مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

عليها ، وإثبات المعنى القائم بالنفس وغير ذلك ، فعلى هذا الفرق تكون هذه المسائل ونحوها فرعية وتلك المسائل العملية أصولية.

(قال) وقيل : الأصل ما لا يجوز التعبد فيه إلا بأمر واحد معين والفرع بخلافه.

(قلت) وهذا الفرق أفسد من الأول فإن أكثر الفروع لا يجوز التعبد فيها إلا بالمشروع على لسان كل نبي ، فلا يجوز التعبد بالسجود للأصنام وإباحة الفواحش وقتل النفوس والظلم في الأموال ، وانتهاك الأعراض وشهادات الزور ونحو ذلك ، وإن كان نفاة التحسين والتقبيح يجوزون التعبد بذلك ، ويقولون يجوز أن تأتي الشرائع من عند الله تعالى بذلك ، فقولهم من أبطل الباطل ، وقد ذكرنا فساده من أكثر من ستين وجها في غير هذا الكتاب ، وإنه مما يعلم بطلانه بالضرورة.

* * *

فصل

قال : وقيل : الأصل ما يجوز أن يعلم من غير تقديم ورود الشرع والفرع بخلافه ، وهذا الفرق أيضا في غاية الفساد ، فإن أكثر المسائل التي يسمونها أصولا لم تعلم إلا بعد ورود الشرع ، كاقتضاء الأمر للوجوب والنهي للتحريم ، وكون القياس حجة وكون الإجماع حجة ، بل أكثر مسائل أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع ، فجواز رؤية الرب تبارك وتعالى يوم القيامة واستواؤه على عرشه بخلاف مسألة علوه فوق المخلوقات بالذات فإنها فطرية ضرورية ، وأكثر مسائل المعاد وتفصيله لا يعلم قبل ورود الشرع ، ومسائل عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين وغير ذلك من مسائل الأصول التي لا تعلم قبل ورود الشرع.

وقال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني : كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلا ، فهي من الأصول ، عقلية كانت أو شرعية والفرع ما لا يحرم الخلاف فيه أو ما لا يأثم المخطئ فيه ، وهذا وإن كان أقرب

٧٦١

مما قبله باطل أيضا ، فإن كان كثيرا من مسائل الفروع قطعيا وإن كان فيها خلاف وإن كان لا يأثم المخطئ فيها لخفاء الدليل عليه وإن كان قطعيا فلا يلزم الاشتراك في القطعيات ، وقد سلم القاضي ذلك فيما إذا خفي عليه النص.

* * *

فصل

وقد ذكر بعضهم ، فرقا آخر فقال : «الأصوليات» : هي المسائل العمليات ، «والفروعيات» هي المسائل العلمية المطلوب منها أمران : العلم والعمل ، والمطلوب من «العمليات» العلم والعمل أيضا ، وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته ، وبغضه الباطل الذي يخالفها ، فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه وذلك عمل بل هو أصل العمل ، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان ، حيث ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال ، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه ، فإن كثيرا من الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير شاكين فيه ، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه.

فلا تهمل هذا الموضوع فإنه مهم جدا ، به تعرف حقيقة الإيمان.

فالمسائل العلمية عملية ، والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل.

وفرّق آخرون بين الأصول والفروع بأن مسائل الأصول هي التي يكفر جاحدها كالتوحيد والرسالة والمعاد وإثبات الصفات ، ومسائل الفروع ما لا يكفر جاحدها ، كوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة واشتراط الطمأنينة ووجوب مسح الرأس كله في الوضوء ونحو ذلك ، وهذا الفرق غير مطرد ولا منعكس ، فإن

٧٦٢

كثيرا من مسائل الفروع يكفر جاحدها ، وكثير من مسائل الأصول لا يكفر جاحدها كما تقدم بيانه.

وأيضا فالتكفير حكم شرعي ، فالكافر من كفره الله ورسوله ، والكفر جحد ما علم أن الرسول جاء به ، سواء كان من المسائل التي تسمونها عملية أو علمية ، فمن جحد ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين وجله.

وفرق آخرون بين الأصول والفروع بأن الأصول ما تتعلق بالخبر ، والفروع ما تتعلق بالطلب ، وهذا الفرق غير خارج عن الفروق المتقدمة ، وهر فاسد أيضا ، فإن العبد مكلف بالتصديق بهذا وهذا ، وعلما وإيمانا وحبا ورضا ، وموالاة عليه ومعاداة كما تقدم.

وفرق آخرون بينهما بأن مسائل الأصول هي ما لا يسوغ التقليد فيها ، ومسائل الفروع يجوز التقليد فيها ، وهذا مع أنه دور ممتنع فإنه يقال لهم : ما الذي يجوز فيه التقليد؟ فيقولون مسائل الفروع ، والذي لا يجوز التقليد فيه مسائل الأصول ، وهو أيضا فاسد طردا وعكسا ، فإن كثيرا من مسائل الفروع لا يجوز التقليد فيها كوجوب الطهارة والصلاة والزكاة وتحريم الخمر والربا والفواحش والظلم ، فإن من لم يعلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بذلك وشك فيه لم يعرف أنه رسول ، كما أن من لم يعلم أنه جاء بالتوحيد وتصديق المرسلين وإثبات معاد الأبدان وإثبات الصفات والعلو والكلام ، لم يعرف كونه مرسلا فكثير من المسائل الخبرية الطلبية يجوز فيها التقليد للعاجز عن الاستدلال ، كما أن كثيرا من المسائل العملية لا يجوز فيها التقليد.

