مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه جبرائيل ، وبلغه جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه ، وهذا قول السلف وأئمة السنة والحديث ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ، والقرآن عندهم جميعه كلام الله ، وحروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم ، وأداؤهم وتلفظهم ، كل ذلك مخلوق بائن عن الله.

فإن قيل : فإذا كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر الإمام أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق وبدعه ونسبه إلى التجهم ، وهل كانت محنة أبي عبد الله البخاري إلا على ذلك حتى هجره أهل الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن.

قيل : معاذ الله أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد ، فقد صرح البخاري في كتابه «خلق أفعال العباد» وفي آخر «الجامع» بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة ، منهم عمرو بن دينار يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق (١).

فصل : في ذكر ما وقع بين البخاري وأصحابه في هذه المسألة

قال البخاري : وقال أحمد بن الحسين حدثنا أبو نعيم حدثنا سليم القاري قال سمعت سفيان الثوري يقول : قال حماد بن أبي سليمان : أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه ، وكان يقول : القرآن مخلوق ، ثم ساق قصة خالد بن عبد الله القسري وأنه ضحى بالجعد بن درهم وقال إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه (٢).

هذا مذهب الإمام البخاري ومذهب الإمام أحمد وأصحابهما من سائر أهل السنة ، فخفى تفريق البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ؛ ولم يفهم بعضهم مراده وتعلقوا بالمنقول عن أحمد نقلا مستفيضا أنه قال : من قال

__________________

(١) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ٧) ، وفي «التاريخ» (٢ / ٣٣٨) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٣٤٥) ، والدارمي في «الرد على الجهمية» والذهبي في «العلو» وقال الألباني في «المختصر» : إسناده جيد.

(٢) تقدم تخريجه.

٦٦١

لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي : ومن قال غير مخلوق ، فهو مبتدع ، وساعد ذلك نوع حسد باطن للبخاري لما كان الله نشر له من الصيت والمحبة في قلوب الخلق واجتماع الناس عليه حيث حل. حتى هضم كثير من رئاسة أهل العلم وامتعضوا لذلك ، فوافق الهوى الباطن الشبهة الناشئة من القول المجمل ، وتمسكوا بإطلاق الإمام أحمد وإنكاره على من قال لفظي بالقرآن مخلوق وأنه جهمي ، فتركب من مجموع هذه الأمور فتنة وقعت بين أهل الحديث.

قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت أبا القاسم طاهر بن أحمد الوراق يقول : سمعت محمد بن شاذان الهاشمي يقول : لما وقع بين محمد بن يحيى ومحمد ابن إسماعيل دخلت على محمد بن إسماعيل فقلت : يا أبا عبد الله إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى. كل من يختلف إليك يطرد من منزله ، وليس لكم منزل. قال : محمد بن يحيى كمن يعتريه الحسد في العلم ، والعلم رزق من الله تعالى يعطيه من يشاء ، فقلت يا أبا عبد الله : هذه المسألة التي تحكى عندك ، فقال لي : هذه مسألة مشئومة رأيت أحمد بن حنبل وما ناله من هذه المسألة جعلت على نفسي لا أتكلم فيها ، والمسألة التي كانت بينهما كان محمد بن يحيى لا يجيب فيها إلا ما يحكيه عن أحمد بن حنبل ، فسئل محمد بن إسماعيل فوقف عنها ، وهي أن اللفظ بالقرآن مخلوق ، فلما وقف عنها البخاري تكلم فيه محمد بن يحيى وقال : قد أظهر هذا البخارى قول اللفظية ، واللفظية شر من الجهمية.

قال الحاكم : سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد العدل يقول : سمعت أبا حامد ابن الشرقي يقول : سمعت محمد بن يحيى يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وهو قول أئمتنا مالك بن أنس ، وعبد الرحمن بن عمر ، والأوزاعي ، وسفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، والكلام كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته ، وحيث تصرف ، فمن لزم ما قلنا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن ، من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج من الإيمان وبانت منه امرأته ويستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا

٦٦٢

بين المسلمين ، ولم يدفن في مقابر المسلمين ، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم ، ومن وقف وقال لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى مجلس محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه.

قال الحاكم : وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول : سمعت محمد بن نعيم يقول سألت محمد بن إسماعيل البخاري لما وقع ما وقع من شأنه عن الإيمان فقال : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، والقرآن كلام غير مخلوق ، وأفضل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، على هذا حييت وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى ، ثم قال أبو الوليد : أي عين أصابت محمد بن إسماعيل بما نقم عليه محمد بن يحيى ، فقلت له إن محمد بن إسماعيل قد بوب في آخر «الجامع الصحيح» بابا مترجما «ذكر قراءة الفاجر والمنافق وأن أصواتهم لا تجاوز حناجرهم» نذكر فيه حديث قتادة عن أنس عن أبى موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة» (١) الحديث. وحديث أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان» (٢) الحديث. فقال لي كيف قلت؟ فأعدته عليه ، فأعجبه ذلك ، وقال : ما بلغني هذا عنه.

