مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

الأنصاري وأبو عمر الطلمنكي ، كلهم يصرح أن الله تعالى يتكلم بصوت. والبخاري في كتاب «خلق الأفعال».

* * *

فصل

(هل كلام الرب بمشيئته أم بغير مشيئته)

منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب تعالى هل يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته على قولين. فقالت طائفة : كلامه بغير مشيئته واختياره ، ثم انقسم هؤلاء أربع فرق. قالت فرقة : هو فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة فتكلمت به كما يقول ابن سينا وأتباعه وينسبونه إلى ارسطو.

وفرقة قالت : بل هو معنى قائم بذات الرب تعالى هو به متكلم ، وهو قول الكلابية ومن تبعهم وانقسم هؤلاء فريقين. فرقة قالت. وهو معان متعددة في أنفسها أمر ونهى وخبر واستخبار ، ومعني جامع لهذه الأربعة. وفرقة قالت : بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض.

وفرقة قالت : كلامه هو هذه الحروف والأصوات ، خلقها خارجة عن ذاته ، فصار بها متكلما. وهذا قول المعتزلة وهو في الأصل قول الجهمية تلقاه عنهم أهل الاعتزال فنسب إليهم.

وفرقة قالت : يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته سبحانه كما يقوم به سائر أفعاله لكنه حادث النوع. وعندهم أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما كما قاله من لم يصفهم من المتكلمين أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن ، فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك في الفعل المنفصل. وهذا قول الكرامية.

وفرقة قالت : يتكلم بمشيئته ، وكلامه سبحانه هو الذي يتكلم به الناس كله حقه وباطله وصدقه وكذبه ، كما يقوله طوائف الاتحادية.

وقال أهل الحديث والسنة : إنه لم يزل سبحانه متكلما إذا شاء ويتكلم بمشيئته ولم تتجدد له هذه الصفة ، بل كونه متكلما مشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة ، وهو بائن عن خلقه بذاته وصفاته وكلامه ، وليس متحدا بهم ولا حالا فيهم.

٦٨١

(فصل منه)

واختلفت الفرق هل يسمع كلام الله على الحقيقة؟ فقالت فرقة : لا يسمع كلامه على الحقيقة إنما يسمع حكايته والعبارة عنه ، وهذا قول الكلابية ومن تبعهم. وقالت بقية الطوائف بل يسمع كلامه حقيقة ، ثم اختلفوا فقالت فرقة يسمعه كل أحد من الله ، وهذا قول الاتحادية. وقالت فرقة : بل لا يسمع إلا من غيره ، وعندهم يسمع كلام الله منه ، فهذا قول الجهمية والمعتزلة.

وقال أهل السنة والحديث يسمع كلامه سبحانه منه تارة بلا واسطة كما سمعه موسى وجبرائيل وغيره ، وكما يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم الأنبياء في الموقف ، ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من جبرائيل تبليغا عنه ، وكما سمع الصحابة القرآن من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله ، فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ ، وكذلك نسمع نحن بواسطة التالى.

فإذا قيل : المسموع مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل إن أردت المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق ، وإن أردت من المبلغ ففيه تفصيل ، فإن سألت عن الصوت الذي روى به كلام الله فهو مخلوق ، وإن سألت عن الكلام المؤدي بالصوت فهو غير مخلوق ، والذين قالوا إن الله يتكلم بصوت أربع فرق :

فرقة قالت : يتكلم بصوت مخلوق منفصل عنه ، وهم المعتزلة.

وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال ، وهم السالمية والاقترانية.

وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم حادث في ذاته بعد أن لم يكن ، وهم الكرامية.

وقال أهل السنة والحديث : لم يزل الله متكلما بصوته إذا شاء.

والذين قالوا لا يتكلم بصوت فرقتان : اصحاب الفيض ، والقائلون إن الكلام معني قائم بالنفس.

* * *

٦٨٢

فصل

(هل الكلام لله على الحقيقة أم مجاز؟!)

واختلفت الطوائف في مسمى الكلام ، فقالت هو حقيقة في المعنى ، مجاز في اللفظ ، وهذا قول الأشعري ، وقالت طائفة هو حقيقة في الألفاظ ، مجاز في المعنى ، وهذا قول المعتزلة ، وقالت طائفة : بل هو حقيقة في اللفظ والمعني ، فإطلاقه على اللفظ وحده حقيقة ، وعلى المعني وحده حقيقة ، وهذا قول أبي المعالى الجويني وغيره.

