مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

١
٢

٣
٤

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا فضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. نشهد بأنه قد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى آتاه اليقين.

أما بعد ...

لقد كانت دعوة الرسول منصبة أساسا على توحيد الله وإثبات الصفات اللائقة به ، في مجتمع يؤمن بوجود الله ولكن وجودا لا فعل له ولا قدرة لديه ـ سبحانه ـ فبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليجلى عن وجه الحقيقة الغبار ، ويظهر للبشرية جمعاء صفات الله عزوجل. بما أجلاه الإمام ابن القيم فى هذا الكتاب بخير بيان ، وحارب خلاله فرق الزيغ والضلال ، والتحريف والتعطيل في صفات الله وأسماءه.

ومن ذلك أنه أظهر فى اعتقاد السلف الإيمان بما وصف به نفسه سبحانه ووصفه به رسوله ، وإجراؤها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل فإن الله تعالى أعلم بنفسه من كل أحد ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم الخلق ... إلخ ما بينه وسيظهر لك خلال الكتاب.

ونسأل الله عزوجل أن ينفع به كل من قرأه وعمل به ، وأن يجزى خيرا كل من ساهم في إخراجه بهذه الصورة.

وكتبه

نزار مصطفى الباز

٥
٦

إهداء

إلى من هدانى إلى أن صحيح المنقول يوافق صريح المعقول ، وإلى أن ما نضطرب فيه في عصرنا الحديث قد نبه إليه وإلى الخروج منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووضع لى النقاط فوق الحروف.

أهدى هذا العمل المتواضع لأستاذى الكريم الأستاذ / عبد الملك أبو محمد البغدادى جزاه الله كل خير.

أخرك الصغير رضوان جامع

* * *

٧

٨

مقدمة المحقق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بوحدانيته (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اعترافا بنبوته ، أرسله المولى عزوجل بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله ولله حق جهاده حتى أتاه اليقين صلى اللهم عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد :

فإن توحيد الله أساس دين الإسلام ، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، ولا يكمل إيمان العبد ولا يأتي بشرط التوحيد والقيام بحق الشهادة على وجهها الأكمل حتى يتم له الاعتقاد بهذه الأقسام الثلاثة من غير تحريف ولا إلحاد.

خاصة القسم الأخير وهو توحيد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وهو لب التوحيد وأساس العقيدة وهو القسم الخاص بذات الله العلية وصفاته السنية ، وهو جسر العبادة والحب والوئام بين الله تعالى وبين الأنام.

فإن كان توحيد الربوبية هو اعتقاد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق

٩

والتدبير ، وكان توحيد الألوهية هو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين وإفراده وحده بالعبادة كلها ، وإخلاص الدين لله وحده ، ويسمى هذا النوع أيضا : توحيد العبادة.

فإن توحيد الأسماء والصفات هو الذي به يتم القسمان الأولان ، فبأسمائه الحسنى نتذلل له ونعبده ، وبصفاته العليا ندرك حكمته وقدرته ، وقد قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).

ولقد ضل في معرفة الله تعالى ، وفي تأويل أسمائه وصفاته أقوام ، كما ضل في مسائل القضاء والقدر ، وأفعال العباد ومدى إرادة الإنسان ومسئوليته عما يفعله مع أنه شيء مقدر عليه ، ضل في ذلك أقوام.

فضد توحيد الأسماء والصفات : التعطيل لها ونفيها ، أو تشبيهها بصفات خلقه وجوارحهم.

