مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

المجاز فيه ، بل هكذا وضع ، وهكذا استعملته العرب ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها ، وليس لها عندهم مفهوم حقيقي ومفهوم مجازي ، وأما كون أجزاء البدن في التحلل والاستخلاف فذاك أمر طبيعى لا تعلق له بالحقيقة والمجاز ، وإنما فسدت (العلوم) لما دخل فيها مثل هذه الهذيانات.

الوجه العشرون : قوله : إذا عرفت التوكيد ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكليهما عرفت منه حال سعة المجاز في الكلام.

فيقال له : ليس ذلك من أجل المجاز ؛ كما أن التوليد الذي يلحق الكلام من أوله بأن وبالقسم بلام ، والابتداء ـ ليس لرفع المجاز نحو : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة : ١٧٣) ولأنت تفري ما خلقت (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) (النحل : ٦٣) وإنما هو الاعتناء به وتقويته في قلب السامع وتثبيت مضمونه وكذلك ما يلحقه في آخره من التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر : ٣٠) فإن اللفظ بمجموعه دال على نسبة الفعل إلى كل فرد من أفراد الملائكة ، هذا حقيقته ، وتكون دلالته على المجموع كدلالة المقيد ببعض على ما قيد به ، ونحو قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ) (المزمل : ٢ ، ٣) فهذا حقيقة في الجميع ؛ وهذا حقيقة في النصف ، فإن أطلق حمل على ما يدل عليه اللفظ من عموم أو الإطلاق أو عهد (فالأول) كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (المطففين : ٦) ، وقوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس : ١) ، (الثاني) كقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران : ١٧٣) ، وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) (القدر : ٤) ، وقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) (الفرقان : ٢٢) ، (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، (الثالث) كقوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (الأنفال : ١٢) فهؤلاء ملائكة معينون وهم الذين أنزلهم الله تعالى يوم بدر للقتال مع

٤٦١

المؤمنين ، واللفظ حقيقة في كل موضع من هذه المواضع مؤكدها ومجردها ، وعلمها ومطلقها ، فيأتي المتكلم باللفظ المطابق للمعنى الذي يريده ، ولو أتى بغيره لم يكن قاصدا لكمال البيان ، فقد ظهر لك أن وقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على الحقيقة وقصدها عند الإتيان به وعند حذفه بحسب غرض المتكلم.

الوجه الحادى والعشرون : قوله : (وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز ، وقد كثر ، حتى إن في القرآن الذي هو أفصح الكلام منه أكثر من ثلاثمائة موضع) جوابه من وجهين (أحدهما) أن أكثر المواضع التي ادعى فيها الحذف في القرآن لا يلزم فيها الحذف ولا دليل على صحة دعواه كقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) (الأعراف : ٤) ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨) ، إلى أمثال ذلك ، فادعى أهل المجاز أن ذلك كله من مجاز الحذف ؛ وأن التقدير في ذلك كله أهل القرية ؛ وهذا غير لازم ؛ فإن القرية اسم للقوم المجتمعين في مكان واحد ، فإذا نسب إلى القرية فعل أو حكم عليها بحكم أو أخبر عنها بخبر كان في الكلام ما يدل على إرادة المتكلم من نسبة ذلك إلى الساكن أو المسكن ، أو هو حقيقة في هذا وهذا ، وليس ذلك من باب الاشتراك اللفظي ، بل القرية موضوعة للجماعة الساكنين بمكان واحد ، فإذا أطلقت تناولت الساكن والمسكن ، وإذا قيدت بتركيب خاص واستعمال خاص كانت فيما قيدت به ، فقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) (النحل : ١١٢) حقيقة في الساكن.

وكذلك لفظة القرية في عامة القرآن إنما يراد بها الساكن فتأمله ، وقد يراد بها المسكن خاصة ؛ فيكون في السياق ما يعينه كقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (البقرة : ٢٥٩) أي ساقطة على سقوفها ، وهذا التركيب يعطى المراد فدعوى أن هذا حقيقة القرية ، وأن قوله : (وَكَأَيِّنْ

٤٦٢

مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨) ونحوه مجاز تحكم بارد لا معنى له وهو بالضد أولى إذ قد اطرد استعمال القرية إلى الساكن ، وحقيقة الأمر أن اللفظة موضوعة للساكن باعتبار المسكن ؛ ثم قد يقصد هذا دون هذا ، وقد يرادان معا فلا مجاز هاهنا ولا حذف وتخلصت بهذا من ادعاء الحذف فيما شاء الله من المواضع التي زعم أنها تزيد على ثلاثمائة.

الوجه الثاني : إن هذا الحذف الذي يزعمه هؤلاء ليس بحذف في الحقيقة فإن قوة الكلام تعطيه ولو صرح المتكلم بذكره كان عيا وتطويلا مخلا بالفصاحة كقوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (الحشر : ٧) قالوا هذا مجاز تقديره : ما أفاء الله من أموال القرى ، وهذا غلط وليس بمجاز ، ولا يحتاج إلى هذا التقدير والمعنى مفهوم بدون هذا التقدير. فالقائل اتصل إلى من فلان ألف ، يصح كلامه لفظا ومعنى بدون تقدير. فإن (من) للابتداء في الغاية ، فابتداء الحصول من المجرور بمن ، وكذلك في الآية.

(يوضحه) أن التقدير إنما يتعين حيث لا يصح الكلام بدونه ، فأما إذا استقام الكلام بدون التقدير من غير استكراه ولا إخلال بالفصاحة كل التقدير غير مفيد ولا يحتاج إليه ، وهو على خلاف الأصل فالحذف المتعين تقديره كقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور : ١٠) ، وقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) (الرعد : ٣١) ونحو ذلك.

وأما نحو قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (الشعراء : ٦٣).

