مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

فهم منكرون ما جاءت به الرسل بما هو من نوعه أو دونه ، وهذا غاية الضلال فليتأمل ذلك.

الوجه السابع عشر : إن من ادعى أن رحمة الله مجاز أو اسمه الرحمن الرحيم ، إما أن يثبت لهذا اللفظ معنى أو لا. والثاني يقر المنازع ببطلانه ، وإذا كان لا بد من إثبات معنى لهذا اللفظ ، فإما أن يتضمن محذورا أو لا ، فإن تضمن محذورا لم يجز إثباته ، وإن لم يتضمن محذورا لم يمكن إثباته وإخراج اللفظ عن حقيقته أولى من بقاء اللفظ على حقيقته ، وإثبات معناه الأصلي ، إذ انتفاء المحذور عن حقيقة والمجاز واحد ، وتسلم الحقيقة وهي الأصل ، فأما إخراج اللفظ عن حقيقته لأمر لا يتخلص به في المجاز ولا محذور منه في الحقيقة ولا في المجاز فلا معنى له بل هو خطأ محض.

الوجه الثامن عشر : إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته والرضوان وثوابه المنفصل فقال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة : ٢١) فالرحمة والرضوان صفته والجنة ثوابه ، وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثوابا منفصلا مخلوقا ، وقول من قال : هي إرادته الإحسان ، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة ، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان ، وكذلك لفظ اللعنة والغضب والمقت هي أمور مستلزمة للعقوبة ، فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها ، فإن ثبوت اللازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع ، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها.

الوجه التاسع عشر : إن ظهور آثار هذه الصفة في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة ، فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة تامة وسعت كل شيء ، كما أن الموجودات كلها شاهدة له بالربوبية التامة الكاملة. وما في العالم من آثار التدبير والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه. فجعل صفة الرحمة واسم الرحمة مجازا كجعل صفة الملك والربوبية مجازا ، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة.

٤٨١

وإذا أردت أن تعرف بطلان هذا القول فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة ، فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة وبصرنا من العمي وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا ، وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار ، وبسط الأرض وجعلها مهادا وفراشا وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، اطلع الفواكه والأقوات والمرعى ، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل ، والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل والدر وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها ، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان.

فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته ، واشتق (لنفسه) منها اسم الرحمن الرحيم. وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته ، وأوسع المخلوقات عرشه ، وأوسع الصفات رحمته ، فاستوى على عرشه الّذي وسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابا ، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه ، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة ، فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها ، فبرحمته ؛ خلقت ، وبرحمته عمرت بأهلها ، وبرحمته وصلوا إليه ، وبرحمته طاب عيشهم فيها ، وبرحمته احتجت عن خلقه بالنور ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

ومن رحمته إنه يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ، ومن نفسه

٤٨٢

بنفسه ، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه ، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به داوم التناسل وانتفاع الزوجين ، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه ، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم وانحل نظامها ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير ، والعزيز والذليل ، والعاجز والقادر ، والراعي والمرعي ، ثم أفقر الجميع إليه ، ثم عم الجميع برحمته.

ومن رحمته أن خلق مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والطير والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.

وتأمل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (الرحمن : ١ ـ ٤) كيف جعل الخلق والتعليم ناشئا عن صفة الرحمة متعلقا باسم الرحمن ، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٧٨) فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة ، إذ مجيء البركة كلها منه ، وبه وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه وكل ما أخلي منه نزعت منه البركة ، فإن كان مذكى وخلى منه اسمه كان ميتة ، وإن كان طعاما شارك صاحبه فيه الشيطان ، وإن كان مدخلا دخل معه فيه ، وإن كان حدثا لم يرفع عند كثير من العلماء ، وإن كان صلاة لم تصح عند كثير منهم.

ولما خلق سبحانه الرحم واشتق لها اسما من اسمه ، فأراد إنزالها إلى الأرض تعلقت به سبحانه فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال : ألا ترضين أن أقطع من قطعك وأصل من وصلك؟ وهي متعلقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل ، وكان تعلقها بالعرش رحمة منه بها ، وإنزالها إلى الأرض رحمة منه بخلقه ، ولما علم سبحانه ما تلقاه من نزولها إلى الأرض

٤٨٣

ومفارقتها لما اشتقت منه رحمها بتعلقها واتصالها بالعرش واتصالها به. وقوله : «ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» (١).