وعن ذلك يقول الإمام عبد القاهر البغدادى : اعلموا أسعدكم الله أن المشبهة صنفان : صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره ، وصنف آخرون شبهوا صفاته بصفات غيره ، وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على أصناف شتى ... ثم سرد فرقهم وأحوالهم وأقوالهم ... ثم قال :

فأما المشبهة لصفاته بصفات المخلوقين فأصناف :

منهم : الذين شبهوا إرادة الله تعالى بإرادة خلقه ، وهذا قول المعتزلة البصرية الذين زعموا أن الله تعالى عزوجل يريد مراده بإرادة حادثة وزعموا أن إرادته من جنس إرادتنا ، ثم ناقضوا هذه الدعوى بأن قالوا : يجوز حدوث إرادة الله عزوجل لا في محل ، ولا يصح حدوث إرادتنا إلا في محل ، وهذا ينقض قولهم : إن إرادته من جنس إرادتنا ؛ لأن الشيئين إذا كانا متماثلين ومن جنس واحد جاز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر ، واستحال من كل واحد منهما ما يستحيل على الآخر.

وزادت الكرامية على المعتزلة البصرية في تشبيه إرادة الله تعالى بإرادات عباده ،

١٠

وزعموا أن إرادته من جنس إرادتنا ، وأنها حادثة فيه كما تحدث إرادتنا فينا ، وزعموا ـ لأجل ذلك ـ أن الله تعالى محل للحوادث ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومنهم : الذين شبهوا كلام الله عزوجل بكلام خلقه ، فزعموا أن كلام الله تعالى أصوات وحروف من جنس الأصوات والحروف المنسوبة إلى العباد ، وقالوا بحدوث كلامه ، وأحال جمهورهم ـ سوى الجبّائى ـ بقاء كلام الله تعالى ، وقال النظّام منهم : ليس في نظم كلام الله سبحانه إعجاز ، كما ليس في نظم كلام العباد إعجاز ، وزعم أكثر المعتزلة أن الزنج ، والترك ، والخزر قادرون على الإتيان بمثل نظم القرآن وبما هو أفصح منه ، وإنما عدموا العلم بتأليف نظمه ، وذلك العلم مما يصح أن يكون مقدورا لهم.

وشاركت الكرامية المعتزلة في دعواها حدوث قول الله عزوجل ، مع فرقها بين القول والكلام في دعواها أن قول الله سبحانه من جنس أصوات العباد وحروفهم ، وأن كلامه قدرته على إحداث القول. وزادت على المعتزلة قولها بحدوث قول الله عزوجل في ذاته ، بناء على أصلهم في جواز كون الإله محلا للحوادث.

قلت : والكرامية أتباع محمد بن كرّام السجستاني الزاهد الضال المضل وكان من عباد المرجئة وكان مطرودا من سجستان إلى غرجستان ، وتبعه على بدعته خلق كثير.

قال صاحب «الفرق» فيهم : وضلالات أتباعه اليوم متنوعة أنواعا لا نعدها أرباعا ولا أسباعا لكنها تزيد على الآلاف آلافا ، ونذكر منها المشهور ، الّذي هو بالقبح مذكور.

فمنها : أن ابن كرّام دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده ، وزعم أنه جسم له حد ونهاية من تحته والجهة التي منها يلاقي عرشه ، وهذا شبيه بقول الثنوية : إن معبودهم الذي سموه نورا يتناهى من الجهة التى تلاقى الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات. وقد وصف ابن كرام معبوده في بعض كتبه بأنه جوهر كما

١١

زعمت النصارى أن الله تعالى جوهر ، وذلك أنه قال في خطبة كتابه المعروف بكتاب «عذاب القبر» : «إن الله تعالى أحدىّ الذات أحدىّ الجوهر».

وأتباعه اليوم لا يبوحون بإطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى عند العامة خوفا من الشناعة عند الإشاعة ، وإطلاقهم عليه اسم الجسم أشنع من اسم الجوهر ، وامتناعهم من تسميته جوهرا مع قولهم بأنه جسم كامتناع شيطان الطاق من الروافض من تسمية الإله جسما مع قوله بأنه على صورة الإنسان ، وليس على الخذلان في سوء الاختيار قياس.

وقد ذكر ابن كرام في كتابه أن الله تعالى مماس لعرشه ، وأن العرش مكان له ، وأبدل أصحابه لفظ المماسة بلفظ الملاقاة منه للعرش ، وقالوا : لا يصح وجود جسم بينه وبين العرش إلا بأن يحيط العرش إلى أسفل ، وهذا معنى المماسة التى امتنعوا من لفظها.