ومراد أبي عبد الله بهذا الاستدلال أن الثقل في الميزان والخفة على اللسان متعلق بفعل العبد وكسبه ، وهو صوته وتلفظه لا يعود إلى ما قام بالرب تعالى من كلامه وصفاته ، وكذلك قراءة البر والفاجر ، فإن قراءة الفاجر لا تجاوز حنجرته ، فلو كانت قراءته هي نفس ما قام بالرب من الكلام وهي غير مخلوقه لم تكن كذلك ، فإنها متصلة بالرب حينئذ.

__________________

(١) رواه البخاري (٧٥٦٠).

(٢) رواه البخاري (٦٦٨٢) ، ومسلم (٢٦٩٤).

٦٦٣

فالبخاري أعلم بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وأمتن من كلام أبي عبد الله ، فإنّ الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا وإثباتا على اللفظ. فقالت طائفة : أراد سد باب الكلام في ذلك ، وقالت طائفة منهم ابن قتيبة : إنما كره أحمد ذلك ومنع ، لأن اللفظ في اللغة الرمي والإسقاط ، يقال لفظ الطعام من فيه ولفظ الشيء من يده إذا رمى به. فكره أحمد إطلاق ذلك علي القرآن. وقالت طائفة إنما مراد أحمد أن اللفظ غير الملفوظ فلذلك قال : إن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي.

وأما منعه أن يقال : لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فإنما منع ذلك لأنه عدول عن نفس قول السلف ، فإنهم قالوا القرآن غير مخلوق ، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى ، فإذا خص اللفظ بكونه غير مخلوق كان ذلك زيادة في الكلام أو نقصا من المعنى ، فإن القرآن كله غير مخلوق ، فلا وجه لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة ، وهذا كما قال قائل : السبع الطوال من القرآن غير مخلوقة فإنه وإن كان صحيحا ، لكن هذا التخصيص ممنوع منه ، وكل هذا عدول عما أراده الإمام أحمد.

وهذا المنع في النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة وتحقيقه لهذا الباب فإنه امتحن به ما لم. يمتحن به غيره ، وصار كلامه قدوة وإماما لحزب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران (أحدهما) الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له (الثاني) التلفظ به والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ قد توهم المعنى الأول وهو خطأ ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ ، فمنع الإطلاقين.

وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ، وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وإكسابهم ، ونفي اسم الخلق عن الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من

٦٦٤

الله تعالى وسمعه محمد من جبرائيل. وقد شفي في هذه المسألة في كتاب «خلق أفعال العباد» وأتى فيها من الفرقان والبيان بما يزيل الشبهة ، ويوضح الحق ، ويبين محله من الإمامة والدين ، ورد على الطائفتين أحس الرد.

وقال أبو عبد الله البخاري : فأما ما احتج الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه ، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وما سواه فهو مخلوق وأنهم كرهوا البحث والتفتيش عن الأشياء الغامضة وتجنب أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء به العلم وبينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والفريقان اللذان عناهما البخاري وتصدى للرد عليهما وإبطال قولهما ، ثم أخبر البخاري أن كل واحدة من الطائفتين الزائغتين تحتج بأحمد ، وتزعم أن قولها قوله ، وهو كما قال رحمه‌الله تعالى ، فإن أولئك اللفظية يزعمون أنه كان يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ، وأنه على ذلك استقر أمره ، وهذا قول من يقول التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء والكتابة هي المكتوب.

والطائفة الثانية الذين يقولون : التلاوة والقراءة مخلوقة ، ويقولون : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ، ومرادهم بالتلاوة والقرآن نفس ألفاظ القرآن العربي الذي سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمتلو المقروء عندهم هو المعنى القائم بالنفس وهو غير مخلوق ، وهو اسم للقرآن ، فإذا قالوا القرآن غير مخلوق أرادوا به ذلك المعنى وهو المتلو المقروء ، وأما المقروء المسموع المثبت في المصاحف فهو عبارة عنه وهو مخلوق ، وهؤلاء يقولون التلاوة غير المتلو ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب وهي مخلوقة ، والمتلو المقروء غير مخلوق ، وهو غير مسموع ، فإنه ليس بحروف ولا أصوات.

والفريقان مع كل منهما حق وباطل ، فنقول وبالله التوفيق.

وأما الفريق الأول فأصابوا في قولهم إن الله تعالى تكلم بهذا القرآن على الحقيقة حروفه ومعانيه تكلم به بصوته وأسمعه من شاء من ملائكته ، وليس هذا

٦٦٥

القرآن العربي مخلوقا من جملة المخلوقات. وأخطئوا في قولهم : إن هذا الصوت المسموع من القارئ هو الصوت القائم بذات الرب تعالى وأنه غير مخلوق ، وأن تلاوتهم وقراءتهم وألفاظهم القائمة بهم غير مخلوقة ، فهذا غلو في الإثبات يجمع بين الحق والباطل.