وقالت طائفة : بل الكلام حقيقة في الأمرين على سبيل الجمع ، فكل منهما جزء مسماه فدلالته عليهما بطريق المطابقة ، ودلالته على كل واحد منها بمفرده بطريق التضمن ، وهذا قول أكثر العقلاء ، فإنما استحق الاسم للفظه ومعناه ، كما أن الإنسان إنما استحق اسم الإنسان لجسمه ونفسه ، فمجموعهما هو الإنسان.

وقالت طائفة : بل هو حقيقة في النفس ، مجاز في البدن. وعكس ذلك طائفة. وقالت طائفة : يطلق علي كل منهما إنه إنسان بطريق الاشتراك.

والتحقيق أنه اسم لهذه الذات المركبة من النفس والبدن ، فهذا اختلافهم في الناطق ونطقه.

فصل

واتفقوا على أنه يمكن أن يوجد صوت بلا حرف ، واختلفوا هل يمكن وجود حرف نطقي بلا صوت؟ على القولين؟ وهي مسألة فقهية أصولية يبني عليها أن كل موضع اعتبر فيه النطق هل يشترط أن يسمع نفسه أو يكون بحيث لا يسمعها ، فشرط ذلك أصحاب الشافعي والمتأخرون من أصحاب أحمد ، ولم يشترطه أصحاب أبي حنيفة ، وهذا أقوى ، فإن حركة اللسان تميز الحروف بعضها من بعض وإن لم يكن هناك صوت ، وقد قال تعالي : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (القيامة : ١٦) فدل على أن تحريك اللسان بحروفه مقدور داخل تحت النهي.

* * *

٦٨٣
٦٨٤

فصل

كسر الطاغوت الرابع

(وهو : التعطيل)

في الاحتجاج بالأحاديث النبوية على الصفات المقدسة العلية ، وكسر

طاغوت أهل التعطيل الذين قالوا : لا يحتج بكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على

شيء من صفات ذي الجلال والإكرام

قالوا : الأخبار قسمان ، متواترة وآحاد ، فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة ، فإن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين ، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات ، والآحاد لا تفيد العلم. فسدّوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية ، وبراهين نقلية ، وهي في التحقيق (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (النور : ٣٩).

ومن العجب أنهم قدموها علي نصوص الوحي وعزلوا لأجلها النصوص ، والكلام على ذلك في عشر مقامات.

(أحدها) في بيان إفادة النصوص الدلالة القاطعة على مراد المتكلم ، وقد تقدم إشباع الكلام في ذلك.

(الثاني) أين هذه الأخبار التي زعموا أنها آحاد موافقة للقرآن مفسرة له مفصلة لما أجمله وموافقة للمتواتر منها (١).

__________________

(١) وانظر في ذلك «كتاب التوحيد» للإمام البخاري في «صحيحه» فلم يأت بحديث في باب من أبواب الكتاب إلا ويسبقه بآية تدل على المراد في الصفات الإلهية.

وفي ذلك يقول الحافظ في «الفتح» : الذي يظهر من تصرف البخاري أنه يسوق

٦٨٥

(الثالث) بيان وجوب تلقيها بالقبول.

(الرابع) أفادتها للعلم واليقين.

(الخامس) بيان أنها لو لم تفد اليقين ، فأقل درجاتها أن تفيد الظن الراجح ، ولا يمتنع إثبات بعض الصفات والأفعال به.

(السادس) إن الظن الحاصل بها أقوى من الجزم المسند إلي تلك القضايا الوهمية الخيالية.

(السابع) بيان أن كون الشيء قطعيا أو ظنيا أمر نسبي إضافي لا يجب الاشتراك فيه ، فهذا الأخبار تفيد العلم عند من له عناية بمعرفة ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعرفة أحواله ودعوته على التفصيل دون غيرهم.

(الثامن) بيان الإجماع المعلوم على قبولها وإثبات الصفات بها.

(التاسع) بيان أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم ، قضية كاذبة باتفاق العقلاء إن أخذت عامة كلية ، وإن أخذت خاصة جزئية لم تقدح في الاستدلال بجملة أخبار الآحاد علي الصفات.

__________________

الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب ، ويؤيده بآية من القرآن للإشارة إلى خروجها عن أخبار الآحاد ، على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقاديات ، وإن من أنكرها خالف الكتاب والسنة جميعا.

وأخرج ابن أبي حاتم في «الرد على الجهمية» بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال : ويلهم ما ذا ينكرون من هذه الأحاديث ، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله.

