مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

أجاب وإذا سئل به أعطى» وقال للآخر : «سل تعطه» وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الرب وصفاته.

وفي الحديث الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أصاب عبد قط هم ولا حزن ؛ فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك. ناصيتي بيدك ماض في حكمتك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، وأنزلته في كتابك ، أو علمته أحد من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ؛ إلا أذهب الله همه وأبدله مكانه فرحا» قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله؟ قال «بلى ، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» (١).

وقد نبه سبحانه على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول. فاستيقظت لتنبيه العقول الحية ، واستمرت على رقادها العقول الميتة ؛ فقال في صفة العلم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك : ١٤) فتأمل صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه باختصار ، وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل : ١٧) فما أصح هذا الدليل وما أوجزه.

وقال تعالى في صفة الكلام : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (الأعراف : ١٤٨) نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي لا يصلح أن يكون إلها ، وكذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (طه : ٨٩) فجعل امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم ملك الضر والنفع دليلا على عدم الإلهية. وهذا دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بدّ أن يكلم ويتكلم ويملك لعباده الضر والنفع وإلا لم يكن إلها.

__________________

(١) (صحيح) أخرجه الإمام أحمد (١ / ٣٩١ ، ٤٥٢) ، والحاكم (١ / ٥٠٩) ، وابن حبان (٢٣٧٢) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ١٣٦) وعزاه لأحمد وأبي يعلي وقال : ورجالهما رجال الصحيح غير أبي أسامة الجهمي ، وقد وثقه ابن حبان انتهي ، والحديث ذكره الألباني في «الصحيحة» (١٩٩).

١٨١

وقال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد : ٨ ـ ١٠) نبه بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تتصرف وتتكلم وتعلم أولى أن يكون بصيرا متكلما عالما. وأي دليل عقلي قطعي أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى العقول؟ (١).

وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (الأعراف : ١٩٥) فجعل سبحانه عدم البطش والسمع والمشى والبصر لهم ، دليلا على عدم إلهية من عدمت منه هذه الصفات. وقد وصف الله سبحانه نفسه بضد صفة أوثانهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية. فوصف نفسه بالسمع

__________________

(١) وقال الشيخ عبد العزيز السلمان في الإيمان بصفة الكلام لله : ـ

هو الاعتقاد الجازم بأن الله متكلم بكلام قديم النوع حادث الآحاد ، وأنه لم يزل يتكلم بحرف وصوت بكلام يسمعه من شاء من خلقه ، سمعه موسى عليه‌السلام من غير واسطة ، ومن أذن له من ملائكته ورسله ، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه ... ثم ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذلك (فانظره) ثم قال :

في هذه الآيات أولا إثبات صفة الكلام لله عزوجل وأنه لا أحد أصدق من الله قيلا ، وفيها رد على من زعم أن كلام الله هو المعنى النفسي ؛ لأن المعنى النفسي المجرد لا يسمع ثالثا : فيه إثبات القول والنداء والنهى والنجاء ، رابعا : فيه إثبات الحرف والصوت على ما يليق بجلاله وعظمته وفيه الكلام لله حقيقة لأنه أكده بالمصدر لنفى المجاز ، والعرب لا تؤكد بالمصدر إلا إذا كان على الحقيقة ، خامسا : فيه دليل على أن نوع الكلام قديم ، والكلام صفة ذات من حيث تعلقها بذاته تعالى واتصافه به ، ومن الصفات الفعلية حيث كانت متعلقة بالمشيئة والقدرة ، سادسا : ارتجاف السموات بكلام الله وأنها تسمع كلامه تعالى ، سابعا : أن الغشي يعم أهل السموات ، ثامنا : فيه إثبات عظمته ، وذلك يوجب للعبد خوفه منه تعالى ، وفيه إثبات الإرادة لله ، وفيه رد على الأشاعرة في قولهم إن القرآن عبارة عن كلام الله ، وفي الحديث صفة العلو لله وأنه الكبير الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى ، وفيه دليل على حشر الخلق لا نعال لهم ولا لباس عليهم ، وفيه إثبات صفة الملك وإثبات الجزاء على الأعمال وفيه إثبات الأمر ، وفيه أن كلامه سبحانه حين يناد بصوت يستوى في سماعه البعيد والقريب والله أعلم أه (مختصر الاسئلة ص ٩٣ ـ ٩٥).