وأما الفريق الثاني فأصابوا في قولهم : إن أصوات العباد وتلاوتهم وقراءتهم وما قام بهم من أفعالهم وتلفظهم بالقرآن وكتابتهم له مخلوق ، وأخطئوا في قولهم إن هذا القرآن العربي الذي بلغه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله مخلوق ، ولم يكلم به الرب ولا سمع منه ، وأن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه ليس بحرف ولا سور ولا آيات ، ولا له بعض ولا كل وليس بعربي ولا عبراني ، بل هذه عبارات مخلوقة تدل على ذلك المعنى.

والحرب واقع بين هذين الفريقين من بعد موت الإمام أحمد إلى الآن ، فإنه لما مات الإمام أحمد قال طائفة ممن ينسب إليه ، منهم محمد بن داود المصيصي وغيره : ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ، حكوا ذلك عن الإمام أحمد فأنكر عليهم صاحب الإمام أحمد وأخص الناس بهم أبو بكر المروذي ذلك ، وصنف كتابا مشهورا ذكره الخلال في «السنة» ثم نصر هذا القول أبو عبد الله بن حامد وأبو نصر السجزي وغيرهما ، ثم نصره بعدهم القاضي أبو يعلى وغيره ثم ابن الزاغوني وهو خطأ على أحمد.

فقابل هؤلاء الفريق الثاني وقالوا إن نفس هذه الألفاظ مخلوقة لم يتكلم الله بها ولم تسمع منه ، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه ، وقالوا هذا قول أحمد.

والبخاري وأئمة السنة برآء من هذين القولين ، والثابت المتواتر عن الإمام أحمد هو ما نقله عنه خواص أصحابه وثقاتهم ، كما بينه صالح وعبد الله المروذي وغيرهم : الإنكار على الطائفتين جميعا كما ذكره البخاري ، فأحمد والبخاري على خلاف قول الفريقين ، وكان يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وإن القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله على الحقيقة ، وحيث تصرف كلام الله فهو غير مخلوق ،

٦٦٦

وكان يقول بخلق أفعال العباد وأصواتهم ، وإن الصوت المسموع من القارئ هو صوته وهو مخلوق ، ويقول في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (١) معناه يحسنه بصوته ، كما قال : «زينوا القرآن بأصواتكم».

ولما كان كل من احتج بكلام أحمد على شيء فلا بد من أمرين (أحدهما) صحة النقل عن ذلك القائل (والثاني) معرفة كلامه. قال البخاري : فما احتج به الفريقان من كلام أحمد ليس بثابت كثير من أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه فذكر أن من المنقول عنه ما ليس بثابت ، والثابت عنه قد لا يفهمون مراده لدقته على أفهامهم.

وقال إبراهيم الحربي : كنت جالسا عند أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله إن عندنا قوما يقولون إن ألفاظهم مخلوقة. قال أبو عبد الله : يتوجه العبد لله بالقرآن بخمسة أوجه وهو فيها غير مخلوق : حفظ بقلب ، وتلاوة بلسان ، وسمع بأذن ، ونظرة ببصر ، وخط بيد ، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق ، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق ، والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق ، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق ، والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق. قال إبراهيم : فمات أحمد فرأيته في النوم وعليه ثياب خضر وبيض ، وعلى رأسه تاج من الذهب مكلل بالجواهر وفي رجليه نعلان من ذهب. فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال غفر لي وقربني وأدناني. فقال قد غفرت لك ، فقلت له يا رب بما ذا؟ قال بقولك كلامي غير مخلوق.

ففرق أحمد بين فعل العبد وكسبه وما قام به فهو مخلوق ، وبين ما تعلق به كسبه وهو غير ومن لم يفرق هذا التفريق لم يستقر له قدم في الحق.

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في الصحيح.

٦٦٧

فإن قيل : كيف يكون المسموع غير مخلوق ، وإنما هو صوت العبد ، وأما كلامه سبحانه القائم به فإنا لا نسمعه ، وكيف يكون المنظور إليه غير مخلوق ، وإنما هو المداد والورق ، وكيف يكون المحفوظ غير مخلوق وإنما هو الصدر وما حواه واشتمل عليه ، فهل انتقل القديم وحل في المحدث أو اتحد به وظهر فيه فإن أزلتم هذه الشبهة انجلى الحق وظهر الثواب ، إلا فالغبش موجود والظلمة منعقدة.

قيل : قد زال الغبش بحمد الله وزالت الظلمة ببعض ما تقدم ، ولكن ما حيلة الكحال في العميان؟ فمن يشك في القلب وصفاته ، واللسان وحركاته ، والحلق وأصواته والبصر ومرئياته ، والورق ومداده ، والكاتب وآلاته.

قال الشعبي في بيع المصاحف : لا يبيع كتاب الله وإنما يبيع عمل يده ، وقال زياد مولى سعيد : سألت ابن عباس فقال : لا نرى أن تجعله متجرا ولكن ما عملت يداك فلا بأس. وقال سعيد بن جبير عن عباس في بيع المصاحف : إنما هم مصورون يبيعون عملهم ، عمل أيديهم ، وذكر ذلك البخاري قال ، ويذكر عن على قال : يأتي علي الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمة.

