تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

فخافوا القتال فهربوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء. فأماتهم الله بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا. وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم الحظائر وأحياهم الله تعالى بعد الثمانية ، فبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم وقيل : إن حزقيل النبي ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلما كثر فيهم الموت خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك. فأرسل الله عليهم الموت فلما رآه عليه‌السلام ضاق قلبه فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى. أما قوله سبحانه (وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) ففيه دليل على الألوف الكثيرة ولكنهم اختلفوا. فقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون. وعن بعضهم أن الألوف جمع آلف كقعود جمع قاعد أي خرجوا وهم مؤتلفو القلوب ، وزيف بأن ورود الموت عليهم وفيهم كثرة يفيد مزيد اعتبار بحالهم بخلافهم لو كانوا نفرا يسيرا. فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة فكوروده على قوم بينهم اختلاف كثير في أن وجه الاعتبار لا يتغير ، وقد يوجه بأن المراد إلفهم بالدنيا ومحبتهم لها فأهلكوا ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه عن الفوت. و (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله. (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) معناه فأماتهم وجيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد ، وأنها خارجة عن العادة ولا أمر ولا قول كما مر في قوله (سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [مريم : ٣٥] ويدل عليه قوله (ثُمَّ أَحْياهُمْ) وإذا صح الإحياء بلا قول فكذا الإماتة. ويحتمل أنه تعالى أمر الرسول بأن يقول لهم موتوا. والظاهر أنهم لم يكونوا رأوا عند الموت من الأهوال والأحوال ما تصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة. وقال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) تفضل عليهم بأن خرجوا من الدنيا على المعصية فأعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي ، وتفضل على منكري المعاد باقتصاص خبرهم ليستبصروا ويعتبروا ، وذلك أن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولا ، وإذا كان ممكنا في نفسه ، وقد أخبر الصادق بوجوده وجب القطع به. وفي القصة تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم ينفع منه الفرار فأولى أن يكون في سبيل الله ، ولهذا أتبعت بقوله (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ثم إن كان هذا الأمر خطابا للذين أحياهم على ما قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد ، فلا بد من إضمار تقديره ،

٦٦١

وقيل لهم : قاتلوا. وإن كان استئناف خطاب للحاضرين على ما هو اختيار الجمهور من المفسرين فلا إضمار ، وفيه ترغيب وإرهاب كيلا ينكص على عقبيه محب للحياة بسبب خوف الموت فإن الحذر لا يغني عن القدر. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ما يقوله القاعدون والمجاهدون ويعلم ما يضمرونه وهو من وراء الجزاء. ولما أمر المكلفين بالقتال في سبيل الله أردف ذلك بقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي في باب الجهاد ، كأنه ندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد. و «ذا» في (مَنْ ذَا) إما زائدة و «من» استفهام في موضع الرفع ، و «الذي» مع صلتها خبره أو موصولة و «الذي» بدلها أو اسم إشارة خبر «من» و «الذي» نعت له ، أو بدل منه. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون «من» و «ذا» بمنزلة اسم واحد كما كانت «ماذا» لأن «ما» أشد إبهاما من «من» إذا كانت «من» لمن يعقل. وقد بني الكلام على طريقة الاستفهام لأن ذلك أدخل في الترغيب والحث على الفعل من ظاهر الأمر. وقيل : إن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، وإنما ورد مستأنفا في الإنفاق إما على الإطلاق وهو الأليق بعموم لفظ القرض ، وإما الواجب منه لأن قوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كالزجر. وهو إنما يليق بالواجب ، وأما غير الواجب لأن القرض بالتبرع أشبه وهذا قول الأصم. وقد يروى عن بعض أصحاب ابن مسعود أن المراد من هذا القرض هو قول الرجل «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر». وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة» ويشبه أن يكون الفقير الذي لا يملك شيئا إذا كان في قلبه أنه إذا قدر أنفق وأعطى ، قامت تلك النية مقام الإنفاق. وعن الزجاج أن لفظ القرض حقيقة في كل ما يفعل ليجازى عليه. وأصل القرض القطع ومنه المقراض والانقراض لانقطاع الأثر ، ومن أقرض فكأنما قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها. وقيل : إن لفظ القرض في الآية مجاز ، فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله محال ، ولأن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا بالمثل وهنا يضاعف ، ولأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكا له وهاهنا المال المأخوذ ملك الله. ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله تعالى قرضا تنبيها على أن ذلك لا يضيع عند الله. فكما أن القرض يجب أداؤه ولا يجوز الإخلال به فكذا الثواب المستحق على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة. وقوله (قَرْضاً حَسَناً) يحتمل كونه اسم مصدر وكونه مصدرا بمعنى الإقراض. ومعنى كونه حسنا حلالا خالصا لا يختلط به الحرام ولا يشوبه من ولا أذى ولا يفعله رياء وسمعة ، وإنما يفعله خالصا لوجه الله تعالى.