فليس هناك تقدير أصلا إذ الكلام مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقدير ؛ فإن الّذي يدعى تقدير قد دل اللفظ عليه باللزوم ، فكأنه مذكور لأن اللفظ يدل بلازمه كما يدل بحروفه ، ولا يقال لما دل عليه دلالة التزام أنه محذوف. فتأمله فإنه منشأ غلط هؤلاء في كثير مما يدعون فيه الحذف.

٤٦٣

نعم هاهنا قسم آخر مما يدعى فيه حذف المضاف وتقديره كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) أى أمره (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (البقرة : ٢١٠) أي أمره وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) (النحل : ٢٦) أي أمره ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة» (١) وأمثال ذلك. فهذا قد ادعى تقدير المضاف فيه ، ولكن دعوة مجردة مستندة إلي قاعدة من قواعد التعطيل ، وهي إنكار أفعال الرب تعالى ، وأنه لا يقوم به فعل البتة ، بل هو فاعل بلا فعل ، وأما من أثبت أن الرب فاعل حقيقة ، وأنه يستحيل أن يكون فاعلا بلا فعل ، ويستحيل أن يكون الفعل عين المفعول ، بل هي حقائق معتبرة فاعل وفعل ومفعول. هذا هو المفعول في فطر بنى آدم فإنه لا يحتاج إلى هذا التقدير ولا يجوزه ، فإن حذفه يكون من باب التلبيس ويرفع الوثوق بكلام المتكلم ، ويوقع التحريف ، فإنه لا يشاء أحد أن يقدر مضافا يخرج به الكلام عن مقتضاه إلا فعل ، وارتفع الوثوق والفهم والتفهيم فيقدر الملحد في قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج : ٧) مضافا تقديره أرواح من في القبور ، وفي قوله تعالى (يُحْيِ الْمَوْتى) (الحج : ٦) ، أي أرواح الموتى وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران : ٩٧) وأمثال ذلك مما يقدر فيه مضاف يخرج الكلام عن ظاهره.

فهذا مما ينبغى التنبه له ، وأنه ليس كل موضع يقبل تقدير المضاف ، ولا كل ما قبله جاز تقديره حتى يكون في الكلام ما يدل على التقدير دلالة ظاهرة ، ولا توقع اللبس بحيث لا يجد السامع بدا من التقدير كما يقول القائل : سافرنا في الثريا أي في نوئها ، وجلسنا في الشمس ، أي في حرها ، وهذا مما يعلم بالسياق ، فكأنه مذكور لم يفت إلا التلفظ به. ومثل هذا لا يقال أنه مجاز ، فإن اللفظ بمجموعه دال على المراد ، والمتكلم قد يختصر ليحفظ كلامه ، وقد يبسط ويطيل ليزيد في الإيضاح والبيان ، والإيجاز والاختصار ، والإسهاب

__________________

(١) تقدم تخريجه مرارا.

٤٦٤

والإطناب طريقان للمتكلم ، يسلك هذه مرة ، وهذه مرة ، وهذا في كل لغة ؛ فإذا اختصر ودل على المراد لا يقال تكلم بالمجاز يوضحه :

الوجه الثاني والعشرون : إن أكثر ما يدعى فيه الحذف لا يحتاج فيه إليه ولا على صحة دعواه دليل سوى الدعوى المجردة ، فمن أشهر ما يدعى فيه الحذف التحريم والتحليل والمضاف إلى الأعيان نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة : ٣) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (النساء : ٢٣) ، (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (المائدة : ١) ونظائره قالوا لأن التحريم الإباحة والكراهة والإيجاب طلب لا يتصور تعلقه بالأعيان لاستحالة إيجاد المكلف لهما ، وإنما (يتعلق) بالأفعال الواقعة فيها ، فهي التي توصف بالحل والحرمة والكراهة.

وأما الأعيان فلا توصف بذلك إلا مجازا ، فإذا قال حرمت الميتة كان التقدير أكلها كما صرح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما حرم عليكم من الميتة أكلها» (١) وحرمت الخمر ، أي شربها ، والحرير أي لبسه ، وأمهاتكم أي نكاحهن ، ولما كان في الكلام محذوف قالت طائفة لا يمكن إضمار كل فعل ، إذ العموم من عوارض الألفاظ. ودلالة الحذف والإضمار لا عموم لها ، فيكون مجملا.

وقالت طائفة : بل المقدر كالملفوظ ، فتارة يكون عاما وتارة يكون خاصا ، وهذا بحسب الفعل المطلوب من تلك العين. فتحريم ما يشرب تحريم شربه ، وما يؤكل تحريم أكله ، وما يلبس تحريم لبسه ، وما يركب تحريم ركوبه من غير أن توصف الأعيان بالحل والحرمة.

وقالت طائفة : هذا ثابت من جهة اللزوم وإلا فالتحريم والإباحة واقع على نفس الأعيان ويصح وصف الأعيان بذلك حقيقة باعتبار الألفاظ المطلوبة منها. قالوا : وهذا كما توصف بأنها محبوبة أو مكروهة في نفسها ، وإنما الحب والكرهة والبغض متعلق بأفعالنا فيها.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٤٩٢) ، ومسلم (٣٦٣).

٤٦٥

قيل : هذا مكابرة ظاهرة ، فإنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا محبة بعض الأعيان وبغض بعضها ، ويعلم كل عاقل صحة قول القائل هذا الشيء محبوب وهذا مكروه ، وذلك حقيقة لا مجاز. فأي عقل وشرع ولغة يمنع من اتصاف الأعيان أنفسها بكونها مباحة أو محرمة كما توصف بكونها محبوبة أو مكروهة.