قال البخاري : قال الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) قال ولكنه كلام الله تلفظ به العباد والملائكة ، قال : وقد قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (القمر : ١٧) قال وسمع عمر معاذا القارئ يرفع صوته بالقراءة وقال (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان : ١٩) ثم روى عن أبي عثمان النهدي قال : ما سمعت صنجا قط ولا بربطا ولا مزمارا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري إلا فلان إن كان ليصلى بنا فنودّ أنه قرأ البقرة لحسن صوته.

٦٦٨

ثم قال البخاري : فبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أصوات الخلق ودراستهم وقراءتهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن من بعض ، وأتلى وأزين وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض وأخشع. قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (طه : ١٠٨) وأجهر وأخفى وأمد وأخفض وألين من بعض ، ثم ذكر حديث عائشة المتفق عليه : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يشتد عليه له أجران» (١) ومراده أن قراءته في الموضعين علمه وسعيه.

وذكر حديث قتادة : سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كان يمد مدا» وفي رواية «يمد صوته مدا» ثم ذكر حديث قطبة بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ في الفجر : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق : ١٠) يمد بها صوته يعني فالمد والصوت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو عبد الله : فأما المتلو فقوله عزوجل الذي ليس كمثله شيء. قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (الجاثية : ٢٩) وقال عبد الله بن عمر : يمثل القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبة قال أبو عبد الله : وهو اكتسابه وفعله. قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة : ٧ ، ٨).

ثم قال البخاري : فالمقروء كلام رب العالمين الذي قال لموسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (طه : ١٤) إلا المعتزلة فإنهم ادعوا أن قول الله مخلوق ، وهذا خلاف ما عليه المسلمون ، ثم قال البخاري : فالقراءة هي التلاوة ، والتلاوة غير المتلو. قال وقد بينه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ذكر حديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي» (٢) الحديث ، فالعبد يقول : الحمد لله رب العالمين حقيقة تاليا لما قاله الله عزوجل ، فهذا قول الله الذي قاله وتكلم به

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه مسلم (٣٩٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٦٦٩

مبتدئا تاليا وقارئا ، كما هو قول الرسول مبلغا له ومؤديا ، كما قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ما أمر به أن يقول ، فكان قوله تبليغا محضا لما قاله ، فمن زعم أن التالي والقاري لم يقل شيئا فهو مكابر جاحد للحس والضرورة ، ومن زعم أن الله لم يقل هذا الكلام الذي نقرأ ونتلوه بأصواتنا فهو معطل جاحد جهمي زاعم أن القرآن قول البشر.

قال البخاري : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرءوا إن شئتم» (١) فالقراءة لا تكون إلا من الناس ، وقد تكلم الله بالقرآن من قبل خلقه ، فبين أن الله سبحانه هو المتكلم بالقرآن قبل أن يتكلم به العباد ، بخلاف قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن الله خلقه على لسان العبد ، فتكلم العبد بما خلقه الله على لسانه من كلامه في ذلك الوقت ، ولم يتكلم به الله قبل ذلك.

قال البخاري : ويقال فلان حسن القراءة ورديء القراءة ، ولا يقال حسن القرآن وإنما ينسب إلى العباد القراءة لأن القرآن كلام الرب ، والقراءة فعل العبد ، قال ولا تخفى معرفة هذا القدر إلا على من أعمى الله قبله ولم يوفقه ولم يهده سبيل الرشاد.

* * *

فصل

من المعلوم بالفطرة المستقرة عند العقلاء قاطبة أن الكلام يكتب في المحال من الرق والخشب وغيرهما ، ويسمى محله كتابا ويسمى نفس المكتوب كتابا ، فمن

__________________

(١) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» ص (١٥٢) والإمام أحمد (٢ / ٤٣٨) والترمذي (٣٢٩٢) ، والحاكم (٢ / ٢٩٩) عن أبي هريرة يرفعه بلفظ : «إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم (فمن زحزح عن النار ، وادخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الامتاع الغرور ... وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ا ه. وقال الترمذي : حديث حسن صحيح أ. ه.

٦٧٠

الأول قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٨) ، ومن الثاني قوله : (لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) (الأنعام : ٧) وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣) ، ولكن تسمية المحل مشروطة بوجود المكتوب فيه ، وهذا كما أن تسمية القصبة قلما مشروطة بكونها مبروءة ، وتسمية الدار قرية مشروطة بكونها مأهولة بالساكن ، وتسمية الإناء كأسا مشروطة بوضع الشراب فيه ، وتسمية السرير أريكة مشروطة بنصب الحجلة عليه ، بل اشتراط وجود المكتوب في المحل يصحح هذه التسمية أظهر من ذلك كله.

