مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام : ٩١) الثاني قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ـ ٧٤) الثالث قوله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧) فأخبر أنه لم يقدره حق قدره من أنكر إرساله للرسل ، وإنزاله الكتب عليهم ؛ فهذا حقيقة قوله من قال : إنه لا يتكلم ولا ينزل منه إلى الأرض كلام. ومعلوم أن هذا إنكار لكمال ربوبيته وحقيقة إلهيته وحكمته ولم يقدره حق قدره من عبد إلها غيره ، ولم يقدره من جحد صفات كماله.

وقد وصف نفسه سبحانه بأنه العلى العظيم ، فحقيقة قول النفاة المعطلة إنه ليس بعلي ولا عظيم ؛ فإنهم يردون علوه وعظمته إلى مجرد أمر معنوى. كما يقال : الذهب أعلى وأعظم من الفضة. وقد صرحوا بذلك وقالوا : معناه عليّ القدر عظيم القدر.

قال شيخنا : فيقال لهم : أتريدون أنه في نفسه عليّ الذات عظيم القدر ، وأن له في نفسه قدرا عظيما. أم تريدون أن عظمته وقدره في النفوس فقط؟ فإن أردتم الأول ، فهو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة والعقل. وإذا كان في نفسه عظيم القدر. فهو في قلوب الخلق كذلك. فلا يحصى أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه ولا يقدر أحد قدره ولا يعلم عظم قدره إلا هو. وتلك صفة يمتاز بها ويختص بها عن خلقه ، كما قال الإمام أحمد ، لما قالت الجهمية : إنه في المخلوقات نحن نعم مخلوقات كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء وإن اضفتم ذلك إلى مجرد تعظيم القلوب له من غير أن يكون هناك صفات ثبوتية وقدر عظيم يختص به ؛ فذاك اعتقاد لا حقيقة له. وصاحبه قد عظمه بأن اعتقد فيه عظمته لا حقيقة لها وذلك اعتقاد يضاهى اعتقاد المشركين في آلهتهم. وإن قالوا : بل نريد معنى ثالثا لا هذا ولا هذا. وهو أن له في نفسه قدرا يستحقه. لكنه قدر معنوي. قيل لهم : أتريدون أن له حقيقة عظيمة يختص بها عن غيره

٢٨١

وصفات عظيمة يتميز بها. وذاتا عظيمة يمتاز بها عن الذوات ، وماهية أعظم من كل ماهية ونحو ذلك من المعانى المعقولة؟ فذلك أمر وجودى محقق. وإذا أضيف ذلك إلى الرب كان بحسب ما يليق به ولا يشركه فيه المخلوق. فهو في حق الخالق قدر يليق بعظمته وجلاله. وفي حق المخلوق قدر يناسبه كما قال تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق : ٣) فما من مخلوق إلا وقد جعل الله له قدرا يخصه والقدر يكون علميا ويكون عينيا. فالأول هو التقدير العلمي. وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب. كما يقدر العبد في نفسه ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله فيجعل له قدرا. ومن هذا تقدير الله سبحانه وتعالى لمقادير الخلق في عمله وكتابه قبل تكوينها. ثم كونها على ذلك القدر الّذي علمه وكتبه ؛ والقدر الإلهي نوعان : أحدهما في العلم والكتابة ، والثاني خلقها وبرأها ، وتصويرها بقدرته التى يخلق بها الأشياء ، والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعا ، والعباد لا يقدرون الخالق قدره ، والكفار منهم لا يقدرونه حق قدره ، ولهذا لم يذكر ذلك سبحانه إلا في حقهم كما قال تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وهذا إنما وصف به الذين لا يؤمنون بجميع كتبه المنزلة ، من المشركين واليهود وغيرهم.

وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ولم يقل قدروا الله قدره ؛ فإن حق قدره هو الحق الذي لقدره ؛ فهو حق عليهم لقدره سبحانه وتعالى ، فجحدوا ذلك الحق وأنكروه ؛ وما قاموا بذلك الحق معرفة ولا إقرارا ولا عبودية ، وذلك إنكار لبعض قدره من صفات كماله وأفعاله كجحودهم أنه يتكلم أو يعلم الجزئيات أو يقدر على إحداث فعل ، فشبهات منكرى الرسالة ترجع إلى ذلك. فمن أقر بما أرسل به رسله ، وأنه عالم متكلم بكتبه التي أنزلها عليهم ، قادر على الإرسال فقد قدره حق قدره من هذا الوجه ؛ وإن لم يقدره حق قدره مطلقا.

ولما كان أهل العلم والإيمان قد قاموا في ذلك بحسب قدرتهم وطاقتهم التى أعانهم بها ، ووفقهم بها لمعرفته وعبادته وتعظيمه. ولم يتناولهم هذا الوصف ،

٢٨٢

فإن التعظيم له سبحانه بالمعرفة والعبادة ، ووصفه بما وصف به نفسه قد أمر به عباده وأعانهم عليه ورضى منهم بما قدروه من ذلك ؛ وإن كانوا لا يقدرونه حق قدره ، ولا يقدر أحد من العباد قدره ، فإنه إذا كانت السماوات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا ، والأرضون السبع فى يده الأخرى كذلك ، فكيف يقدره حق قدرة من عبد معه وغيره وجعل له ندا ، وأنكر صفاته وأفعاله؟ بل كيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان ؛ فضلا عن أن يقبض بهما شيئا؟ فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة ، وإنما ذلك مجاز.