يقول الله تعالى : (أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ونحو ذلك ـ فلم يزل ـ أي سلام بن مطيع ـ يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس ا ه (فتح الباري : ١٣ / ٣٧٢).

٦٨٦

(العاشر) جواز الشهادة لله سبحانه بما دلت عليه هذه الأخبار ، والشهادة على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخبر بها عن الله.

أما المقام الأول فقد تقدم تقريره.

وأما المقام الثاني : فنقول هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن ، ويدل على مثل ما دلت عليه ، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع الحديث المتفقين ، وهما كما قال النجاشي في القرآن : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ، ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من مطابقة التوراة للقرآن.

فلما كانت الشهادة بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد الله على ذلك شهادة على القطع والبت ، إذ شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل وما يضرها أن تخالف تلك العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التى فطر عباده عليها والعقول المؤيدة بنور الوحى وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى.

فإذا كان في القرآن أن لله علما وقدرة ، فذكرنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» (١) وكذلك قوله في الحديث الآخر «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» (٢) كان هذان الخبران مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية. وكذلك قوله في الحديث لأهل الجنة «أحل عليكم رضواني» (٣) وقوله في حديث الشفاعة «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله» (٤) وأحاديث : إن الله يحب كذا ويكره كذا ، وأحاديث إن الله

__________________

(١) رواه البخاري (١١٦٢).

(٢) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٤ / ٢٦٤) ، والنسائي (٣ / ٥٤ ، ٥٥) ، والحاكم (١ / ٥٢٤) ، وصححه الشيخ الألباني في «صحيح سنن النسائي».

(٣) رواه البخاري (٦٥٤٩) ، ومسلم (٢٨٢٩) ، من حديث أبي سعيد الخدري.

(٤) رواه البخاري (٣٣٤٠) ، ومسلم (١٩٤٠).

٦٨٧

يعجب من كذا ، وأحاديث ذكر المشيئة ، وأحاديث الكلام والتكليم ، وأحاديث الرؤية والتجلي وأحاديث الوجه ، وأحاديث اليدين ، وأحاديث المجيء والنزول والإتيان ، وأحاديث علو الرب على عرشه واستوائه عليه وفوقيته ، وحديث ندائه بالصوت وقربه من داعيه وعابديه ، وغير ذلك من أحاديث الموافقة للقرآن كان قول المبطل : هذه الآحاد لا تفيد العلم ، بمنزلة قول من قال في قصص القرآن إنها لا تفيد العلم.

وهكذا قال المبطلون سواء وإن اختلفت جهة إبطال العلم عندهم من نصوص الوحي ، فنصوص القرآن عندهم لا تفيد علما من جهة الدلالة ، وهذه لا تفيد علما من هذه الجهة ومن جهة السند ، وهذا إبطال لدين الإسلام رأسا ، وبل ذكر هذه الأحاديث بمنزلة ذكر أخبار المعاد والجنة والنار التي شهدت بما شهد به القرآن ، وبمنزلة الأخبار الواردة في قصص الأولين وأخبار الأنبياء الموافقة لما في القرآن.

ومن هذا أخبار الأحاديث الصحيحة المروية في أسباب نزول القرآن وبيان المراد منه ، فإنها تشهد باتفاق القرآن والحديث ، فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن وتكشف معانيها كشفا مفصلا ، وتقرب المراد وتدفع عنه الاحتمالات ، وتفسر المجمل منه وتبينه وتوضحه لتقوم حجة الله به ، ويعلم أن الرسول بين ما أنزل إليه من ربه ، وأنه بلغ ألفاظه ومعانيه بلاغا مبينا حصل به العلم اليقيني ، بلاغا أقام الحجة ، وقطع المعذرة وأوجب العلم ، وبينه أحسن البيان وأوضحه.

ولهذا كان أئمة السلف وأتباعهم يذكرون الآيات في هذا الباب ، ثم يتبعونها بالأحاديث الموافقة لها ، كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده من المصنفين في السنة ، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تضمنته أحاديث النزول والرؤية والتكليم والوجه واليدين والإتيان والمجيء بما في القرآن ، ويثبتون اتفاق دلالة القرآن والسنة عليها ، وأنهما من مشكاة واحدة ولا ينكر ذلك من له أدنى معرفة وإيمان ، وإنما يحسن الاستدلال على معاني القرآن بما

٦٨٨

رواه الثقات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورثة الأنبياء ، ثم يتبعون ذلك بما قاله الصحابة والتابعون أئمة الهدي.