وقول القائل إن الأعيان لا تدخل تحت الطلب يقال له : هذا من وهمك حيث ظننت أن تحريمها وتحليلها طلب لإيجادها وعدمها فإن هذا لا يفهمه أحد ولا يخطر ببال السمع أصلا. وإنما يفهم كونها حلالا أو حراما الإذن في تناوله والمنع منه هذا حقيقة اللفظ وموضوعه وعرف استعماله والتركيب مرشد إلى فهم المعنى ، ولم يوضع لفظ التحريم والتحليل لإحداث الأعيان ولا إعدامها ولا استعمل في ذلك ولا فهمه أحد أصلا وإنما حقيقته ما يفهم المخاطب منه فله وضع. وفيه استعمل. ومنه فهم. فإذا سمع المخاطب : هذه المرأة حرام عليك. لم يشك في المعنى ولم يتوقف فهمه له على تقدير محذوف وإضمار مضاف. ولم يخطر بباله أن هذا الكلام مجاز لا حقيقة.

ولما سمع المؤمنون قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى آخرها لم يقع في قلوبهم أن هذا مجاز ولا خطر ببالهم غير حقيقته ومفهومه. وهذا كله إنما نشأ من قبل المتولجين المتكلفين ، ألا ترى أن الذين نزل القرآن بلغتهم لم يختلفوا في ذلك ولم يتكلفوا هذه التقادير. بل كانوا أفقه من ذلك وأصح أفهاما وأعلى طلبا. وإنما لهج المتأخرون بذلك لما نزلت مرتبتهم وتقاصرت أفهامهم وعلومهم من علوم أولئك.

وهل سمع عربي قط ولو من أجلاف العرب قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ـ (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ـ (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (النساء : ٢٣ ، المائدة : ٩٦ ، النساء : ٢٤) ونظائره فأصابهم ما أصاب هؤلاء من البحث عن كون ذلك حقيقة أو مجازا أو مجملا لا يدرى المراد منه وهل توقف في فهم المراد على إضمار وحذف ثم فكر وقدر في تعيينه؟ لما قال سبحانه

٤٦٦

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) فهم السامع المراد من غير أن يخطر بباله حذف ولا إضمار ، وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (المائدة : ٢٦) فإذا ظهر مراد المتكلم وفهم السامع فأي حاجة إلى دعوى محذوف يحكم على المتكلم أنه أراده ، وأنه لا يصح الكلام بدونه ، يوضحه.

الوجه الثالث والعشرون : إن الأعيان توصف بكونها طيبة وخبيثة ونافعة وضارة فكذلك توصف بكونها حلالا وحراما ، إذ الحل والحرمة تبع طيبها وخبيثها وكونها ضارة ونافعة كما قال تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (الأعراف : ١٥٧) ، ولا بد أن يكون الحلال طيبا في نفسه ، والحرام خبيثا في نفسه ، فوصفه بكونه حلالا أو حراما جار مجرى وصفه بكونه طيبا أو خبيثا ، ودلالة تحريم العين وتحليلها على الفعل المتعلق بها من باب دلالة الالتزام.

وقد علمت أن ما يدل بالالتزام لا يقال فيه أنه محذوف مقدر فالقائل لغيره اصعد السطح قد دله بالالتزام على الصعود في السلم ولا يقال أن في الكلام مضمرا محذوفا ، وهو بدون ذكره مجازا ولو كان كذلك لكان كل كلام له لازم لم يذكر معه لازمة مجازا وهذا لا يقوله من لا يدري ما يقول ، فإن الرجل إذا قال (تعالى) فله لازم وهو قطع المسافات ، وإذا قال (كل) فله لازم وهو تناول المأكول ، وكذلك كل خطاب في الدنيا له لازم يدل عليه باللزوم ، فافتحوا باب الحذف والإضمار في ذلك كله وقولوا إن الكلام بدون ذكره مجاز ، وإلا فما الفرق بين ما ادعيتم إضماره وبين ما ذكرناه. فأي فرق بين اصعد السطح وبين اطبخ اللحم ، واخبز العجين ، وابن الحائط ، فهذا له لوازم وهذا له لوازم ، والمتكلم لا يجب عليه ذكر اللزوم ، بل ذكرها عي وتطويل.

والوجه الرابع والعشرون : قوله : وأما قول الله عزوجل (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فليس هو من باب المجاز بل هو حقيقة.

٤٦٧

فيقال له : ما أسرع ما هدمت جميع ما بنيته ونقضت كل ما أصّلته ، فإنك قدمت في أول الباب أن الفعل يقتضي جميع أفراد المصدر ، وهذا محال ، فالأفعال عامتها مجاز ، وقدمت أن خلق السموات والأرض مجاز وعلم الله مجاز ، فما بال (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) وحده حقيقة من بين سائر الأفعال ، ومن العجب أن يكون خلق الله السموات والأرض وعلم الله عندك مجازا وهو أظهر للأمم من كل ظاهر (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) حقيقة وفيه من أظهر الخلاف والخفاء ما لا يخفى ونحن لا نشك أن الجميع حقيقة ومن قال أن ذلك أو بعضه مجاز فهو ضال ، ولكن القائلون بأن كلم الله موسى مجاز ، يقولون أن خلق الله وعلم الله حقيقة وهم الجهمية والكلابية ، وأما القائلون بخلق القرآن فلهم قولان أكثرهم يقول أنه مجاز. وبعضهم يقول أنه حقيقة ؛ (وكلم الله ويكلم حقيقة في خلق حروف وأصوات يكون متكلما مكلما ، والمتكلم عندهم حقيقة) من فعل الكلام عندهم هي الحروف والأصوات ، وأصابوا في ذلك لكن أخطئوا في اعتقادهم أن المتكلم من فعل الكلام (في غيره ولم يقم به) ، فالكلام عندهم مخلوق ، والرب لم يقم به عندهم كلام ولا أمر ولا نهي ، وهؤلاء الذين اتفق السلف وأئمة الإسلام على تكفيرهم.

