مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

لدينا. وإنه محض منته وجوده وفضله. فهو المحمود أولا وآخرا على توفيقنا له وتعليمنا إياه :

إن كل شبهة من شبه أرباب المعقولات عارضوا به الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم. وإن مد الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابا كبيرا ؛ ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل اقتدينا في السير إليه بموسى عليه‌السلام في سفره إلى الخضر ، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أنيس لسماع حديث واحد ، ولكن زهد الناس في عالم قومه ؛ وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برز على أهل الأرض في عصره وفي أعصار قبله فأدرك من قبله وحيدا ؛ وسبق من بعده سبقا بعيدا.

الوجه الثالث والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفء له. وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين ، واستحق بقيامها أن يكون (ليس كمثله شيء) وهكذا كونه ليس له سمي أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ، ولا من يكافيه فيها. ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ، ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه ، وكونه يمنته أو يسرته أو أمامه أو وراءه ، لكان كل عدم مثلا له في ذلك ، فيكون قد نفى عن نفسه مماثلة الموجودات ، وأثبت لها مماثلة المعدومات ، فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض ، فإن المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سمي ، فلو كان المراد نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه ، لكان ذلك وصفا له بغاية العدم. فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من كثرت أوصاف كماله حتى تفرد بذلك الكمال فلم يكن له شبيه في كماله ولا سمي ولا كفء.

فإذا أبطلتم هذا لمعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا ، وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا ، فلا يفعل فعلا ، ولا وجه له ، ولا يد ، ولا

٢٢١

يسمع ، ولا يبصر ، ولا يعلم ، ولا يقدر ، تحقيقا لمعنى (ليس كمثله شيء) وقال إخوانكم من الملاحدة : ليس له ذات أصلا ، تحقيقا لهذا النفي. وقال غلاتهم : لا وجود له. تحقيقا لهذا النفي. وأما الرسل وأتباعهم فإنهم قالوا : إن الله حي وله حياة ، وليس كمثله شيء في حياته وهو قوي ، وله القوة وليس كمثله شيء في قوته (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يسمع ويبصر. وليس كمثله شيء في سمعه وبصره. ومتكلم. وله يدان. ومستو على عرشه. وليس له في هذه الصفات مثل. فهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال فإنه مدح له وثناء أثنى به على نفسه. والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يكون كمالا له ، بل هو أنقص النقص. وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (جزء من آية الكرسي / سورة البقرة : ٢٢٥) لكمال حياته وقيوميه ، وقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لكمال غناه وملكه وربوبيته. وقوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لكمال غناه وعدله ورحمته ، وقوله (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) لكمال قدرته ، وقوله (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لكمال علمه وقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لعظمته وإحاطته بما سواه ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه واسع ؛ وفيرى ولكن لا يحاط به إدراكا ؛ كما يعلم ولا يحاط به علما فيرى ولا يحاط به رؤية ، وهكذا ليس كمثله شيء هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجماع.

وهذا القول هو المعقول في فطر الناس. فإذا قالوا فلان عديم المثل أو قد أصبح ولا مثل له في الناس. أو ماله شبيه ولا من يكافيه ، فإنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات والأفعال والمجد بما لا يلحقه فيه غيره. فصار واحدا في الجنس لا مثيل له. ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذم والنقص له. فإذا أطلقوا ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها. فهل يقول عاقل لمن لا قدرة له ولا علم ولا بصر ولا

٢٢٢

يتصرف بنفسه ، ولا يفعل شيئا ولا يتكلم ، ولا له وجه ولا يد ولا قوة ، ولا فضيلة من الفضائل. أنه لا شبه له ولا مثل له ؛ وأنه وحيد دهره ، وفريد عصره ، ونسيج وحده؟ هل فطر الله الأمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك؟ وهل كان رب العالمين أهل الثناء والمجد إلا بأوصاف كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه الحسنى؟ وإلا فلما ذا يثني عليه المثنون ؛ ولأى شيء يقول أعرف الخلق به «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومعلوم أن هذا الثناء الّذي أخبر أنه لا يحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه وأشد إحصاء له ؛ فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيا مفصلا. وذلك يحصيه المحصي بلا كلفة ولا تعب. وقد فصله النفاة وأحصوه وحصروه. يوضحه :