وقد شرح تعالى لعباده ذكر هذين الاسمين : العلى ، العظيم ، في الركوع والسجود كما ثبت فى «الصحيح» ، لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اجعلوها فى ركوعكم» فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال «اجعلوها في سجودكم» (١) ، فهو سبحانه كثيرا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين ، كقوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة : ٢٥٥) وقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ : ٢٣) ، وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (الرعد : ٩) ثبت بذلك علوه على المخلوقات وعظمته ، والعلو رفعته ، والعظمة قدره ذاتا ووصفا.

__________________

(١) [ضعيف الإسناد] الحديث ليس في الصحيح إنما أخرجه الإمام أحمد (٤ / ١٥٥) ، وأبو داود (٨٦٩) ، وابن ماجه (٨٨٧) ، والحاكم (١ / ٢٢٥ ، ٢ / ٤٧٧) ، وابن حبان (٣ / ١٨٩٥ ـ إحسان). والبيهقي (٢ / ٨٦) من طرق عن موسى بن أيوب الغافقى قال : سمعت عمى إياس بن عامر. قال الحاكم : صحيح ، وقد اتفقا على الاحتجاج برواته غير إياس بن عامر وهو مستقيم الإسناد ، وتعقبه الذهبى بقوله : إياس ليس بالمعروف أه.

وقال الألباني : وأورده ابن أبي حاتم (١ / ١ / ٢٨١) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، فالأقرب عندى ما قاله فيه الذهبى والله أعلم ، وضعف الحديث وانظر «الإرواء» (٣٣٤).

٢٨٣

(نفى التشبيه والتمثيل لا يغنى عن إثبات الصفات اللائقة بالله سبحانه)

الخمسون : إن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل إنما يدللون بنفي التشبيه والتمثيل ويجعلونه حنة لتعطيلهم ، فأنكروا علوه وكلامه وتكليمه وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه ، وأخبر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى آل ذلك ببعضهم إلى نفي ذاته وماهيته ، خشية التشبيه ، وقالوا : يلزم في الوجود ما يلزم مثبتى الصفات ، والكلام. والعلو. فنحن نسد الباب بالكلية.

فينبغى أن يعلم في هذا قاعدة عظيمة نافعة جدا هى : إن نفى الشبيه والمثل والنظير ليس في نفسه صفة مدح ولا كمال. ولا يمدح به المنفى عنه ذلك بمجرده فإن العدم المحض الذي هو أخس المعلومات وأنقصها ينفي عن الشبيه ، والمثل ، والنظير ، ولا يكون ذلك كمالا ولا مدحا إلا إذا تضمن كون من نفى عنه ذلك قد اختص من صفات الكمال بصفات باين بها غيره. وخرج بها عن أن يكون له فيها نظير أو مثل. فهو لتفرده بها عن غيره صح أن ينفي عنه الشبه والمثيل.

ولا يقال لمن لا سمع له ولا بصر ولا حياة ولا علم ولا كلام ولا فعل : ليس له مثل ولا شبه ولا نظير. إلا في باب الذم والعيب. هذا الذي عليه فطر الناس وعقولهم واستعمالهم في المدح والذم كما قيل :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يساويه في الفضائل

وقال الفرزدق :

فما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أخوه يقار

أى فما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا هو أخوه فعكس المعطلة المعنى فجعلوا (ليس كمثله شيء) جنة يتترسون بها لنفى علو الله سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله.

ومما ينبغى أن يعلم أن كل سلب ونفى لا يتضمن إثباتا ؛ فإن الله لا يوصف به لأنه عدم محض ونفي صرف لا يقتضي مدحا ولا كمالا. ولهذا كان تسبيحه وتقديسه مستلزمين لعظمته ومتضمنين لصفات كماله ، وإلا فالمدح بالعدم المحض كلا مدح ، ولهذا كان عدم السنة والنوم مدحا وكمالا فى حقه لتضمنه أو استلزامه

٢٨٤

كمال حياته وقيوميته (١) ونفى اللغوب عنه كمالا لاستلزامه كمال قدرته وقوته (٢) ونفى النسيان عنه كمال لتضمنه كمال علمه (٣). وكذلك نفي عزوب شيء عنه (٤) ونفى الصاحبة والولد كمال لتضمنه كمال غناه وتفرده بالربوبية (٥) وأن من فى السماوات والأرض عبيد له ؛ وكذلك نفى الكفء المسمى والمثل عنه كمال لأنه مستلزم ثبوت جميع أوصاف الكمال له على أكمل الوجوه واستحالة مشارك له فيها.

فالذين يصفونه بالسلوب من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرسل وعرفوه به الى الخلق ؛ وهو الوجه الّذي يحمد به ويعرف به عظمته وجلاله ، وإنما عرفوه من الوجه الّذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به لعدم اعتقادهم الحق. وحقيقة أمرهم أنهم لم يثبتوا لله عظمة إلا ما تخيلوه فى نفوسهم من السلوب والنفى الّذي لا عظمة فيه ولا مدح فضلا عن أن يكون كمالا. بل ما أثبتوه مستلزم لنفى ذاته رأسا.