والقول بأن الكلام في الصحيفة من العلم العام الذي لم ينازع فيه أحد العقلاء إذا خلى مع الفطرة ، وإنما وقعت فيه شبهتان فاسدتان من جهة النفي والإثبات أحالت أربابها عن فطرتهم ، حتى قالوا ما هو معلوم الفساد بالفطرة والعقلاء كلهم يذكرون هذا مطلقا كقولهم الكلام في الصحيفة واللوح ، ومقيدا كقوله كلام فلان في الصحيفة والكتاب واللوح.

وهذا القدر المستقر في فطر الناس جاء في كلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين ، قال الله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) (الأنعام : ٧) ، وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج : ٢١ ، ٢٢) وقال تعالى شك (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨) ، وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) (عبس : ١٣ ـ ١٥) وقال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣) ، وقد أخبر الله سبحانه عن تعدد محله بالكتاب تارة وبالرق تارة وبصدور الحفاظ تارة ، كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت : ٤٩).

والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر ، كقول ابن عمر : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (١).

__________________

(١) رواه البخاري (٢٩٩٠) ، ومسلم (١٨٦٩).

٦٧١

ومن المعلوم بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بمداد وورق وكاغد ، وإن النهى إنما وقع عن السفر بالكلام الذي تضمنه الورق والمداد ، فهو المقصود لذاته ، والورق والمداد مقصود قصد الوسائل ، ولهذا يرغب الناس في الكتاب المشتمل على الكلام الذي ينتفع به ويتنافسون فيه ويبذلون فيه أضعاف ثمن الكاغد (١). والمداد ، لعلمهم أن المقصود هو الكلام نفسه لا المداد والورق.

وكل ذي فطرة سليمة يعلم أن وجود الكلام في المصحف ليس بمنزلة وجود الحقائق الخارجية فيها ، ولا بمنزلة وجودها في محالها وأماكنها وظروفها ، ويجد الفرق بين كون الكلام في الورقة ، وبين كون الماء في الظرف.

فههنا ثلاث معان متميزة لا يشبه كل منها الآخر ، فإن الحقائق الموجودة لها وجود عين ، ثم تعلم بعد ذلك ثم يعبر عن العلم بها ، ثم تكتب العبارة عنها فهذا العلم والعبارة والخط ليس هو أعيان تلك الحقائق بل هو وجودها الذهني العلمي في محله ، وهو القلب والذهن ، ووجودها اللفظي النطقي في محله وهو اللسان في الآدمي ، ووجودها الرسمي الخطي في محله وهو الكتاب أو ما يقوم من حفر في حجر أو خشب ، وقد افتتح الله وحيه إلى رسوله بإنزال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم : ١ ـ ٥) فأخبر سبحانه أنه خلق الحقائق الموجودة ، وعلم الحقائق العلمية ، وذكر تعليمه بالقلم وهو الخط ، وهو مستلزم تعليم البيان النطقي وهو العبارة ، وتعليم العلم بمدلولها وهو الصورة العلمية المطابقة للحقيقة. فأول المراتب الوجود الخارجي ، وبينه وبين الكتابة مرتبتان ، وبينه وبين الوجود العلمي مرتبة اللفظ فقط وليس بينه وبين اللفظ مرتبة أخرى.

إذا عرف هذا فكون الرب تعالى وأسمائه وصفاته في الكتاب غير كون كلامه في الكتاب ، فهذا شيء وهذا شيء ، فكونه في الكتاب هو اسمه

__________________

(١) الكاغد : هو الورق.

٦٧٢

وأسماء صفاته والخبر عنه ، وهو نظير كون القيامة والجنة والنار والصراط والميزان في الكتاب ، إنما ذلك أسماؤها والخبر عنها ، وأما كون كلامه في المصحف والصدور فهو نظير كون كلام رسوله في الكتاب وفي الصدور ، فمن سوى بين المرتبتين ، فهو ملبس أو ملبوس عليه.

يوضحه أنه سبحانه أخبر أن القرآن في زبر الأولين ، وأخبر أنه في صحف مطهرة يتلوها رسله ، ومعلوم أن كونه في زبر الأولين ليس مثل كونه في المصحف الذي عندنا ، وفي الصحف التي بأيدي الملائكة ، فإن وجوده في زبر الأولين هو ذكره والخبر عنه كوجود رسوله فيها ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (الأعراف : ١٥٧) فوجود الرسول في التوراة والإنجيل ، ووجود القرآن فيه واحد ، فمن جعل وجود كلام الله في المصحف كذلك فهو أضل من حمار أهله.

وقد علم بذلك أن لا يحتاج إلى حذلقة متحذلق يقول : إنه لا بد من حذف وإضمار وتقديره (عبارة كلام الله في المصحف أو حكايته) فإنك إذا قلت في هذا الكتاب كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كلام الشافعي وأحمد ، فإن كل أحد يفهم المراد بذلك ، ولا يتوقف فهمه على حذف وإضمار كما لا يذهب وهمه إلى أن صفة المتكلم ، والقول القائم به الصوت واللفظ المسموع منه فارق ذاته ، وانفصل من محله ، وانتقل إلى محل آخر.