الوجه الرابع والثلاثون : إن الله سبحانه لما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات ويضاد ثبوت الصفات والأفعال ؛ فلم يبق الأمر عدميا أو ما المستلزم العدم ؛ كنفي السّنة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية ، ونفي العزوب والخفاء المستلزم لنفي كمال القدرة. ونفي الظلم المستلزم لعدم كمال الغنى والعدل ، ونفي الشريك والظهير والشفيع المتقدم بالشفاعة المستزلم لعدم كمال الغنى والقهر والملك ؛ ونفي الشبيه والمثيل والكف المستلزم لعدم الكمال المطلق ونفي إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمين لعدم كمال عظمته وكبريائه وسعته وإحاطته. وكذلك نفي الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه ؛ لاستلزام ذلك عدم كمال غناه ؛ وإذا كان نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم العدم ؛ علم أنه أحق بكل وجود وثبوت لا يستلزم عدما ولا نقصا.

وهذا هو الذي دل عليه صريح العقل ؛ فإنه سبحانه له الوجود الدائم القديم الواجب بنفسه الذي لم يستفده من غيره ؛ ووجود كل موجود مفتقر إليه ؛ ومتوقف في تحقيقه عليه ، والكمال وجود كله ؛ والعدم نقص كله. فإن العدم كاسمه لا شيء ؛ فعاد النفي الصحيح إلى نفي المماثلة في الكمال وعاد الأمران إلى نفي النقص. وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم نفي العدم. فتأمل هل نفى القرآن والسنة عنه سبحانه سوى ذلك؟ وتأمل ؛ هل ينفي العقل الصحيح غير ذلك.

٢٢٣

(الله الصمد)

وهو سبحانه قد وصف نفسه بأنه لم يكن له كفوا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد ، والصمد السيد الذي كمل في سؤدده. ولهذا كانت العرب تسمي أشرافها بهذا الاسم لكثرة الأوصاف المحمودة للمسمى به. قال شاعرهم :

ألا بكر الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة ، وذلك لكثرة خصال الخير فيه لهذا قال جمهور السلف ، منهم ابن عباس : الصمد الذي كمل سؤدده وهو العالم الذي كمل علمه ، القادر الذي كملت قدرته ، الحليم الذي كمل حلمه ، الرحيم الذي كملت رحمته ، الجواد الذي كمل وجوده ، ومن قال إنه الذي لا جوف له فقوله لا يناقض هذا التفسير ، فإن ما لم يكن أحد كفوا له لما كان صمدا كاملا فى صمدانيته ، فلو لم يكن له صفات كمال ونعوت جلال ، ولم يكن له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا يقوم به فعل ، ولا يفعل شيئا البتة ، ولا حياة له ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يد ، ولا هو فوق عرشه ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض ، ولا هو فاعل لما يريد ولا يرى ولا يمكن ان يرى ولا يشار إليه ولا يمكن ان يشار إليه ، لكان العدم المحض كفوا له ؛ فإن هذه الصفة منطبقة على المعدوم ، فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحق لم يكن صمدا وكان العدم كفوا له.

وكذلك قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم : ٦٥ ـ ٦٦) فأخبر أنه لا سمي له عقب قول العارفين به (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).

فهذا الرب الذي له هذا الجند العظيم ولا يتنزلون إلا بأمره. وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك ، وهو الذي كملت قدرته وسلطانه وملكه وكمل علمه. فلا ينسى شيئا أبدا ، وهو القائم بتدبير السماوات والأرض وما بينهما كما هو الخالق لذلك كله ، وهو ربه ومليكه. فهذا الرب هو الذي لا

٢٢٤

سمي له لتفرده بكمال هذه الصفات والأفعال. فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه ، إن هي إلا ألفاظ فارغة من المعاني ، فالعدم سمي له.