وأما الصفاتية الذين يؤمنون ببعض ويجحدون بعضا ؛ فإذا أثبتوا علما ، وقدرة وإرادة ؛ وغيرها تضمن ذلك إثبات ذات تقوم بهذه الصفات ؛ وتتميز بحقيقتها وماهيتها ؛ سواء سموه قدرا أو لم يسموه فإن لم يثبتوا ذاتا متميزة بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفات بلا ذات كما أثبت إخوانهم ذاتا بغير صفات ،

__________________

(١) يشير إلى قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ...) الآية [البقرة : ٢٥٥].

(٢) يشير لقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨].

(٣) وذلك في قوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم : ٦٤].

(٤) يشير إلى قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (يونس : ٦١). وقال : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (سبأ : ٣).

(٥) يشير لقوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠١] وقال : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) [الجن : ٣].

٢٨٥

وأثبتوا أسماء بلا معان ، وذلك كله مخالف لصريح العقول فلا بد من إثبات ذات محققه لها الأسماء الحسنى وإلا فأسماء فارغة لا معنى لها توصف بحسن فضلا عن كونها أحسن من غيرها ، يوضحه.

الوجه الحادى والخمسون : أن الله سبحانه قرن بين هذين الاسمين الدالين على علوه وعظمته في آخر آية الكرسي ، وفي سورة الشورى ، وفي سورة الرعد ، وفي سورة سبأ في قوله : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ : ٢٣) ففى آية الكرسى ذكر الحياة التى هى أصل جميع الصفات وذكر معها قيوميته المقتضية لدوامه وبقائه ، وانتفاء الآفات جميعها عنه ومن النوم والسنة العجز وغيرها. ثم ذكر كمال ملكه ، ثم عقبه بذكر وحدانيته فى ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ثم ذكر سعة علمه وإحاطته. ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه. ثم ذكر سعة كرسيه منبها به على سعته سبحانه وعظمته وعلوه. وبذلك توطئة بين يدى علوه وعظمته ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي والسفلى ، من غير اكتراث ولا مشقة (وتعب) ، ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه.

وقال فى سورة طه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه : ١١٠) وقد اختلف فى مفسر الضمير في (به) فقيل هو الله سبحانه ، أي ولا يحيطون بالله علما ، وقيل هو (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فعلى الثانى يرجع إلى المعلوم ، وهذا القول يستلزم الأول من غير عكس ، لأنهم إذا لم يحيطون ببعض معلوماته المتعلقة بهم ، فإن لا يحيطون علما به سبحانه من باب أولى.

كذلك الضمير في قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) يجوز أن يرجع إلى الله. ويجوز أن يرجع إلى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ولا يحيطون بشيء من علم ذلك إلا ما شاء ، فعلى الأول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، وعلى الثانى يكون مضافا إلى المفعول.

٢٨٦

والمقصود أنه لو كان العلى العظيم إنما يريد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك ؛ ومواضع ذلك كان تكريرا ؛ فإن ذكر ذلك مفصلا أبلغ من الدلالة عليه بما لا يفهم إلا بكلفة. وكذلك إذا قيل أن علوه مجرد كونه أعظم من مخلوقاته وأفضل منها ، فهذا هضم عظيم لهاتين الصفتين العظيمتين. وهذا لا يليق ولا يحسن أن يذكر ويخبر به عنه إلا في معرض الرد لمن ساوى بينه وبين غيره فى العبادة والتأله ، كقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) (النمل : ٥٩) ، وقول يوسف الصديق (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) ، فهذا السياق يقال في مثله : أن الله خير مما سواه. وأما بعد أن يذكر مالك الكائنات ويقال مع ذلك إنه أفضل من مخلوقاته ، وأعظم من مصنوعاته ؛ فهذا ينزه عنه كلامه ، وإنما يليق بهؤلاء الذين يجعلون لله مثل السوء في كلامه ، ويجعلون ظاهره كفرا تارة ، وضلالة أخرى ، وتارة تجسيما وتشبيها ويقولون فيه ما لا يرضى أحدنا أن يقوله فى كلامه.

* * *

فصل

(فى ذكر حجة الجهمى على أنه سبحانه لا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب

ولا يسخط ولا يفرح ، والجواب عنها)

احتج الجهمى على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتأثير عن العبد والمخلوق لا يؤثر في الخالق. فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المحدث قد أثر فى القديم تلك الكيفيات وهذا محال هذه الشبهة من جنس شبههم التي تدهش السامع أول ما تطرق سمعه ، وتأخذ منه تروعه ، كالسحر الّذي يدهش الناظر أول ما يراه.

الجواب من وجوده (أحدها) أن الله تعالى خالق كل شيء ، وربه ومليكه ، وكل ما في الكون من أعيان وأفعال وحوادث فهى بمشيئته وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فصفتان لا تخصيص فيهما بوجه من الوجوه ، وكل ما يشاء إنما يشاءه لحكمة اقتضاها حمده ، ومجده ، فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمسببات ، فهو سبحانه خالق الأسباب التى ترضيه ،

٢٨٧

وتغضبه ، وتسخطه ، وتفرحه ، والأشياء التى يحبها ويكرهها ، الله سبحانه خالق ذلك كله ، فالمخلوق أضعف وأعجز أن يؤثر فيه ، بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه ، فإنه يحب هذا ويرضى هذا ، يبغض هذا ، ويسخط هذا ، ويفرح بهذا فما أثر فيه غيره بوجه من الوجوه.