١٨٢

والبصر والفعل باليدين والمجىء والإتيان (١). وذكر ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات فيها دليلا على عدم إلهيتها.

فتأمل آيات التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفننها واتساعها وتنوعها تجدها كلها قد أثبتت الكمال للموصوف بها وأنه المنفرد بذلك الكمال ، فليس له فيه شبيه ولا مثيل ، وأي دليل في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبره وملك السموات والأرض وقيومهما؟ فإذا لم يكن في العقل إثبات جمع الكمال له فأي قضية تصح في العقل بعد هذا؟ ومن شك في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والقدرة والغضب والرضى والفرح والرحمة كمال فهو ممن سلب خاصة الإنسانية وانسلخ من العقل. بل من شك أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمال فهو مصاب في عقله.

ومن شك أن كونه يفعل باختياره ما شاء ويتكلم إذا شاء ، وينزل إلى حيث يشاء ، ويجيء إلى حيث شاء غير كمال فهو جاهل بالكمال ، والجماد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال الاختيارية ؛ كما أن عند الجهمي أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بهما ، كما أن عند أستاذهما وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا له حياة ولا قدرة ولا إرادة ؛ ولا فعل ولا كلام ، ولا يرسل رسولا ، ولا ينزل كتابا ، ولا يتصرف في هذا العالم بتحويل وتغيير وإزالة ونقل وإماتة وإحياء ، أكمل ممن يتصف بذلك.

__________________

(١) وفي المجىء والإتيان قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) وقوله : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا).

قال الشيخ السلمان : في هذه الآيات إثبات الإتيان والمجىء والنزول على ما يليق به وهذه من الأفعال الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة ، فينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين الناس ، وينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقي ثلث الليل الآخر وغير ذلك على ما وردت به النصوص وكما يشاء جل وعلا ، وأفعاله سبحانه قائمة به فيجب إثباتها له على الوجه اللائق بجلاله وعظمته ... إلخ كلامه فلينظر (المصدر السابق ص ٥٥).

١٨٣

فهؤلاء كلهم قد خالفوا صريح المعقول ، وسلبوا الكمال عمن هو أحق بالكمال من كل ما سواه ، ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصا.

فتأمل نسبتهم الباطلة التي عارضوا بها الوحي هل تصادم هذا الدليل الدال على إثبات الصفات والأفعال للرب سبحانه ثم اختر لنفسك بعد ما شئت. وهذا قطرة من بحر نبهنا عليه تنبيها يعلم به اللبيب ما وراءه ، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقه ، وهيهات أن نصل إلى ذلك ، لكتبنا عدة أسفار ، وكذا كل وجه من هذه الوجوه فإنه لو بسط وفصل لاحتمل سفرا وأكثر. والله المستعان وبه التوفيق.

الخامس والعشرون : أن غاية ما ينتهي إليه من ادعي معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها : إما تكذيبها وجحدها ، وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق خطابا جمهوريا لا حقيقة له ، وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال ، وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها بالمجازات والاستعارات ، وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها ، واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله. فهذه أربع مقامات ، وقد ذهب إلى كل مقام منها طوائف من بنى آدم.

المقام الأول : مقام التكذيب ، وهؤلاء استراحوا من كلفة النصوص والوقوع في التشبيه والتجسيم : وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم.