فتقسيم الدين إلي ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به تقسيم غير مطرد ، ولا منعكس ولا عليه دليل صحيح.

وأيضا فالتقليد قبول قول الغير بغير حجة ، ومن قبل قول غيره فيما يحكيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جاء به خبرا أو طلبا ، فإنما قبل قوله لما أسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه حجة لكن تقدير مقدماتها ودفع الشبه المعارضة لها قد لا يقدر

٧٦٣

عليه كل أحد ، فما كل من عرف الشيء بدليله أمكنه تقريره بجميع مقدماته والتعبير عنه ولا دفع المعارض له. فإن كان العجز عنه تقليدا كان جمهور الأمة مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة والمعاد ، وإن يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة والمعاد ، وإن لم يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في أكثر الأحكام العملية التي يحتاجون إليها ، وهذا هو الحق ، فإن جمهور الأمة مبني تعبداتها وتحريمها وتحليلها على ما علمته من نبيها بالضرورة ، وأنه جاء به ، ولو سئلت عن تقريره لعجز عنه أكثرهم كما يجزم بالتوحيد ، وأن الله فوق خلقه ، وأن القرآن كلامه ، وأنه يبعث من في القبور ، ولو سئل عن ذلك لعجز عنه أكثرهم.

* * *

(فصل)

وأما المقام السادس : وهو أن الظن المستفاد من أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زعمهم أقوى من الجزم المستند إلى تلك القضايا الوهمية ، فهذا يعرفه من عرف هذا وهذا ، ومن لا خبرة له بالأمرين يسمعهم يقولون لقضاياهم الباطلة : قواطع عقلية وبراهين يقينية ، ويقولون لنصوص القرآن والسنة : ظواهر سمعية لا تفيد اليقين ، قد يقع له صحة قولهم تقليدا لهم وإحسانا للظن بهم ، واستنادا إلى بعض الشبه التي يذكرونها وأما المستبصر فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما عند القوم فإنه يجزم بالضرورة أن الأمر بخلاف ذلك ، وأن قضاياهم التي خالفوا فيها النصوص لا تفيد علما ولا ظنا البتة ، بل يقولون : صريح العقول والفطر تشهد بكذبها وبطلانها ، وإن اتفق عليها طائفة كثيرة ، فأكثر طوائف أهل الباطل جميعهم تجد كل طائفة منهم متفقين على ما هو معلوم الفساد بضرورة العقل وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فالمتكلمون كل طائفة منهم تشهد على مخالفيها بأنهم خالفوا صريح المعقول والفطرة ، وقد ذكرنا من ذلك طرفا فيما تقدم من هذا الكتاب مما خالف المتكلمون والفلاسفة صريح المعقول فيه.

والعجب أنك ترى كثيرا منهم يقطع بالقول ويكفر من خالفه ثم يقطع هو بخلافه أو يتوقف فيه ، وهذا كثير فيهم جدا.

٧٦٤

قال أبو المظفر السمعاني : كل فريق من المبتدعة يعتقد أن ما يقوله هو الحق الذي كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لأن كلهم يدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر شعارها يرون أن ما جاء به محمد هو الحق غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك ، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام ، وأن الحق الذي قام به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يعتقده وينتحله.

غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف ، وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذه الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث.

وأما سائر الفرق فطلبوا الدين بغير طريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم ، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم ، فإن استقام لهم قبلوه ، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه ، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم ، وجعلوا السنة تحت أقدامهم.

وأما أهل السنة فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم ، وطلبوا (الدين) من قبلها وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم وآرائهم عرضوه على الكتاب والسنة ، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم له ، وإن وجدوا مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم ، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق ، ورأي الإنسان قد يكون حقا وقد يكون باطلا.

وهذا قول أبي سليمان الدارني وهو أوحد أهل زمانه قال : ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت عليه شاهدين من الكتاب والسنة ، فإن أتي بهما وألا رددته.

(قال) ومما يدل أن أهل الحديث على الحق أنك لو اطلعت جميع كتبهم

٧٦٥

المصنفة من أولها إلى آخرها ، قديمها وحديثها ، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار ، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار في باب الاعتقاد علي وتيرة واحدة ، ونمط واحد ، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها ، قلوبهم في ذلك على قلب واحد ، ونقلهم لا ترى فيه اختلافا ولا تفرقا في شيء ما ، وإن قل ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد ، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (آل عمران : ١٠٣).