وكذلك قوله سبحانه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فإنه سبحانه ذكر ذلك عقب ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال (حم عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ـ إلى قوله ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : ١ ـ ١١).

فهذا الموصوف بهذه الصفات والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والولاية ، وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة ، والحكم بين عباده ، وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير ، فهذا هو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله ، وثبوتها على وجه الكمال لا يماثله فيه شيء. فالمثبت لصفات كماله هو الذي يصفه أنه ليس كمثله شيء. وأما المعطل النافي لصفاته وحقائق أسمائه فإن وصفه بأنه ليس كمثله شيء مجاز لا حقيقة له ، كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه.

(تأويل المثل الأعلى)

والوجه الخامس والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠) ، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين ، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده. وبهذا كان المثل الأعلى ، وهو أفعل تفضيل ، أي أعلى من غيره. فكيف يكون

٢٢٥

أعلى عدم محض منفي صرف ، وأي مثل أدنى من هذا؟ تعالى الله عن قول المعطلين علوا كبيرا. السوء العادم صفات الكمال. ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته ، لأنهم فقدوا الصفات التى من اتصف بها كان كاملا ، وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص والعبادة لله والتوكل عليه والإنابة إليه والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ، والصبر والرضى والشكر ، وغير ذلك من الصفات التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة ، فلما سلبت تلك الصفات عنهم وهي صفات كماله صار لهم مثل السوء ، فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته و (كل ما) وصف به نفسه ، فقد جعل الله تعالى مثل السوء ونزهه عن المثل الأعلى ، وأن مثل السوء هو ال ... وما (١)؟ يستلزمه ، وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التى كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره.

ولما كان الرب هو الأعلى ، ووجهه الأعلى ، وكلامه الأعلى ، وسمعه الأعلى ، وسائر صفاته عليا ، كان له المثل الأعلى وهو أحق به من كل ما سواه ، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان ، لأنهما إن تكافئا لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافئا فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير. وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه ، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة.

ونظير هذا القهر المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان ، فلا يكون القهار إلا واحدا ، إذ لو كان معه كفء ، فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق ، وإن قهره لم يكن له كفأ وكان القهار واحدا فتأمل كيف كان قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقوله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه وتعالى.

(فإن قلت) فما حقيقة المثل الأعلى (قلت) قد أشكل هذا على جماعة من

__________________

(١) كلمة غير واضحة بالأصل.

٢٢٦

المفسرين ؛ واستشكلوا أقوال السلف فيه ؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا مثل السوء العذاب والنار. ولله المثل الأعلى : شهادة (أن لا إله إلا الله) قال قتادة : هو الإخلاص والتوحيد. وقال الواحدي هذا قول المفسرين في هذه الآية ولا أدري لم قيل العذاب مثل السوء والإخلاص المثل الأعلى؟ قال وقال قوم : المثل السوء الصفة السوء من احتياجهم للولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار. ولله المثل الأعلى الصفة العليا وتنزهه وبراءته من الولد ، قال : وهذا قول صحيح والمثل كثيرا يرد بمعنى الصفة وقاله جماعة من المتقدمين.

وقال ابن كيسان : مثل السوء ما ضرب الله الأصنام وعبدتها من الأمثال ، والمثل الأعلى نحو قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ الآية وقال ابن جرير : وله المثل الأعلى ، هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل ، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا هو.

قلت : المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه ، فها هنا أربعة أمور : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر. علمها العباد أو جهلوها. وهذا قول من فسره بالصفة. (الثاني) وجودها في العلم والتصور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه ، بل يختص به في قلوبهم كما اختص به في ذاته ، وهذا معني قول من قال من المفسرين : أهل السماء يحبونه ويعظمونه وأهل الأرض يجلونه ويعظمونه ، وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه وجحد صفاته من جحدها ، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته. قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (الروم : ٢٦) فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأعظم من كل ما سواه. (الثالث) ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل (الرابع) محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه ، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.