(الثاني) أن التأثير لفظ فيه اشتباه واجمال ، أتريد به أن غيره لا يعطيه كمالا لم يكن له ، ويوجد فيه صفة كان فاقدها؟ فهذا معلوم بالضرورة ـ أم تريد أن غيره لا يسخطه ولا يغضبه ، ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه ونحو ذلك ، فهذا غير ممتنع وهو أول المسألة. وليس معك في نفيه إلا مجرد الدعوى بتسمية ذلك تأثيرا فى لخالق. وليس الشأن في الأسماء : إنما الشأن فى المعاني والحقائق. وقد قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) (محمد : ٢٨) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر في أهل الصفة «لأن كنت اغضبتهم لقد اغضبت ربك» (١).

(الثالث) أن هذا يبطل محبته لطاعة المؤمنين ، وبغضه لمعاصى المخالفين ، فهذا وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطر الإنسانية واتفاق أهل الأديان كلهم بل هذا حقيقة دعوة الرسل بعد التوحيد.

(الرابع) أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم وسماع أصواتهم ؛ ورؤية أفعالهم وحركاتهم فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم ، فما كان جوابك عنها فهو جوابنا وذلك فى محل الإلزام.

(الخامس) أنه سبحانه إذا كان يحب أمورا ، وتلك الأمور محبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها ، كان وجود تلك الأمور مستلزما للوازمها التى لا توجد بدونها. مثاله محبته للعفو والمغفرة والتوبة ، فهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والعفو والمغفرة بدون الّذي يتاب منه

__________________

(١) أخرجه مسلم في (فضائل الصحابة / ٢٥٠٤) ، والإمام أحمد (٥ / ٦٤).

٢٨٨

ويغفره ويعفو عنه ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» (١) وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به. وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلا من أن يكون ، فهذا المفروح به يحب تأخره قطعا ، ومثل هذا ما روي «أن آدم لما رأى بنيه ورأى تفاوتهم ، قال : يا رب ، هلا سويت بين عبادك؟ قال : إنى أحب أن أشكر» ومعلوم أن محبته للشكر علي ما فضل به بعضهم على بعض ، ولا يحصل ذلك بالتسوية بينهم. فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين ، وذلك محال.

الوجه الثاني والخمسون : إن هذه المعارضة بين العقل والنقل هى أصل كل فساد في العالم وهي ضد دعوة الرسل من كل وجه فإنهم دعوا إلى تقديم الوحى على الآراء والعقول ، وصار خصومهم إلى ذلك. فأتباع الرسل قدموا الوحى على الرأى والمعقول ، واتباع إبليس أو نائب من نوابه قدموا العقل على النقل.

(شبهات إبليسية) (*)

قال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، في كتابه «الملل والنحل» : اعلم أن أول شبهة وقعت في الخلق شبهة إبليس ؛ ومصدرها استبداده بالرأي فى مقابلة النص ، واختياره الهوى في معارضة الرأى ، واستكباره بالمادة التي خلق منها ، وهى النار على مادة آدم ، وهي الطين وتشبعت

عن هذه الشبهة سبع شبهات صارت هى مذاهب بدعة وضلالة وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه ، قال : كما نقل عنه : إني

__________________

(١) رواه مسلم (التوبة / ٢٧٤٩).

(*) العنوان من وضعنا ، وللأستاذ سليم الهلالى رسالة باسم «حجة إبليس» جمع فيها ما ذكره الشهرستانى فى «الملل والنحل» ، وما ذكره ابن القيم هنا في ترتيب بديع فانظره.

٢٨٩

سلمت إن الباري إلهى وإله الخلق عالم قادر. ولا يسأل عن قدرته ومشيئته ، وإذا أراد شيئا قال له (كُنْ فَيَكُونُ) وهو حكيم ، إله أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة سبعة (أولها) قد علم قبل خلقى أى شيء يصدر عنى ويحصل ، فلم خلقنى أولا؟ وما الحكمة فى خلقه إياى؟

(الثاني) إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفنى بمعرفته وطاعته؟

وما الحكمة في التكليف بعد (معرفته) (١) ألا ينتفع بطاعته ولا يتضرر بمعصيته؟

(الثالث) إذ خلقنى وكلفنى فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت ، فلم كلفنى بطاعة آدم والسجود له ، وما الحكمة فى هذا التكليف على الخصوص ، بعد أن لا يزيد ذلك في طاعتى ومعرفتى؟

(الرابع) إذ خلقني وكلفني على الإطلاق ، وكلفنى هذا التكليف على الخصوص ، فإذا لم اسجد لعننى وأخرجني من الجنة ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحا إلا قولي لا أسجد إلا لك؟

(الخامس) إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا ولم اطلع فلعنني وطردني فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستى فأكل من الشجرة المنهي عنها ، وأخرجه من الجنة معي ، وما الحكمة فى ذلك ، بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح مني وبقى خالدا في الجنة؟

(السادس) إذ خلقني كلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونى ، وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم ، وما الحكمة فى ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين. كان أحرى وأليق بالحكمة؟

(السابع) سلمت هذا كله ، خلقني وكلفنى مطلقا ومقيدا ، وحيث لم أطع لعننى وطردنى ، ومكنني من دخول وطرقنى وإذا عملت عملا أخرجنى ،

__________________

(١) ما بين المعكوفين غير موجود بالأصل.