ولذلك كان من وصل رحمه لقربه من الرحمن ورعاية حرمة الرحم قد عمر دنياه واتسعت له معيشته وبورك له في عمره ونسيء له في أثره ، فإن وصل ما بينه وبين الرحمن جل جلاله مع ذلك وما بينه وبين الخلق بالرحمة والإحسان تم له أمر دنياه وأخراه ، وإن قطع ما بينه وبين الرحم وما بينه وبين الرحمن أفسد عليه أمر دنياه وآخرته ، ومحق بركة رحمته ورزقه وأثره ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له من العقوبة يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم» (٢) فالبغي معاملة الخلق بضد الرحمة ، وكذلك قطيعة الرحم ، وإن القوم ليتواصلون وهم فجرة فتكثر أموالهم ويكثر عددهم. وإن القوم ليتقاطعون فتقل أموالهم ويقل عددهم وذلك لكثرة نصيب هؤلاء من الرحمة وقلة نصيب هؤلاء منها ، وفي الحديث «إن صلة الرحم تزيد في العمر» (٣) وإذا أراد الله بأهل الأرض خيرا نشر عليهم أثرا من آثار اسمه الرحمن

__________________

(١) أخرجه البخارى (٥٩٨٧) ، ومسلم (٢٥٥٤) ، والإمام أحمد (٦ / ٦٢) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله خلق الخلق ، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت بلى يا رب.

قال : فهو لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاقرءوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) لفظ البخاري.

(٢) [صحيح] رواه أبو داود (٤٩٠٢) ، والترمذي (٢٥١١) ، وابن ماجه (٤٢١١) ، والحاكم (٢ / ٣٥٦) وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ا ه وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ا ه وصححه الألباني. وانظر «الصحيحة» له برقم (٩١٨).

(٣) رواه البخارى (٥٩٨٥ ، ٥٩٨٦) ، ومسلم (٢٥٥٧) ، عن أنس بن مالك وأبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سره أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره ؛ فليصل رحمه» ـ لفظ البخاري ـ.

وروى الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا : «صلة الرحم ، وحسن الجوار ، وحسن الخلق ، يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» أفاده الحافظ في «الفتح»

٤٨٤

__________________

وقال :

قال ابن التين : ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ، والجمع بينهما من وجهين : أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة ، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة ، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك ، ومثل هذا ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم ، فأعطاه الله ليلة القدر.

وحاصلة أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة ، والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل ، فكأنه لم يمت ، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق : العلم الذي ينتفع به من بعده ، والصدقة الجارية عليه ، والخلف الصالح.

وثانيهما : أن الزيادة على حقيقتها ، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر ، أما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى ، كأن يقال للملك مثلا : أن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها ، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع ، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر ، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ؛ فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك ، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة ويقال له القضاء المبرم ، ويقال للأول القضاء المعلق.

والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب ، فإن الأثر ما يتبع الشيء ، فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور ا ه.

وقال الطيبي : الوجه الأول أظهر ، وإليه يشير كلام صاحب «الفائق» قال : ويجوز أن يكون المعنى : أن الله يبقي أثر واصل في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم ، ومن هذه المادة قول الخليل عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ا ه.

وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله ، وقال غيره : في أعم من ذلك وفي وجود البركة في رزقه وعلمه ونحو ذلك ا ه (نقلا من «الفتح» بتصرف) (١٠ / ٤٣٠).

وللمزيد راجع «فتح البارى» كتاب «القدر».

٤٨٥

فعمر به البلاد وأحيا به العباد ، وإذا أراد بهم شرا أمسك عنهم ذلك الأثر فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن ، ولهذا إذا أراد الله سبحانه أن يخرب هذه الدار ويقيم القيامة أمسك عن أهلها أثر هذا الاسم وقبضه شيئا فشيئا ، حتّى إذا جاء وعده قبض الرحمة التي أنزلها إلى الأرض ، فتضع لذلك الحوامل في بطونها وتذهل المراضع عن أولادها فيضيف سبحانه تلك الرحمة التي رفعها وقبضها من الأرض إلى ما عنده من الرحمة فيكمل بها مائة رحمة فيرحم بها أهل طاعته وتوحيده وتصديق رسله وتابعيهم.

وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو بهوائه ، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله «سبقت رحمتى غضبي» فالمسبوق لا بد لاحق وإن أبطأ ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز.

الوجه العشرون : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقسم قسما صادقا بارا «إن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» (١) وفي هذا إثبات كمال الرحمة ، وإنها حقيقة لا مجازية ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بامرأة أصيبت في السبي وكانت كلما مرت بطفل أرضعته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟» قالوا لا يا رسول الله وهي قادرة على أن لا تطرحه فقال : «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٢) فإن كانت رحمة الوالدة حقيقة فرحمة الله أولى بأن تكون حقيقة منها ، وإن كانت رحمة الله مجازا فرحمة الوالدة لا حقيقة لها (٣).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣٠٨٩) مطولا وفيه : «فو الذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ، أرجع بهن ... الحديث وهو ضعيف الإسناد ، وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود» وما سيأتي يغني عنه.

(٢) رواه البخارى (٥٩٩٩) ، ومسلم في (التوبة : ٤ / ٢٢) من حديث عمر بن الخطاب.

(٣) ونقل الحافظ في «الفتح» كتاب «التوحيد» باب : قول الله] تبارك وتعالى : (قُلِ) ـ

٤٨٦

__________________

ـ (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ونقل البخاري بإسناده عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» ، وحديث أسامة بن زيد والذي فيه وفاة أحد ولد بناته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : ففاضت عيناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له سعد : يا رسول الله ما هذا؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».

ونقل الحافظ عن ابن بطال قال : غرضه ـ يعني البخاري ـ في هذا الباب إثبات الرحمة وهي من صفات الذات ، فالرحمن وصف ، وصف الله تعالى به نفسه وهو متضمن لمعنى الرحمة ، كما تضمن وصفه بأنه عالم معنى العلم ، إلى غير ذلك ، قال : والمراد برحمته إرادته نفع من سبق في علمه أنه ينفعه ، قال : وأسماؤه كلها ترجع إلى ذات واحدة وإن دل كل واحد منها على صفة من صفاته يختص الاسم بالدلالة عليها ، وأما الرحمة التي جعلها في قلوب عباده فهي من صفات الفعل ، وصفها بأنه خلقها في قلوب عباده ، وهي رقة على المرحوم ، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الوصف بذلك فتتأول بما يليق به ا ه.

* * *

٤٨٧

(٣) المثال الثالث في معنى : الاستواء

(المثال الثالث) في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) في سبع آيات من القرآن حقيقة عند جميع فرق الأمة إلا الجهمية ومن وافقهم ، فإنهم قالوا هو مجاز ثم اختلفوا في مجازه ، والمشهور عنهم ما حكاه الأشعرى عنهم وبدعهم وضللهم فيه بمعنى استولى أي ملك وقهر ، وقالت فرقة منهم بل معنى قصد وأقبل على خلق العرش ، وقالت فرقة أخري بل هو مجمل في مجازاته يحتمل خمسة عشر وجها كلها لا يعلم أيها المراد إلا أنا نعلم انتفاء الحقيقة عنه بالعقل ، هذا (الذي) قالوه باطل من اثنين وأربعين وجها :

(أحدها) إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه (نوعان) مطلق ومقيد. فالمطلق ما لم يوصل معنا بحرف مثل قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) (القصص : ١٤) وهذا معناه كمل وتم ، يقال استوى النبات واستوى الطعام ، وأما المقيد فثلاثة أضراب (أحدها) مقيد بإلى كقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) البقرة : ٢٩) واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة ، وقد ذكر سبحانه هذا المعدي بإلى في موضعين من كتابه في «سورة البقرة» في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (البقرة : ٢٩) والثاني في سورة «فصلت» : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (فصلت : ١١) وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله (والثاني) مقيد بعلى كقوله : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣) وقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) (هود : ٤٤) وقوله : (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) (الفتح : ٢٩) وهذا أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة (الثالث) المقرون بواو (مع) التي

٤٨٨

تعدي الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها. وهذه معانى الاستواء المعقولة في كلامهم ، وليس فيها معنى استولى البتة ، ولا نقله أحد من أئمة الذين يعتمد قولهم ، وإنما قاله متأخروا النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية. يوضحه :

الوجه الثاني : إن الذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلا ، فإنه مجاهرة بالكذب وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة استوى على استولى ، واستدلوا بقول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف أو دم مهراق

وهذا البيت ليس من شعر العرب كما سيأتي بيانه.