وأما إذا نظرت إلى أهل البدع رأيتهم متفرقين مختلفين شيعا وأحزابا ، ولا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد ، يبدع بعضهم بعضا ، بل يرتقون إلى التكفير ، يكفر الابن أباه ، والأخ أخاه ، والجار جاره ، وتراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر : ١٤) أو ما سمعت بأن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللون يكفر البغداديون منهم البصريين ، والبصريون البغداديين ، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي وابنه أبا هاشم وأصحابه ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أبا علي وأصحابه ، وكذلك سائر رءوسهم وأصحاب المقالات منهم إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ، وكذلك الخوارج والرافضة فيما بينهم ، وسائر المبتدعة كذلك ، وهل على الباطل أظهر من هذا؟ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) (الأنعام : ١٥٩) فبرأ الله رسوله من أهل هذا التفرق والاختلاف.

(قال) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل ، فأورثهم الاتفاق والائتلاف ، وأهل البدع أخذوا الدين

٧٦٦

من عقولهم فأورثهم التفرق والاختلاف ، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما تختلف ، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما المعقولات والخواطر ، والآراء فقلما تتفق ، بل عقل كل واحد ورأية وخاطره يري صاحبه غير ما يري الآخر.

قال وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مسائل الفروع اختلاف العقائد في الأصول ، فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم اختلفوا بعده في أحكام الدين ، فلم يتفرقوا ولم يكونوا شيعا ، لأنهم لم يفارقوا الدين ، ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة كمسألة الجد والمشركة وذوي الأرحام وأمهات الأولاد وغير ذلك ، فصاروا باختلاف في هذه الأشياء محمودين ، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة لهذه الأمة حيث أيدهم بالتوفيق واليقين ، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه ذي التنزيل والسنة ، وكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح ، وبقيت بينهم إخوة الإسلام ، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة ، فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية أصحابها إلى النار وصاروا أحزابا انقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة ، وهذا يدل على أن التنائي والفرقة إنما حدث في المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان ألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضها بعضا بالكفر ، فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس واختلفوا ، ولم يورث هذا الاختلاف بينهم عداوة ولا نقصا ولا تفرقا ، بل بقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة ، والرحمة والشفقة ، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يجوز النظر فيها ، والآخر يقول من تلك الأقوال ما لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة ، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع ، وربما ارتقى إلى التكفير ، علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء ، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها.

إن لله تعالى شرطا في تمسكنا بالإسلام أن نصبح في ذلك إخوانا ، فقال

٧٦٧

تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (آل عمران : ١٠٣).

قال (فإن قال قائل) الخوض في مسائل القدر والصفات والإيمان يورث التقاطع والتدابر فيجب طرحها والإعراض عنها على ما قررتم.

(فالجواب) إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة ، فأما هذه المسائل فلا بد من قبولها على ما ثبت به النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد وإظهار الشهادتين ، وقد بينا أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث وأن الحق فيما رووه ونقلوه.

(فإن قال قائل) أنتم سميتم أنفسكم أهل السنة وما نراكم في ذلك إلا مدعين لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل اتباع السنة ، وتنسب من خالفها إلى البدعة وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق ، وكلنا في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون ، ولستم بأولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة أو من إجماع المعقول.

(فالجواب) أن الأمر على ما زعمتم أنه لا يصح لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة ، وهما لنا قائمتان بحمد لله ، ومنه قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر : ٧) فأمرنا اتباعه وطاعته فيما سنه وأمر به وما نهى عنه وما حكم به ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (١) وقال «ومن رغب عن سنتي فليس مني ، ومن أحب سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة» (٢) فعرفنا سنته ووجدناها بهذه الآثار المشتهرة التي رويت بالأسانيد الصحيحة المتصلة التي نقلها حفاظ العلماء وثقاتهم بعضهم عن بعض.

__________________

(١) [صحيح] رواه ابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٣٠) ، وصححه الألباني في «ظلال الجنة».

(٢) رواه البخاري (٥٠٦٣) ، ومسلم (١٤٠١).