وهل يخفي على ذي عقل سليم أن تفسير القرآن بهذه الطريق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كالمريسي والجبائي والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفرق والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالات وبدعا ، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا ، وتقطعوا أمرهم بينهم كل حزب بما لديهم فرحون.

فإذا لم يجز تفسير القرآن وإثبات ما دل عليه ، وحصول العلم واليقين بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيحة الثابتة ، وكلام الصحابة وتابعيهم ، أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلي تحريفات جهم وشيعته ، وتأويلات العلاف والنظام والجبائي والمريسي وعبد الجبار وأتباعهم من كل أعمى أعجمي القلب واللسان ، بعيد عن السنة والقرآن ، مغمور عند أهل العلم والإيمان؟

فإذا كانت أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تفيد علما فجميع ما يذكره هؤلاء من اللغة والشعر الذي يحرفون به القرآن والسنن أولى وأحرى أن لا يفيد علما ولا ظنا.

فمن المعلوم بالضرورة أن المجازات والاستعارات والتأويلات التي استفادوها من اللغة والشعر الذي لم ينقله إلا الآحاد ، دون ما يستفاد من نقل أهل الحديث ، وعلمنا بمراد هذا الناظم والناثر من كلامه ، دون علمنا بمراد الله ورسوله والصحابة من كلامهم بكثير ، فإذا كان هذا دون كلام الله ورسوله في النقل والدلالة لم يكن حمل معاني القرآن عليه بأولى من حملها على معنى الحديث والآثار ، وإذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بمعناه إلا من جهة نقل الشعر وغرائب اللغة ووحشيها ، وأفهام الجهمية والمعطلة ، لا من طريق نقل الأحاديث والآثار تعطلت دلالة الكتاب والسنة ، وسقط الاستدلال بهما ، وحصلت لنا الحوالة على أفراخ المجوس وورثة الصابئين وتلامذة الفلاسفة وأوقاح المعتزلة.

ثم لو ثبت بنقل العدل عن العدل أن الشاعر والناثر أرادا ذلك المعنى بهذا

٦٨٩

اللفظ لم يكن إثبات اللغة بمجرد هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولا أولى من استعمال القرآن المطرد ذلك المعنى في تلك النظائر وعموم المعنى لموارد استعمال ذلك اللفظ ، ولهذا تسمى تلك الألفاظ «النظائر» وفيها صنفت كتب الوجوه والنظائر ، فالوجوه الألفاظ المشتركة والنظائر والألفاظ المتواطئة (الأول) فيما اتفق لفظه واختلف معناه (والثاني) فيما اتفق لفظه ومعناه.

فحمل كلام الله سبحانه على ما يؤخذ من النظائر في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا يتخاطبون بلغته ، والتابعين الذين أخذوا عنهم أولى من حمل معانيه على ما يؤخذ من كلام بعض الشعراء والأعراب ، فالاحتمال يتطرق إلى فهم كلام الله ورسوله والصحابة كما يتطرق إلى فهم كلام أولئك في نظمهم ونثرهم ، فما يقدر من احتمال مجاز وإضمار واشتراك وغيره ، فتطرقه إلى كلامهم أكثر ، وهذا كله على طريق النزول وإلا فالأمر فوق ذلك ، وهذا يتبين بطريقين :

(أحدهما) بيان استقامة هذه الطريق.

(الثاني) بيان أنه لا طريق يقوم مقامها.

فأما المقام (الطريق) الأول فبيانه من وجوه (أحدها) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه ، فبلغهم معانيه كما بلغهم ألفاظه ، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك قال تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) وقال : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) (آل عمران : ١٣٨) وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم : ٤) وقال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان : ٥٨) وقال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) (فصلت : ٣) أي بينت وأزيل عنها الإجمال ، فلو كانت آياته مجملة لم تكن قد فصلت. وقال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨) وهذا يتضمن بلاغ المعنى وأنه في أعلى درجات البيان.

فمن قال إنه لم يبلغ الأمة معاني كلامه وكلام ربه بلاغا مبينا ، بل بلغهم

٦٩٠

ألفاظه ، وأحالهم في فهم معانيه على ما يذكره هؤلاء ، لم يكن قد شهد له بالبلاغ ، وهذا هو حقيقة قولهم حتى أن منهم من يصرح به ويقول : إن المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ ، وعدم تبليغها للأمة ، إما لمصلحة الجمهور ، ولكونهم لا يفهمون المعاني إلا في قوالب الحسيات وضرب الأمثال ، وإما لينال الكادحون ثواب كدحهم في استنباط معانيها واستخراج تأويلاتها من وحشي اللغات وغرائب الأشعار ، ويغوصون بأفكارهم الدقيقة على صرفها عن حقائقها ما أمكنهم.