الوجه الثالث : إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ، ولم يجعلوه من لغة العرب. قال ابن الأعرابي وقد سئل : هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ فقال : لا تعرف العرب ذلك ، وهذا هو من أكابر أئمة اللغة.

الوجه الرابع : ما قاله الخطابي في كتابه «شعار الدين» قال : القول في أن الله مستو على عرشه ، ثم ذكر الأدلة في القرآن ثم قال : فدل ما تلوته من هذه الآي أن الله تعالى في السماء مستو على العرش ، وقد جرت عادة المسلمين خاصهم وعامهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه ويرفعوا أيديهم إلى السماء ، وذلكم لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء سبحانه.

إلى أن قال : وزعم بعضهم أن الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ؛ ولو كان الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل قطر وبقعة من السموات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تحصيصه العرش بالذكر ، ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه ، فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده؟ هذا لفظه وهو من أئمة اللغة.

٤٨٩

الوجه الخامس : إن هذا تفسير لكلام الله بالرأى المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ولا تابع ، ولا قاله إمام من أئمة المسلمين ، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون أقوال السلف ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (١).

الوجه السادس : إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون خطأ في نفسه أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف.

الوجه السابع : إن هذا اللفظ قد أطرد في القرآن والسنة حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء ، ولو كان معناه استولى لكان استعماله في أكثر مورده كذلك ، فإذا جاء موضع أو موضعان بلفظ استوى حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود ، وأما أن يأتى إلى لفظ قد أطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلي معنى لم يعهد استعماله فيه ففي غاية الفساد ، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان ، هذا لو لم يكن في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي أطرد استعماله فيه ، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك.

الوجه الثامن : إنه أتى بلفظة (ثم) التي حقيقتها الترتيب والمهلة ، ولو كان معناه معنى القدرة على العرش والاستيلاء عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض ، فإن العرش كان موجودا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام ، كما ثبت في «الصحيحين» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» (٢). وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي

__________________

(١) [ضعيف الإسناد وهو حسن لغيره] أخرجه الترمذي (٢٩٥١) ، والبغوي (١٧٦) وقال الترمذي : حديث حسن ا ه وضعفه الألبانى في «ضعيف الترمذي» «ضعيف الجامع» و «السلسلة الضعيفة» (١٧٨٣).

(٢) رواه مسلم (٢٦٥٣) ، والإمام أحمد (٢ / ١٩٦) ، والحاكم (١ / ٥).

٤٩٠

سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (هود : ٧) فكيف يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السموات والأرض.

فإن قيل : نحمل (ثم) على معنى الواو ونجردها على معنى الترتيب (قيل) هذا خلاف الأصل والحقيقة ، فأخرجتم (ثم) عن حقيقتها والاستواء عن حقيقته ولفظ الرحمن عن حقيقته. وركبتم مجازات بعضها فوق بعض.

فإن قيل : فقد يأتي (ثم) لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر ، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقا على ما قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار (قيل) هذا لا يثبت أولا ولا يصح به نقل ، ولم يأت في كلام فصيح ، ولو قدر وروده فهو نادر لا يكون قياسا مطردا تترك الحقيقة لأجله.

فإن قيل : فقد ورد في القرآن وهو أفصح الكلام ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (الأعراف : ١١) والأمر بالسجود لآدم كان قبل خلقنا ، وتصويرنا ، قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (يونس : ٤٦) وشهادته تعالي على أفعالهم سابقة على رجوعهم.