٧٦٨

ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب وفيها أرغب ، ولها أجمع ، ولأصحابها أتبع ، فعلمنا يقينا أنهم أهلها دون من عداهم من جميع الفرق ، فإن صاحب كل حرفة أو صناعة إن لم يكن معه دلالة أو آلة من آلات تلك الصناعة والحرفة ثم ادعى تلك الصناعة كان في دعواه مبطلا ، فإذا كانت معه آلات الصناعة والحرفة شهدت له تلك الآلات بضاعة ، بل شهد له كل من غايته قبل الاختبار ، كما إذا رأيت رجلا قد فتح باب دكانه على بز علمت أنه بزاز ، أو على تمر علمت أنه تمار ، أو على عطر علمت أنه عطار ، أو إذا رأيت بين يديه الكير والسندان والمطرقة علمت أنه حداد ، وكل صاحب صنعة يستدل على صناعته بآلته فحكم له بها بالمعاينة من غير اختيار ، فلو رأيت بين يدي إنسان قدوما أو منشارا ومثقبا وهو مستعد للعمل بها ثم سميته خياطا جهلت ، ولو قال صاحب التمر لصاحب العطر : أنا عطار وصاحب البناء للبزاز : أنا بزاز قال له كذبت وصدقه الناس علي تكذيبه ، ثم كل صاحب صنعة وحرفة يفتخر بصناعته ويجالس أهلها ويألفهم ويستفيد منهم ويحرص على بلوغ الغاية في صناعته ، وأن يكون فيها أستاذا ، ورأينا أصحاب الحديث قديما وحديثا هم الذين رحلوا في هذه الآثار وطلبوا فأخذوها من معادنها وحفظوها واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها ، وعابوا من خالفهم وكثرت عندهم وفي أيديهم ، حتى اشتهروا بها كما يشتهر أصحاب الحرف والصناعات بصناعتهم وحرفهم ، ثم رأينا قوما انسلخوا من حفظها ومعرفتها وتنكبوا عن اتباع صحيحها وشهيرها ، وغنوا عن صحبة أهلها ، وطعنوا فيها وفيهم ، وزهدوا الناس في حقها وضربوا لها ولأهلها أسوأ الأمثال ، ولقبوهم أقبح الألقاب ، فسموهم نواصب ومشبهة وحشوية ومجسمة ، فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة والشواهد القائمة أن أولئك أحق بها من سائر الفرق.

ومعلوم أن الاتباع هو الأخذ بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي صحت عنه والخضوع لها والتسليم لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجدنا أهل الأهواء بمعزل عن ذلك ، فهذه علامة ظاهرة ودليل واضح يشهد لأهل السنة باستحقاقها ، وعلى أهل البدع والأهواء بأنهم ليسوا من أهلها.

(قلت) ولهم علامات أخر منها : أن أهل السنة يتركون أقوال الناس لها ،

٧٦٩

وأهل البدع يتركونها لأقوال الناس ، ومنها : أن أهل السنة يعرضون أقوال الناس عليها فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه ، وأهل البدع يعرضونها على آراء الرجال ، فما وافق آراءهم منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأولوه ، ومنها : أن أهل السنة يدعون عند التنازع إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها ، وأهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها ، ومنها : أن أهل السنة إذا صحت لهم السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتوقفوا عن العمل بها واعتقاد موجبها على أن يوافقها موافق ، بل يبادرون إلى العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها ، وقد نص الشافعي على ذلك في كثير من كتبه ، وعاب على من يقول لا أعمل بالحديث حتى أعرف من قال به ذهب إليه ، بل الواجب على من بلغته السنة الصحيحة أن يقبلها وأن يعاملها بما كان يعاملها به الصحابة حين يسمعونها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل نفسه منزلة من سمعها منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الشافعي : وأجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ، وهذا من أعظم علامات أهل السنة أنهم لا يتركونها إذ ثبتت عندهم لقول أحد من الناس كائنا من كان.

ومنها : أنهم لا ينتسبون إلى مقالة معينة ولا إلى شخص معين غير الرسول فليس لهم لقب يعرفون به ولا نسبة ينتسبون إليها ، إذا انتسب سواهم إلى المقالات المحدثة وأربابها كما قال بعض أئمة أهل السنة وقد سئل عنها فقال : السنة ما لا اسم له سوى السنة وأهل البدع ينتسبون إلى المقالة تارة كالقدرية والمرجئة ، وإلى القائل تارة كالهاشمية والنجارية والضرارية ، وإلى الفعل تارة كالخوارج والروافض ، وأهل السنة بريئون من هذه النسب كلها ، وإنما نسبتهم إلى الحديث والسنة ، ومنها : أن أهل السنة إنما ينصرون الحديث الصحيح والآثار السلفية وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم ومنها : أن أهل السنة إذا ذكروا السنة وجردوا الدعوة إليها نفرت من ذلك قلوبهم أهل البدع فلهم نصيب من قوله تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (الإسراء : ٤٦) وأهل البدع إذا ذكرت لهم شيوخهم ومقالاتهم استبشروا بها فهم كما قال تعالي : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

٧٧٠

وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر : ٤٥).

ومنها : أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة وربهم تعالى وسع كل شيء رحمة وعلما ، وأهل البدع يكذبون بالحق ويكفرون الخلق ، فلا علم عندهم ولا رحمة ، وإذا قامت عليهم حجة أهل السنة عدلوا إلى حبسهم وعقولهم إذا أمكنهم ، ورثوا فرعون فإنه لما قامت عليه حجة موسى ولم يمكنه عنها جواب قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ، ومنها : أن أهل السنة إنما يوالون ويعادون على سنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل البدع يوالون ويعادون على أقوال ابتدعوها ، ومنها : أن أهل السنة لم يؤصلوا أصولا حكموها وحاكموا خصومهم إليها وحكموا على من خالفها بالفسق والتكفير ، بل عندهم الأصول كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان عليه الصحابة.