الوجه الخامس والعشرون : أنهم إذا قالوا المتكلم من فعل الكلام في غيره فصار بذلك متكلما دون المحل الذي قام به الكلام ، فقد قلبوا أوضاع اللغات ، وخرجوا عن المعقول وعن لغات الأمم قاطبة ، فإن الله تعالى لو اتصف بما يحدثه في غيره من الأعراض والصفات لكان أسود بالسواد الذي يخلقه في المحل ، وكذلك إذا خلق في محل بياضا أو حمرة أو طولا أو قصرا أو حركة كان المحل الذي قامت به هذه الصفات والأعراض هو الموصوف بها حقيقة لا الخالق لها ، فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك لا إلى غيره ، واشتق له منها اسم لم يشتق لغيره ، وأخطأ القائلون بخلق القرآن في هذه المسائل الأربع وأخلوا المحل عن حكم الصفة وأعادوه إلى غير من قامت به ، واشتقوا الاسم لمن لم تقم به دون من قامت به فقلبوا الحقائق.

* * *

٤٦٨

فصل

فهذا الكلام في المجاز على وجه كلي ، ونحن نذكر ما ادعوا فيه المجاز من كلام الله وكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه التفصيل. وذلك إنما يتبين بذكر أمثلة ادّعوا فيها المجاز.

(١) المثال الأول في : «المجيء»

(المثال الأول) قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] وقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [الأنعام : ١٥٨]. ونظائره قيل هو من مجاز الحذف تقديره وجاء أمر ربك ، وهذا باطل من وجوه.

(أحدها) أنه إضمار ما لا يدل عليه بمطابقة ولا تضمن ولا لزوم ، وادعاء حذف ما لا دليل عليه يرجع لوثوقه من الخطاب ، ويطرق كل مبطل على ادعا إضمار ما يصح باطله.

(الثاني) إن صحة التركيب واستقامة اللفظ لا تتوقف على هذا المحذوف.

بل الكلام مستقيم تام قائم المعنى بدون إضمار ، فإضماره مجرد خلاف الأصل فلا يجوز.

(الثالث) إنه إذا لم يكن في اللفظ دليل على تعيين المحذوف كان تعيينه قولا على المتكلم بلا علم ، وإخبارا عنه بإرادة ما لم يقم به دليل على إرادته ، وذلك كذب عليه.

(الرابع) إن في السياق ما يبطل هذا التقدير ، وهو قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) (الفجر : ٢٢) فعطف مجيء الملك على مجيئه سبحانه يدل على تغاير المجيئين ، وإن مجيئه سبحانه حقيقة ، كما أن مجيء الملك حقيقة ، بل مجيء الرب سبحانه أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك ، وكذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨) ففرق بين إتيان الملائكة الرب وإتيان بعض آيات ربك ، فقسم ونوع ، ومع هذا التقسيم يمتنع أن يكون القسمان واحدا فتأمله.

٤٦٩

ولهذا منع عقلاء الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه ، وقالوا هذا يأباه التقسيم والترديد والاطراد.

(الخامس) إنه لو صرح بهذا المحذوف المقدر لم يحسن وكان كلاما ركيكا.

فادعاء صديق ما يكون النطق به مشتركا باطل ، فإنه لو قال : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ملك ربك أو يأتى أمر ربك أو يأتي بعض آيات ربك كان مستهجنا.

(السادس) إن اطراد نسبة المجيء والإتيان إليه سبحانه دليل الحقيقة ، وقد صرحتم بأن من علامات الحقيقة الاطراد ، فكيف كان هذا المطرد مجازا.

(السابع) إنه لو كان المجيء والإتيان مستحيلا عليه لكان كالأكل الشرب والنوم والغفلة ، وهكذا هو عندكم سواء ، فمتى عهدتم إطلاق الأكل والشرب ، والنوم والغفلة عليه ونسبتها إليه نسبة مجازية ، وهى متعلقة بغيره؟ وهل في ذلك شيء من الكمال البتة؟ فإن قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) وأتى ويأتي عندكم في الاستحالة ، مثل نام وأكل وشرب ؛ والله سبحانه لا يطلق على نفسه هذه الأفعال ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بقرينة مطلقة فضلا عن تطرد نسبتها إليه ، وقد اطرد نسبة المجيء والإتيان ، والنزول (والاستواء) إليه مطلقا من غير قرينة تدل علي أن الذي نسب إليه ذلك غيره من مخلوقاته ، فكيف تسوغ دعوى المجاز فيه.

(الثامن) إن المجاز لو كان ثابتا فإنما يصار إليه عند تعذر الحمل على الحقيقة إذ هي الأصل ؛ فما الذي أحال حمل ذلك علي حقيقته من عقل أو نقل أو اتفاق من اتفاقهم حجة؟ فأما النقل والاتفاق فهو من جانب الحقيقة بلا ريب ، وأما العقل فإنكم تزعمون أنكم أولى به منهم ، وهم قد بطلوا جميع عقلياتكم التي لأجلها ادعيتم أن نسبة المجيء والإتيان والنزول والاستواء إلى الله مجاز من أكثر من ثلاثمائة وجه ، وقد ذكرناها فيما تقدم فسلم لهم النقل واتفاق السلف ، فكيف والعقل الصريح من جانبهم كما تقدم تقريره ، فإن من لا يفعل شيئا ولا يتمكن من فعل يقوم به بمنزلة الجماد.

٤٧٠

(التاسع) إن هذا الذي ادعوا حذفه وإضماره يلزمهم فيه كما لزمهم فيما أنكروه فإنهم إذا قدروا وجاء أمر ربك ويأتى أمره ويجيء أمره وينزل أمره ، فأمره هو كلامه وهو حقيقة ، فكيف تجيء الصفة وتأتي وتنزل دون موصوفها ، وكيف (ينزل) الأمر ممن ليس هو فوق سماواته على عرشه.

