقبل العلو أكمل مما لا يقبله.

الوجه السادس عشر : إنه لو كانت فوقيته سبحانه مجازا لا حقيقة لها لم يتصرف في أنواعها وأقسامها ولوازمها ، ولم يتوسع فيها غاية التوسع ، فإن فوقية الرتبة والفضيلة لا يتصرف في تنويعها إلا بما شاكل معناها ، نحو قولنا : هذا خير من هذا وأفضل وأجل وأعلى قيمة ونحو ذلك. وأما فوقية الذات فإنها تتنوع بحسب معناها ، فيقال فيها استوى وعلا وارتفع ، وصعد ويعرج إليه كذا ويصعد إليه وينزل من عنده ، وهو عال على كذا ورفيع الدرجات ، وترفع إليه الأيدي ، ويجلس على كرسيه ، وإنه يطلع على عباده من فوق سبع سماواته وأن عباده يخافونه من فوقهم ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يبرم القضاء من فوق عرشه ، وأنه دنا من رسوله وعبده لما عرج به إلى فوق السموات حتى صار قاب قوسين أو أدنى ، وأن عباده المؤمنين إذا نظروا إليه في الجنة رفعوا رءوسهم. فهذه لوازم الأنواع كلها ، وأنواع فوقية الذات ولوازمها ، لا أنواع فوقية الفضيلة والمرتبة ، فتأمل هذا الوجه حق التأمل تعلم أن القوم أفسدوا اللغة والفطرة والعقل والشرع.

الوجه السابع عشر : إنه لو كانت فوقية الرب. تبارك وتعالى مجازا لا حقيقة لها لكان صدق نفيها أصح من صدق إطلاقها ، ألا ترى أن صحة نفي اسم الأسد عن الرجل الشجاع واسم البحر عن الجواد ، واسم الجبل عن الرجل الثابت ونحو ذلك ، أظهر وأصدق من إطلاق تلك الأسماء ، فلو كانت فوقيته واستواؤه وكلامه وسمعه وبصره ، ووجهه ومحبته ، ورضاه وغضبه مجازا لكن إطلاق القول بأنه ليس فوق العرش ولا استوى عليه ، ولا هو العلي ولا

٥٧٥

الرفيع ، ولا هو في السماء ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ، ولا تكلم ولا أمر ولا نهى ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا له وجه ولا رحمة ولا يرضى ولا يغضب أصح من إطلاق ذلك ، وأدنى الأحوال أن يصح النفي كما يصح الإطلاق المجازي ومعلوم قطعا أن إطلاق هذا النفي تكذيب صريح لله ولرسوله ، ولو كانت هذه الإطلاقات إنما هي على سبيل المجاز لم يكن في نفيها محذور ، لا سيما ونفيها عن التنزيه والتعظيم ، وسوغ إطلاق المجاز للوهم الباطل بل الكفر والتشبيه والتجسيم ، فهل في الظن السيئ بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام الصحابة والأئمة فوق هذا.

فإن قيل : نحن لا نطلق هذا أدبا مع الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قيل : الأدب لا يمنع صحة الإطلاق وإن ترك أدبا ، كما إذا قيل : إنا لا نطلق على هذا القاضي المعروف إنه معزول أدبا معه ، ولا من السلطان إذا مرض أنه مريض أدبا معه ، ولا على الأمير إنه قد عمي أدبا معه ، فهذا الأدب إنما هو عن إمساك التكلم بهذا اللفظ لا عن صحة إطلاقه ، فنسألكم هل يصح إطلاق هذا النفي عندكم لغة أو عقلا أم لا ، فإن قلتم إطلاقه يوهم نفي المعنى المجازي فيكون ممتنعا ، قيل فلا يمتنع حينئذ أن تقولوا ليس بمستو على عرشه حقيقة ، ولا هو فوق العالم حقيقة ، ولا القرآن كلامه حقيقة ، ولا هو آمر ولا ناه حقيقة ، ولا هو عالم حي حقيقة ، كما يصح أن يقال : ليس هذا الرجل بأسد حقيقة ، ولا ريب أنكم لا تتحاشون من هذا النفي عن الله ، لكن تمسكون عنه خوف الشناعة ، وهيهات الخلاص لكم منها ، وقد أنكرتم حقائق أسمائه وصفاته.