قيل : لا يدل ذلك على ما تقدم ما بعد (ثم) على ما قبلها. أما قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (الأعراف : ١١) فهو خلق أصل البشر وأبيهم ، وجعله سبحانه خلقا لهم وتصويرا إذ هو أصلهم وهم فرعه ، وبهذا فسرها السلف ، قالوا خلقنا أباكم وخلق أبي البشر خلق لهم.

وأما قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (يونس : ٤٦) فليس ترتيبا لاطلاعه على أفعالهم ، وإنما هو ترتيب لمجازاتهم عليها. وذكر الشهادة التي هي علمه ولاطلاعه ، تقريرا للجزاء على طريقة القرآن في وضع القدرة والعلم موضع الجزاء لأنه يكون بهما كما قال تعالى : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (لقمان : ٢٣) وكقوله تعالى :

٤٩١

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا. قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (فاطر : ٤٥) وهو كثير في القرآن. وهو كما يقول السيد لعبده : اعمل ما شئت فإني أعلم ما تفعله وأنا قادر عليك. وهذا أبلغ من ذكر العقاب وأعم فائدة.

فإن قيل : كيف تصنعون بقول الشاعر؟

قل لمن ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده

قلنا أي شاعر هذا حتى يحتج بقوله ، وأين صحة الإسناد إليه لو كان ممن يحتج بشعره؟ وأنتم لا تقبلون الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف تقبلون شعرا لا تعلمون قائله ولا تسندون إليه البتة.

الوجه التاسع : أن فاضلكم المتأخر لما تفطن لهذا ادعى الإجماع أن العرش مخلوق بعد خلق السموات والأرض ، فيكون المعنى أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش ، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلا ، وهو مناقض لم دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة ، فإنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء ، وهذه واو الحال أي خلقها في هذه الحال ، فدل على سبق العرش والماء للسماوات والأرض.

وفي «الصحيحين» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» (١) وأصح القولين أن العرش مخلوق قبل القلم لما في «السنن» من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما خلق الله القلم ؛ قال اكتب ، قال ما أكتب؟ قال

__________________

(١) تقدم.

٤٩٢

اكتب القدر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١) وقد أخبر أنه قدر المقادير وعرشه على الماء. وأخبر في هذا الحديث أنه قدرها في أول أوقات خلق القلم ، فعلم أن العرش سابق علي القلم ، والقلم سابق على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فادعى هذا الجهمى أن العرش مخلوق بعد خلق السموات والأرض ، ولم يكفه هذا الكذب حتى ادعى الإجماع عليه ليتأتى له إخراج الاستواء عن حقيقته.

الوجه العاشر : إن الاستيلاء والاستواء لفظان متغايران ، ومعنيان (مختلفان) فحمل أحدهما على الآخر إن ادعى أنه بطريق الوضع فكذب ظاهر ، فإن العرب لم تضع لفظ الاستواء للاستيلاء البتة ، وإن كان بطريق الاستعمال في لغتهم فكذب أيضا ، فهذا نظمهم ونثرهم شاهد بخلاف ما قالوه ، فتتبع لفظ استوى ومواردها في القرآن والسنة وكلام العرب هل تجدها في موضع واحد بمعنى الاستيلاء؟ اللهم إلا أن يكون ذلك البيت المصنوع المختلق ، وإن كان بطريق المجاز القياسي فهو إنشاء من المتكلم بهذا الاستعمال فلا يجوز أن يحمل عليه كلام غيره من الناس فضلا عن كلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوضحه :

الوجه الحادى عشر : إن القائل بأن معنى استوى بمعنى استولى شاهد على الله أنه أراد بكلامه هذا المعنى. وهذه شهادة لا علم لقائلها بمضمونها ، بل هي قول على الله بلا علم ، فلو كان اللفظ محتملا لها في اللغة وهيهات ، لم يجز أن يشهد على الله أنه أراد هذا المعني بخلاف من أخبر عن الله تعالى أنه أراد الحقيقة والظاهر ، فإنه شاهد بما أجرى الله سبحانه عادته من خطاب خلقه بحقائق لغاتهم وظواهرها كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم : ٤) فإذا كان الاستواء في لغة العرب معلوما كان هو المراد لكون الخطاب بلسانهم ، وهو المقتضى لقيام الحجة عليهم ، فإذا خاطبهم بغير ما يعرفونه كان بمنزلة خطاب العربي بالعجمية.