واختلف أصحابه في معنى الاستواء المذكور في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

فمنهم : من زعم أن كل العرش مكان له ، وأنه لو خلق بإزاء العرش عروشا موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكانا له ؛ لأنه أكبر منها كلها وهذا القول يوجب عليهم أن يكون عرشه اليوم كبعضه في عرضه.

ومنهم : من قال : إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ، ولا يفضل منه شيء على العرش ، وهذا يقتضي أن يكون عرضه كعرض العرش.

وكان من الكرامية بنيسابور رجل يعرف بإبراهيم بن مهاجر ينصر هذا القول ويناصر عليه.

وزعم ابن كرام وأتباعه أن معبودهم محل للحوادث وزعموا أن أقواله ، وإرادته ، وإدراكاته للمرئيات ، وإدراكاته للمسموعات ، وملاقاته للصفحة العليا من العالم ، أعراض حادثة فيه ، وهو محل لتلك الحوادث الحادثة فيه.

وسموا قوله للشيء : «كن» خلقا للمخلوق ، وإحداثا للمحدث ، وإعلاما

١٢

للذى يعدم بعد وجوده ، ومنعوا من وصف الأعراض الحادثة فيه بأنها مخلوقة أو مفعولة أو محدثة.

وزعموا أيضا أنه لا يحدث في العالم جسم ولا عرض إلا بعد حدوث أعراض كثيرة في ذات معبودهم : منها إرادته لحدوث ذلك الحادث ، ومنها قوله لذلك الحادث «كن» على الوجه الّذي علم حدوثه عليه ، وذلك القول في نفسه حروف كثيرة كل حرف منها عرض حادث فيه ، ومنها رؤية تحدث فيه يرى بها ذلك الحادث ، ولو لم تحدث فيه الرؤية لم ير ذلك الحادث ، ومنها استماعه لذلك الحادث إن كان مسموعا.

إلى آخر ضلالاتهم وهى كثيرة فراجع «الفرق بين الفرق» (٢١٥ : ٢٢٥).

ومنهم «النجارية» أتباع الحسين بن محمد النجار وقد وافقوا القدرية في نفس علم الله تعالى وقدرته ، وحياته ، وسائر صفاته الأزلية ، وإحالة رؤيته بالأبصار ، والقول بحدوث كلام الله تعالى.

ومنهم «الجهمية» أتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وأنكر الاستطاعات كلها ، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى ، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز ، وزعم أيضا أن علم الله تعالى حادث ، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم ، أو مريد ، وقال : لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشىء وموجود ، وحي ، وعالم ، ومريد ونحو ذلك ... إلى آخر ضلالاته ، راجعها في «الفرق بين الفرق» (ص ٢١١ : ٢١٢) وغيرها.

وإنما لبس عليهم الشيطان من اعتمادهم على ما استحسنه العقل فأولوا به ما اتفق عليه من النقل ، وفي ذلك يقول الإمام ابن الجوزى في «تلبيس إبليس» :

دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين : أحدهما : التقليد للآباء

١٣

والأسلاف ، والثاني : الخوض فيما لا يدرك غوره ، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه ، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.

فأما الطريق الأول : فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم ، وقد ضل في هذا التقليد خلق كثير ، وبه هلاك عامة الناس ، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم ، فضلوا ، وكذلك أهل الجاهلية ... ثم ذكر الكلام في ذم التقليد ـ ثم قال وأما الطريق الثاني : فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد ، وساقهم سوق البهائم ، ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة ، فاستغواهم على قدر تمكنه منهم ، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد ، وأمره بالنظر ، ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن ، فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز فساقهم إلى مذهب الفلاسفة ، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام ، وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة ، ومن هؤلاء من حسن له ألا يعتقد إلا ما أدركته حواسه ، فيقال لهؤلاء بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا : نعم ، كابروا ، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا ، إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف ، وإن قالوا بغير الحواس ، ناقضوا قولهم.