ومنها : أن أهل السنة إذا قيل لهم قال الله قال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقفت قلوبهم عند ذلك ولم تعده إلى أحد سواه ، ولم تلتفت إلى ما ذا قال فلان وفلان ، وأهل البدع بخلاف ذلك.

ومنها : أن أهل البدع يأخذون من السنة ما وافق أهواءهم ، صحيحا كان أو ضعيفا ويتركون ما لم يوافق أهواءهم من الأحاديث الصحيحة ، فإذا عجزوا عن رده نفوه عوجا بالتأويلات المستنكرة التي هي تحريف له عن مواضعه ، وأهل السنة لهم هوى في غيرها.

* * *

فصل

(اختلاف درجة الدليل باختلاف فهم المستدل)

وأما المقام السابع : وهو أن كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل ، ليس هو صفة للدليل في نفسه ، فهذا أمر لا ينازعه فيه عاقل ، فقد يكون قطعيا عند زيد ما هو ظني عند عمرو ، فقولهم إن أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم ، بل هي

٧٧١

ظنية هو إخبار عما عندهم ، إذا لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم ، فقولهم لم نستفد بها العلم ، لم يلزم منها النفي العام على ذلك بمنزلة الاستدلال على أن الواجد للشيء العالم به غير واجد له ولا عالم به ، فهو كمن يجد من نفسه وجعا أو لذة أو حبا أو بغضا فينتصب له من يستدل على أنه غير وجع ولا متألم ولا محب ولا مبغض ، ويكثر له من الشبه التي غايتها إني لم أجد ما وجدته ، ولو كان حقا لاشتركت أنا وأنت فيه ، وهذا عين الباطل ، وما أحسن ما قيل :

أقول للائم المهدي ملامته

ذق الهوى وإن استطعت الملام لم

فيقال له اصرف عنايتك إلى ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحرص عليه وتتبعه وجمعه ومعرفة أحوال نقلته وسيرتهم ، وأعرض عما سواه واجعله غاية طلبك ونهاية قصدك بل احرص عليه حرص أتباع أرباب المذاهب على معرفة مذاهب أئمتهم بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهبهم وأقوالهم ، ولو أنكر ذلك عليهم منكر لسخروا منه ؛ وحينئذ تعلم هل تفيد أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلم أو لا تفيده فأما مع إعراضك عنها وعن طلبها فهي لا تفيدك علما ، ولو قلت لا تفيدك أيضا ظنا لكنت مخبرا بحصتك ونصيبك منها.

* * *

فصل

(انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد)

وأما المقام الثامن : وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضه عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ، ثم تلقاها عنه جميع التابعين من أولهم إلي آخرهم ، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم ، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك وكذلك تابع التابعين مع التابعين.

هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم ونقلهم ذلك عن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كنقلهم الوضوء والغسل من الجنابة وأعداد

٧٧٢

الصلوات وأوقاتها ، ونقل الأذان والتشهد والجمعة والعيدين ، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات ، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرنا ؛ وحينئذ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم البتة ، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل ، على أن كثيرا من القادحين في دين الإسلام قد طردوا وقالوا لا وثوق لنا بشيء من ذلك البتة.

قالوا : وأظهر شيء الأذان والإقامة ، وقد اختلفوا عليه فيهما ، هل يرجع أم لا؟ ويثني الإقامة أو يفرد ، وهذا تشهد الصلاة قد اختلف فيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجوده ، وكذلك جهره بالبسملة وإخفاؤها ، وهو من أظهر الأمور ، يفعل في اليوم والليلة خمس مرات بحضرة الجمع.

قالوا : وأظهروا من ذلك حجة الوداع فإنها حجة واحدة ، وقد شاهده الجمع العظيم والجم الغفير ، فهذا يقول أفرد ، وهذا يقول تمتع ، وهذا يقول قرن ، فكيف لنا بعد ذلك بالوثوق بشيء من الأحاديث ، فلذلك أطرحناها رأسا ، فهؤلاء أعطوا الانسلاخ من السنة والدين حقه ، وطرّدوا كفرهم وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم ، وتقسمت الفرق قولهم هذا في رد الأحاديث (فطائفة) ردتها رأسا وجوزت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخطأ والغلط. وهؤلاء سلف الخوارج الذين قدح رئيسهم في فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له أعدل ، فإنك لم تعدل (١) وقال له الآخر : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله (٢) فقدح هذا في قصده وقدح الآخر في حكمه وعدله.

وطائفة أخرى قالوا : لا نقبل منها إلا ما وافق القرآن ، وما لا يشهد له القرآن فإنا نرده ولا نقبله ، وهذه الطائفة هم الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوشك الرجل أن يكون شبعان متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى فيقول : بيننا

__________________

(١) رواه البخاري (٦١٦٣) ، ومسلم (١٠٦٣).

(٢) رواه البخاري (٣١٥٠ ، ٣٤٠٥).

٧٧٣

وبينكم القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه : ألا وإن ما حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما حرم الله» (١) وفي «السنن» من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله ، كما حرم الله» (٢) وممن أحسن الرد علي هذه الطائفة الشافعي رحمه‌الله في كتاب «جماع العلم» ، و «إبطال الاستحسان» وفي «الرسالة» وغيرها.