المقام الثاني : مقام أهل التخييل. قالوا : إن الرسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحق في نفس الأمر ، فخاطبوهم بما يخيل إليهم ، وضربوا لهم الأمثال ، وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحس ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر ، وأقروا باب الطلب على حقيقته. ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضا وجعل الأمر والنهي إشارات وأمثالا. فهم ثلاث فرق ، هذه إحداها ، والثانية سلكت ذلك في الخبر دون الأمر ، والثالثة سلكت ذلك في الخبر عن الله وعن صفاته دون المعاد والجنة. وذلك كله إلحاد في أسماء الرب وصفاته ودينه واليوم الآخر. والملحد لا يتمكن من الرد على الملحد وقد وافقه في الأصل وإن خالفه في فروعه. ولهذا

١٨٤

استطال على هؤلاء الملاحدة ابن سيناء وأتباعه غاية الاستطالة ، وقالوا : القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات ، قالوا : بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصفات ، لكثرتها وتنوعها وتعدد طرقها ، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل. فإذا كان الخطاب جمهوريا فنصوص المعاد أولى (١).

قال : فإن قلتم : نصوص الصفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل. قلنا : ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائها. ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد ما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.

المقام الثالث : مقام أهل التأويل ، قالوا : لم يرد منا اعتقاد حقائقها ، وإنما أريد منا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقائقها ، فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرهة ، والمجازات المستنكرة التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيء عن احتمال ألفاظ النصوص لها ، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.

والطائفتان اتفقتا على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبين الحق للأمة في خطابه لهم ولا أوضحه ، بل خاطبهم بما ظاهره باطل ومحال ، ثم اختلفوا ، فقال أصحاب

__________________

(١) الإلحاد : هو الميل والعدول ، والإلحاد في أسماء الله وصفاته : الميل بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها إلى الإشراك والتعطيل والكفر ، وأقسامه خمسة :

أولا : تسميته بما لا يليق بجلاله وعظمته كتسمية النصارى له أبا ، والفلاسفة له موجبا بذاته ، أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك.

ثانيا : أن يسمى بها بعض المخلوقات كتسميتهم اللات من الإله ، واشتقاقهم العزى من العزيز.

ثالثا : وصفه بما يتقدس ويتنزه عنه كقول اليهود قبحهم الله ولعنهم : إن الله فقير وقولهم : يد الله مغلولة ونحو ذلك.

رابعا : تعطيل الأسماء عن معانيها ، وجحد حقائقها كقول من يقول : إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معانى.

خامسا : تشبيه صفاته بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه. أفاده الشيخ عبد العزيز السلمان في (مختصر الأسئلة ص / ٣٢).

١٨٥

التخييل : أراد منهم اعتقاد خلاف الحق والصواب ، وإن كان في ذلك مفسدة فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه. فقال أصحاب التأويل : بل أراد منا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته ، ولم يبين لنا المراد تعويضا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر وإعمال الفكرة في معرفة الحق بعقولنا ، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك. فالطائفتان متفقتان أن ظاهر خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضلال وباطل ، وأنه لم يبين الحق ، ولا هدى إليه الخلق.

المقام الرابع : مقام اللاأدرية الذين يقولون : لا ندري معاني هذه الألفاظ ، وينسبون طريقهم إلى السلف ، وهي التي يقول المتأولون إنها أسلم ، ويحتجون بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) (آل عمران : ٧) ويقولون : هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف ، وهو قول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم من السلف والخلف وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا أصحابهم ولا التابعون لهم بإحسان ، بل يقرءون كلاما لا يعقلون معناه.

ثم هم متناقضون أفحش تناقض فإنهم يقولون : تجري على ظاهرها ، وتأويلها باطل ثم يقولون : لها تأويل لا يعلمه إلا الله. وقول هؤلاء باطل ، فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان.

وهؤلاء طرقوا لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحق من عقولهم فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلب ، والمقتضى التام لذلك فيها موجود فإذا قيل لها : إن ألفاظ القرآن والسنة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلا الله ، ولا

١٨٦

يعلم أحد معناها فرت إليه عقولهم وفطرهم وآراؤهم ، فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد ، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا : قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه ، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء ، فإنا نحن نعلم ما نقول ونثبته بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به. وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل.

وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فالتأويل في مثل قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) (الأعراف : ٥٣) ، وقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : ٥٩) ، وقول يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف : ١٠٠) وقول يعقوب : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (يوسف : ٦٠) ، وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف : ٤٥) ، وقال يوسف : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) (يوسف : ٣٧) فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال ابن عيينة «السنة تأويل الأمر والنهي ، وقالت عائشة رضى الله عنها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن» (١).

وأما تأويل ما أخبر به الله تعالى عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها. وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة «الاستواء معلوم والكيف مجهول» وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهم من السلف «إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه».

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».

١٨٧

وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه وقال : «إنهم تأولوها على غير تأويلها» وبين معناها. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهى ، وإن لم يعلموا الكيفية ، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته.

فمن قال من السلف : إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو أحق وأما من قال : إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهو غلط ، والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وقال عبد الله بن مسعود : ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، وقال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها ، وقال مسروق : ما نسأل أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ، ولكن علمنا قصر عنه ، وقال الشعبي : ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها.

والمقصود أن معارضة العقل للسمع لا بدّ لصاحبها أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة ، وأسلمها هذا المسلك الرابع ، وقد علمت بطلانه ، وإنما كان أقلها (بطلانا) لأنه يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله ، فإن صاحبه يقول : لا أفهم من هذه النصوص شيئا ولا أعرف المراد بها. وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله والاخبار عن النصوص بالكذب.

السادس والعشرون : إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما (يبنون) أمرهم في ذلك على أقوال متشابهة مجملة تحتمل معاني متعددة ؛ ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى ، والإجمال في اللفظ يوجب تأويلها بحق وباطل فيما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما بما فيها من الباطل لأجل الالتباس والاشتباه ، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء.

١٨٨

وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها ، فإن البدع لو كانت باطلا محضا لما قبلت ، ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها. ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة. ولكنها تشتمل على الحق والباطل ويلتبس فيها الحق والباطل كما قال الله تعالى : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران : ٧١) فنهي عن لبس الحق بالباطل ، ولبسه به هو خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر. ومنه التلبيس ، وهو التدليس والغش الذي باطنه خلاف ظاهره ، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان ، معنى صحيح ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ، ومراده الباطل. فهذا من الإجمال في اللفظ.

وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان ، وهو حق من أحدهما ، وباطل من الآخر. فيوهم إرادة الوجه الصحيح ، ويكون غرضه الباطل ، فأضل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشبهة. ولا سيما إذا صادفت أذهانا سقيمة. فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟ فنسأل الله مثبت القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه.

قال الإمام أحمد في خطبة كتابه «الرد على الجهمية» : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالبين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير

١٨٩

علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن المضلين».

وهذه الخطبة تلقاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في «الحوادث والبدع». فقال : حدثنا أسد حدثنا رجل يقال له يوسف ثقة. عن أبي عبد الله الواسطي رفعه إلى عمر ابن الخطاب أنه قال : «الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى. وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وتائه ضال قد هدوه بذلوا دمائهم وأموالهم دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس عليهم ، وما نسيهم ربك ، ولا كان ربك نسيا ، جعل قصصهم هدى ، وأخبر عن حسن مقالاتهم. فلا تقتصر عنهم ، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة».

فالمتشابه ما كان له وجهان يخدعون به جهال الناس ، فيا لله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم. واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنة وهو التوحيد الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها. فاصطلح أهل الباطل على وضعه ، ثم دعوا الناس إلى التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم ، وظن أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرسل.

(أنواع التوحيد والتحريف في معناه) (*)

والتوحيد اسم لستة معان : توحيد الفلاسفة ، وتوحيد الجهمية ، وتوحيد القدرية الجبرية ، وتوحيد الاتحادية ، فهذه الأربعة أنواع من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها ودل على بطلانها العقل والنقل.

فأما توحيد الفلاسفة : فهو إنكار ماهية الرب الزائدة على وجوده ، وإنكار صفات كماله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام

__________________

(*) وانظر (ص ٢٥١).