٦٦٢

و (أَضْعافاً) نصب على الحال أو على المفعول الثاني إن ضمن ضاعف معنى صير ، ويجوز أن يكون مصدرا لأن الضعف وإن كان اسما إلا أنه قد يقع موقع المصدر كالعطاء فإنه اسم للمعطى ، وقد يستعمل بمعنى الإعطاء قال القطامي :

أكفرا بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المائة الرتاعا؟

وإنما جاز جمع المصدر بحسب اختلاف أنواع الجزاء لاختلاف الإقراض في المقدار والإخلاص وغير ذلك. والضعف المثل ، والتضعيف والأضعاف والمضاعفة كلها الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. قيل : الواحد بسبعمائة. وعن السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحدكم هو وما هو ، وإنما أبهمه الله تعالى لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقتر على عباده ويوسع فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة. وأيضا من كتب له الفقر فليس له إلا ذلك سواء أنفق أو لم ينفق ، ومن كتب له الغنى فليس له إلا ذلك. فعلى التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى. وإذا علم المكلف أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله ، فحينئذ يسهل عليه الإنفاق في مرضاة الله. ويحتمل أن يكون المعنى : والله يقبض بعض القلوب حتى لا يقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يسهل عليه البذل وصرف المال. (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال الخير والله ولي التوفيق وإليه انتهاء الطريق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا

٦٦٣

الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١))

القراآت : (عَسَيْتُمْ) بكسر السين حيث كان نافع. الباقون بالفتح. وزاده بالإمالة : حمزة ونصير وابن مجاهد والنقاش عن ابن عباس وذكوان. بصطه بالصاد : أبو نشيط والشموني غير النقاد ، وكذلك بباصط [المائدة : ٢٨] ويبصط الرزق [الرعد : ٢٦] ولا تبصطها كل البصط [الإسراء : ٢٩] فما اصطاعوا [الكهف : ٩٧] وما أشبه ذلك (مِنِّي إِلَّا) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون. (غُرْفَةً) بفتح العين : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالضم (هُوَ وَالَّذِينَ) بالإدغام روى ابن مهران ومحمد العطار عن أبي شعيب وشجاع وكذلك ما أشبهها فئة ومئة وبابهما غير مهموزتين : يزيد وشموني وحمزة في الوقف دفاع الله وكذلك في سورة الحج : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون (دَفْعُ اللهِ).

الوقوف : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) م لأنه لو وصل صار «إذ» ظرفا لقوله «ألم تر» وهو محال (فِي سَبِيلِ اللهِ) ط (أَلَّا تُقاتِلُوا) ط (وَأَبْنائِنا) ط تعظيما لابتداء أمر معظم (مِنْهُمْ) ط (بِالظَّالِمِينَ) ه (مَلِكاً) ط (مِنَ الْمالِ) ط (وَالْجِسْمِ) ط (مَنْ يَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه (الْمَلائِكَةُ) ط (مُؤْمِنِينَ) ه (بِالْجُنُودِ) لا لأن «قال» جواب لما (بِنَهَرٍ) ج للابتداء بالشرط مع الفاء (فَلَيْسَ مِنِّي) ج للابتداء بشرط آخر اتحاد المقصود (بِيَدِهِ) ج لعطف المختلفين (مِنْهُمْ) ط تعظيما لابتداء أمر معظم (مَعَهُ) (لا) لأن «قالوا» جواب لما (وَجُنُودِهِ) ط (مُلاقُوا اللهِ) (لا) لأن ما بعده مفعول «قال» (بِإِذْنِ اللهِ) ط (الصَّابِرِينَ) ه (الْكافِرِينَ) ه ط لأن ما قبله دعاء وما بعده خبر ماض يتصل بكلام طويل بعده ولا وقف على «بإذن الله» لاتصال اللفظ واتساق المعنى فإن الهزيمة كانت من قتل داود جالوت (مِمَّا يَشاءُ) ط (الْعالَمِينَ) ه.