وطائفة ثالثة قالت : نقبل من الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواترها ونرد آحادها ، سواء كان مما يقتضي علما أو عملا ، وقد ناظر الشافعي بعض أهل زمانه في ذلك ، فأبطل الشافعي قوله وأقام عليه الحجة ، وعقد في «الرسالة» بابا أطال فيه الكلام في تثبيت خبر الواحد ولزوم الحجة به ، وخروج من رده عن طاعة الله ورسوله ، ولم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات ، ولا يعرف هذا الفرق عن أحد من الصحابة ولا عن أحد التابعين ، ولا من تابعهم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ، وإنما يعرف عن رءوس أهل البدع ومن تبعهم.

وطائفة رابعة : ردت أخبار الصحابة كلهم إلا ما كان من أخبار أهل البيت وشيعتهم خاصة ، وهذا مذهب الرافضة ، فلم يقبل هؤلاء قول أبي بكر وعمر وعثمان.

وطائفة خامسة : ردت أخبار المقتتلين يوم الجمل وصفين ، وقبلت خبر غيرهم قالوا لأنه قد فسق إحدى الطائفتين وهي غير معينة فلا يقبل خبرها ويقبل خبر غيرها.

وطائفة سادسة : قبلت خبر الأربعة بشرط تنائي بلدانهم ، وأن يكون كل واحد

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

٧٧٤

منهم قبله عن غير الذي قبله صاحبه ، ثم قبله عنه من أداه إلينا ممن لم يقبل عن صاحبه ، حكاه الشافعي عمن ناظره عليه ورده إذا لم يكن على هذه الصفة.

قال الشافعي : فقلت له : أرأيت لو لقيت رجلا من أهل بدر وهم المقدمون ممن أثنى الله عليهم في كتابه ، فأخبرك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكان يلزمك أن تقول به؟ قال : لا يلزمنى ، لأنه قد يمكن في الواحد الغلط والنسيان ، ثم أخذ الشافعي في إبطال هذا المذهب.

وطائفة سابعة : قبلت خبر الواحد إذا لم يكن بين الصحابة نزاع في مضمونه وردته إذا تنازعوا في حكمه ، حكاه الشافعي أيضا ورده.

وطائفة ثامنة : قبلت خبر الواحد فيما لا يسقط بالشبهة ، وردته فيما يسقط بها كالحدود التي تدرأ بالشبهات ، وزعمت أن احتمال الغلط والكذب عن الراوي شبهة في اسقاط الحد ، وهذا مذهب المعتزلة ، وحكوه عن أبي عبد الله البصري.

وطائفة تاسعة : ردت خبر الواحد إذا لم يروه غيره ، وقبلته إذا رواه ثقة آخر فصاعدا حكاه عنهم أبو بكر الرازي من الحنفية.

وطائفة عاشرة : ردته فيما تعم به البلوى وقبلته فيما عداه ، وحكوه عن أبي حنيفة ، وهو كذب عليه وعلي أبي يوسف ومحمد ، فلم يقل ذلك أحد منهم البتة ، وإنما هذا قول متأخريهم. وأقدم من قال به عيسى بن أبان وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره.

وطائفة حادية عشر : ردوه إذا كان الراوي له من الصحابة غير فقيه بزعمهم وقبلوه إذا كان فقيها ، وبمثل ذلك ردوا رواية أبي هريرة إذا خالفت آراءهم ، قالوا لم يكن فقيها ، وقد أفتى في زمن عمر بن الخطاب وأقره علي الفتوى ، واستعمله نائبا علي البحرين وغيرهما ، ومن تلاميذه عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة ، وسعيد بن المسيب وغيره من التابعين.

قال البخاري : روي العلم عنه ثمان مائة ما بين صاحب وتابع ، وكان من

٧٧٥

أعلم الصحابة بالحديث وأحفظهم له ، وكان قارئا للقرآن ، وكان عربيا ، والعربية طبعه ؛ وكان الصحابة يرجعون إلى روايته ويعملون بها. نعم كان فقهه نوعا آخر غير الخواطر والآراء.

قال الشافعي : ناظرت محمدا في مسئلة المصراة فذكرت الحديث ، فقال هذا خبر رواه أبو هريرة ، وكان الذي جاء به شرا مما فر منه أو كما قال.