٢٩٠

ثم سلطنى على بنى آدم ، فلما استمهلته امهلنى فقلت «أنظرنى إلي يوم يبعثون» فقال «إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» (ص : ٧٩ ـ ٨١) وما الحكمة فى ذلك؟ بعد أن لو أهلكني فى الحال استراح الخلق مني ، وما بقي شر في العالم ، أليس بقاء العالم على نظام الخير خير من امتزاجه بالشر؟ قال فهذه حجتى على ما ادعيته فى كل مسأله.

قال قال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة ، قالوا له : إنك فى مسألتك الأولى : إني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص ؛ إذ لو صدقت إني رب العالمين ما احتكمت عليّ بلم ، فأنا الله الّذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل ، والخلق مسئولون قال : هذا مذكور فى التوراة والزبور مسطور في الإنجيل على الوجه الّذي ذكرته. وكنت برهة من الزمان أتفكر وأقول : من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهة وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان ووساوسه ، ونشأت من شبهاته. وإذا كانت الشبهات محصورة في سبع عادت كبار البدع والضلال إلى سبع ، ولا يجوز أن تعدوها شبهة أهل الزيغ والكفر ، وان اختلفت العبارات وتباينت الطرق فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذر ترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح إلى الهوي والرأي فى مقابلة النص. والذين جادلوا هودا ؛ ونوحا ، وصالحا ، وابراهيم ، ولوطا. وشعيبا ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاتهم. وحاصلها يرجع إلى رفع التكليف عن أنفسهم وجحد أصحاب التكاليف والشرائع عن هذه الشبهة نشأ ، فأنه لا فرق بين قولهم (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) (التغابن : ٦) ، وبين قوله (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء : ٦١) ، ومن هذا قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (الإسراء : ٩٤).

٢٩١

فبين أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى كما قال المتقدم (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (الزخرف : ٥٢) وكذلك لو تعقبنا أقوال المتأخرين منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتقدمين (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (البقرة : ١١٨). (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (الأعراف : ١٠١) فاللعين الأول لما حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل أجرى حكم الخالق فى خلق وحكم الخلق ، والأول غلو ، والثانى تقصير ، فثار من الشبهة الأولى مذهب الحلولية والتناسخية والمشبهة والغلاة من الرافضة من حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بأوصاف الجلال. وثار من الشبه الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمجسمة حيث قصروا فى وصفه تعالى بصفات المخلوقين والمعتزلة مشبهة الأفعال ومشبهة الصفات وكل منها أعور ، فأن من قال : يحسن منه ما يحسن منا ويقبح منه ما يقبح منا ، فقد شبه الخالق بالخلق ، ومن قال : يوصف الباري بما يوصف به الخلق أو يوصف الخلق بما يوصف به البارى ، فقد اعتزل عن الحق : وشيخ القدرية طلب العلة فى كل شيء وذلك الشيخ اللعين الأول ، إذ طلب العلة فى الخلق أولا. والحكمة في التكليف ثانيا ، والمعاندة فى تكليف السجود لآدم ثالثا.

ثم ذكر الخوارج والمعتزلة والروافض وقال رأيت شبهاتهم كلها نشأت من شبهات اللعين الأول. وإليه أشار التنزيل بقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة : ١٦٨) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتسلكن سبل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (١).

__________________

(١) رواه البخارى (٣٤٥٦) ، ومسلم (٢٦٦٩) من حديث أبي سعيد الخدرى ، ورواه أحمد (٤ / ١٢٥) ، والترمذي (٢٦٤١) مع اختلاف فى الألفاظ.

والقذّة : ريشة طائر كالنسر والصقر بعد تسويتها وإعدادها لتركب فى السهم ، يقال : هو مثله حذو القذة القذة (الوجيز).

٢٩٢

فهذه القصة في المناظرة هى نقل أهل الكتاب ، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها ، وكأنها والله أعلم مناظرة وضعت على لسان إبليس. على كل حال فلا بر من الجواب عنها سواء صدرت عنه أو قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده. وقد أخبر تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (النساء : ٧٦).

فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب موقعها عند من أصل أصولا فاسدة كانت سدا بينه وبين ردها. وقد اختلف طرق الناس في الأجوبة عنها فقال المنجمون وزنادقة الطبائعيين والفلاسفة : لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من ذلك ، بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلا بعد نسل وأمة بعد أمة وإنما أمثال مضروبة لانفعال القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر ، وهذه القوى هي المسماة فى الشرائع بالملائكة واستعصت القوى الغضبية والشهوانية : وهي المسماة بالشياطين. فعبروا عن خضوع القوى الخيرية الفاضلة بالسجود ، وعبر عن إباء القوى الشريرة بالإباء والاستكبار وترك السجود. قالوا : والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على هذا الوجه ، واسكان هذه القوى فيه وانقياد بعضها له وإباء بعضها. فهذا شأن الإنسان. ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانا قالوا : وبهذا تندفع الأسئلة كلها ، وإنها بمنزلة أن يقال : لم أحوج الإنسان إلى الأكل والشرب واللباس. ولما أحوجه إليها ، فلم جعله يبول ويتغوط ويمخط؟ ولم جعله يهرم ويمرض ويموت؟ فإن هذه الأمور من لوازم النشأة الإنسانية. فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها وأبطلت آدم وإبليس والملائكة ، وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية.