١٩٠

ولا وجه ولا يدين. وليس فيه معنيان يتميز أحدها عن الأخر البتة. قالوا : لأنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسيما مؤلفا ، ولم يكن واحدا من كل وجه ، فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يحس ولا يرى ولا يتميز منه جانب عن جانب ، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده ، وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده.

فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (البقرة : ١٦٣) وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (المائدة : ٧٣) نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحى وقالوا لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة ، أو علم ، أو حياة وقدرة ، أو سمع ، أو بصر ، لم يكن واحدا ، وكان مركبا مؤلفا فسموا أعظم التعطيل (١) بأحسن الأسماء وهو التوحيد. وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت وهو صفات الرب بأقبح الأسماء ؛ وهو التركيب والتأليف ، فتولد من بين هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل : جحد حقائق أسماء الرب وصفاته ، بل وجحد ماهيته وذاته وتكذيب رسله ، ونشأ من نشأ على اصطلاحه مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحى ، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعلوه أصلا لدينه فلما رأى أن ما جاءت به الرسل يعارضه قال : إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل.

__________________

(١) قال الشيخ السلمان : التعطيل : مأخوذ من العطل الّذي هو الخلو والفراغ والترك ومعناه هنا : نفي الصفات الإلهية وسلبها عن الله ، والفرق بينه وبين التحريف : أن التعطيل نفي للمعنى الحق الّذي دل عليه الكتاب والسنة ، وأما التحريف فهو تفسير النصوص بالمعانى الباطلة.

وقال : وأنواع التعطيل ثلاثة : أولا تعطيل الله من كماله المقدس وذلك بتعطيل أسمائه وصفاته : كتعطيل الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم ، ثانيا : تعطيل معاملته بترك عبادته أو عبادة غيره معه ، ثالثا : تعطيل المصنوع من صانعه كتعطيل الفلاسفة الذين زعموا قدم هذه المخلوقات وأنها تتصرف بطبيعتها ، فهذا من أبطل الباطل إذ لا يمكن وجود ذات بدون صفات أه بتصرف (مختصر الأسئلة ص ٢٤).

١٩١

والتوحيد الثاني : توحيد الجهمية : وهو مشتق من توحيد الفلاسفة. وهو نفي صفات الرب كعلمه ، وكلامه ، وسمعه ، وبصره وحياته ، وعلوه على عرشه ونفي وجهه ، ويديه ، (وقطب رحى) (١) هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته.

التوحيد الثالث : توحيد القدرية والجبرية : وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلا لهم ، وأن تكون واقعة بإرادتهم وكسبهم ، بل هي نفس فعل الله تعالى. فهو الفاعل لها دونهم ، ونسبتها إليهم فعلها ينافي التوحيد عندهم.

الرابع : توحيد القائلين بوحدة الوجود : وأن الوجود عندهم واحد ، ليس عندهم وجودان : قديم وحادث ، وخالق ومخلوق ، وواجب وممكن. بل الوجود عندهم واحد بالعين ، والذي يقال له الخلق المنزه والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة.

فهذه الأنواع الأربعة سماها أهل الباطل توحيدا واعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم وقالوا : نحن الموحدون ؛ وسموا التوحيد الذي بعث الله به رسله : تركيبا وتجسيما وتشبيها ، وجعلوا هذه الألقاب لهم سهاما وسلاحا يقاتلون بها أهله ، فتترسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة وقابلوهم بالأسماء الباطلة وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع : فأهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوحيد : «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» (٢) فهذا توحيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد ، ولإثبات الأفعال التي يستحق بها أن يكون منعما ، ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغضب والرضى والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه ، وعند الجهمية والمعطلة والفلاسفة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك ، والله يعلم (أنه) لا نجازف في نسبة

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) في نسخة : وقد رأى.