* * *

٥٧٦

(٨) المثال الثامن في : النزول

(المثال الثامن) : مما ادعي فيه إنه مجاز وهو حقيقة لفظ «النزول» ، والتنزيل والإنزال حقيقة مجيء الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل. هذا هو المفهوم منه لغة وشرعا.

كقوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) (ق : ٩) وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) (القمر : ٤) وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء : ١٩٣) وقد أخبر الله تعالى أن جبريل نزل بالقرآن من الله وأنه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢) وتواترت الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، فادعى المعطل أن كل ذلك مجاز ، وأن المراد بالتنزيل مجرد إيصال الكتاب. وبالنزول الإحسان والرحمة ، وأسند دعواه بقوله تعالي : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (الحديد : ٢٥) وبقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (الزمر : ٦) قال معلوم أن الحديد والأنعام لم تنزل من السماء إلى الأرض.

والجواب من وجوه :

أحدها : أن ما ذكره من مجاز النزول ، وإنه مطلق الوصول لا يعرف في كتاب ولا سنة ، ولا لغة ولا شرع ، ولا عرف ولا استعمال ، فلا يقال لمن صعد إليك في سلم إنه نزل إليك ، ولا لمن جاءك من مكان مستو نزول ، ولا يقال نزل الليل والنهار إذا جاء ، وذلك وضع جديد ولغة غير معروفة.

الوجه الثاني : إنه لو عرف استعمال ذلك بقرينة لم يكن موجبا لإخراج اللفظ عن حقيقته حيث لا قرينة.

الثالث : إن هذا يرفع الأمان والثقة باللغات ، ويبطل فائدة التخاطب ، إذ لا يشاء السامع أن يخرج اللفظ عن حقيقته إلا وجد إلى ذلك سبيلا.

٥٧٧

الرابع : إن قوله معلوم أن الحديد لم ينزل جرمه من السماء إلى الأندلس ، وكذلك الأنعام. يقال له : هذا معلوم لك بالضرورة أم بالاستدلال ، ولا ضرورة يعلم بها ذلك ، وأين الدليل.

الخامس : أنه قد عهد نزول أصل الإنسان وهو آدم من علو إلى أسفل ، كما قال تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) (طه : ١٢٣) فما المانع أن ينزل أصل الأنعام مع أصل الأنام ، وقد روي في نزول الكبش الذي فدى الله به إسماعيل ما هو معروف ، وقد روي في نزول الحديد ما ذكره كثير من أرباب النقل ، كنزول السندان والمطرقة ، ونحن وإن لم نجزم بذلك فالمدعي أن الحديد لم ينزل من السماء ليس معه ما يبطل ذلك.

السادس : إن الله سبحانه لم يقل أنزلنا الحديد من السماء ، ولا قال وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج من السماء ، فقوله معلوم أن الحديد والأنعام لم ينزل من السماء إلى الأرض لا يخرج لفظة «النزول» عن حقيقتها ، إذ عدم النزول من مكان معين لا يستلزم عدمه مطلقا.

السابع : إن الحديد إنما يكون في المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض ، وقد قيل إن كل ما كان معدنه أعلى كان حديده أجود.

وأما قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) فإن الأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال أنزل ، ولم ينزل ، ثم إن الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض ، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها ، والوطي وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل ، وعلى هذا فيحتمل قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وجهين (أحدهما) أن يكون المراد الجنس كما هو الظاهر ، ويكون كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) فتكون (من) لبيان الجنس.