__________________

(١) تقدم.

٤٩٣

الوجه الثاني عشر : إن الإجماع منعقد على أن الله سبحانه استوى علي عرشه حقيقة لا مجاز ، قال الإمام أبو عمر الطلمنكي أحد أئمة المالكية ، وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر في كتابه الكبير الذي سماه «الوصول إلى معرفة الأصول» فذكر فيه من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وأقوال مالك وأئمة أصحابه ما إذا وقف عليه الواقف ، علم حقيقة مذهب السلف ، وقال في هذا الكتاب : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز.

الوجه الثالث عشر : قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب «التمهيد» في شرح حديث النزول : وفيه دليل على أن الله تعالى في السماء مستو على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة ، وقرر ذلك إلى أن قال : وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة مخصوصة وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها علي الحقيقة ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه ، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود.

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره المشهور في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) هذه المسألة للفقهاء فيها كلام ، ثم ذكر قول المتكلمين ثم قال : وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق في كتابه ، وأخبرت به رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول.

الوجه الرابع عشر : إن الجهمية لما قالوا إن الاستواء مجاز صرح أهل السنة بأنه مستو بذاته على عرشه وأكثر من صرح بذلك أئمة المالكية ، فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه أشهرها «الرسالة» ، وفي كتاب «جامع النوادر» ، وفي كتاب «الآداب» فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه.

٤٩٤

وصرح بذلك القاضى عبد الوهاب وقال إنه استوى بالذات على العرش ، وصرح به القاضى أبو بكر الباقلانى وكان مالكيا حكاه عنه القاضى عبد الوهاب أيضا ، وصرح به عبد الله القرطبي في كتاب «شرح أسماء الله الحسنى» فقال ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد جماعة من شيوخ الفقه والحديث وهو ظاهر كتاب القاضى عبد الوهاب عن القاضى أبي بكر وأبى الحسن الأشعرى ، وحكاه القاضى عبد الوهاب عن القاضى أبي بكر نصا ، وهو أنه سبحانه مستو على عرشه بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه ، قال : وهذا قول القاضى أبي بكر في «تمهيد الأوائل» له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ، وقول الخطابي في «شعار الدين».

وقال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في «شرح رسالة ابن أبي زيد» قوله : إنه فوق عرشه المجيد بذاته ، معنى فوق وعلى ، عند جميع العرب واحد ، وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديق ذلك ، ثم ذكر النصوص من الكتاب والسنة ، واحتج بحديث الجارية وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها «أين الله؟» (١) وقولها : في السماء ، وحكمه بإيمانها ، وذكر حديث الإسراء ثم قال : وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها ، قال الشيخ أبو محمد إنه بذاته فوق عرشه المجيد.

فتبين أن علوه على عرشه وفوقه إنما هو بذاته إلا أنه باين من جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها ـ إلي أن قال ـ : قوله على العرش استوى إنما معناه عند أهل السنة على غير معنى الاستيلاء والقهر والغلبة الملك ، الذي ظنت المعتزلة ومن قال

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في «صحيح مسلم».

٤٩٥

بقولهم إنه معنى الاستواء ، وبعضهم يقول إنه على المجاز لا على الحقيقة قال : ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره ما قد علمه أهل المعقول إنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها وكان العرش وغيره في ذلك سواء ، فلا معنى تأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء ، وملك وقهر ، وغلبة ؛ قال : وذلك أيضا يبين إنه على الحقيقة بقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (النساء : ١٢٢) فلما رأى المصنفون إفراد ذكره بالاستواء على العرش بعد خلق السموات وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أن الاستواء غير الاستيلاء فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه وإنه على الحقيقة لا على المجاز ، لأنه الصادق في قيله ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله إذ ليس كمثله شيء ـ هذا لفظه في شرحه.