١٩٢

ذلك إليهم ، بل هو حقيقة قولهم ، فأي حمد لمن يسمع ولا يبصر ، ولا يعلم ولا يتكلم ولا يفعل ، ولا هو في العالم ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره؟ وأي نعمة لمن لا يقوم به فعل البتة؟ وأي مالك لمن لا وصف له ولا فعل؟ فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم.

ومن العجب أنهم سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال ، سموا تعطيلهم وإلحادهم وبغيهم توحيدا ، وهو غاية النقص ؛ ونسبوا أتباع الرسل إلى تنقيص الرب وقد سلبوه كل كمال ، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال قد نزهوه عنه ، فهذا توحيد الجهمية والمعطلة.

وأما توحيد الرسل فهو إثبات صفات الكمال له وإثبات كونه فاعلا بمشيئته وقدرته واختياره ، وإن له فعلا حقيقة. وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويخاف ويرجى ويتوكل عليه ؛ فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل ، وليس لخلقه من دونه وكيل ، ولا ولي ، ولا شفيع ، ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه ، وفي تفريج كرباتهم وإجابة دعواتهم.

بينه وبينهم واسطة في تبليغ أمره ونهيه وأخباره ؛ فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ؛ ولا حقائق أسمائه وتفصيل ما يحب له ويمتنع عليه ويوصف به إلا من جهة هذه الواسطة ، فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر وقلبوا الحقائق ؛ فنفوا كون الرسل وسائط في ذلك وقالوا : يكفي توسط العقل ، ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا : هذا التوحيد ، ويقولون : نحن ننزه الله عن الأعراض والأبعاض والحدود والجهات ، وحلول الحوادث ، فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق والنقائص والحاجة ، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه ، ويكشف النافذ البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل ، وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله.

١٩٣

(معنى قولهم : الأعراض ، والأغراض ، والأبعاض)

فتنزيههم عن الأعراض : هو من أحد صفاته كسمعه وبصره وحياته ، وعلمه ، وكماله ، وإرادته ، فأن هذه أعراض لا تقوم إلا بجسم ، فلو كان متصفا بها لكان جسما وكانت أعرضا له وهو منزه عن الأعراض.

وأما الأغراض : فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يخلق ويفعل ، ويأمر وينهي ويثيب ويعاقب ، وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله ؛ فيسمونها أغراضا وعللا ينزهونه عنها.

وأما الأبعاض : فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجه ولا يدان ؛ ولا يمسك السماوات على إصبع ، والأرض على إصبع ، (والشجر على إصبع) ، والماء على إصبع ، (فإن) ذلك كله أبعاض ، والله منزه عن الأبعاض.

وأما الحدود والجهات : فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به ، ولا ينزل منه شيء ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ، ولا رفع المسيح إليه ، ولا عرج برسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ، إذ لو كان كذلك لزم إثبات الحدود والجهات له وهو منزه عن ذلك.

وأما حلول الحوادث : فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ، ولا يغضب بعد أن كان راضيا ، ولا يرضى بعد أن كان غضبان ، ولا يقوم به فعل البتة ، ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ، ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريدا له. فلا يقول له كن حقيقة ، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن مستويا ، ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا ، ولا يقول للمصلي إذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

١٩٤

حمدني عبدي ؛ فإن قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال أثنى على عبدي ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال مجدني عبدي (١) فإن قال هذه كلها حوادث ، وهو منزه عن حلول الحوادث.

وقالت الجهمية : نحن نثبت قديما واحدا ، ومثبتوا الصفات يثبتون عدة قدماء. قال : والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله تعالى. فكفرهم ، فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر؟

فانظر إلى هذا التدليس والتلبيس الذي يوهم السامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى وإنما أثبتوا قديما واحدا بصفاته ، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كما أنهم إنما أثبتوا إلها واحدا ولم يجعلوا كل صفة من صفاته إلها بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته ، وهذا بعينه متلقي من عباد الأصنام المشركين بالله تعالى المكذبين لرسوله حيث قالوا : يدعو محمد إلى إله واحد ثم يقول يا الله يا سميع يا بصير ، فيدعوا آلهة متعددة فأنزل الله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فأي اسم دعوتموه به فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم ، فأخبر سبحانه أنه إله واحد وإن تعددت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته ، ولهذا كانت حسنى ، وإلا فلو كانت كما يقول الجاحدون لكماله اسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق لم تكن حسنى ، ولو كانت اسماء الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها. فدلت الآية على توحيد الذات وكثرة النعوت والصفات.

