تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه. ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة ، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك. أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك. وأيضا فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري. وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا. وقرىء (أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) برفع الفعل تشبيها لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة «ما» ستارة تقع مصدرية فلا تنصب. وقرىء (الرَّضاعَةَ) بكسر الراء.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم. وإنما قيل : (الْمَوْلُودِ لَهُ) دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولودا على فراشه ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الولد للفراش» (١) وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل : كله لك فكله عليك. فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] (بِالْمَعْرُوفِ) تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار. وأيضا المعروف في هذا الباب قد يكون محدودا بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف ، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري ، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد. وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة ، وبين الأب وبينه واسطة ، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة. والتكليف : الإلزام. قيل : أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه. فمعنى تكلف

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٣ ، ١٠٠. مسلم في كتاب الرضاع حديث ٣٦ ، ٣٧. أبو داود في كتاب الطلاق باب ٣٤. الترمذي في كتاب الرضاع باب ٨. النسائي في كتاب الطلاق باب ٤٨ ، ٤٩ ، ٨٤. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٩. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤١.

٦٤١

الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره. وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره. والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل : الوسع فوق الطاقة. من قرأ (لا تُضَارَّ) بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي ، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء ، أو تضار بفتحها. ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحا ، ويحتمل البناءين أيضا. وتبيين ذلك أنه قرىء لا تضارر ولا تضارر بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها. ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئرا ونحو ذلك ولا يضار (مَوْلُودٌ لَهُ) امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، أو يكرهها على الإرضاع. وهكذا إذا كان مبنيا للمفعول كان نهيا عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد. ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر ، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد. وإنما قيل : (بِوَلَدِها) و (بِوَلَدِهِ) لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد.

قوله سبحانه (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافا إلى كل واحد من هؤلاء. فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب ، وقوله (وَعَلَى الْوارِثِ) عطف على قوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَ) وما بينهما تفسير للمعروف. فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار. وقيل : المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجبا على الأب ، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي. ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل : العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم. وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، عن قتادة وابن أبي ليلى. وقيل : وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه. وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن. وقيل : المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة

٦٤٢

رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل : المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي «واجعله الوارث منا» أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) أي فطاما وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على «فعال» كالعثار والإباق. وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات. وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي ، أو نقصا. وهذه أيضا توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضا قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعا لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما ، وحينئذ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف ، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط. ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) أي المواضع أولادكم (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولا ثانيا كما تقول : أنجى لحاجة واستنجته إياها. فحذف أحد المفعولين للعلم به. وعن الواحدي : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوج آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع. ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر. ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق. ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها. فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم. (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المراضع (ما آتَيْتُمْ) ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) قرأ (ما آتَيْتُمْ) بالقصر فهو من أتى إليه إحسانا إذا فعله كقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي مفعولا. وروى شيبّان عن عاصم ما أوتيتم أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وليس التسليم شرطا للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى. وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يدا بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي ، ولهذا قيد التسليم

٦٤٣

بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعا لمعاذيرهن. ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

الحكم الثالث عشر : عدة الوفاة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) ومعناه يموتون ويقبضون قال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملا وافيا. ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا ، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه (يُتَوَفَّوْنَ) بفتح الياء. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفي ـ بكسر الفاء ـ؟ فقال : الله. وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي‌الله‌عنه على أن أمره بأن يضع كتابا في النحو. فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغا وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله ، وحمله على متعارف الأوساط (وَيَذَرُونَ) يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك. والأزواج هاهنا النساء (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) مثل قوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] وقد مر. (وَعَشْراً) أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وإنما قيل : (عَشْراً) ذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها. قال في الكشاف : ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام. وقيل في سبب التغليب : إن مبدأ الشهر من الليل ، والأوائل أقوى من الثواني. وأيضا هذه الأيام أيام الحزن ، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة ، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته. وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة. قلت : ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات ، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك. وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء. وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكا بظاهر عموم الآية ، وقياسا على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملا فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤].

ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية ، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حللت فانكحي من شئت. وعن علي رضي‌الله‌عنه أنها تتربص أبعد الأجلين. ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها. وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول. ورد بعموم

٦٤٤

الآية ، ولهذا أيضا لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافا لمالك فإنه قال : لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها. فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور ، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة ، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها ، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس. واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة؟ فعن بعضهم ـ ويوافقه جديد قول الشافعي ـ أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه» وأيضا فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين. وقال الأكثرون : السبب هو الموت. فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع ، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد ، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه. ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ. والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» (١) وعن الحسن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٣١. مسلم في كتاب الرضاع حديث ١٢٥. أبو داود في

٦٤٥

والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل» (١) والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر. وقد يحتج بقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) من قال : الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في (مِنْكُمْ) بالمؤمنين. والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العالمون بذلك كقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] مع أنه منذر للكل (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) إذا انقضت عدتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك ، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول. وقيل : معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله ، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلا وشرعا. وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل هاهنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي. بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل «بنى الأمير دارا» وقد تقدم في قوله (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

الحكم الرابع عشر : خطبة النساء وذلك قوله سبحانه (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح ، ولهذا قد يقال : إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج : جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم. ومنه قول الشاعر :

وحسبك بالتسليم مني تقاضيا

وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل : «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (٢) وهو قسم من أقسام الكناية. والخطبة أصلها من الخطب

__________________

كتاب الطلاق باب ٤٣ ، ٤٦. الترمذي في كتاب الطلاق باب ١٨. النسائي في كتاب الطلاق باب ٥٨ ، ٥٩. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ٣٥. الدارمي في كتاب الطلاق باب ١٢.