وقالت الجبرية ، ومنكروا العلل والحكم : هذه الأسئلة إنما ترد على من يفعل لعلة أو غرض أو لغاية. فأما من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض ، بل يفعل بلا سبب فإنما مصدر مفعولاته محض مشيئته وغايتها مطابقتها بعلمه وإرادته ، فيجىء فعله عن وفق إرادته وعلمه. وعلى هذا فهذه الأسئلة كلها. إذ مبناها على أصل واحد ، وهو تعليل أفعال من لا تعلل أفعاله ولا يوصف تحسن ولا قبح

٢٩٣

عقليين ، بل الحسن ما فعله أو ما يفعله فكله حسن (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣) قالوا : والقبح والظلم هو تصرف الإنسان فى غير ملكه ، فأما تصرف الملك الحق في ملكه من غير أن يكون تحت حجر حاجر أو أمر آمر أو نهى ناه ، فإنه لا يكون ظلما ولا قبيحا. فرفع هؤلاء الأسئلة من أصلها والتزموا لوازم هذا الأصل بأنه لا يجب على الله شيء ، ولا يحرم عليه شيء ، ولا يقبح منه ممكن.

وقالت القدرية : هذا لا يرد على أصولنا ، وإنما يرد على أصول الجبرية القائلين بأن الله تعالى خالق أفعال العباد ، وطاعتهم ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم ، وأنه قدر ذلك عليهم قبل أن يخلقهم وعلمه منهم وخلقهم له ، فخلق أهل الكفر للكفر ، وأهل الفسوق للفسوق قدر ذلك عليهم وشاءه منهم وخلقه فيهم. فهذه الأسئلة واردة عليهم. وأما نحن فعندنا أن الله تعالى عرضهم للطاعة والإيمان وأقدرهم عليه ومكنهم منه ورضية لهم وأحبه ، ولكنهم اختاروا لأنفسهم الكفر والعصيان ، والله تعالى لم يكرههم على ذلك. ولم يجبلهم عليه ولا شاءه منهم ولا كتبه عليهم ولا قدره ولا خلقهم له ولا خلقه فيهم ، ولكنها أعمال هم لها عاملون وشرورهم لها فاعلون. فإنما خلق إبليس لطاعته وعبادته ؛ ولم يخلق لمعصيته والكفر به. وصرح قدماء هذه الفرقة بأن الله سبحانه لم يكن يعلم من إبليس حين خلقه أنه يصدر منه ما صدر ، ولو علم ذلك منه لم يخلقه. وأبى متأخرون ذلك. وقالوا : بل كان سبحانه عالما به وخلقه امتحانا لعباده ليظهر المطيع له من العاصي ، والمؤمن من الكافر ، وليثبت عباده على معاداته ومحاربته ومعصيته أفضل الثواب. قالوا : وهذه الحكمة اقتضت بقاءه حتّى تنقضي الدنيا وأهلها ، قالوا : وأمره بالسجود ليطيعه فيثيبه ، فاختار لنفسه المعصية والكفر من غير إكراه من الرب ولا إلجاء له إلى ذلك. ولا حال بينه وبين السجود ، ولا سلطه على آدم وذريته قهرا ، وقد اعترف عدو الله بذلك حيث يقول (وَما كانَ

٢٩٤

لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (إبراهيم : ٢٢) ، وقال تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) (سبأ : ٢١) ، قالوا فاندفعت تلك الأسئلة وظهر أنها ترد على أصول الجبرية لا على أصولنا.

وقالت الفرقة الناجية حزب الله ورسوله : كيف يطمع فى الرد على عدو الله من قد شاركه فى أصله وفى بعض شبهه فإن عدو الله أصل معارضة النص بالرأى ، فيترتب على تأصيله هذه الأسئلة وأمثالها ، فمن عارض النقل بالعقل فهو شريكه من هذا الوجه فلا يمكن من الرد التام عليه ، ولهذا لما شاركه زنادقة الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين في هذا الأصل أنكروا وجوده ووجود آم والملائكة ، فضلا عن قصة أمره بالسجود وإبائه وما ترتب عليه. ولما أنكرت الجبرية الحكم والتعليل والأسباب عجزوا عن جواب أسئلة وسدوا على نفوسهم باب استماعها والجواب عنها ، وفتحوا باب مكابرة العقول الصحيحة فى إنكار تحسين العقل وتقبيحه ، وإنكار الأسباب والقوى والطبائع والحكم والغايات المحمودة التى لأجلها يفعل الرب ما يفعله ، وجوزوا عليه أن يفعل كل شيء وأن يأمر بجميع ما نهى عنه وينهى عن كل كل ما أمر به ، ولا فرق عندهم البتة بين المأمور والمحظور والكل سواء في نفس الأمر ، ولكن هذا صار حسنا بأمره لأنه في نفسه وذاته حسن ، وهذا صار قبيحا بنهيه لأنه في نفسه وذاته قبيح.

ولما وصلت القدرية إنكار عموم قدرة الرب سبحانه ومشيئته لجميع الكائنات. وأخرجت أفعال عبده خيرها وشرها عن قدرته ومشيئته لخلقه ، وأثبتت لله تعالى شريعة بعقولهم حكمت عليه بها واستحسنت منه ما استحسنت من أنفسها ، واستقبحت منه ما استقبحته من أنفسها وعارضت بين الأدلة السمعية الدالة على خلاف ما أصلوه وبين العقل ، ثم راموا الرد على عدو الله فعجزوا عن الرد التام عليه ، وإنما يتمكن من الرد عليه كل الرد من تلقى أصوله عن مشكاة الوحى ونور النبوة ، ولم يؤصل أصلا برأيه.