ولما تفطن بعضهم لذلك قال : أمره بمعنى مأموره ، فالخلق والرزق بمعنى المرزوق فركب مجازا على مجاز بزعمه ولم يصنع شيئا ، فإن مأموره هو الذي يكون ويخلق بأمره ، وليس له عندهم أمر يقوم به ، فلا كلام يقوم به ، وإنما ذلك مجاز الكناية عن سرعة الانفعال بمشيئته تشبيها بمن يقول : كن ، فيكون الشيء عقيب تكوينه ، فركبوا مجازا على مجاز ولم يصنعوا شيئا ، فإن هذا المأمور الذي يأتي إن كان ملكا فهو داخل في قوله : (أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وإن كان شيئا غير الملك فهو آية من آياته فيكون داخلا في قوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ).

(العاشر) إن ما ادعوه من الحذف والإضمار إما أن يكون في اللفظ وما يقتضيه ويدل عليه أولا ، فإن كان الثاني لم يجر ادعاؤه ، وإن كان الأول كان كالملفوظ به ، وعلي التقديرين فلا يكون مجازا ، فإن المدلول عليه يمتنع تقديره.

* * *

فصل

(٢) المثال الثاني في : صفة الرحمة

واسمه تعالى (الرحمن)

(المثال الثاني) مما ادعوا أنه مجاز اسمه سبحانه (الرحمن) وقالوا وصفه بالرحمة مجاز ، قالوا : لأن الرأفة والرحمة هي رقة تعتري القلب ، وهى من الكيفيات النفسية ، والله منزه عنها ، وهذا باطل من وجوه.

(أحدها) أنهم جحدوا حقيقة الرحمة فقالوا : إن نسبتها إلى الله تعالى محال ، وأنه ليس برحيم بعباده على الحقيقة ، وقد سبقهم إلى هذا النفي مشركوا

٤٧١

العرب الذين قال الله فيهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) (الفرقان : ٦٠) فأنكروا حقيقة اسمه الرحمن أن يسمى بذلك ، ولم يكونوا ينكرون ذاته وربوبيته ، ولا ما يجعله المعطلة معنى اسم الرحمن من الإحسان ، فإن أحدا لم ينكر إحسان الله إلى خلقه.

فإن قيل : فلو كان هذا كما ذكرتم لأنكروا اسم الرحيم لأن المعنى واحد.

قيل : إنما لم ينكروا الرحيم لأن ورود الرحمن في أسمائه أكثر من ورود الرحيم (١).

ولهذا قال : (الرحمن على العرش استوى / ثم استوى على العرش الرحمن / إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن / رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن / الرحمن علم القرآن) (طه : ٥ ، الفرقان : ٥٩ ، مريم : ٤٥ ،

__________________

(١) قال ابن التين : «الرحمن والرحيم» مشتقان من الرحمة ، وقيل هما اسمان من غير اشتقاق ، وقيل : يرجعان إلى معنى الإرادة ، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه ، وقيل : راجعان إلى تركه عقاب من يستحق العقوبة.

وقال الحليمى : معنى «الرحمن» أنه مزيح العلل لأنه لما أمر بعبادته بين حدودها وشروطها فبشر وأنذر وكلف ما تحمله بنيتهم فصارت العلل عنهم مزاحة والحجج منهم منقطعة ، قال : ومعنى «الرحيم» أنه المثيب على العمل فلا يضيع العامل أحسن عملا ، بل يثيب العامل بفضل رحمته أضعاف عمله.

وقال الخطابي : ذهب الجمهور إلى أن «الرحمن» مأخوذ من الرحمة مبنى على المبالغة ومعناه ذو الرحمة لا نظير له فيها ، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ، واحتج له البيهقي بحديث عبد الرحمن بن عوف ، وفيه : «خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي».

قلت : وكذا حديث الرحمة الذي اشتهر بالمسلسل بالأولية ، أخرجه البخاري في «التاريخ» وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ : «الراحمون يرحمهم الرحمن» ... الحديث.

ثم قال الخطابي : «فالرحمن» ذو الرحمة الشاملة للخلق ، «والرحيم» فعيل بمعنى فاعل وهو خاص بالمؤمنين ، قال تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

وقال : «الرحمن» خاص في التسمية عام في الفعل ، و «الرحيم» عام في التسمية خاص في الفعل ا ه بتصرف نقلا من «الفتح» (٣ / ٣٧١).

٤٧٢

النبأ : ٣٧ ، الرحمن : ١ ، ٢) وإنما جاء الرحيم مقيدا ، كقوله : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب : ٤٣) وقوله : (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (التوبة : ١١٧) ، ومقرونا باسم الرحمن كما في «الفاتحة» أو باسم آخر نحو (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (السجدة : ٦ ، الروم : ٥ ، يس : ٥ ، الدخان : ٤٢) وأيضا فالرحمن جاء على بناء فعلان الدال على الصفة الثابتة اللازمة الكاملة كما يشعر به هذا البناء نحو غضبان وندمان وحيران ، فالرحمن من صفته الرحمة ، والرحيم من يرحم بالفعل ، وأيضا فلا يخلو إنكارهم لهذا الاسم إما أن تكون دلالته على حقيقة الرحمة أو لا ، فإن كان الأول فمن أنكر أن يكون حقيقة فقد وافقهم ، وإن لم يكن كذلك فمن المعلوم أن موضوع الاسم وحقيقته صفة الرحمة القائمة بموصوفها ، فلو كانت حقيقة الاسم منتفية في نفس الأمر لكان طعنهم أقوى ، وكان ذلك بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والنوم والجور ونحوها مما يليق به ـ وبالجملة فالذي أنكر أن يكون الله رحمانا على الحقيقة هو (جهم بن صفوان) وشيعته. قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (الأعراف : ١٤٨).