(١) رواه النسائي في كتاب الطلاق باب ٦٥. أبو داود في كتاب الطلاق باب ٤٦. أحمد في مسنده (٦ / ٣٠٢).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١١٦.

٦٤٦

وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمرا وشأنا في نفسها. وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأنا. ثم النساء على ثلاثة أقسام : أحدها : أن تجوز خطبتها تعريضا وتصريحا وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه ،وعليه يحمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم«لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» (١) فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافا لمالك. وثانيها : ما لا يجوز خطبتها تعريضا ولا تصريحا وهي منكوحة الغير ، لأن خطبتها ربما صارت سببا لتشويش الأمر على زوجها ، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغبا فيها ، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان. وثالثها : ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة ، أو عن طلقات ثلاث ، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة ، أو عن فسخ. وسبب التحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج. وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها ، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب. قال الشافعي : والتعريض كثير كقوله «رب راغب فيك» أو «من يجد مثلك أو «لست بأيم» و «إذا حللت فأعلميني». وعد آخرون من ألفاظ التعريض أن يقول لها : «إنك لجميلة» او «صالحة» و «من غرضي أن أتزوج» و «عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة» ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. والتصريح أن يقول : إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام. فقالت : غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله. قد دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٤٥. مسلم في كتاب البيوع حديث ٨. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٧. الترمذي في كتاب النكاح باب ٣٨. النسائي في كتاب البيوع باب ١٩. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ١٠. الدارمي في كتاب النكاح باب ٧. الموطأ في كتاب النكاح حديث ١ ، ٢.

٦٤٧

على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده. فما كانت تلك خطبة (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم ، لا معرّضين ولا مصرحين. أباح التعريض في الحال أولا ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة ، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبىء عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج. ثم قال : (وَلكِنْ) أي فاذكروهن ولكن (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر. ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكدا لذلك التعريض. فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعا من التصريح ، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله : إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة. وعن ابن عباس أو كقوله : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك. عن الحسن أو يكون ذلك نهيا عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة ، أو نهيا أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه. ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سرا إلا بأن تقولوا قولا معروفا وهو التعريض. وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر وعزم عليه. والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها ، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى. وقيل : معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» (١) وروي «لم يبيت الصيام» وقيل : لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا. وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقودا تشبيها بالحبل الموثق بالعقد (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت ، ويحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته. وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب ٣٣.

٦٤٨

الحكم الخامس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلا على كل حال ، وذلك البدل إما أن يكون مذكورا أو غير مذكور. فإن كان مذكورا فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية ، وإن لم يكن البدل مذكورا فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياسا على الموطوءة بالشبهة ، بل أولى لوجود النكاح الصحيح. وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤] ويحتمل أن يقال : هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضا لها ، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة. وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام. فإن قيل : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك ، فإنه لا جناح عليه أيضا بعد المسيس. قلنا : لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق ، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، أو لعل «ما» بمعنى «التي» لا للمدة. والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن ، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن ، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال : جنحت السفينة إذا مالت بثقلها. ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدودا إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض. والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر. وأيضا إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده. وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني. واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع ، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية ، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم. والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدرا من المهر. ومعنى «أو» هاهنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس ، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط ، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم. وقيل : إنها بمعنى الواو. وقيل : بمعنى «إلا أن»

٦٤٩

وقيل : بمعنى «حتى» والكل تعسف. ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية ، ذكر أن لها المتعة فقال : (وَمَتِّعُوهُنَ) فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظرا إلى الأمر ، وأنه للوجوب ظاهرا وهو قول شريح والشعبي والزهري. وعن مالك : ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فجعلها من باب الإحسان. ورد بأن لفظ «على» منبىء عن الوجوب. وكذا قوله (حَقًّا) وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعا منقضيا ولهذا قيل : الدنيا متاع. ويسمى التلذذ تمتعا لانقطاعه بسرعة. (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله ، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار ، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده. وقدره أي قدرا مكانه وطاقته فحذف المضاف ، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما ، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر. قال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهما ، وعلى المقتر مقنعة. وعن ابن عباس أنه قال : أكثر المتعة خادم ، وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة. وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها. ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى. (مَتاعاً) تأكيد لمتعوهن أي تمتيعا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة ، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر ، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان ، أو من أراد أن يكون محسنا فهذا شأنه وطريقته ، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.