وطائفة ثانية عشر : ردوا الحديث إذا خالف ظاهر القرآن بزعمهم ، وجعلوا هذا معيارا لكل حديث خالف آراءهم ، فأخذوا عموما بعيدا من الحديث لم يقصد به فجعلوه مخالفا للحديث وردوه به ؛ فردوا حديث ابن عمر في خيار المجلس بمخالفة قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) وردوا أحاديث القرعة لمخالفة ظاهر قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وردوا حديث عمران بن الحصين فيمن أعتق ستة أعبد في مرض موته لمخالفة ظاهر قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وردوا أحاديث فاطمة بنت قيس لمخالفة ظاهره قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) وردوا أحاديث رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة لمخالفة ظاهر قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وردوا أحاديث الشفاعة لمخالفة ظاهر قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وردوا حديث العرايا والمصراة لمخالفة ظاهر الربا لهما ، وردوا حديث «لعن الله المحلل والمحلل له» (١) بظاهر قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وردوا حديث «من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به» (٢) بظاهر قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وردوا حديث «النهي عن بيع الرطب بالتمر» (٣) بظاهر قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وردوا حديث

__________________

(١) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٢ / ٣٢٣) ، وأبو داود (٢٠٧٦ ، ٢٠٧٧) والترمذي (١١١٩ ، ١١٢٠) ، وابن ماجه (١٩٣٤ ، ١٩٣٥ ، ١٩٣٦) ، والحاكم (٢ / ١٩٨ ـ ١٩٩) وصححه ووافقه الذهبي ، وانظر «إرواء الغليل» (٦ / ٣٠٧) للألباني ، و «التلخيص الحبير» (٣ / ١٧٠) للحافظ ابن حجر.

(٢) رواه مسلم (١٥٥٩) ، والإمام أحمد (٢ / ٣٤٧ ، ٤١٠ ، ٤٦٨).

(٣) رواه مسلم (١٦١٤).

٧٧٦

«النهى عن بيع الحاضر للبادي وعن تلقي الركبان» (١) بهذا الظاهر ، وردوا حديث الحكم بالشاهد واليمين بظاهر قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (البقرة : ٢٨٢) ورودا حديث «لا يقتل مؤمن بكافر» (٢) بظاهر قوله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة : ٤٥) ورودا حديث : «لا نكاح إلا بولي» (٣) بظاهر قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وردوا حديث إباحة لحوم الخيل (٤) بظاهر قوله (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (النحل : ٨).

وردوا حديث : «ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة» (٥) بظاهر قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (البقرة : ٢٦٧) وظاهر قوله «فيما سقطت السماء العشر» (٦) وردوا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (٧) بظاهر قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وردوا حديث تحريم تفضيل بعض الولد على بعض في العطية ، وقوله : «إن هذا لا يصلح» وتسميته إياه جورا وامتناعه من الشهادة على الجور ، وقوله : «اشهدوا على هذا غيرى» (٨) تهديدا وإعلاما أن مسلما لا يشهد على مثل ذلك ، وقد امتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشهادة عليه ، وردوا حديث «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (٩) بقوله : (فَاقْرَؤُا

__________________

(١) رواه البخاري (٢١٥٠) ، ومسلم (البيوع : ٣ / ١١).

(٢) رواه البخاري (١١١).

(٣) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٦ / ٦٦) ، وأبو داود (٢٠٨٣) والترمذي (١١٠٢) ، وابن ماجه (١٨٧٩) ، وصححه الألباني.

(٤) رواه البخاري (٥٥٢٠) ، ومسلم (١٩٤١).

(٥) رواه البخاري (١٤٥٩) ، ومسلم (٩٧٩).

(٦) رواه البخاري (١٤٨٣) ، ومسلم (٩٨١).

(٧) [صحيح] رواه أبو داود (٢٨٢٦) ، والحاكم (٤ / ١١٤) ، وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ا ه ، وصححه الألباني في «صحيح الجامع».

(٨) رواه مسلم في «الهبات» (٣ / ١٧) وفي الأضاحى (٢٨٢٦).

(٩) رواه البخاري (٧٥٦) ، ومسلم (٣٩٤).

٧٧٧

ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل : ٢٠) وردوا حديث «لا يقبل الله صلاة من لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» (١) بظاهر قوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران : ٤٣) وردوا الحديث لكونه يتضمن زيادة على القرآن فيكون نسخا له والقرآن لا ينسخ بالحديث. وردوا بهذه القاعدة الفاسدة ما شاء من الأحاديث الصحيحة الصريحة. كأحاديث فرض الطمأنينة ، وأحاديث فرض الفاتحة ، وحديث تغريب الزاني.

وقد أنكر الأئمة على من رد أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ، وقالوا لا ترد السنة بالقرآن فكيف بمن ردها برأى أو قياس أو قاعدة هو وضعها ، ولهذا الصواب مع من قبل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيح الثابت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير وجه «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» (٢) دون من رده بظاهر القرآن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (الأنعام : ١٦٤) وأعجب من ذلك من رده بقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (النجم : ٤٣) وكان الصواب مع حديث فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى للمبتوتة (٣) دون من رده بقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (الطلاق : ٦) وكان الصواب قبول حديث خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتلى بدر دون رده بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (النمل : ٨٠) وهذا وإن وقع لبعض الصحابة فلم يتفقوا كلهم عن رد هذه الأحاديث بالقرآن ، بل كان الذين قبلوه أضعاف أضاف الذين ردوه ، وقولهم وهو الراجح قطعا دون قول الآخرين فلا يرد حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء أبدا إلا بحديث مثله ناسخ له يعلم مقاومته له ومعارضته له وتأخره عنه ، ولا يجوز رده بغير ذلك البتة.