فأول ذلك أنه علم أن هذه الأسئلة ليست من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى مخبرا بها عن عدوه كما أخبر عنه في القرآن بكثير من أقوله وأفعاله ،

٢٩٥

وإدخال بعض أهل الكتاب لها في تفسير التوراة والإنجيل كما نجد بالمسلمين من يدخل في تفسير القرآن كثيرا من الأحاديث والأخبار والقصص التي لا أصل لها. وإذا كان هذا في هذه الأمة التي هي أكمل الأمم علوما وعقولا ، فما الظن بأهل الكتاب؟

الوجه الثاني : أن يقال لعدو الله : قد ناقضت فى أسئلتك ما اعترفت به غاية المناقضة ، وجعلت ما اسلفت من التسليم والاعتراف مبطلا لجميع اسئلتك متضمنا للجواب عنها قبل ذكرها وذلك أنك قلت (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر : ٣٩ ـ ٤٠). فاعترفت بأنه ربك وخالفك ومالكك ، وأنك مخلوق له مربوب تحت أوامره ونواهيه ، وإنما شأنك أن تتصرف فى نفسك تصرف العبد المأمور المنهي المستعد لأوامر سيده ونواهيه. وهذه الغاية التي خلقت لها ، وهي غاية الخلق وكمال سعاتهم. وهذا الاعتراف منك بربوبيته وقدرته وعزته ويتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه ، وأنه في كل ما أقر عليم حكيم لم يأمر عبده لحاجة منه إلى ما أمر به عبده ، ولا نهاه بخلا عليه بما نهاه بل أمره رحمة منه به وإحسانا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده وما لا صلاح له إلا به ، ونهاه عما في ارتكابه فساده في معاشه ومعاه ، فكانت نعمته عليه بأمره ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما ، كما قال سبحانه ؛ في آخر فصل مع الأبوين (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف : ٢٦) فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خير من المال والريش والجمال الظاهر.

فالله تعالى خلق عباده وجمل ظواهرهم بأحسن تقويم ، وجمل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم. ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك من أحسن الصور ، وأنت مع ملائكته الأكبرين فلما وقع ما وقع جعل صورتك وشناعة منظرك مثلا يضرب لكل قبيح كما قال تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (الصافات : ٦٥) فهذه أول نقدة تعجلتها من معصيته ولا ريب أنك تعلم أنه

٢٩٦

أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأغنى الأغنياء وأرحم الراحمين ، وأنه لم يأمر العباد إلا بما فعله خير لهم وأصلح وأنفع لهم من تركه فأمرهم بما أمرهم لمصلحة عائدة عليهم ، كما رزقهم الطعام والشراب وغيرهما من النعم ، فالسعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم وكماله وصلاحها بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها ، وتيقنوا أنه كما لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلا بتناول غذائه الّذي جعل له ، فكذلك لا صلاح للقلب والروح ، ولا فلاح ولا نعيم إلا بتناول غذائه الذي جعل له.

وهذا وإن ألقيت إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة للمكلفين فيما أمروا به ، نهوا عنه ولا منفعة لهم فيه ولا خير ، ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا ، ولكن أمروا ونهوا لمجرد الامتحان والاختبار ولا فرق ، فلم يؤمروا بحسن ولم ينهوا عن قبيح ، بل ليس في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به عليك فجعلوا جواب أسئلتك فدفعوها كلها ، وقالوا : إنما تتوجه هذه الأسئلة في حق من يفعل لعلة أو غرض ، وأما من فعله بديء من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد من هذه الأسئلة ، فإن ، كانت هذه القاعدة حقا فقد اندفعت أسئلتك كلها ، وإن كانت باطلا والحق فى خلافها فقد بطلت أسئلتكم أيضا كما تقدم ، يوضحه.

الوجه الثالث : أن نقول لعدو الله : إما أن تسلم حكم الله في خلقه وأمره ، وإما أن تجحده وتنكره ، فإن سلمتها وأنه سبحانه حكيم في خلقك حكيم في أمرك بالسجود ، بطلت الأسئلة وكنت معترفا بأنك أوردتها على من تبهر حكمته العقول ، فبتسليمك هذه الحكمة التي لا سبيل للمخلوقين إلى المشاركة فيها يعود على أسئلتك الفاسدة بالنقض ، وإن رجعت عن الإقرار له بالحكمة ، وقلت لا يفعل لحكمة البتة بل (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣) فما وجه إيراد هذه الأسئلة على من لم يفعل لحكمة؟ فقد أوردت الأسئلة على من لا يسأل عما يفعل ؛ وطعنت في حكمة من كل أفعاله حكمة ومصلحة وعدل وخير بمعقولك الفاسد.

٢٩٧

الوجه الرابع : إن الله فطر عباده حتّى الحيوان علي استحسان وضع الشيء في موضعه والإتيان به في وقته وحصوله على الوجه المطلوب منه ، وعلى استقباح ضد ربك وخلافه وأن الأول دال على كمال فاعله علمه وقدرته ، وضده دال على نقصه ، وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها ، فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها ، ويخصها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أنسب لها من غيره ؛ وأبرزها في أوقاتها المناسبة لها ، ومن له نظر صحيح وأعطى التأمل حقه شهد ذلك فيما رآه وعلمه ، واستدل بما شاهده على ما خفى عنه ، وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك فقال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات : ٢١).