(المقام الثالث : بيان وجوب تلقيها بالقبول) (١)

وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما يشهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلغ البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة ، الموجب للعلم واليقين لفظا ومعنى والجزم بتبليغه معانى القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ ، بل أعظم من ذلك ، لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته ، وأما المعاني التي بلغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة.

ولما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده ، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم ، قال لهم : أنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، ورفع إصبعه إلى السماء رافعا لها من هو فوقها وفوق كل شيء قائلا «اللهم اشهد» (٢) فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله ذلك اللسان الكريم وهو يقول «اللهم اشهد» ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، وكشف لهم طرائق الهدى : وأوضح لهم معالم الدين ، وتركهم على المحجة

__________________

(١) لم يشر المصنف رحمه‌الله في «المختصر» إلى مكان المقام الثالث كما قسمه الإمام ابن القيم في أول الباب وكما سيأتي بعد ذلك المقام الرابع ، والمقام الثالث وهو : بيان وجوب تلقيها بالقبول يعني ـ أخبار الآحاد ـ فرأينا وضعه هنا لمناسبته لما سيذكر والله أعلم.

(٢) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».

٦٩١

البيضاء ليلها كنهارها ، فلا يحتاج مع كشفه وبيانه إلى تنطع المتنطعين فالحمد لله الذي أغنانا بوحيه ورسوله عن تكلفات المتكلفين.

قال أبو عبد الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة ، حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألفاظ القرآن ومعانيه ، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من عنايتهم بالألفاظ ، يأخذون المعاني أولا ، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم.

قال حبيب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.

فإذا كان الصحابة تلقوا عن نبيهم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد ، فنقل معاني القرآن عنهم كنقل ألفاظه سواء ، ولا يقدح في ذلك تنازع بعضهم في بعض معانيه كما وقع من تنازعهم في بعض حروفه وتنازعهم في بعض السنة لخفاء ذلك على بعضهم ، فإنه ليس كل فرد منهم تلقى من نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا واسطة جميع القرآن والسنة ، بل كان بعضهم يأخذ عن بعض ويشهد بعضهم في غيبة بعض ، وينسى هذا بعض ما حفظه صاحبه ، قال البراء بن عازب : ليس كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله ، ولكن كان لا يكذب بعضنا بعضا.

الوجه الثاني : أن الله سبحانه أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وامتن بذلك علي المؤمنين ، والحكمة هي السنة كما قال غير واحد من السلف ، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) (الأحزاب : ٣٤) فنوّع المتلو إلى نوعين آيات وهي القرآن ، وحكمة

٦٩٢

وهي السنة ، والمراد بالسنة ما أخذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى القرآن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إنه مثل القرآن وأكثر» (١).

وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية كان جبرائيل ينزل بالقرآن والسنة ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم ، نزل بها جبرائيل من عند الله عزوجل كما نزل بالقرآن «وقال إسماعيل بن عبد الله : ينبغي لها أن تحفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها بمنزلة القرآن.

الوجه الثالث : أن الرجل لو قرأ بعض مصنفات في النحو والطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر ، كان من أحرص الناس على فهم ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه ، فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله وكلامه الذي أنزله إليهم وهداهم به وأمرهم باتباعه ، فكيف لا يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه من جهة العادة العامة والعادة الخاصة ، ولم يكن للصحابة كتاب يدرسون وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك.

قال البخاري : كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يكن بينهم رأي ولا قياس ، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين : قوم يقرءون القرآن ولا يفهمونه ، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه ، وآخرون يشتغلون في علوم أخر وصنعة اصطلاحية ، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي يعتنون به حفظا وفهما وعملا وتفقها ، وكانوا أحرص الناس على ذلك ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، وهو يعلم تأويله ويبلغهم إياه كما يبلغهم لفظه.

فمن الممتنع أن يكونوا يرجعون إلى غيره في ذلك ، ومن الممتنع أن لا يعلمهم إياه وهم أحرص الناس على كل سبب ينال به العلم والهدى ، وهو أحرص

__________________

(١) [صحيح] رواه الإمام أحمد (٤ / ١٣٠ ، ١٣١) ، وأبو داود (٤٦٠٤) والترمذي (٢٦٦٤) نحوه ، وابن ماجه في «مقدمة سننه» (١٢) ، وصححه الألباني وانظر «التمهيد» (١ / ١٥٠) لابن عبد البر.