__________________

(١) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٤ / ٢٣) ، وابن ماجه (٨٧١) قال البوصيري في الزوائد (١ / ٣٠٣) ، إسناده صحيح رجاله ثقات ا ه ، وصححه الألباني في «صحيح الجامع».

(٢) رواه البخاري (١٢٨٦) ، ومسلم (٩٢٧).

(٣) [صحيح] رواه أبو داود (٢٢٨٥ ، ٢٢٨٨) والنسائي (٦ / ٢١٠) ، من عدة روايات وفي إحداها : «ليست لها نفقة ولا مسكن» وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» وأشار إلي أن له أصل في «صحيح مسلم».

٧٧٨

وطائفة أخرى ردت الأحاديث بعدم معرفتها بمن ذهب إليها ، وسموا عدم علمهم إجماعا وردوا به كثيرا من السنن ، وبالغ الشافعى وبعده الإمام أحمد في الإنكار على هؤلاء ووسع الشافعى الرد عليهم في الرسالتين وكتاب «جماع العلم» وغيرها ، ولا يتصور أن تجتمع الأمة على خلاف سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قط إلا أن يكون هناك سنة صحيحة ومعلومة ناسخة ، فتجمع على القول بالسنة الناسخة ، وأما أن تتفق على العمل بترك حديث لا ناسخ له ، فهذا لم يقع أبدا ، ولا يجوز نسبة الأمة إليه ، فإنه قدح فيها ونسبة لها إلى ترك الصواب والأخذ بالخطإ.

(خطأ مقولة : أجمعوا على كذا)

قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله : من ادعى الإجماع فقد كذب ، لعل الناس قد اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم ، ولكن يقول : لا أعلم الناس اختلفوا قال : في رواية المروذي : كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم ، لو قال إني لا أعلم لهم مخالفا جاز ، وقال في رواية أبي طالب : هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون ، ولكن يقول : لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله إجماع الناس.

وقال في رواية ابن الحارث : لا ينبغى لأحد أن يدعى الإجماع ، لعل الناس اختلفوا.

وليس مراده بهذا استبعاد وجود الإجماع ، ولكن أحمد وأئمة الحديث بلوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافهم ، فبين الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب ، وأنه لا يجوز رد السنن بمثلها. قال الشافعي في رواية الربيع عنه ما لا يعلم. فيه نزاع ليس إجماعا ، وقال أيضا : وقد أنكر على منازعة دعوى الإجماع وبيّن بطلانها.

قال فهل من إجماع؟ قلت نعم بحمد الله كثير في جهل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك هو الذي إذا قلت : أجمع الناس لم تجد أحدا يعرف شيئا يقول لك ليس هذا بإجماع فيها وفي أشياء من أصول العلم دون فروعه ودون الأصول غيرها.

ثم قال الشافعي : فقال قد ادعى بعض أصحابك الإجماع بالمدينة ، فقلت له :

٧٧٩

فما قلت وسمعت أهل العلم غيرك في كل بلد يقولون فيما ادعى من ذلك؟ قال : ما سمعت منهم أحدا أذكر قوله إلا عاتبا لذلك ، وأن ذلك عندى لمعيب. ثم قال بعد ذلك أو ما كفاك عيب الإجماع أن لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوى الإجماع إلا فيما لا يختلف فيه أحد إن كان أهل زمانك هذا. قال فقد ادعاه بعضكم أفحمدت ما ادعاه منه؟ قال : لا. قلت : فكيف صرت إلى أن تدخل فيما ذممت في أكثر ما عبت ، ألا يستدل من طريقك أن الإجماع هو ترك ادعاء الإجماع ، وهذا كثير في كلامه رحمه‌الله.

والمقصود أن أئمة الإسلام لم يزالوا ينكرون على من رد سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكونه لا يعلم بها قائلا ويزعم أن ذلك إجماع ، ولا يتوقف العمل بالحديث على أن يعلم من عمل به من الأمة ، بل هو حجة بنفسه عمل به أو لم يعمل ويمكن أن تجتمع الأمة على ترك العمل به البتة ، بل لا بد أن يكون في الأمة من ذهب إليه وإن خفى عن كثير من أهل العلم قوله.

* * *

فصل

(ليس في السنة ما يخالف الإجماع)

ونحن نقول قولا كليا نشهد الله تعالى عليه وملائكته أنه ليس في حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يخالف القرآن ولا ما يخالف العقل الصريح ، بل كلامه بيّن للقرآن ؛ وتفسير له ؛ وتفصيل لما أجمله ، وكل حديث من رد الحديث لزعمه أنه يخالف القرآن فهو موافق للقرآن مطابق له ، وغايته أن يكون زائدا على ما في القرآن ، وهذا الذي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبوله ونهى عن رده بقوله : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (١) فهذا الذي وقع من وضع قاعدة باطلة له لرد الأحاديث بها بقولهم في كل حديث زائد علي ما في القرآن : هذا زيادة على النص ، فيكون

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٧٨٠