الثاني : أن يكون «من» لابتداء الغاية كقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) (النساء : ١) فيكون قد ذكر المحل الذي أنزلت منه وهو أصلاب الفحول ، وهذان الوجهان يحتملان في قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ

٥٧٨

الْأَنْعامِ أَزْواجاً) (الشورى : ١١) هل المراد جعل لكم من جنسكم أزواجا أو المراد جعل أزواجكم من أنفسكم وذواتكم ، كما جعلت حواء من نفس آدم وكذلك تكون أزواج الأنعام مخلوقة من ذوات الذكور. والأول أظهر لأنه لم يوجد الزوج من نفس الذكر إلا من آدم وحده ، وأما سائر النوع فالزوج مأخوذ من الذكر والأنثى.

الوجه الثامن : إن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات (أحدها) إنزال مطلق كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) فأطلق الإنزال ولم يذكر مبدأه ، كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).

(الثانية) الإنزال من السماء ، كقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (الفرقان : ٤٨).

(الثالثة) إنزال منه ، كقوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر : ١) وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢) وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الأحقاف : ٢) وقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (النحل : ١٠٢) وقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (الأنعام : ١١٤) فأخبر أن القرآن منزل منه ، والمطر منزل من السماء ، والحديد والأنعام منزلان نزولا مطلقا ، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة والجهمية والمعتزلة حيث قالوا إن كون القرآن منزلا لا يمنع أن يكون مخلوقا كالماء والحديد والأنعام ، حتى علا بعضهم فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا. والإنزال بمعنى الخلق.

فالله سبحانه فرق بين النزول منه ، والنزول من السماء ، فجعل القرآن منزلا منه والمطر منزلا من السماء ، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف ، والمضاف إليه سبحانه نوعان (أحدهما) أعيان قائمة بنفسها ، كبيت الله وناقة الله وروح الله وعبده ، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه ، وهي إضافة اختصاص وتشريف (الثاني) إضافة صفة إلى موصوفها كسمعه وبصره وعلمه وحياته وقدرته وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه فهذا يمتنع أن يكون المضاف

٥٧٩

فيه مخلوقا منفصلا ، بل هو صفة قائمة به سبحانه.

إذا عرف هذا فهكذا حكم المجرور بمن ، فقوله ، (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية : ١٣) لا يقتضي أن تكون أوصافا له قائمة به وقوله (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) (السجدة : ١٣) وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢) يقتضي أن يكون وهو المتكلم به ، وأنه منه بدأ وإليه يعود ، وضلت المعتزلة ولم يهتدوا إلى هذان الفرقان وجعلوا الجميع بابا واحدا ، وقابلهم طائفة الاتحادية ، وجعلوا الجميع منه بعض التبعيض والجزئية ، ولم يهتد الطائفتان للفرق.

الوجه التاسع : إن الله سبحانه قال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد : ٢٥) فالكتاب كلامه والميزان عدله أخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ثم قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (الحديد : ٢٥) ولم يقل وأنزلنا معهم الحديد ، فلما ذكر كلامه وعدله أخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ولما ذكر مخلوقه الناصر لكتابه وعدله أطلق إنزاله ولم يقيده بما قيد به إنزال كلامه ، فالمسوي بين الإنزالين مخطئ في اللفظ والمعنى.

الوجه العاشر : إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه عنه نحو ثمانية وعشرون نفسا من الصحابة ، وهذا يدل على أنه كان يبلّغه في كل مواطن ومجمع ، فكيف تكون حقيقته محالا وباطلا وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم بها دائما ويعيدها ويبديها مرة بعد مرة ، ولا يقرن باللفظ ما يدل على مجازه بوجه ما بل يأتى بما يدل على إرادة الحقيقة ، كقوله : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : وعزتي وجلالي لا أسأل عن عبادي غيري» وقوله : «من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له» وقوله : «فيكون كذلك حتى يطلع الفجر ثم يعلو على كرسيه» (١) فهذا كله بيان الإرادة

__________________

(١) [صحيح] رواه ابن أبي شيبة في «العرش» وإسناده صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (٥٠٠ ، ٥٠١) ، وقال الألباني في «ظلال الجنة» إسناده جيد.

٥٨٠