٢٢٧

فعبارة السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها. وقد ضرب الله مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

وقال الله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) (الحج : ٧٥ ـ ٧٦) فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام : للأصنام مثل السوء وله المثل الأعلى.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ـ ٧٤) فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه والأول مثل السوء للصنم وعابديه.

وقد ضرب الله سبحانه للمعارضين بين الوحى وعقولهم بمثل السوء بالكلب تارة ، وبالخمر تارة وبالأنعام تارة ، وبأهل القبور تارة ؛ وبالعمي الصم وغير ذلك من أمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم ، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله ، وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ، ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء.

السادس والثلاثون : قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) (الأنعام : ١١٤) فهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله وحده بما أنزل من الكتاب المفصل ، كما قال في الآية الأخرى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى : ١٠) وقال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة : ٢١٣) وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (النساء : ١٠٥) وقال تعالى :

٢٢٨

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).

فقوله (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) استفهام إنكار ، يقول كيف أبتغي حكما غير الله وقد أنزل كتابا مفصلا ، فإن قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) جملة في موضع الحال. وقوله (مُفَصَّلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال تعارض بعض نصوصه أو أن نصوصه خليت أو أفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب ، أو أن لها معان لا تفهم ولا يعلم المراد منها ، أو أن لها تأويلات باطلة ، خلاف ما دلت عليه ظواهرها ، فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا ، بل مجمل مؤول ، ولا يعلم المراد منه ، والمراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ، ثم قال (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام : ١١٤) وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن ، فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من مشكاة واحدة ؛ لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات ؛ فإن التوراة من ذلك ليس هو المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم ، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن وصدقه ولهذا لم ينكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ما في التوراة من الصفات ؛ ولا عابهم به ؛ ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا ، كما فعل كثير من النفاة وقال : اليهود أئمة التشبيه والتجسيم ، ولا ذنب لهم في ذلك ؛ فإنهم قرءوا ما في التوراة ، فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به المعطلة بل شاركوهم فيه ، والذي استشهد الله على نبوة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم ونسبوهم إلى التشبيه والتجسيم. وهذا ضد ما عليه الرسول وأصحابه ، فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئا من هذا الذي تسميه المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه وأقرهم ولم ينكره ، كما صدقهم في خبر الحبر الذي ثبت من حديث ابن مسعود وضحك تعجبا وتصديقا له (١) وفي غير ذلك. ثم قال (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الأنعام : ١١٥) فما أخبر به فهو صدق ، وما أمر به فهو عدل.

__________________

(١) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٧٤١٤ ـ ٧٤١٥) عن عبد الله بن مسعود أن يهوديا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على

٢٢٩

وهذا يبين أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق ، علينا أن نصدق به لا نعارضه ولا نعرض عنه. ومن عارضه بعقله لم يصدق به ، ولو صدقه تصديقا مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنا. ولو أقر بلفظه مع جحد معناه أو صرفه إلى معان أخر غير ما أريد به لم يكن مصدقا ، بل هو إلى التكذيب أقرب.

(كيف كان الصحابة يعارضون بعض النصوص)

السابع والثلاثون : إن الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص ويوردون التي يوهم ظاهرها التعارض ، ولم يكن أحد منهم يورد عليه

__________________

إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول : أنا الملك فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى بدت نواجذه ، ثم قرأ : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال يحيى بن سعيد : وزاد فيه فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله : «فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا له».

ووقع في حديث ابن عباس عند الترمذي : «مر يهودي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا يهودي حدثنا! فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه».

وأشار أبو جعفر ـ يعني أحد رواته ـ بخنصر أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام ، قال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح أه ووقع في مرسل مسروق عند الهروى مرفوعا نحو هذه الزيادة (أفاده الحافظ في الفتح).

ونقل عن ابن بطال أنه قال في هذا الخبر : وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات ، وأخبر عن قدرة الله على جميعها فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديقا له وتعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى ، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم ، ولذلك قرأ قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ... الآية ، أي : ليس قدره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم ، ويحيط به الحصر ، لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء كما هى اليوم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) ، وقال : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أه.