التفسير : القصة الثانية قصة طالوت ، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبة ، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء. قال : وقال لها الأملاء من كل معشر. وخير أقاويل الرجال سديدها. قال الزجاج : الملأ الرؤساء

٦٦٤

سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم «ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ» إذا كان مطيقا له ، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون. والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال ، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن. لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل. منهم من قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو يوشع بن نون بن إفرايم بن يوسف لقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال. والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل. وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون. والسين تصير شينا بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب. (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أنهض للقتال معنا أميرا نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا. وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة. وقرىء بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكا مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قال لهم. ما تصنعون بالملك؟ فقالوا : نقاتل. وقرىء «يقاتل» بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة لـ (مَلِكاً) و (هَلْ عَسَيْتُمْ) خبره (أَلَّا تُقاتِلُوا) والشرط فاصل بينهما ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) قال المبرد : «ما» نافية أي ليس لنا ترك القتال. والأكثرون على أنه للاستفهام ، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال : مالك أن لا تفعل كذا ، وإنما يقال : مالك لا تفعل. فعن الأخفش أن «أن» زائدة أي ما لنا لا نقاتل. ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولا سيما في كلام رب العزة. وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك «ما لك لا تقاتل» معناه ما منعك أن تقاتل ، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال «أن» فيه. وعن الكسائي : واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة «في» على القياس (وَقَدْ أُخْرِجْنا) أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها ، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه. روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين. وهاهنا محذوف التقدير : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكا وكتب عليهم القتال. (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وهم الذين عبروا النهر وسيأتي

٦٦٥

ذكرهم وأنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال. وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم.

قوله سبحانه (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) طالوت اسم أعجمي كجالوت وداود ، امتنع من الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة. وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم ، وقد يوافق العبراني العربي. و (مَلِكاً) نصب على الحال ، أو التمييز ، أو مفعول ثان على أن بعث بمعنى صير. وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك ، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم (قالُوا أَنَّى يَكُونُ) كيف ومن أين يصح ويصلح (لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) الواو الأولى للحال ، والثانية للعطف. فانتظمت الجملتان في سلك الحالية. استبعدوا تملكه من وجهين : الأول : أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون ، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين. الثاني : أنه كان فقيرا ولا بد للملك من مال يعتضد به. فعن وهب أنه كان دباغا. وعن السدي أنه كان مكاريا. وقال الآخرون : كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه : الأول : (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم ، ولا اعتراض لأحد على حكم الله. وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكا فأتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. الثاني : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال ، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس ، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان ، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما. وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء. والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب ، ويجوز أن يكون عالما في الديانات وبغيرها. وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالما وإلا كان مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيما يملأ العين مهابة وحشمة. والبسطة السعة والامتداد وطول القامة. روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه. وقيل : المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل. والأظهر أن يراد بها القوة

٦٦٦

لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال. الوجه الثالث : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه. الوجه الرابع : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه.