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه مسلم في (الصلاة / ٣٩٥) عن أبي هريرة قال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى على عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي.

(وقال مرة فوض إلي عبدي) فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بينى وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».

١٩٥

ومن ذلك قول هؤلاء : أخص صفات الإله ؛ القديم. فإذا أثبتم له صفات قديمة لزم أن تكون آلهة قديمة ، ولا يكون الإله واحدا.

فيقال هؤلاء المدلسين الملبسين على أمثالهم من أشباه الأنعام : المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة ، وأجمعت الأنبياء على بطلانه ؛ أن يكون مع الله آلهة أخرى ؛ إلا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيا قيوما سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه ، له الأسماء الحسنى والصفات والعلى. فلم ينف العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفات كمال يختص بها لذاته.

(لفظ الجسم لم يأت به الوحى ولا أثبته أهل السنة)

واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات ، ولا نفيا فيكون له النفي. فمن أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به ، فإن قال : أردت بالجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه فلا يقال للهوى جسم لغة ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا ، فهذا المعنى منفي عن الله عقلا وسمعا. وإن أردتم به المركب من المادة والصورة ، والمركب من الجواهر الفردة ، فهذا منفي عن الله قطعا ، والصواب نفيه عن الممكنات أيضا. فليس الجسم المخلوق مركبا من هذا ولا من هذا ، وإن اردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب ، فهذه المعاني ثابتة لله تعالى وهو موصوف بها ، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما ، كما إنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصبا ، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا ، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية ، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها :

فإن كان تجسيما ثبوت استوائه

على عرشه إني إذا لمجسم

وإن كان تشبيها ثبوت صفاته

فمن ذلك التشبيه لا أتكتم

١٩٦

وإن كان تنزيها جحود استوائه

وأوصافه أو كونه يتكلم

فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا

بتوفيقه والله أعلى وأعظم

ورحمة الله على الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله :

يا راكبا قف بالمحصب من منى

واهتف بقاعد خيفها والناهض

إن كان رفضا حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافضي

وهذا كله كأنه مأخوذ من قول الشاعر الأول :

وعيرني الواشون أني أحبها

وذلك ذنب لست منه أتوب

وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به ـ بإصبعه ـ رافعا بها إلى السماء بمشتد الجمع الأعظم مستشهدا له ؛ لا للقبلة ، وإن أردتم بالجسم ما يقال : أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق به بأين ، منبها على علوه على عرشه. وسمع السؤال بأين ، وأجاب عنه ، ولم يقل : هذا السؤال إنما يكون عن الجسم. وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من ، وإلى ، فقد نزل جبريل من عنده ، وعرج برسوله إليه ، وإليه يصعد الكلم الطيب. وعبده المسيح رفع إليه.

وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر. فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعا ، من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة ، وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء. وقد قال أعلم الخلق به : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك» (١) والمستعاذ به غير المستعاذ منه. وأما استعاذته صلى‌الله‌عليه‌وسلم به منه فباعتبارين

__________________

(١) أخرجه مسلم في (الصلاة / ٤٨٦) ، والإمام أحمد في «المسند» (١ / ٩٦) ، وغيرهما. عن عائشة رضى الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان وهو يقول : «اللهم أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، هذا لفظ مسلم.

١٩٧

مختلفين ، فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذا بالموصوف بهما منه.

وإن أردتم بالجسم ماله وجه ويدان وسمع وبصر : فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره ، وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه.

وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره ، فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه. وكذلك إن أردتم من التشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحى والعقل ؛ فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى ، وجناية على ألفاظ الوحي. أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره ؛ وتسميتكم هذه الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها ؛ فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ، ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدئت وإليكم تعود.

وأما خطؤكم في المعنى في نفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب ، فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر ، وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن العسل شفاء ولم يره فسأل عنه. فقيل له : مائع رقيق أصفر يشبه العذرة ، تتقيؤه الزنابير ، ومن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له ورغبة فيه. ولله در القائل :

تقول هذا جناء النحل تمدحه

وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

مدحا وذما وما جاوزت وصفهما

والحق قد يعتريه سوء تعبير

وأشد ما جادل أعداء الرسول في التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به ، وضرب الأمثال القبيحة له ، والتعبير عن تلك المعاني التي أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين ، فوصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه. وأكثر العقول كما عهدت يقبل القول بعبارة ، ويرده بعبارة أخرى.

وكذلك إذا قال الفرعوني : لو كان فوق السموات رب أو على العرش إله

١٩٨

لكان مركبا. قيل له : لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله كقوله تعالي : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) آية وقولهم : ركبت الخشبة والباب وما يركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركب حتى صار شيئا واحدا ، كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا.

وإن أردتم بقولكم : لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود ، أو أنه كان متفرقا ، فاجتمع ، فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل.

وإن أردتم أنه لو كان فوق العرش لكان عاليا على خلقه بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء ، فهذا المعنى حق ، فكأنك قلت : لو كان فوق العرش لكان فوق العرش ، فنفيت الشيء بتغيير العبارة وقلبها إلى عبارة أخري ، وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.

وإن أردت بقولك كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها من بعض ، فهل كان عندك هذا تركيبا.

فإن قلت : هذا يقال لي وإنما يقال لمن أثبت شيئا من الصفات ، فأما أنا فلا أثبت له به صفة واحدة فرارا من التركيب. قيل لك : العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت مركبا وقد دل الوحي والعقل والفطرة على ثبوته ، أفتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة؟ فإن التركيب يطلق ويراد به خمسة معان (تركيب) الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدا على ماهيتها ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجودا مطلقا ، إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان.

(الثاني) تركيب الماهية من الذات والصفات ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف ، لا يبصر ولا يسمع (ولا يعلم) ولا يقدر ولا يريد ولا حياة له ولا مشيئة ولا صفة أصلا. فكل ذات في المخلوقات خير من هذه الذات فاستفدت بهذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته ولصفاته وأفعاله.

١٩٩

(الثالث) تركيب الماهية الجسمية من الهيولي والصورة كما يقوله الفلاسفة.

(الرابع) التركيب من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام.

(الخامس) تركيب الماهية من اجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت.

فإن أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركبا كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون (قيل لك) جمهور العقلاء عندهم أن الأجساد المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا. فلو كان فوق العرش جسم مخلوق أو محدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار ، فكيف يلزم ذلك في حق خالق الفرد والمركب ، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء ، والعقل لما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له لم يلد ولم يولد ، لم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة ، ولا وجه ، ولا يدين ، ولا هو فوق خلقه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء.

فدعوى ذلك على العقل كذب صريح على الوحى.

وكذلك قولهم ننزهه على الجهة ، إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف ، فنعم ، هو أعظم من ذلك وأكثر وأعلى ، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى ، وإن أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه استواءه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى باطل ، وتسميته جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة ، وسميتم ما فوق العالم جهة وقلتم منزه عن الجهات ، وسميتم العرش حيزا وقلتم ليس بمتحيز.

وسميتم الصفات أعراضا وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به ، وسميتم حكمته غرضا وقلتم منزه عن الأغراض ، وسميتم كلامه بمشيئته ، ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة فصل القضاء ومشيئته وإرادته المقارنة لمرادها وإدراكه المقارنة لوجود المدرك ، وغضبه إذا عصي ، ورضاه إذا أطيع ، وفرحه إذا

٢٠٠