وفي ذكر ضحكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الخبر ، وهل هو ضحك تعجبا وإنكار ، أما رضا وتصديق راجع «الفتح» (١٣ / ٤٠٩ ـ ٤١٠) للحافظ ، ولكن تجنب تأويلاته رحمه‌الله التي يميل بها أحيانا إلى رأى الأشاعرة وغيرهم في التأويل لصفات الله عزوجل.

٢٣٠

معقولا يعارض النص البتة ؛ ولا عرف فيهم أحد ، وهم أكمل الأمة عقولا ؛ عارض نصا بعقله ؛ وإنما حكى الله تعالى ذلك عن الكفار كما تقدم.

وثبت في «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من نوقش الحساب عذب» فقالت عائشة : يا رسول الله ، أليس الله يقول (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (الانشقاق : ٧) فقال «بلى ، ولكن ذلك العرض. ومن نوقش الحساب عذب» (١) فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا تعارض بينهما ، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (الحاقة : ١٨) حتى إذا ظن أنه لا ينجو نجاه الله بعفوه ومغفرته ورحمته ، فإذا ناقشه الحساب عذبه ولا بد.

ولما قال «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» قالت له حفصة : أليس الله تعالى يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : أو لم تسمعي قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٢) فأشكل عليها الجمع بين النصين ، وظنت الورود هو دخولها ، كما يقال : ورد المدينة إذا دخلها فأجابها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين ، فإن المتقين يردونهما ورودا ينجون به من عذابها ؛ والظالمين يردونهما ورودا يصيرون جثيا فيها به.

وقال له عمر : ألم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به؟ فقال «هل قلت إنك تدخله العام؟» قال لا. قال «فإنك آتيه ومطوف به» (٣) فأشكل على عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ، ولا طافوا بالبيت ، فبين لهم أن اللفظ مطلق لا دليل فيه على ذلك العام بعينه ، فتنزيله على ذلك العام غلط ، فرجع عمر وعلم أنه غلط في فهمه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦٥٣٦) ، ومسلم (٢٨٦٧).

(٢) (صحيح) أخرجه أبو داود (٤٦٥٣) ، والترمذي (٣٨٦٠) وقال : حسن صحيح وصححه الألباني.

(٣) أخرجه البخاري (٢٧٣١ ـ ٢٧٣٢) ، والإمام أحمد (٤ / ٣٠٠ ، ٣٣١).

٢٣١

ولما نزل قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء : ١٢٣) قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فأينا لم يعمل سوءا؟ فقال «يا أبا بكر ، ألست تنصب؟ ألست يصيبك الأذى؟ قال : بلى ، قال «فذلك مما تجزون به» (١) فأشكل على الصديق أمر النجاة مع هذه الآية وظن أن الجزاء في الآخرة ولا بد فأخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا ما يصيبهم من النصب والحزن والمشقة ،

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد (١ / ٦ ، ١١) وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله : أسانيدها ضعيفة لانقطاعها أه ، وذكر الحافظ ابن كثير في «تفسيره» عدة روايات وطرق لهذا الحديث وشواهد له ، ومنها ما رواه ابن جرير بسنده فقال عن عطاء بن أبى رباح قال : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر!! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هي المصيبات في الدنيا» ، ومنها ما رواه سعيد بن منصور بإسناده أن أبا هريرة رضى الله عنه قال : لما نزلت (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها» ، قال ابن كثير : وكذا رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي ، ومنها ما رواه ابن جير بإسناده عن الحسن قال في قوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) قال : الكافر ، ثم قرأ (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، قال ابن كثير : وهكذا روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضا.

ثم قال : والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير والله أعلم.

ولما ذكر سبحانه الجزاء على السيئات وأنه لا بدّ أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له ، وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة ، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ، ذكر انهم وإناثهم بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة أه قلت : في قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) راجع تفسير ابن كثير (/ ٥٥٧ ١ ، ٥٥٩).

٢٣٢

فيكون ذلك كفارة لسيئاتهم فلا يعاقبون عليها في الآخرة هذا مثل قوله (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠).