قوله عز من قائل (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) الآية. اعلم أن ظاهر قوله تعالى (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إنه لما قال : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) كان هذا دليلا قاطعا على أنه ملك ، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلا آخر دل على صدق النبي ، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز. ولهذا كثرت معجزات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما‌السلام. ثم إن مجيء التابوت لا بد أن يقع على وجه يكون خارقا للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى. فقيل : إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتا فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره. وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت. فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه. وقيل : إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه وكانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه‌السلام لسخطه على بني إسرائيل. ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس. وعلى هذا الإتيان حقيقة ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعا لأن من حفظ شيئا في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء. أما شكل التابوت فقيل : كان من خشب الشمشار مموها

٦٦٧

بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبي وزيد بن ثابت التابوه بالهاء وهي لغة الأنصار. وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون «فعلوتا» أو «فاعولا» لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلسل وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو «فعلوت» من التوب أي الرجوع لأنه ظرف ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت ، وقيل : إن طالوت كان نبيا وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقرونا بالتحدي. والجواب أن التحدي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته (فِيهِ سَكِينَةٌ) هي «فعيلة» من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار ، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة. وأما البقية فبمعنى الباقية. يقال : بقي من الشيء بقية. والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئا حاصلا في التابوت أولا ، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذاكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» (١) أي بسببها. وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم : كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم‌السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم. وعن ابن عباس : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. وعن علي رضي‌الله‌عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها ريح هفافة أي طيبة. وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم. قال بعض العلماء : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت. وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع. قال تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) [غافر : ٤٦] (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي موسى الأشعري «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (٢) وأراد به داود

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب القسامة باب ٣٣. أبو داود في كتاب الديات باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ١٧٨ ، ١٨٢) بلفظ «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل».

(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب ٣١. مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٣٥.

الترمذي في كتاب المناقب باب ٥٥. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٨٣. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٧٦. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧١.

٦٦٨

نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بدلالة المعجزة على صدق المدعي وهاهنا محذوف والتقدير : فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته. (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى : انفصل عن بلده مع الجنود. والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة» (١). روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها. ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا. فقال نبيهم : على قول ، أو طالوت على الأظهر ، وذلك إما بإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بالوحي إن كان نبيا (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) بما اقترحتموه من النهر. قيل في حكمة هذا ابتلاء : إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة ، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر ، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو. عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين ، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين. ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان و (مُبْتَلِيكُمْ) أي ممتحنكم. ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء ، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف ، لا جرم سمى التكليف ابتلاء. (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم «فلان مني» يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما ، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء لمذاقه. واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ فقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع في النهر. حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلا بذلك الشيء. وقال الباقون : بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازا إلا أنه مجاز مشهور ، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصورا على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٢. مسلم في كتاب البر حديث ١٥٩. أبو داود في كتاب الأدب باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٩٥ ، ٥٢٧).

٦٦٩

يكون داخلا تحت النهي. ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من قوله (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) ليصح النظم وإنما فصل قوله (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) بين المستثنى والمستثنى منه للعناية. ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع. والغرفة بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف. عن ابن عباس : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحتمل منها. ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل ، ويحتمل أنه كان مأذونا أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله (بِيَدِهِ) لا يجاوب هذا الاحتمال (فَشَرِبُوا مِنْهُ) كرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وقرأ أبي والأعمش (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم. فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق. يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين. والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن. قال البراء بن عازب : وكنا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وقيل : إنهم كانوا أربعة آلاف. ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه ، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده ، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ولقوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي ليس من أصحابي في سفري ، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي ، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين ، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو ، وقيل : إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق. والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة ، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : منهم من

٦٧٠

يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا : لا طاقة لنا ، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم : لا طاقة لنا اليوم. فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل. وقال الآخرون : بل نرجو من الله الفتح والظفر. فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر ، وكلا الغرضين محمود. والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة. يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة. وفي المثل «أساء سمعا فأساء جابة» أي جوابا ومعنى قوله (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت. عن قتادة : أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك أن أحدا لا يعلم عاقبة أمره ، وعن أبي مسلم : أو تظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة ، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن ، أو المراد بقوله (يَظُنُّونَ) يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الاعتقاد ، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم «فأوت رأسه بالسيف» وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس. والمراد تقوية قلوب الذين قالوا : لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة ، ومحل «كم» رفع بالابتداء و (غَلَبَتْ) الجملة خبره ، (بِإِذْنِ اللهِ) بتيسيره وتسهيله. (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالمعونة والتأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون.