(النظر في ملكوت السماوات والأرض يدل على عظمة الصانع)

من نظر في هذا العالم وتأمله حق تأمل وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والمنافع مخزونة كالذخائر ، كل شيء منها لأمر يصلح له ، والإنسان المخلول فيه ، وضروب النبات مهيئات لمآربه ؛ وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه ، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط. ومنها ما هو للركوب والحملة فقط. ومنها ما هو للجمال والزينة ، ومنهار ما يجمع ذلك كله بالإبل ، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء ؛ ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين ؛ وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات ؛ وغاديات ورائحات ، ومقيمات وظاعنات ، أعظم عبرة وأعظم دلالة على حكمة الخلاف العليم ، وكل ما أخذه الناس وأدركوه بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة ، ومستنبطة من الصنع الإلهي .. مثال ذلك أن القبان (١) مستنبط من خلقه البعير ، فإنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء به ويمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك ، وجعلوا طول

__________________

(١) القبان : الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقساما ، يحرك عليها جسم ثقيل يسمى الرمانة لتبين وزن ما يوزن (الوجيز).

٢٩٨

حديدته فى مقابلة طول العنق ، ورمان القبان فى مقابلة رأس البعير فتم لهم ما استنبطوه كذلك استنبطوا بناء الأقبية من ظهره فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمل غيره فتأملوا ظهره فإذا هو كالقبو (١) ، فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمل السطح.

وكذلك ما استنبطه الحداق لكل من كل بصره أن يديم النظر إلى إجانة (٢) خضراء مملوءة ماء استنباطا من حكمة الخلاف العليم في لون السماء ؛ فإن لونها أشد الألوان موافقة للبصر ، فجعل أديمها بهذا اللون ليمسك الأبصار ولا ينكأ (٣) فيها بطول مباشرته لها ؛

وإذا فكرت في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتى الليل والنهار ، ولو لا طلوعها لبطل أمر هذا العالم ، فكم في طلوعها من الحكم والمصالح. وكيف يكون حال الحيوان لو أمسكت عنه جعل الليل عليه سرمدا والدنيا مظلمة عليه؟ فبأى نور كانوا يتصرفون؟ وكيف كانت تنضج ثمارهم. وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم فالحكم في طلوعها أعظم من أن تختفى أو تحصى. ولكن تأمل الحكمة في غروبها فلو لا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء والراحة. وأيضا لو دامت الأرض لاشتد حرها بدوام طلوعها عليها. فاحترق كل ما عليها من حيوان ونبات. فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم ان جعلها تطلع عليهم في وقت دون وقت بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليا ليقضوا مآربهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدءوا. وصار ضياء النهار وحرارته ، وظلام الليل وبرده على تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

ثم اقتضت حكمته أن جعل للشمس ارتفاعا وانحطاطا لإقامة هذه الفصول الأربعة من السنة وما فيها من قيام الحيوان والنبات. ففي زمن الشتاء تفور

__________________

(١) القبو : الطاق المعقود بعضه إلى بعض في شكل قوس ، وبناء تحت الأرض تنخفض حرارته في الصيف فيحفظ فيه الجبن والزبد والفواكه وغيره. (وجيز).

(٢) الإجانة : إناء تغسل فيه الثياب (الوجيز).

(٣) نكأ القرحة نكئا : قشرها قبل أن تبرأ فندبت (الوجيز).

٢٩٩

الحرارة في الشجر والنبات. فيتولد فيها مواد النار ويغلظ الهواء بسبب الرد فيصير مادة للسحاب ، فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فتنشره قزعا (١) ثم يرسل عليه المؤلفة فتؤلف بينه حتّى يصير طبقا واحدا ، ثم يرسل عليه الريح اللاحقة التي فيها مادة الماء فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء من وقته ، فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارئة فتذروه وتفرقه في الهواء لئلا يقع صبة واحدة فيهلك ما على الأرض وما أصابه ويقل الانتفاع به ، فإذا أسقى ما أمر بسقيه وفرغت حاجتهم منه أرسل عليه الرياح السائقة فتسوقه وتزجيه إلى قوم آخرين ، وأرض أخرى محتاجة إليه ، فإذا جاء الربيع تحركت الطبائع وظهرت المواد الكامنة في الشتاء فخرج النبات ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت وأنبتت من كل زوج كريم ، فإذا جاء الصيف سخن الهواء وتحللت فضلات الأبدان ، فإذا جاء الخريف كسر ذلك السموم والحرور ، وبرد الهواء واعتدل وأخذت الأرض والشجر في الراحة والجموم والاستعداد للحمل الآخر.

واقتضت حكمته سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في البروج وقدر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين والحساب من الشهور والأعوام ؛ فتتم بذلك مصالحهم ، وتعلم بذلك آجال معاملاتهم ومواقيت حجهم وعباداتهم ومدد أعمارهم ، وغير ذلك من مصالح حسابهم ، فالزم مقدار الحركة ألا ترى أن السنة الشمسية مسير الشمس من الحمل إلي الحمل واليوم مقدار مسيرها من المشرق إلى المغرب ؛ وتحركه الشمس والقمر لكمال الزمان من يوم خلقها إلى أن يجمع الله بينها ويعزلهما عن سلطانهما ، ويرى عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس : ٥) ، وقال تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ

__________________

(١) القزع : بفتحتين : قطع من السحاب رقيقة ، وفي الحديث : «كأنهم قزع الخريف» (مختار الصحيح).

٣٠٠