ولما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) قال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله ، وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال «ذاك الشرك ، ألم تسمعوا قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟) (١) فلما أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه ، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان ، لم يكن أمنا ولا مهتديا ، أجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك.

وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل ، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها ، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة ، والهدى إلى الصراط المستقيم.

ولما نزل قوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (البقرة : ٢٨٤) أشكل ذلك على بعض الصحابة وظنوا أن ذلك من تكليفهم بما لا يطيقونه ، فأمرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقابلوا النص بالقبول. فبين الله سبحانه بعد ذلك أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وأنه لا يؤاخذهم بما نسوا أو أخطئوا فيه ، وأنه لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ؛ وأنه لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وأنهم إن قصروا في بعض ما أمروا به أو نهوا عنه ثم استغفروا عفا الله عنهم وغفر لهم ورحمهم. فانظر ما ذا أعطاهم الله تعالى لما قابلوا خبره بالرضى والتسليم والقبول ، والانقياد دون المعارضة والرد.

ومن ذلك أن عائشة لما سمعت قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» (٢) عارضته بقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (الإسراء : ١٥) ولم تعارضه بالعقل ؛ بل غلّطت الرواة. والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة ،

__________________

(١) رواه البخاري (٣٤٢٩).

(٢) أخرجه البخاري (١٢٨٦) ، ومسلم (٩٢٧) ، وغيرهما.

٢٣٣

فإنهم ممن لا يتهم ، وهم عمر وابنه ، والمغيرة بن شعبة وغيرهم ، والعذاب الحاصل للميت بسبب بكاء أهله تألمه وتأذيه ببكائهم عليه ؛ والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريرة غيره. وهذا لا ينافي تأذى البريء السليم بمصيبة غيره. فالقوم لم يكونوا يعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم ، وإن كانوا يطلبون الجمع بين النصين يوهم ظاهرهما التعارض.

ولهذا لما عارض بلال بن عبد الله (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» برأيه وعقله وقال : والله لنمنعهن ، وأقبل عليه أبوه عبد الله فسبه سبا ما سبه مثله ، وقال : أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : والله لنمنعهن؟

ولما حدث عمران بن حصين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله «إن الحياء خير كله» (٢) فعارضه معارض بقوله إن منه وقارا ومنه ضعفا ، فاشتد غضب عمران بن حصين وقال : أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : إن منه كذا ومنه كذا؟ وظن أن المعارض زنديق. فقيل له : يا أبا نجيد ، إنه لا بأس به.

ولما حدث عباده بن الصامت بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء ـ الحديث» (٣) قال معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلا ، غضب عباده وقال : أقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول ما أرى بهذا بأسا؟ وقال : لا أساكنك بأرض أنت بها أبدا. ومعاوية لم يعارض النص بالرأي وكان أتقى لله من ذلك ، وإنما خص عمومه وقيد مطلقه بهذه الصورة وما يشابهها ، ورأى أن التفاضل في مقابلة أثر الصنعة فلم يدخل في الحديث وهذا مما

__________________

(١) هو بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ، من رجال «التهذيب» وهو ثقة والحديث أخرجه البخاري (٩٠٠) ، ومسلم (الصلاة / ٤٤٢ ـ ١٣٥) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة.

(٢) أخرجه البخاري (٦١١٧) ، ومسلم (الإيمان ، باب : بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها ، وفضيلة الحياء ، وكونه من الإيمان).

(٣) أخرجه البخاري (٢١٧٤ ـ ٢١٧٥) ، ومسلم (١٥٨٦) وغيرهما.

٢٣٤

يسوغ : فيه الاجتهاد ، وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرأي. ولو قال له : نعم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الرأس والعين ولا يجوز مخالفته ، ولكن هذه الصورة لا تدخل في لفظه ، فإنه إنما قال «الفضة بالفضة مثلا بمثل وزنا بوزن» وهذه الزيادة ليست في مقابلة الفضة ، وإنما هي في مقابلة الصنعة ، ولا تذهب الصنعة هدرا ، لما أنكر عليه عبادة ، فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أريد بها.