٦٩٣

الناس على تعلمهم وهدايتهم. بل كان أحرص الناس على هداية الكفار كما قال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (النحل : ٣٧) وكان أعلم الناس بتفاصيل الأسماء والصفات وحقائقها ، وكان أفصح الناس في التعبير عنها وإيضاحها وكشفها بكل طريق كما يفعله بإشارته وحاله كما في «الصحيح» عن عمر قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى» (١) وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبض يده ويبسطها يحكي ربه تبارك وتعالى ، تحقيقا لإثبات اليد وصفة القبض والبسط ، لا تشبيها وتمثيلا.

وقال سعيد بن جبير : سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : ٥٨) فوضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وقال هكذا سمعت رسول الله ، يقرؤها ويضع إصبعه ، رواه أبو داود وغيره (٢). وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آخر من يدخل الجنة رجل» فذكر الحديث وفيه قالوا لم ضحكت يا رسول الله؟ قال «لضحك الرب منه حتى قال أتهزأ بي وأنت رب العالمين» (٣).

وفي حديث عبيد الله بن مقسم أنه رأى ابن عمر حين حكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يأخذ الله سماواته وأرضه بيده فيقول أنا الله فيقبض أصابعه ويبسطها» وفي لفظ : فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده يحكي ربه (٤).

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».

(٢) [صحيح] رواه الحاكم (١ / ٢٤) وصححه ووافقه الذهبي ، وابن حبان في «صحيحه» (٢٦٥ إحسان) وذكره الحافظ في كتاب «التوحيد» من (فتح الباري) وقد تقدم بتوسع.

(٣) رواه مسلم (١٨٧) مطولا.

(٤) تقدم تخريجها.

٦٩٤

وفي حديث نافع عن ابن عمر يرفعه «يأخذ الله السموات والأرض فيدحوها بهذا كما يدحى بالكرة ما زال يقولها حتى رجف به المنبر» (١).

وقال ابن وهب حدثنا أسامة بن زيد عن أبي حازم عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على المنبر يخطب فقال : «يأخذ الله سماواته وأرضه فيجعلهما في كفه ثم يقول بهما هكذا كما يقول الغلام بالكرة : أنا الله الواحد العزيز» (٢).

وفي الباب حديث أبي الضحى عن ابن عباس : مر يهودي فقال : يا أبا القاسم ، ما تقول إذا وضع الجبار السماء على هذه ، والأرض على هذه. الحديث (٣).

وفي حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيدي لقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء قال به هكذا» وأومأ بيده «وإذا شاء قال به هكذا» وأومأ بيده (٤).

وفي حديث ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) وأشار أنس بطرف إصبعه على أول بنان من الخنصر ، وكذلك أشار ثابت ، فقال له حميد ما تريد بهذا يا أبا محمد؟ فرفع ثابت يده فضرب بها صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد؟ يحدثني أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول أنت ما تريد بهذا؟ ورواه عبد الله بن أحمد حدثني أبي قال حدثنا معاذ فذكره ، قال أحمد : يعني إنما أخرج طرف الخنصر وأراناه معاذ (٥).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه البخاري (٧٤١٤).

(٤) تقدم تخريجه وهو في «صحيح مسلم».

(٥) رواه الإمام أحمد (٣ / ٢٠٩) ، والترمذي (٣٠٧٤) وقال : حسن غريب صحيح ، ورواه الحاكم (٢ / ٣٢٠) وصححه ووافقه الذهبي.

٦٩٥

وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي الشفاعة لأمتى فقال : لك سبعون ألفا بغير حساب. قلت رب زدني. قال فإن لك هكذا وهكذا ، وحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله» (١).

وقال أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم بيده خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» (٢) ومن هذا الحديث الأطيط. وقوله : «إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من ثقله» (٣) وقال عمر بن الخطاب : إذا جلس الرب عزوجل على الكرسي سمع له أطيط الرحل الجديد ، فاقشعر رجل عند وكيع وهو يرويه فغضب وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكروها.

ومن ذلك قوله : «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب» (٤) تحقيقا لثبوت الرؤية ونفيا لاحتمال ما يوهم خلافها ، فأتى بغاية البيان والإيضاح ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها حتى يئس منها ، فاضطجع في أصل شجرة فرأى راحلته عليها طعامه وشرابه ، فقام فأخذها فجعل يقول من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح» (٥).