قوله سبحانه (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) الآية البراز الأرض الفضاء ومنه البروز والمبارزة في الحرب كأن كل واحد منهما حصل بحيث يرى صاحبه. واعلم أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع ضعفائهم وعوامهم أن الغلبة لا تتعلق بكثرة العدد وأن النصر والظفر بإعانة الله اشتغلوا بالدعاء و (قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) وهكذا كان يفعل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي في قصة بدر أنه كان يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدوا قال : اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ، اللهم بك أصول وبك أجول. والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه فيفيد المبالغة. أي صب علينا أتم صبر وأبلغه وهذا هو الركن الأعظم في المحاربة ، فإنه إن كان

٦٧١

جبانا لم يجد بطائل. ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار ، فاقترحوها بقولهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فلا جرم استجاب الله دعاءهم (فَهَزَمُوهُمْ) كسروهم (بِإِذْنِ اللهِ) بتوفيقه وإعانته (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) عن ابن عباس أن داود كان راعيا ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود ـ وكان صغيرا ـ إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم. فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوه. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي. فقال داود : فأنا خارج إليه. وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفا جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناسا كثيرا. قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل. (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها (وَالْحِكْمَةَ) أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبيا وعليهم ملكا كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضا ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله. ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين. قال بعضهم : هذا الإتيان جبرا له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل. وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة. وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)

٦٧٢

[الحج : ٧٥] فإن قيل : لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه‌السلام في معارج السعادات ، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي. (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) قيل : هو صنعة الدروع لقوله (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] وقيل : منطق الطير (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦] وقيل : ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة. وقيل : علم الدين والقضاء (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) [ص : ٢٠] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبيا أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمح جماحا وكتب كتابا وقام قياما ، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه ، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٠].

واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس ، والمدفوع به وهو البعض الآخر. وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي ، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن. فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الملك والدين توأمان» «الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع» وعلى هذا فمعنى قوله (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران. وقيل : المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار. ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين. وقيل : المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله ، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا هذه الآية (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) بسبب ذلك الدفاع. وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله.

التأويل : فقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا ، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام

٦٧٣

والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان ، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) تبين الأبطال من البطال فـ (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء.

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها إن الكرام قليل

تعيرنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) [المائدة : ٨٤] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين. (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها ، ولهذا. قالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] استحقارا لشأن آدم واحتجابا بحجب الأنانية والنحنية ، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا : (نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ) وضعهم الله وحرموا الملك ، ولما تواضع طالوت لله وقال : كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ، رفعه الله وأعطاه الملك. ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠] أمرهم بالسجود لآدم ، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال : ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب (فِيهِ سَكِينَةٌ) من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] (بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى) هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس. وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان ، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن ، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كماقال : «لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» فإذا حصل

٦٧٤

لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة ، وانقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا ويتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار ، وكان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا» أي ما يمسك رمقهم (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها ، لأنه صار معلولا مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعينا به مستغنيا عن غيره قائلا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وهم أعداؤنا في الدين عموما ، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصا (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) بنصرته وقوته (وَقَتَلَ داوُدُ) القلب (جالُوتَ) النفس إلخ. وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات إلى غير المولى ، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس ، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها ، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها ، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها ، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية ، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين ، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم ، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].

٦٧٥

تم الجزء الثاني ، وبه يتم المجلد الأول من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه الجزء الثالث ، وهو بداية المجلد الثاني ، وأوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ).

٦٧٦

الفهرس

مقدمة المصنف...................................................................... ٣

تفسير سورة الفاتحة

الآيات : ١ ـ ٧.................................................................... ٦٠

تفسير سورة البقرة

الآيات : ١ ـ ٥.................................................................. ١٢٨

الآيتان : ٦ و ٧................................................................. ١٤٩

الآيات : ٨ ـ ١٦................................................................ ١٥٩

الآيات : ١٧ ـ ٢٠............................................................... ١٧٢

الآيتان : ٢١ و ٢٢.............................................................. ١٧٨

الآيتان : ٢٣ و ٢٤.............................................................. ١٩٠

الآية : ٢٥...................................................................... ١٩٧