هذا كله أمر محسوس مشهود لا ينازع فيه من فهمه إلا عنادا ، لكن قد لا يفهمه بعض الناس لفرط بلادة وعمى قلب أو غلبة هوى.

ومما يوضح هذا أن الله سبحانه كتب مقادير الخلائق عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض كتابا مفصلا محيطا بالكائنات ، وأخبرنا بذلك في كتابه ، فالخبر عنها مكتوب في المصاحف في قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (يس : ١٢) والإمام هو الكتاب ، ومعلوم قطعا أن كتابتها في الكتاب السابق ليس هو مثل كتابتها في القرآن ، فإن ذلك كتابة مفصلة وهذا إخبار عنها ، فكتابة اسم القرآن في رق أو غيره ليس هو مثل كتابة معانيه ، وإذا كتب كلام المتكلم في كتاب لم تكن الحروف المكتوبة من جنس الحروف الملفوظة لا من

٦٧٣

حيث المادة ولا من حيث الصورة حتى يقال انتقلت تلك الحروف بمادتها وصورتها وحلت في الكتاب ، ولا يتوهم هذا سليم العقل والحواس.

* * *

فصل

وكلام الرب تعالى : بل كلام كل متكلم ، تدرك حروفه وكلماته بالسمع تارة وبالبصر تارة ، فالسمع نوعان : مطلق ومقيد ، فالمطلق ما كان بغير واسطة كما سمع موسى بن عمران كلام الرب تعالى من غير واسطة ، بل كلمه تكليما منه إليه ، وكما يسمع جبرائيل وغيره من الملائكة كلامه وتكليمه سبحانه. وأما المقيد فالسمع بواسطة المبلغ ، كسماع الصحابة وسماعنا لكلام الله حقيقة بواسطة المبلغ عنه كما يسمع كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل وكلام غيره كمالك والشافعي وسيبويه والخليل بواسطة المبلغ ، فقوله تعالى (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (التوبة : ٦) من النوع الثاني ، وكذلك قوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) (المائدة : ٨٣) وقوله في الحديث «كأن الناس لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه يوم القيامة من الرحمن» (١) من النوع الأول ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان» (٢).

وأما النظر فعلى نوعين أيضا ، فإن المكتوب قد يكتبه غير من يتكلم به فيكون الناظر إليه ناظرا إلى الحروف والملمات بواسطة ذلك الكاتب ، وقد يكون المتكلم نفسه كتب كلامه ، فينظر الناظر إلى حروفه وكلماته التي كتبها بيده ، كما سمع منه كلماته التي تكلم بها ، وهذا كما كتب لموسي التوراة بيده بغير واسطة كما في الحديث الصحيح في قصة احتجاج آدم وموسى (٣). وفي حديث الشفاعة وغير ذلك فجمع لموسي بين الأمرين : أسمعه كلامه بغير واسطة وأراه إياه بكتابته.

* * *

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو ضعيف.

(٢) تقدم تخريجه وهو في «صحيح البخاري».

(٣) رواه البخاري (٦٦١٤) ، مسلم (٢٦٥٢).

٦٧٤

فصل

قالت فرقة : القرآن في المصحف بمنزلة وجود الأعيان في السموات والأرض والجنة والنار ، ووجود اسم الرب في ورقة أو صحيفة ، وهذا جهل عظيم ، فإن الفرق بين كون وجود القرآن في الصحف أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، ويكفي المراتب الأربعة التي هم معترفون بصحتها ومحتجون بها ، فالقرآن ككلام وجوده في المصحف من باب وجود الكلام في الصحف ، ومعلوم أن وجود الكلام في المصحف هو وجود عيني ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود رسمي ، فإذا وجد الكلام في المصحف كان وجود المرتبة الثالثة في الرابعة ، لا بمعنى أن اللفظ الذي هو حروف وأصوات انتقل بنفسه وصار أشكالا مدادية ، بل ذلك أمر معقول مشهود بالحس يعرفه العقلاء قاطبة.

نعم : وجود القرآن في زبر الأولين من باب وجود المرتبة الأولى في الرابعة فمن سوى بين وجوده ثمّ ووجوده في المصحف فهو جاهل أو ملبس ، وليس القرآن بعينه موجودا في زبر الأولين ، وإنما فيها خبره وذكره والشهادة له فيها مذكور مخبر عنه ، وهو في المصحف ذكر وخبر وشاهد وقصص وأمر ونهي ، فأين أحدهما من الآخر؟ فقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء : ١٩٦) وقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (الأعلى : ١٨) ليس مثل قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٧ ، ٧٨) وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣) ومن سوى بينهما لومه أن يقول إن هذا القرآن العربي بعينه أنزل علي من قبلنا أو أن يقول إن المصحف ليس فيه قرآن ، إنما فيه ذكره والخبر عنه كما هو في الصحف الأولى وكلا الأمرين معلوم البطلان عقلا وشرعا.