__________________

(١) [صحيح] رواه أحمد (٥ / ٢٥٠ ، ٢٦٨) ، والترمذي (٧١) ، وابن ماجه (١٢٨٦) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٢٦٠) وقال الألباني في «ظلال الجنة» : إسناده صحيح.

(٢) رواه البخاري (٦٥٢٠) ، ومسلم (٢٧٩٢).

(٣) [ضعيف] رواه الإمام أحمد (١ / ٣٩٨ ، ٣٩٩) ، وأبو داود (٤٧٢٦) ، والدارمي (٢٨٠٠) وضعفه الألباني في «ضعيف أبي داود» وفي «ظلال الجنة» (٥٧٥) وقد تقدم في الجزء الأول.

(٤) رواه البخاري (٧٤٣٥) ، ومسلم (١٨٣).

(٥) رواه البخاري (٦٣٠٩) ، ومسلم (٢٧٤٧).

٦٩٦

هذه ألفاظ رسول الله ثم قال : «كيف ترون فرح هذا براحلته؟» قالوا عظيما يا رسول الله ، قال : «فو الله لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته».

فهذا الكشف والبيان والإيضاح لا مزيد عليه تقرير لثبوت هذه الصفة ، ونفي الإجمال والاحتمال عنها.

وكذلك قوله في حديث النداء : «فيناديهم بصوت» (١) فذكر الصوت تحقيقا لصفة النداء وتقريرا ، ولو لم يذكره لدل عليه لفظ النداء ، كما لو قيل : يعلم بعلم ويقدر بقدرة ويبصر ببصر ، وهذا ونحوه إنما يراد به تحقيق الصفة وإثباتها ، لا تشبيه الموصوف وتمثيله ، كما أن قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إنما سبق لإثبات الصفات وعظمتها لا لنفيها كما قال عثمان بن سعيد الدارمي في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قال معناه هو أحسن الأشياء وأجملها ، وقالت الجهمية : معناه ليس هناك شيء.

ومن هذا حديث الصورة وقوله : «خلق آدم على صورة الرحمن» (٢) لم يرد به تشبيه الرب وتمثيله بالمخلوق ، وإنما أراد به تحقيق الوجه وإثبات السمع والبصر والكلام صفة ومحلا ، والله أعلم.

الوجه الرابع : أنهم كانوا يسألونه عما يشكل عليهم من الصفات فيجيبهم بتقريرها ، لا بالمجاز والتأويل الباطل ، كما سأله أبو رزين العقيلى عن صفة الضحك لما قال «ينظر إليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب». فتعجب أبو رزين من ضحك الرب تعالى وقال : يا رسول الله أو يضحك الرب؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم. فقال : لن نعدم من رب يضحك خيرا (٣) والجهمي لو سئل عن ذلك لقال : لا يجوز عليه الضحك كما لا يجوز عليه الاستواء والنزول والإتيان والمجيء.

__________________

(١) تقدم تخريجه قريبا.

(٢) رواه البخاري (٦٢٢٧) ، ومسلم (٢٨٤١).

(٣) تقدم تخريجه.

٦٩٧

كذلك لما أخبرهم رسول الله عن رؤية الرب تعالى فهموا منها رؤية العيان لا مزيد العلم ، كما استشكل بعضهم ذلك وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يسع الخلائق وهو واحد ونحن كثير؟ وهذا السائل أبو رزين أيضا ، فقرر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهمه وقال : سأخبرك بمثل ذلك في آلاء الله ، أليس كلكم يرى القمر مخليا به؟ قال بلى ، قال فالله أكبر (١) ، وهذا يدل على أن القوم إنما أحيلوا في إثبات ذلك على ما دل عليه اللفظ وعلى ما بينه لهم من أنزل عليه الوحي لا على رأي جهم وجعد ، والنظّام والعلاف والمريسي وتلامذتهم ، ولا على غير ما يتبادر إلى أفهامهم من لغاتهم وخطابهم ، كان يقرر لهم ذلك ويقربه من أفهامهم بالأمثال والمقاييس العقلية تقريرا لحقيقة الصفة.

* * *

فصل

فهم الصحابة والتابعين وتفسيرهم مقدم على فهم غيرهم

الوجه الخامس : أن الصحابة قد سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحاديث الكثيرة ، ورأوا منه من الأحوال المشاهدة ، وعلموا بقلوبهم من مقاصده ودعوته ما يوجب فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من بعدهم مساواتهم فيه ، فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم ، كمن كان غائبا لم ير ولم يسمع ، أو سمع وعلم بواسطة أو وسائط كثيرة ، وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعينا قطعا.