ومنهم من نفره إبليس على التقليد ، وحسن له الخوض في علم الكلام ، والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه من غمار العوام ، وقد تنزعت أحوال المتكلمين ، وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك ، وببعضهم إلى الإلحاد.

ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ، ثم يرد الصحيح عليلا ، فأمسكوا عنه ، ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمه‌الله : لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك ، خير له من أن ينظر في الكلام ، قال : وإذا سمعت الرجل يقول : الاسم هو المسمى ، أو غير المسمى ، فاشهد أنه من أهل الكلام ، ولا دين له ، قال : وحكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأخذ في الكلام.

١٤

وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب كلام أبدا ، علماء الكلام زنادقة.

قلت : وكيف لا يذم الكلام ، وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا : إن الله عزوجل يعلم جمل الأشياء ، ولا يعلم تفاصيلها.

وقال جهم بن صفوان : علم الله وقدرته وحياته محدثة ، وقال أبو محمد النوبختي عن جهم : إنه قال : إن الله عزوجل ليس بشيء.

وقال أبو علي الجبائي ، وأبو هاشم ، ومن تابعهما من البصريين : المعدوم شيء وذات ، ونفس ، وجوهر ، وبياض ، وصفرة ، وحمرة ، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ، ولا العرض عرضا ، ولا الجوهر جوهرا ، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود.

وحكى القاضي أبو يعلي في كتاب «المقتبس» قال : قال لى العلاف المعتزلى : لنعيم أهل الجنة ، وعذاب أهل النار ، أمر لا يوصف الله بالقدرة على دفعه ، ولا تصح الرغبة حينئذ إليه ، ولا الرهبة منه ، لأنه لا يقدر إذ ذاك على خير ولا شر ولا نفع ولا ضر. قال ويبقى أهل الجنة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة ، ولا يتحركون ولا يقدرون هم ولا ربهم على فعل شيء من ذلك لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر ينتهى إليه ، لا يكون بعده شيء ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قال ابن الجوزي وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي في كتاب «المقالات» : إن أبا الهذيل العلاف ، وهو من أهل البصرة من عبد القيس مولى لهم ، وانفرد بأن قال : أهل الجنة تنقضي حركاتهم ، فيصيرون إلى سكون دائم وأن لما يقدر الله عليه نهاية لو خرج إلى الفعل ، ولن يخرج استحال أن يوصف الله عزوجل بالقدرة على غيره.

وذكر بإسناده عن أحمد بن سنان ، قال : كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه : تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا : لا ، قال : فتتهمونني؟ قالوا : لا ، قال : فإني أوصيكم ، أتقبلون؟ قالوا : نعم ، قال : عليكم بما عليه أصحاب الحديث ، فإني رأيت الحق معهم.

١٥

وكان أبو المعالي الجويني يقول : لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم ، وركبت البحر الأعظم ، وغصت في الذي نهوا عنه ، كل ذلك في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق : عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطف بره ، فأموت على دين العجائز ، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، فالويل لابن الجويني ، وكان يقول لأصحابه : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ، ما تشاغلت به.

وقال أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه : أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض ، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن ، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريق أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت.

قال : وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك ، وكثير منهم إلى الإلحاد ، تشم روائح الإلحاد من فلتات كلام المتكلمين ، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع ، وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ، ولا أخرج البارئ من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور.

قال : وقد بالغت في الأول طول عمرى ، ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب وإنما قالوا : إن مذهب العجائز أسلم ، لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من التعليلات والتأويلات ، فوقفوا مع مراسيم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل ، وأذعن العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم.

ثم قال : فإن قال قائل : قد عبت طريق المقلدين في الأصول ، وطريق المتكلمين ، فما الطريق السليم من تلبيس إبليس.