وقد انفصلوا عن هذا السؤال بأن قالوا المكتوب المحفوظ المتلو هو الحكاية أو العبارة المؤلفة المنطوق بها التي خلقها الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ ، وفي نفس الملك ، فيقال : هذه عندكم ليس كلام الله إلا على المجاز وقد علم بالاضطرار أن هذا الكلام العربي هو القرآن ، وهو كتاب الله وهو كلامه ،

٦٧٥

قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف : ٢٩) آية. فأخبر أن الذي سمعوه هو نفس القرآن ، وهو الكتاب وقال تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (الأعراف : ٢٠٤) فأخبر أنا الذي يسمع هو القرآن بنفسه ، وعندهم أن القرآن يستحيل أن يقرأ لأنه ليس بحروف ولا أصوات ، وإنما هو واحد الذات ليس سورا ولا آيات. وقال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) (النحل : ٩٨) (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل : ٤) (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) (الإسراء : ١٠٦) (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (التوبة : ٦) وعندهم أن الذي يسمع ليس كلام الله على الحقيقة وإنما هو مخلوق حكي به كلام الله (على أحد قوليهم) وعبارة عبر بها عن كلامه (على القول الآخر) وهي مخلوقة على القولين ، فالمقروء والمسموع والمكتوب والمحفوظ ليس هو كلام الله ، وإنما هو عبارة عبر بها عنه كما يعبر عن الذي لا ينطق ولا يتكلم من أخرس أو عاجز ، بل هو عندهم دون ذلك ما يعبر عن حال الشيء ، فيقال : قال كذا وكذا بلسان حاله لما لا يقبل النطق ، فإن الأخرس والعاجز قابل النطق ، فهو أحسن حالا ممن لا يقبله.

فعندهم أن الملك فهم عن الله تعالى معني مجردا قائما بنفسه ، ثم الملك عبر عن الله فهو الذي أحدث نظم القرآن وألفه ، فيكون إيحاؤه سبحانه إلى الملك مثل الوحى الذي يوحيه إلى الأنبياء ، إذ لا تكلم هناك ، ولا خطاب ، والملك لا يسمع من الله شيئا ولا النبي ، وعلى هذا فيكون ما أوحاه إلى النبي بالإلهام أو منام أشرف من تنزيل القرآن على الرسول علي هذا التقدير ، فإن ما أوحاه في الموضعين معنى مجردا ، لكن القرآن بواسطة الملك وحى إلهام ، والإلهام بغير واسطة ، وما ارتفعت فيه الوسائط فهو أشرف.

ولما أصلت الجهمية هذا الأصل وبنو عليه وجعلوا تكليم الرب تعالى للرسل والملائكة ، وهو مجرد إيحاء المعاني صار خلق من متعبديهم ومتصوفيهم يدعون أنهم يخاطبون وأن الله يكلمهم كما كلم موسى بن عمران ، ويزعمون أن التحديث الذي يكون للأولياء مثل تكليم الله لموسى بن عمران ، إذ ليس هناك غير مجرد الإلهام ، وبعضهم يقول إن الله خاطبني من لسان هذا الآدمي ،

٦٧٦

وخاطب موسى من الشجرة ، والآدمي أكمل من الشجرة ، وبعض متأخريهم صرح بأن الله خلق تلك المعاني في قلب الرسول ، وخلق العبارة الدالة عليها في لسانه ، فعاد القرآن إلى عبارة مخلوقة دالة على معنى مخلوق في قلب الرسول.

ويعجب هذا القائل من نصب الخلاف بينهم وبين المعتزلة وقال : ما نثبته نحن من المعنى القائم بالنفس فهو من جنس العلم والإرادة ، والمعتزلة لا تنازعنا في ذلك ، غاية ما في الباب إنا نحن نسميه كلاما وهم يسمونه علما وإرادة. وأما هذا النظم العربي الذي هو حروف وكلمات ، وسور وآيات ، فنحن وهم متفقون على أنه مخلوق ، لكن هم يسمونه قرآنا ، ونحن نقول هو عبارة عن القرآن أو حكاية عنه.

فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف علي تكفيرهم ، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا : هذا الكلام العربي وهو القرآن حقيقة لا عبارة عنه ، وهو كلام الله ، وإنه غير مخلوق.

ومن هنا استخف كثير من أتباعهم بالمصحف وجوزوا دوسه بالأرجل ، لأنه بزعمهم ليس فيه إلا الجلد والورق والزاج والعفص ، والحرمة التي تثبت له دون الحرمة التي تثبت لديار ليلى وجدرانها فإن تلك الديار حلت فيها ليلى ونزلت بها ، وهذا الحد والورق إنما حل فيه المداد والأشكال المصورة الدالة علي عبارة كلام الله المخلوقة.