كما أنه هو ومعاذ بن جبل وغيرهما من الصحابة لما ورثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من المسلم لم يعارضوا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم» (١) بعقولهم وآرائهم بل قيدوا مطلق هذا اللفظ وخصصوا عمومه وظنوا أن المراد به الحربي ، كما فعل ذلك بعض الفقهاء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يقتل مسلم بكافر» (٢) حيث حملوه على الحربي دون الذمي والمعاهد. والصحابة في هذا التقييد والتخصيص أعذر من هؤلاء من وجوه كثيرة ، ليس هذا موضعها.

وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ، ولا يقرون على ذلك وكان ابن عباس يحتج في متعة الحج بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره لأصحابه بها ، فيقولون له : إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا ، فلما أكثروا عليه قال «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر؟» (٣).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦٧٦٤) ، ومسلم (١٦١٤).

(٢) أخرجه البخاري (١١١) عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه : هل عندكم كتاب؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ، قال : قلت ، فما في هذه الصحيفة؟! قال : العقل ، وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر».

(٣) أخرجه النسائي (١ / ١٥٣ ، ١٥٤).

٢٣٥

فرحم الله ابن عباس ، كيف لو رأى قوما يعارضون قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم؟.

ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقيل له : إن أباك نهي عنها ، فقال : إن أبي لم يرد ما تقولون ، فلما أكثروا عليه قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق أن تتبعوا أم أمر عمر.

ولما حدّث حميد بن ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) قال : «وضع إصبعه على طرف خنصره فساخ الجبل» (١) أنكر عليه بعض الحاضرين وقال : أتحدّث بهذا؟ فضرب حميد في صدره وقال : أحدثك عن ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : أتحدث بهذا؟ فكانت نصوص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس ، ولا تثبت قدم أحد على الإيمان إلا على ذلك.

الثامن والثلاثون : إن المعقولات ليس لها ضابط ولا هي محصورة في نوع معين ؛ فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولها عقليات يختصمون إليها ويختصمون بها. فللفرس عقليات ، وللهند عقليات وللمجوس عقليات ، وللصابئة عقليات. وكل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات ، بل فيها من الاختلاف ما هو معروف عند المعتنين به ونحن نعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة فإنه ما من مدة من المدد إلا وقد ابتدعت فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها. ونحن نسوق إليكم الأمر من أوله إلى أن يصل إليك بعون الله فنقول :

__________________

(١) (صحيح) أخرجه الإمام أحمد (٣ / ٢٠٩) ، والترمذي (٣٠٧٤) ، والحاكم (٢ / ٣٢٠ ، ٣٢١) وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي أه وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ثم ساق بإسناده عن أنس يرفعه نحوه وقال : هذا حديث حسن أه وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» و «ظلال الجنة» (٤٨٠).

٢٣٦

لما أظلمت الأرض وبعد عهدها بنور الوحي فكانوا كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إنى خلقت عبادي حنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (١) فكان أهل العقل كلهم في مقته إلا بقايا متمسكون بالوحي. فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان والصلبان والنيران والكواكب والشمس والقمر والحيرة والشك. أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به ، فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرا ، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه ، فكانوا كما قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (البقرة : ٢٥٧).

وقال تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم : ١).

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (الشورى : ٥٢) وقال (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (الأنعام : ١٢٢) فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ؛ وليس يلتبس بظلم الآراء ، وأوصوا من بعدهم ألا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم ، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة ، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية ، بل كانوا للنصوص معظمين وبها مستدلين ؛ ولها

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢٨٦٥) ، والإمام أحمد (٤ / ١٦٢).

٢٣٧

على الآراء والعقول مقدمين. ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض الوحي والنصوص ، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها ، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر ، ورموهم بالعظائم ، وتبرءوا منهم وحذروا من سبيلهم أشد التحذير ، وكانوا لا يرون السلام عليهم ومجالستهم.

(الجهمية أول من عارض النصوص بآراء الرجال)

ولما كثرت الجهمية في آخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي ، ومع هذا فكانوا قليلين أذلاء مذمومين. وأولهم شيخهم الجعد بن درهم ، وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ؛ ولهذا يسمى مروان الجعد. وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة.

ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري ـ وكان أميرا على العراق ـ حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى. وكان آخر ما قال في خطبته «أيها الناس ضحوا ؛ فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا. تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا» (١) ثم نزل فذبحه في أصل المنبر ، وكان ضحيته. ثم طفئت تلك البدعة والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال ، وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما

__________________

(١) أخرجه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص ٦٩ ـ هند) والدارمي في «الرد على الجهمية» (ص ٧ ، ١١٣) قال الشيخ الألباني : ورجاله ثقات غير عبد الرحمن بن محمد بن حبيب وأبيه وجده قال المؤلف ـ يعني الذهبي ـ في «الميزان» : لا يعرف هؤلاء.

ثم قال الألباني : لكنه يتقوى بالذي بعده فإن إسناده خير منه ولعله لذلك جزم العلماء بهذه القصة فقال المؤلف في ترجمة الجعد من «الميزان» وتبعه الحافظ في «اللسان» :

عداده في التابعين مبتدع ضال ، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى ، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر ، والقصة مشهورة أه (مختصر العلو : فقرة ١١٥).

٢٣٨

وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما. إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولى على الناس عبد الله المأمور. وكان يحب أنواع العلوم ، وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم ، فغلب عليه حب المعقولات ، فأمر بتعبير كتب يونان (١) ، وأقدم لها المترجمين من البلاد ، فترجمت له وعبرت ، فاشتغل بها الناس. والملك سوق ما ينفق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل ؛ فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها استحسنها ودعا الناس إليها عاقبهم عليها. فلم تطل مدته. فصار الأمر بعده إلى المعتصم ، وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل ، فقام بالدعوة بعده ، والجهمية تصوب فعله وتدعو إليه وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم. وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه ، والقضاة والولاة منهم. فإنهم تبع لملوكهم ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم العقول والآراء عليها. فإن الإسلام كان في ظهور وقوة ، وسوق الحديث نافقة ، وأعلام السنة على ظهر الأرض ولكن كانوا على ذلك يحومون وحوله يدندنون ، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة ؛ فمن بين أعمى مستجيب ؛ ومن بين مكره مفتد بنفسه منهم بإعطاء ما سألوه. وقلبه مطمئن بالإيمان. وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد. فأقامهم لنصرة دينه ، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون : فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة : ٢٤) فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ، ولم يتركوا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رغبوهم به من الوعد ولا لما أرعبوهم به من الوعيد. ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ، ونصر السنة نصرا عزيزا ، وفتح لأهلها فتحا مبينا ، حتى صرخ بها على رءوس المنابر ، ودعى إليها في كل باد وحاضر ، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله.

ثم انقرض ذلك العصر وأهله ، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله

__________________

(١) يعني ترجمتها وتفسيرها.

٢٣٩

وسنة رسوله على بصيرة إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا ، المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم. وهم القرامطة والباطنية والملاحدة ، ودعوهم إلى العقل المجرد ، وأن أمور الرسل تعارض العقول ، فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام بالقول والفعل فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى ، وكسروا عسكر الخليفة مرارا عديدة ، وقتلوا الحاج قتلا ذريعا ، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها وقلعوا الحجر الأسود من مكانه ، وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية واشتدت بهم البلية.

وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل ، وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب ، وكاد الإسلام أن ينهدم ركنه لو لا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت بالمغرب قليلا ، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب. ثم أخذوا يطئون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة ؛ وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم ، وفي زمانهم صنفت رسائل «إخوان الصفا» و «الإرشادات» و «الشفا» وكتب ابن سينا ، فإنه قال : كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية ، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل علي الوحي ، واستولوا على بلاد الغرب ومصر والشام والحجاز ، واستولوا على العراق سنة وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين ، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة. فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء ، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء ؛ حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين فأبلّ الاسلام من علته ، بعد ما وطن نفسه على العزاء ، وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء. وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق.

٢٤٠