فالجواب : أنه ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وتابعوهم بإحسان ، من إثبات الخالق سبحانه ، وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار ، من غير تفسير ، ولا بحث. عما ليس في قوة البشر إدراكه ، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، قال علي كرم الله وجهه : والله ما حكمت

١٦

مخلوقا ، إنما حكمت القرآن ، وأنه المسموع ، لقوله عزوجل : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]. وأنه في المصاحف ، لقوله عزوجل : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) [الطور : ٣] ولا نتعدى مضمون الآيات.

ولا نتكلم في ذلك برأينا وقد كان أحمد بن حنبل ينهي أن يقول الرجل : لفظي بالقرآن مخلوق ، أو غير مخلوق ، لئلا يخرج عن الاتباع للسلف إلى حدث. والعجب ممن يدعي اتباع هذا الإمام ، ثم يتكلم في المسائل المحدثة.

وللمزيد انظر كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي وخاصة الفصل الثالث في بيان الأصول التى اجتمع عليها أهل السنة ، وكتاب «الملل والنحل» للشهرستاني ، وابن حزم وغيرهم.

وفي الحديث : «إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ... الحديث» ، وفي الحديث الآخر في «الصحيحين» عن أبي هريرة يرفعه : «إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول له ... الحديث».

وقال عبد الله بن عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهن في القرآن ... يسألونك عن المحيض ، يسألونك عن الشهر الحرام ... ويسألونك عن اليتامى ...

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله : وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير ؛ فلم أجد إلى ساعتى هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المعروف اه. (مجموع الفتاوى : ٦ / ٣٩٤).

ثم جاء تلميذه النجيب ابن قيم الجوزية فصنف هذا الكتاب القيم في مادته ، شديد الوقع على المبتدعين ، وجاء كمسماه : صواعق مرسلة على الجهمية والمعطلة ، وقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام ، أو ثلاثة طواغيت كما أسماها.

١٧

فبدأ «بالتأويل» ، ثم الطاغوت الثاني وهو «العقل» ، ثم ختمه بالطاغوت الثالث وهو «المجاز» فأجاد وأفاد ولم يترك فرصة لمستزاد.

ثم قام الشيخ محمد ابن الموصلى رحمه‌الله فاختصر هذا الكتاب فجاء أيضا اختصارا مفيدا لما أسهب فيه الشيخ الإمام في سرد الأدلة والرد على المبتدعة فجاء اختصارا قيما غير مخل وأسماه «استعجال الصواعق المرسلة» وهو كتابنا هذا.

وإني وإن كان مقامى لا يتناسب مع موضوع الكتاب ولا مع مكانة مؤلفه. أرجو بعملى فيه أن أحشر مع زمرة الموحدين ؛ الذابين عن دين الله وعن ذاته سبحانه وتعالى ، وأدعوه وأرجوه سبحانه أن يغفر لي ولوالدي ولوالد والدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

تنبيه :

وضح من استعراض آراء فرق الضلالة ضياع الحق في جانب أسماء الله تعالى وصفاته : بين تعطيل أو نفى أو تشبيه أو تأويل ، وتاهت بين ذلك عقول واختلط الحابل بالنابل حتى على بعض الأئمة حتى إنه لم يصب عين الحقيقة في آرائه في هذا الباب ، وقريب من ذلك ما يحكيه أحيانا الإمام النووى فى «شرح مسلم» وغيره ومن ذلك ما حكاه عن الإمام الخطابى في تفسير اسمه سبحانه «النور» إذ قال : ومعناه الّذي بنوره يبصر ذو العماية ، وبهدايته يرشد ذو الغواية ، قال : ومنه (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى منه نورهما ، قال : ويحتمل أن يكون معناه ذو النور ، ولا يصح أن يكون «النور» صفة ذات الله تعالى ، وإنما هو صفة فعل ، أي : هو خالقه أ. ه كلامه ، وانظر في الرد على ذلك : الفصل السادس من الجزء الثانى من كتابنا هذا فى «المثال السادس» في تحريف اسمه تعالى «النور» وانظر أيضا «اجتماع الجيوش» (ص / ١٩) طبعة نزار الباز بتحقيقى ، ومن ذلك ما حكاه أيضا الحافظ ابن حجر على جلالة قدره فى الفقه ومكانته العليا في استنباط الأحكام فمن ذلك ما يحكيه في «الفتح» فأحيانا يميل إلى قول الأشاعرة وأحيانا يحيل إلى التفويض أو التأويل.