ومن أعظم الإلحاد في أسمائه إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنها مجازات وهو أنواع هذا أحدها (الثاني) جحدها وإنكارها بالكلية (الثالث) تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه ، وإن الثابت له منها مماثل للثابت بخلقه ، وهذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس ، وهذه كتب المقالات بين أظهرنا لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة ، وإنما المعطلة الجهمية يسمون كل من أثبت صفات الكمال لله تعالى مشبها وممثلا ، ويجعلون التشبيه لازم قولهم ويجعلون لازم المذهب مذهبا ، ويسرعون في الرد عليهم وتكفيرهم.

والمقصود أن هؤلاء المعطلة الملحدين في أسماء الرب تعالى هم المشبهون في الحقيقة ؛ لا من أثبت ألفاظها وحقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه ، ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء ، فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان وإنما القرآن مملوء من الرد على من شبه

٤٧٣

المخلوق بالخالق في صفات الإلهية حتى عبده من دونه ، لأنه هو الواقع من بني آدم يشبهون أوثانهم ومعبودهم بالخالق في الإلهية قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم : ٦٥) أي من يساميه ويماثله ، وقال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) فنفى عن المخلوق مماثلته ومكافأته ومشابهته ومساماته الذي هو أصل شرك بني آدم فضرب المتكلمون عن ذلك صفحا وأخذوا في المبالغة في الرد على من شبه الله بخلقه ، ولا نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهبا تذهب إليه حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهاشمية والكرامية الذين قالوا إن الله جسم لم يقولوا إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسما أنه قائم بنفسه موصوف بالصفات ، ومثبتوا الصفات لا ينازعونه ، في المعنى وإن نازعوهم في بعض المواضع.

(أنواع الإلحاد في أسماءه سبحانه)

الوجه الثاني : إن الإلحاد إما أن يكون بإنكار لفظ الاسم أو بإنكار معناه فإن كان إنكار لفظه إلحاد فمن ادعى أن الرحمن مجاز لا حقيقة فإنه يجوز إطلاق القول بنفيها فلا يستنكف أن يقول ليس بالرحمن ولا الرحيم كما يصح أن يقال للرجل الشجاع ليس بأسد على الحقيقة ، وإن قالوا نتأدب في إطلاق هذا النفي فالأدب لا يمنع صحة الإطلاق ، وإن كان الإلحاد هو إنكار معاني اسمائه وحقائقها فقد أنكرتم معانيها التي تدل عليها بإطلاقها ، وما صرفتموه إليه من المجاز فنقيض معناه أو لازم من لوازم معناها ، وليس هو الحقيقة ، ولهذا يصرح غلاتهم بإنكار معانيها بالكلية ، ويقولون هي ألفاظ لا معاني لها.

الوجه الثالث : إن هذا الحامل لكم على دعوى المجاز في اسم (الرحمن) هو بعينه موجود في اسم العليم ، والقدير ، والسميع ، والبصير ، وسائر الأسماء فإن المعقول من العلم صفة عرضية تقوم بالقلب إما ضرورية وإما نظرية ، والمعقول من الإرادة حركة النفس الناطقة لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها أو ينفع غيرها أو يضره ، والمعقول من القدرة القائمة بجسم تتأتى به الأفعال الاختيارية

٤٧٤

فهل تجعلون إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله حقيقة أم مجازا؟ فإن قلتم حقيقة تناقضتم أقبح التناقض إذ عمدتم إلى صفاته سبحانه فجعلتم بعضها حقيقة وبعضها مجازا مع وجود المحذور فيما جعلتموه حقيقة ، وإن قلتم لا يستلزم ذلك محذورا فمن أين استلزم اسم الرحمن المحذور ، وإن قلتم الكل مجاز لم تتمكنوا بعد ذلك من إثبات حقيقة الله البتة لا في أسمائه ولا في الأخبار عنه بأفعاله وصفاته ، وهذا انسلاخ من العقل والإنسانية.

الوجه الرابع : أن نفاة الصفات يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى ، فإن العليم والقدير والسميع والبصير ، أسماء تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها ، فاستعمالها لغير من وصف بها استعمال للاسم في غير ما وضع له ، فكما انتفت عنه حقائقها فإنه تنتفي عنه أسماؤها ، فإن الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة والعلم والقدرة والسمع والبصر ، انتفت الأسماء المشتقة منها عقلا ولغة ، فيلزم من نفي الحقيقة أن تنفي الصفات والاسم جميعا ، فالمعتزلة لا تقر بأن الأسماء الحقيقية تستلزم الصفات ، ثم ينفون الصفات ويثبتون الأسماء بطريق الحقيقة كما قالوا في المتكلم والمريد ، وبعض الجهمية يساعد على أن الاسم يستلزم الصفة ، ثم ينفي الصفة وينفي حقيقة الاسم ويقول لهذا مجاز ، فهو شر من المعتزلة من هذا الوجه. وهم خير منهم من وجه آخر ، وهو أنه يتناقض فيثبت بعض الصفات وحقائق الأسماء وينفي نظيرها وما يدل عليها من حقيقة الاسم ، وأهل السنة يثبتون الصفات وحقائق الأسماء ، فالأسماء عندهم حقائق وهي متضمنة للصفات.

الوجه الخامس : إنه كيف يكون أظهر الأسماء التي افتتح الله بها كتابه في أم القرآن وهي من أظهر شعار التوحيد ، والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام وهى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) التي هي مفتاح الطهور والصلاة وجميع الأفعال ، كيف يكون مجازا؟ هذا من أشنع الأقوال ، فهذان الاسمان اللذان افتتح الله بهما أم القرآن ، وجعلهما عنوان ما أنزله من الهدى والبيان ، وضمنهما الكلمة التي لا يثبت لها شيطان ، وافتتح بها كتابه نبي الله سليمان ، وكان جبرائيل ينزل بها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند افتتاح كل سورة من القرآن.