(تفسير الأشعرى للاستواء)

الوجه الخامس عشر : إن الاشعري حكى إجماع أهل السنة على بطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء ، ونحن نذكر لفظه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب «تبيين كذب المفتري» وحكاه قبله أبو بكر بن فورك وهو موجود في كتبه. قال في كتاب «الإبانة» وهي آخر كتبه قال :

باب «ذكر الاستواء» : إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول له إن الله تعالى مستو على عرشه كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) وساق الأدلة على ذلك ثم قال : وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أنه استولى وملك وقهر وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ، ولو كان هذا كما قالوا لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى ، لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم ، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستويا على الأرض والحشوش والأنتان والأقذار لأنه قادر على الأشياء كلها ، ولم نجد أحدا من المسلمين يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية فلا يجوز أن يكون

٤٩٦

معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلها ، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء ، وهكذا قال في كتابه «الموجز» وغيره من كتبه.

الوجه السادس عشر : إن هذا البيت محرف وإنما هو هكذا :

بشر قد استولى على العراق

هكذا لو كان معروفا من قائل معروف ، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها.

الوجه السابع عشر : أنه لو صح هذا البيت وصح أنه غير محرف لم يكن فيه حجة بل هو حجة عليهم ، وهو على حقيقة الاستواء ، فإن بشرا هذا كان أخا عبد الملك بن مروان وكان أميرا على العراق فاستوى على سريرها كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه ، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة كقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣) ، وقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) (هود : ٤٤) وقوله : (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) (الفتح : ٢٩) وفي «الصحيح» «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ملبيا» (١).

وقال علي : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الغرز قال «بسم الله» ، فلما استوى علي ظهرها قال : «الحمد لله» (٢) فهل نجد في هذه المواضع موضعا واحدا أنه بمعنى الاستيلاء والقهر.

الوجه الثامن عشر : إن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه كما قال تعالى في السفينة (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) أي رست عليه واستقرت على ظهره ، قال تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) وقال في الزرع

__________________

(١) رواه مسلم (١٣٤٢) ، والترمذي (٣٤٤٦) ، وأحمد (١ / ٩٧).

(٢) المصدر السابق.

٤٩٧

(فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) فإنه قبل ذلك يكون فيه ميل واعوجاج لأجل ضعف سوقه ، وإذا استغلظ الساق واشتدت السنبلة استقرت ومنه : قد استوى بشر على العراق.

فإنه يتضمن استقراره وثباته عليها ودخوله دخول مستقر ثابت غير مزلزل ، وهذا يستلزم الاستيلاء أو يتضمنه ، فالاستيلاء لازم معنى الاستواء لا في كل موضع ، بل في الموضع الذي يقتضيه ، ولا يصلح الاستيلاء في كل موضع يصلح فيه الاستواء ، بل هذا له موضع ، وهذا له موضع ولهذا لا يصلح أن يقال استولت السنبلة على ساقها ، ولا استولت السفينة على الجبل ؛ ولا استولى الرجل على السطح إذا ارتفع فوقه.

الوجه التاسع عشر : إنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك لكان المستوي على العراق عبد الملك بن مروان لا أخوه بشر ، فإن بشرا لم يكن ينازع أخاه الملك ولم يكن ملكا مثله ، وإنما كان نائبا له عليها وواليا من جهته ، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر ، بخلاف الاستواء الحقيقي وهو الاستقرار فيها والجلوس على سريرها ؛ فإن نواب الملوك تفعل هذا بإذن الملوك.

الوجه العشرون : إنه لا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بل بينه وبينها بعد كثير : أنه قد استوى عليها ، فلا يقال استوى أبو بكر على الشام ولا استوى عمر على مصر والعراق ، ولا قال أحد قط استوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على اليمن مع أنه استولى هو وخلفاؤه على هذه البلاد ، ولم يزال الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات ، ويتوسعون في نظمهم واستعارتهم ، فلم يسمع عن قديم منهم ، جاهلي ولا إسلامي ولا محدث أنه مدح أحدا قط أنه استوى على البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه ، فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة.