١٨

وانظر في ذلك مثلا في مسألة نداء الله عباده بصوت.

إذ قال الحافظ في (الفتح ، كتاب العلم ـ باب الخروج في طلب العلم) قال : أن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفى فيه مجىء الحديث من طريق فيها ولو اعتضدت أه مختصرا (الفتح ١ / ٢١٠ ـ السلفية).

ثم عاد وقرر صفة الصوت لله عزوجل في كتاب «التوحيد» ولكن قال : وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق. أه. (فتح الباري : ١٣ / ٤٦٦ ـ ريان).

وهناك فرق بين التفويض وما كان عليه السلف ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وذلك تعقيبا على قول مكحول والزهرى لما سئلا عن تفسير أحاديث الصفات فقالا : أمرّوها كما جاءت ، وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث والأوزاعي عن الأخبار التى جاءت في الصفات؟ فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف.

قال شيخ الإسلام : قولهم : أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هى عليه ، فإنها جاءت بألفاظ دالة على معان ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم غير مراد ، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة ، وحينئذ فلا تكون قد أمرّت كما جاءت ، ولا يقال حينئذ بلا كيف إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. أه. (الفتوى الحموية ص ٢٨).

وقال في «العقيدة الواسطية» : ومن الإيمان بالله ، الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل. أه مختصرا.

قال الأستاذ / محمد خليل هراس في «الشرح» : وقوله (من غير تحريف) متعلق بالإيمان قبله ، يعنى أنهم يؤمنون بالصفات الإلهية على هذا الوجه الخالي من كل هذه المعاني الباطلة إثباتا بلا تمثيل ، وتنزيها بلا تعطيل.

١٩

وتحريف الكلام إمالته عن المعنى المتبادر منه إلى معنى آخر لا يدل عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوح ، فلا بد فيه من قرينة تبين أنه المراد.

وأما التعطيل : فالمراد منه هنا نفى الصفات الإلهية ، وإنكار قيامها بذاته تعالى ، فالفرق بين التحريف والتعطيل أن التعطيل نفى للمعنى الحق الّذي دل عليه الكتاب والسنة ، وأما التحريف فهو تفسير النصوص بالمعانى الباطلة التي لا تدل عليها.

والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فإن التعطيل أعم مطلقا من التحريف ؛ بمعنى أنه كلما وجد التحريف وجد التعطيل دون العكس ، وبذلك يوجدان معا فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق ، ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفى الصفات الواردة في الكتاب والسنة وزعم أن ظاهرها غير مراد ولكنه يعين لها معنى آخر وهو ما يسمونه بالتفويض.

ومن الخطأ القول بأن هذا ـ يعنى التفويض ـ هو مذهب السلف ، كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم ، فإن السلف لم يكونوا يفوضون في علم المعنى ، ولا كانوا يقرءون كلاما لا يفهمون معناه ، بل كانوا يفهمون معانى النصوص من الكتاب والسنة ، ويثبتونها لله عزوجل ، ثم يفوضون فيما وراء ذلك من كنه الصفات أو كيفياتها ، كما قال مالك حين سئل عن كيفية استوائه تعالى على العرش : «الاستواء معلوم والكيف مجهول».

وأما قوله : (من غير تكييف ولا تمثيل) فالفرق بينهما أن التكييف أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية كذا ، أو يسأل عنها بكيف.

وأما التمثيل : فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين ، وليس المراد من قوله من غير تكييف أنهم ينفون الكيف مطلقا ، فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما ، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه أه. بتصرف.

ثم وجدت ما يؤيد كلامي هذا ـ والحمد لله من قبل ومن بعد ـ ، فمن ذلك

٢٠