٤٧٥

الوجه السادس : قولهم : (الرحمة رقة القلب) تريدون رحمة المخلوق أم رحمة الخالق أم كل ما سمي رحمة شاهدا أو غائبا ، فإن قلتم بالأول صدقتم ولم ينفعكم ذلك شيئا ، وإن قلتم بالثاني. والثالث كنتم قائلين غير الحق ، فإن الرحمة صفة (الرحيم) وهي في كل موصوف بحسبه ، فإن كان الموصوف حيوانا له قلب فرحمته من جنسه رقة قائمة بقلبه ، وإن كان ملكا فرحمته تناسب ذاته ، فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة ، لم يلزم أن تكون رحمته من جنس المخلوق لمخلوق وهذا يطرد في سائر الصفات كالعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة والإرادة إلزاما وجوابا ، فكيف يكون رحمة أرحم الراحمين مجازا دون السميع العليم؟

الوجه السابع : إن اسم الرحمة استعمل في صفة الخالق وصفة المخلوق ، فإما أن يكون حقيقة في الموصوفين ، أو حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق أو عكسه ، فإذا كانت حقيقة فيهما ، فإما حقيقة واحدة وهو التواطؤ أو حقيقتان وهو الاشتراك ، ومحال أن تكون مشتركة لأن معناها يفهم عند الإطلاق ويجمعهما معنى واحد ويصح تقسيمهما ، وخواص المشترك منفية عنها ، ولأنها لم يشتق لها وضع في حق المخلوق ، ثم استعبرت من المخلوق للخالق ، تعالى الله عما يقول أهل الزيغ والضلال فبقي قسمان : (أحدهما) أن تكون حقيقة في الخالق مجازا في المخلوق (والثاني) أن تكون حقيقة متواطئة أو مشتركة ، وعلى التقديرين فبطل أن يكون إطلاقها على الله سبحانه مجازا.

الوجه الثامن : إنه من أعظم المحال أن تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازا ، ورحمة العبد الضعيفة القاصرة المخلوقة المستعارة من ربه التي هي من آثار رحمته حقيقة ، وهل في قلب الحقائق أكثر من هذا فالعباد إنما حصلت لهم هذه الصفات التي هي كمال في حقهم ، من آثار صفات الرب تعالى. فكيف تكون لهم حقيقة ، وله مجاز ، يوضحه :

الوجه التاسع : وهو ما رواه أهل «السنن» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : «أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها

٤٧٦

وصلته ، ومن قطعها قطعته» (١) فهذا صريح في أن اسم الرحمة مشتق من اسمه الرحمن تعالى ، فدل على أن رحمته لما كانت هي الأصل في المعنى كانت هي الأصل في اللفظ ، ومثل هذا قول حسان رضي الله عنه في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

فإذا كانت أسماء الخلق المحمودة مشتقة من أسماء الله الحسنى كانت أسماؤه يقينا سابقة ، فيجب أن تكون حقيقة لأنها لو كانت مجازا لكانت الحقيقة سابقة لها. فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، فيكون اللفظ قد سمي به المخلوق ثم نقل إلى الخالق ، فهذا باطل قطعا.

الوجه العاشر : ما في «الصحيحين» عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي» (٢) وفي لفظ (غلبت) وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام : ٥٤) فوصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمى بالرحمن قبل أن يكون بنو أدم ، فادعاء المدعى أن وصفه بالرحمن مجاز من أبطل الباطل.

الوجه الحادي عشر : إن أسماء الرب قديمة لم يستحدثها من جهة خلقه ، بل لم يزل موصوفا بها مسمى بها ، والمجاز مسبوق بالحقيقة وضعا واستعمالا ومرتبة ، وذلك كله ممتنع بالنسبة إلى أسماء الله تعالى.

فإن قيل بل بعضها مستعار من بعض وفيها الحقيقة وفيها المجاز ، ومجازها مستعار من حقائقها ، كالرحمن مستعار من اسم المحسن ، وذلك لا محذور فيه.

قيل : هذا لا يصح لأن الحقيقة والمجاز من عوارض الوضع والاستعمال ، وهما معا وأيا ما كان لم تصح دعوى المجاز فيه بوجه من الوجوه.

__________________

(١) [صحيح] أخرجه الإمام أحمد (١ / ١٩٤) ، وأبو داود (١٦٩٤) والترمذي (١٩٠٧) ، وابن حبان في «صحيحه» (٤٤٤ ـ إحسان) وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» ، وانظر «السلسلة الصحيحة» (٥٢٠) له.

(٢) تقدم مرارا.

٤٧٧

الوجه الثاني عشر : إنه من المعلوم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار له ، وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بالحقيقة أكمل من المعنى الذي دل عليه بالمجاز ، وإنما يستعار لتكميل المعنى المجازي تشبيهه بالحقيقي كما يستعار الشمس والقمر والبحر للرجل الشجاع والجميل والجواد ، فإذا جعل الرحمن والرحيم والودود وغيرهما من أسمائه سبحانه حقيقة في العبد ، مجازا في الرب لزم أن تكون هذه الصفات في العبد أكمل منها في الرب تعالى.

الوجه الثالث عشر : إن وصفه تعالى بكونه رحمانا رحيما حقيقة أولى من وصفه بالإرادة ، وذلك أن من أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم ، وليس في أسمائه الحسنى المريد ، والمتكلمون يقولون مريد لبيان إثبات الصفة ، وإلا فليس ذلك من أسمائه الحسنى ، لأن الإرادة تناول ما يحسن إرادته وما لا يحسن ، فلم يوصف بالاسم المطلق منها ، كما ليس في أسمائه الحسنى الفاعل ولا المتكلم ، وإن كان فعالا مريدا متكلما بالصدق والعدل ، فليس الوصف بمطلق الكلام ومطلق الإرادة ، ومطلق الفعل يقتضي مدحا وحمدا حتى يكون ذلك متعلقا بما يحسن تعلقه به ، بخلاف العليم القدير والعدل والمحسن والرحمن الرحيم ، فإن هذه كمالات في أنفسها لا تكون نقصا ولا مستلزمة لنقص البتة ، فإذا قيل إنه مريد حقيقة وله إرادة حقيقية ، وليس من أسمائه الحسنى المريد ، فلأن يكون رحمانا رحيما حقيقة وهو موصوف بالرحمة حقيقة ، ومن أسمائه الرحمن الرحيم أولى وأحرى.