قال أبو الوفاء بن عقيل في خطبة كتابه في القرآن : أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد الدين قد انحط شعارها ، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب الله عزوجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل ، وتضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، تنتهك حرمته لغوا وأثاما ، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال ، حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق ، وإن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت. إزراء بحرمته ومهانة بقيمته ،

٦٧٧

وتطفيفا في حقوقه ، وجحودا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة متوجعا متألما. أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤١ ، ٤٢) وقال (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٨ ، ٧٩) وقال : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (الطور : ١ ـ ٣) أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون. وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار (لا يمسه إلا المطهرون) أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» (١) أليس الله تعالى يقول في كتابه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) (مريم : ١٢) وقال في حق موسى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ) (الأعراف : ١٤٥) أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين. يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ، ويقولون تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب. هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟ يقولون القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه ، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ، فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون. إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن؟ قالوا قديم غير مخلوق ، وإن قلنا فم القرآن أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة ، أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ، أليس هو المسموع من ألسنة التالين؟ قالوا إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة أخرى.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٦٧٨

ثم ساق الكلام في بيان أن القرآن اسم لهذا الكتاب العربي الذي نزل به جبرائيل من رب العالمين على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجراه على لسانه. وأن الله تعالى تكلم به حقا فسمعه منه جبرائيل. فأداه إلي رسوله فأداه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأمة.

* * *

فصل : صفة الكلام بصوت

قال شيخ الإسلام : أول ما ظهر إنكار أن الله سبحانه يتكلم بصوت في أثناء المائة الثالثة ، فإنه لما ظهرت الجهمية المعطلة في إمارة أبي العباس المأمون وأدخلته في آرائها بعد أن كانوا أذلاء مقموعين ، وهؤلاء كان عندهم أن الله لا يتكلم أصلا بحرف ولا صوت ولا معنى ولا يرى ، ولا هو مستو على عرشه ، ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا حكمة تقوم به ، فلما وقعت المحنة وثبت الله خلفاء الرسل وورثة الأنبياء علي ما ورثوه عن الأنبياء والمرسلين ، وعلموا أن باطل أولئك هو نفاق مشتق من أقوال المشركين والصابئين الذين هم أعداء الرسول ، وسوس الملك ، وظهر للأمة سوء مذاهب الجهمية وما فيها من التعطيل ظهر حينئذ عبد الله بن سعيد بن كلاب البصرى ، وأثبت الصفات موافقة لأهل السنة ، ونفى عنها الخلق ردا على الجهمية والمعتزلة. ولم يفهم لنفي الخلق عنها معني إلا كونها قديمة قائمة بذاته سبحانه. فأثبت قدم العلم والسمع والبصر والكلام وغيرها ، ورأى أن القديم لا يتصور أن يكون حروفا وأصواتا لما فيها من التعاقب وسبق بعضها بعضا. فجعل كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق هو مجرد معنى أو معان محصورة ، وسلك طريقة خالف فيها المعتزلة ، ولم يوافق فيها أهل الحديث في كل ما هم عليه. فلزم من ذلك أن يقول إن الله لم يتكلم بصوت وحرف وتبعه طائفة من الناس.

وأنكر ذلك الإمام أحمد وأصحابه كلهم. والبخاري صاحب «الصحيح».

٦٧٩

فقال عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» قلت لأبي : يا أبت إن قوما يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ، فقال يا بني هؤلاء الجهمية إنما يدورون على التعطيل يريدون أن يلبسوا على الناس بلى تكلم بصوت (١).

ثم قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال : إذا تكلم الله بالوحى سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة علي الصف. وصرح البخاري بأن الله يتكلم بحرف وصوت ، وذكر في كتابه «الصحيح» حديث جابر «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» (٢) فاحتج به في الباب وإن ذكره تعليقا ، وذكر عن مسروق عن ابن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا : ما ذا قال ربكم؟ قالوا الحق.

وكذلك ابن القاسم صاحب مالك صرح في رسالته في «السنة» : إن الله يتكلم بصوت وهذا لفظه قال : والإيمان بأن الله كلم موسى بن عمران بصوت سمعه موسى من الله تعالى لا من غيره ، فمن قال غير هذا أو شك فقد كفر ، حكى ذلك ابن شكر في «الرد على الجهمية» عنه.

وكذلك أبو الحسن بن سالم شيخ سهل بن عبد الله التستري صرح بذلك. وكان الحارث المحاسبي ينكر أولا أن الله يتكلم بصوت ثم رجع عن ذلك ، وحكى عنه الكلاباذي في كتاب «التعرف لمذهب التصوف» أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت ، وهذا آخر قوله كما ذكره معمر بن زياد الأصبهاني في أخبار الصوفية أن الحارث كان يقول : إن الله يتكلم بلا صوت ثم رجع عن ذلك.

وكذلك قام إمام الأئمة محمد بن خزيمة وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام

__________________

(١) رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» (٢ / ٢٨) وتقدم ذكر آراء الإمام أحمد في هذا الباب.

(٢) رواه البخاري تعليقا (١٣ / ٤٦١ : فتح) ، ووصله في «خلق أفعال العباد» ص (١٣٧) ، الإمام أحمد (٣ / ٤٩٥) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (ص ١٣٧).

٦٨٠