الوجه الحادي والعشرون : إنه إذا دار الأمر بين تحريف لغة العرب وحمل لفظها على معنى لم يعهد استعماله فيه البتة ، وبين حمل المضاف المألوف حذفه كثيرا

٤٩٨

إيجازا واختصارا ، فالحمل على حذف المضاف أولى ، وهذا البيت كذلك ، فإنا إن حملنا لفظ استوى فيه على استولى حملناه على معنى لم يعهد استعماله فيه البتة ، وإن حملناها على حذف المضاف وتقديره قد استوى على سرير العراق حملناه على معهود مألوف ، فيقولون قعد فلان على سرير الملك ، فيذكرون المضاف إيضاحا وبيانا ، ويحذفون تارة إيجازا واختصارا ، إذ قد علم المخاطب أن القعود والاستواء والجلوس الذي يضاف ويقصد به الملك يستلزم سرير الملك. فحذف المضاف أقرب إلى لغة القوم من تحريف كلامهم ، وحمل لفظ على معنى لفظ آخر لم يعهد استعماله فيه.

الوجه الثاني والعشرون : إنه كيف يجوز أن ينزل الله بآيات متعددات في كتابه الذي أنزله بلسان العرب ، ويكون معنى ذلك الخطاب مشهورا على لغتهم معروفا في عادة نظامهم ، فلا يريد ذلك المعنى ويأتي بلفظ يدل على خلافه ويطرد استعماله في موارده كلها بذلك اللفظ الذي لم يرد معناه ، ولا يذكر في موضع واحد باللفظ الذي يريد معناه ، فمن تصور هذا جزم ببطلانه وإحالة نسبته إلى من قصده البيان والهدى.

الوجه الثالث والعشرون : إنه لو أريد ذلك المعنى المجازي لذكر في اللفظ قرينة تدل عليه فإن المجاز إن لم يقترن به قرينة وإلا كانت دعواه باطلة لأنه خلاف الأصل ولا قرينة معه ، ومعلوم أنه ليس في موارد الاستواء في القرآن والسنة موضع واحد قد اقترنت به قرينة تدل على المجاز ، فكيف إذا كان السياق يقتضي بطلان ما ذكر من المجاز ، وأن المراد هو الحقيقة.

الوجه الرابع والعشرون : إن تجريد الاستواء من اللام واقترانه بحرف على وعطف فعله بثم على خلق السموات والأرض ، وكونه بعد أيام التحليق وكونه سابقا في الخلق على السموات والأرض ، وذكر تدبير أمر الخليقة معه الدال على كمال الملك ، فإن العرش سرير المملكة ، فأخبر أن له سريرا كما قال أمية :

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

٤٩٩

بالبنا الأعلى الذي سبق الخل

ق وسوّى فوق السماء سريرا

وصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنشده الأسود بن سريع ؛ فقد استوى على سرير ملكه يدبر أمر الممالك. وهذا حقيقة الملك ، فمن أنكر عرشه وأنكر استواءه عليه ، أو أنكر تدبيره ، فقد قدح في ملكه ، فهذه القرائن تفيد القطع بأن الاستواء على حقيقته كما قال أئمة الهدى.

الوجه الخامس والعشرون : إنه لو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لجاز أن يقال استوى على ابن آدم ، وعلى الجبل ، وعلى الشمس ، وعلى القمر وعلى البحر والشجر والدواب ، وهذا لا يطلقه مسلم.

فإن قيل : هذا جائز وإنما خصص العرش بالذكر لأنه أجل المخلوقات وأرفعها وأوسعها ، فتخصيصه بالذكر تنبيه على ما دونه (قيل) لو كان هذا صحيحا لم يكن ذكر الخاص منافيا لذكر العام ، ألا ترى أن ربوبيته لما كانت عامة للأشياء لم يكن تخصيص العرش بذكره منها كقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة : ١٢٩) مانعا من تعميم إضافته كقوله : (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ١٦٤) فلو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لكان لم يمنع إضافته إلى العرش إضافته إلى كل ما سواه ، وهذا في غاية الظهور.

الوجه السادس والعشرون : إنه إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى هذه الآيات كلها إلى أن الله تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه ، أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله بكلامه أن ينسب ذلك إليه ، وأنه أراده بقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) أي اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت عليه.

الوجه السابع والعشرون : إن أعلم الخلق به قد أطلق عليه أنه فوق عرشه كما في حديث ابن عباس والله فوق العرش ، وفي حديث عبد الله بن رواحه الذي صححه ابن عبد البر وغيره.

٥٠٠