ولهذا قال الإمام أحمد : أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، كما شهد لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله : «من كان على مثل

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٦٩٨

ما أنا عليه وأصحابي» (١) فثبت بهذه الوجوه القاطعة عند أهل البصائر ، وإن كانت دون الظنية عند عمي القلوب : أن الرجوع إليهم في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح المبين لمراد الله هو الطريق المستقيم ، ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه غيره منهم ، ثم من أصحابه من يقول هذا قول واحد ، وإن كان في الرجوع في الفتيا والأحكام إليه روايتان ، ومنهم من يقول : الخلاف في الموضعين واحد ، وطائفة من أهل الحديث يجعلون تفسيره في حكم الحديث المرفوع.

قال أبو عبد الله الحاكم في «مستدركه» : تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع.

ثم من المعلوم أن التابعين بإحسان أخذوا ذلك عن الصحابة وتلقوه منهم ولم يعدلوا عما بلغهم إياه الصحابة ، فإذا كان ذلك يوجب الرجوع إلى الصحابة والتابعين ، فكيف بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله.

وأما الطريق الثاني فمن وجوه أحدها : أن من لم يرجع إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن كما يرجع إليهم في نقل حروفه ، وإلى لغتهم

__________________

(١) [ضعيف الإسناد ، وحسنه بعضهم] رواه الترمذي (٢٦٤١) وقال : حديث حسن غريب مفسر ، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه ا ه ، ورواه اللالكائي (١٤٨) وابن نصر المروزي في «السنة» (ص ١٨) ، والآجري في «الشريعة» (ص ١٥) وابن وضاح في «البدع والنهي عنها» (٨٥) كلهم من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، قال الحافظ في «التقريب» : ضعيف في حفظه.

ورواه الطبراني في «الصغير» (ص ١٥٠) عن وهب بن بقية حدثنا عبد الله بن سفيان المدني عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك فذكره وقال الطبراني : لم يروه عن يحيى إلا عبد الله بن سفيان ا ه.

وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه ، وقال الذهبي في «الميزان» : إنما يعرف هذا بابن أنعم الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو ا ه.

وحسنه الألباني في «صحيح الترمذي».

٦٩٩

وعادتهم في خطابهم ، فلا بد أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة من غيرهم ، لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة ، وهاهنا خمس درجات.

(الدرجة الأولى) أن يباشر عربا غيرهم فيسمع لغتهم ويعرف مقاصدهم ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ ، وهذا إنما يستقيم إذا سلم اللفظ في الموضعين من احتمال المعاني المختلفة ، وأن يكون المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر ، وغايته فيه القياس ، وهو موقوف على اتحاد المعنيين في الكلامين.

ومن المعلوم أن جنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس وإن كان بينهما قدر مشترك ، فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها ، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك ، ولم تكن مساوية بها ، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه ، ولهذا يسمي كثير من الناس هذه الألفاظ حقائق عقلية شرعية باعتبار تلك الخصائص داخلة في مسماها ، وهي لا تعلم إلا بالشرع ، وبعضهم يجعلها مجازات لغوية لأجل تلك العلاقة التي بين تلك الخصائص وبين المعاني اللغوية ، وبعضهم يجعلها متواطئة باعتبار القدر المشرك بينهما ، وأن كان الشرع خصصها ببعض محالها ، كما يقع التخصيص لغة وعرفا فالتخصيص يكون لغويا تارة وعرفيا تارة ، فهي لم تنقل عن معانيها اللغوية بالكلية ، ولم تبق على ما هي عليه من أصل الوضع ، بل خصت تخصيصا شرعيا ببعض مواردها ، كما خص بعض الألفاظ تخصيصا عرفيا ببعض موارده ، ولا يسمي مثل هذا نقلا ولا اشتراكا ولا مجازا ، وإن سمي بذلك ، فليس الشأن في التسمية وبعود النزاع لفظيا.

(الدرجة الثانية) أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظما ونثرا وكل ما يعتري نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر ، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيرا بالواقع فيرد على نقل اللغة ومعرفة مراد المتكلم من ألفاظها أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعرفة مراد الرسول به ، لأن الهمم والدواعي توفرت على نقل كلام

٧٠٠