الآيتان : ٢٦ و ٢٧.............................................................. ٢٠٢

الآيتان : ٢٨ و ٢٩.............................................................. ٢٠٨

الآية : ٣٠...................................................................... ٢١٣

الآيات : ٣١ ـ ٣٣............................................................... ٢٢١

الآيات : ٣٤ ـ ٣٩............................................................... ٢٣٩

الآيات : ٤٠ ـ ٤٦............................................................... ٢٦٩

الآيتان : ٤٧ و ٤٨.............................................................. ٢٧٩

الآيات : ٤٩ ـ ٥٣............................................................... ٢٨١

الآيات : ٥٤ ـ ٥٧............................................................... ٢٨٨

الآيتان : ٥٨ و ٥٩.............................................................. ٢٩٣

الآيتان : ٦٠ و ٦١.............................................................. ٢٩٧

الآيات : ٦٢ ـ ٦٦............................................................... ٣٠٢

٦٧٧

الآيات : ٦٧ ـ ٧٤............................................................... ٣٠٧

الآيات : ٧٥ ـ ٨٢............................................................... ٣١٦

الآيات : ٨٣ ـ ٨٦............................................................... ٣٢١

الآيات : ٨٧ ـ ٩١............................................................... ٣٢٩

الآيات : ٩٢ ـ ٩٦............................................................... ٣٣٥

الآيات : ٩٧ ـ ١٠١............................................................. ٣٤١

الآيتان : ١٠٢ و ١٠٣........................................................... ٣٤٥

الآيات : ١٠٤ ـ ١٠٨........................................................... ٣٥٣

الآيات : ١٠٩ ـ ١١٣........................................................... ٣٦٢

الآيات : ١١٤ ـ ١١٨........................................................... ٣٧٠

الآيات : ١١٩ ـ ١٢٣........................................................... ٣٨١

الآيات : ١٢٤ ـ ١٢٦........................................................... ٣٨٣

الآيات : ١٢٧ ـ ١٣٤........................................................... ٣٩٦

الآيات : ١٣٥ ـ ١٤١........................................................... ٤١٢

الآيات : ١٤٢ ـ ١٥٢........................................................... ٤١٧

الآيات : ١٥٣ ـ ١٥٧........................................................... ٤٣٨

الآيات : ١٥٨ ـ ١٦٢........................................................... ٤٤٤

الآيتان : ١٦٣ و ١٦٤........................................................... ٤٥٠

الآيات : ١٦٥ ـ ١٦٧........................................................... ٤٦٠

الآيات : ١٦٨ ـ ١٧١........................................................... ٤٦٤

الآيات : ١٧٢ ـ ١٧٦........................................................... ٤٦٧

الآية : ١٧٧.................................................................... ٤٧٥

الآيتان : ١٧٨ و ١٧٩........................................................... ٤٨٠

الآيات : ١٨٠ ـ ١٨٢........................................................... ٤٨٧

الآيات : ١٨٣ ـ ١٨٧........................................................... ٤٩٣

الآيتان : ١٨٨ و ١٨٩........................................................... ٥٢٣

الآيات : ١٩٠ ـ ١٩٥........................................................... ٥٢٨

الآية : ١٩٦.................................................................... ٥٣٥

الآيات : ١٩٧ ـ ٢٠٣........................................................... ٥٤٩

٦٧٨

الآيات : ٢٠٤ ـ ٢١٠........................................................... ٥٧٤

الآيات : ٢١١ ـ ٢١٤........................................................... ٥٨٢

الآيات : ٢١٥ ـ ٢١٨........................................................... ٥٩١

الآيات : ٢١٩ ـ ٢٢١........................................................... ٦٠٠

الآيات : ٢٢٢ ـ ٢٢٧........................................................... ٦١٢

الآيات : ٢٢٨ ـ ٢٣٢........................................................... ٦٢٤

الآيات : ٢٣٣ ـ ٢٣٧........................................................... ٦٣٩

الآيات : ٢٣٨ ـ ٢٤٢........................................................... ٦٥٢

الآيات : ٢٤٣ ـ ٢٤٥........................................................... ٦٦٠

الآيات : ٢٤٦ ـ ٢٥١........................................................... ٦٦٤

٦٧٩