(الفرق بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق)

الوجه الرابع عشر : إن الرحمة مقرونة في حق العبد بلوازم المخلوق من الحدوث والنقص والضعف وغيره ، وهذه اللوازم ممتنعة على الله تعالى ، فإما أن تكون الرحمة اسما للقدر الممدوح فقط ، أو الممدوح وما يلزمه من النقص فإن كانت اسما للقدر الكامل الذي لا يستلزم نقصا ، وذلك ثابت للرب تعالى كانت حقيقة في حقه قطعا ، وإن كانت اسما للمجموع فالثابت للرب تعالى هو

٤٧٨

القدر الذي لا نقص فيه ، وغاية ذلك أن يكون قد استعمل لفظها في بعض مدلوله كالعام إذا استعمل في الخصوص ، والأمر إذا استعمل في الندب وذلك لا يخرج اللفظ عن حقيقته عند جمهور الناس ، قيل هذا حقيقة عندهم ، فإن اللفظ يستعمل في المجموع عند إطلاقه ، وفي البعض عند تقييده ، والمطلق موضوع والمقيد موضوع كما تقدم ، لا سيما أكثر الناس يقولون إن بعض الشيء وصفته ليس غيرا له كما أجاب مثبتو الصفات لنفاتها وحينئذ فلا يكون اللفظ مستعملا في غير موضوعه ، فلا يكون مجاز.

الوجه الخامس عشر : إن هذا النقض اللازم (للصفة) ليس هو من موضوعها ولا مسمى لفظها ، وإنما هو من خصوص الإضافة ، فالقدر الممدوح الذي هو موضوع الصفة والنقص اللازم غير داخل في موضوعها ، وكذلك لا دلالة في لفظها على العدم ، والوجود غاية الكمال الذي لا كمال فوقه ، وإنما ذلك من لوازم إضافتها ونسبتها إلى الرب سبحانه ، فإذا موضوع لفظها مطلق المعنى الممدوح ، وخصوص الإضافة غير داخل في اللفظ المطلق. وعلى هذا فإذا استعملت في حق الرب تعالى كانت حقيقة. وإذا استعملت للعبد كانت حقيقة.

فتدبر هذا فإنه فصل الخطاب فيما يطلق على الرب والعبد ، واعتبر هذا فيما يطلق على المخلوق نفسه فإنه حقيقة مع دلالته على غاية المدح في المحل ، وغاية الذم في محل آخر.

(مثاله) قولك : هذا كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهديه وسمته ، وهذا كلام الصديق. وهذا كلام المفتري. فهذا حقيقة وهذا حقيقة. وهما في غاية التضاد والاختلاف. وهذا التعريف بالإضافة نظير التعريف باللام ينصرف إلى كل محل بحسبه (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (المزمل : ١٦) هو موسى. و (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) (النور : ٦٣) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرسول دال على القدر المشترك واللام تدل على تعريفه وتعيينه. وكل من الموضوعين حقيقة. هذا مع أن اللفظ يستعمل مجردا عن التعريف كثيرا.

وأما لفظ الرحمة والسمع والبصر واليد والوجه والكلام فلا تكاد تستعمل إلا

٤٧٩

مضافة إلى محلها ، فلزوم الإضافة فيها نحو لزومها في الأسماء والأعلام ، ولا سيما المضافة إلى الرب كقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (الأعراف : ١٥٦ ، الرحمن : ٢٧ ، الليل : ٢٠ ، المائدة : ٦٤) فهذه الإضافة تمنع أن يدخل في اسم الصفة شيء من خصائص المخلوقين بوجه من الوجوه. فالمحذوف الذي أوجب له دعوى المجاز فيها منتف بالإضافة قطعا فلا وجه لدعوى المجاز فيها البتة. وهذا ظاهر جدا فإنها بإضافتها الخاصة دلت على ما لا تسعه العبارة من الكمال الذي لا نقص بوجه من الوجوه.

الوجه السادس عشر : أن يقال لمن أثبت شيئا من الصفات بالعقل فلا بد أن يأتي في الدلالة على ذلك بقياس شمولي أو قياس تخييلي ، فتقول في الشمولي : كل فعل متقن محكم فإنه يدل على علم فاعله وقدرته وإرادته. وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى وقدرته ومشيئته. وتقول في التمثيل : الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته في الشاهد ، فكان دليلا في الغائب ، والدلالة (العقلية) لا تختلف شاهدا وغائبا ، فلا يمكنك أن تثبت له سبحانه بالعقل صفة أو فعلا إلا بالقياس المتضمن قضية كلية ، إما لفظا كما في قياس الشمول ، وإما معنى كما في قياس التمثيل.

فإذا كنت لا يمكنك إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لا بد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس والمقيس عليه ، وبين أفراد القضية الكلية ولم يكن هذا عندك تشبيها ممتنعا ، فكيف تنكر معانى ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقائقه بزعمك أنه يتضمن تشبيها ، وهذا من أنفع الأشياء لمن له فهم ، فإن الله أخبر في كتابه بما هو عليه من أسمائه وصفاته ولا بد في الأسماء المشتقة المتواطئة من معنى مشترك بين أفرادها ، فجحد المعطلة حقائقها لما زعموا فيها من التشبيه ، وهم لا يمكنهم إثبات شيء يعتقدونه إلا بنوع من القياس المتضمن التشبيه الذي فروا منه ، لا في جانب النفي ولا في جانب الإثبات ،

٤٨٠