الحكم السادس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) الآية. واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي. فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائما. والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضا كان أو نفلا. وقوله (وَقَدْ فَرَضْتُمْ) في موضع الحال. ومعنى قوله (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) فعليكم نصف ذلك ، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي المطلقات

٦٥٠

عن أزواجهن فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئا؟ والفرق بين قولك «النساء يعفون» وبين «الرجال يعفون» هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء ، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه «يفعون» والنون علامة الرفع ، فقوله (أَوْ يَعْفُوَا) عطف على محل (أَنْ يَعْفُونَ) والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي ، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة. وقيل : الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب. وكثير من الصحابة والتابعين قالوا : ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة. وأيضا الذي بيد الولي هو عقدة النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة ، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو. حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفوا اللهم إلا أن يقال : كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو يقال : سماه عفوا على طريقة المشاكلة ، أو لأن العفو والتسهيل. فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة. حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولا : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) ناسب أن يقال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أو تعفو على سبيل الخطاب أيضا ، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو. والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق ، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها. ثم قال الشافعي : إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي ، وذلك للحصر المستفاد من تقديم (بِيَدِهِ) على (عُقْدَةُ النِّكاحِ) فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قيل : اللام بمعنى «إلى» والتقدير : العفو أقرب إلى التقوى. والخطاب للرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم ، وإنما كان عفوا لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقربا إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد ، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم ، وليس نهيا عن النسيان فإن ذلك غير مقدور ، بل المراد منه الترك. وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببا لتأذيها منه. وأيضا

٦٥١

إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سببا لتأذيه منها ، فلا جرم ندب الله تعالى كلا منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف. عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتا له فتزوجها. فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملا فقيل له : لم تزوجتها؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده. قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال:(إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

القراآت : (وَصِيَّةً) بالنصب : أبو عمر وابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب غير روبس. الباقون بالرفع.

الوقوف : (قانِتِينَ) ه (أَوْ رُكْباناً) ج لأن «إذا» في معنى الشرط مع فاء التعقيب (تَعْلَمُونَ) ه (أَزْواجاً) ج لانقطاع النظم ومكان الحذف لأن التقدير فعليهم وصية أو فليوصوا وصية ، والوصل أجوز لاتصال المعنى فإن وصية أو وصية قام مقام خبر المبتدأ. (إِخْراجٍ) ج (مِنْ مَعْرُوفٍ) ط (حَكِيمٌ) ه (بِالْمَعْرُوفِ) ط (الْمُتَّقِينَ) ه (تَعْقِلُونَ).

التفسير : الحكم السابع عشر : الصلاة ، وذلك أنه سبحانه لما بين للمكلفين ما بين من معالم الدين وشعائر اليقين أعقبها بذكر الصلاة التي تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد وحصول الانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه تحصيلا لسعادة الطرفين وتكميلا لمصالح الدارين. وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات المكتوبة خمس ، وفي الآية إشارة إلى ذلك لأن الصلوات جمع فأقلها ثلاث ، والصلاة الوسطى تدل على شيء زائد والإلزام التكرار ، وذلك الزائد لو كان الرابع لم يكن للمجموع وسطى فلا أقل من خمسة. والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان ، ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وأبعاضها وهيآتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح. ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد

٦٥٢

والرب كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] وفي الحديث «احفظ الله يحفظك» وإما لأنها بين المصلي والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] وحفظته عن الفتن والمحن (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] وكيف لا وفي الصلاة القراءة والقرآن شافع مشفع. في الخبر «تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان فتشهدان وتشفعان» (١) و «إن سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه»

وفي الصلاة الوسطى سبعة أقوال : الأول : أنه تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة الوسطى ولم يبين لنا أنها أي الصلوات. وما يروى من أخبار الآحاد لا معوّل عليها فيجب أن تؤدى كلها على نعت الكمال والتمام ، ولعل هذا هو الحكمة في إبهامها ، ولمثل ذلك أخفى الله تعالى ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، واسمه الأعظم في أسمائه ، ووقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا عازما على التوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، عن محمد بن سيرين أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها. وعن الربيع : أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قال السائل : لا. قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الصلاة الوسطى. القول الثاني : أن الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، فإن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطرق. والصلوات المكتوبات واسطة بين الطرفين. القول الثالث : أنها صلاة الصبح وهو قول علي وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي أمامة. ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي قالوا : إن هذه الصلاة تصلى في الغلس فبعضها في ظلمة الليل وآخرها في ضوء النهار. وأيضا إن في النهار صلاتين : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتين : المغرب والعشاء ، والصبح متوسط بينهما. وأيضا الظهر والعصر يجمعان في السفر وكذا المغرب والعشاء والفجر منفرد بينهما. قال القفال : وتحقيق هذا يرجع إلى ما يقوله الناس : فلان متوسط إذا لم يمل إلى أحد

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث ٢٥٢ ، ٢٥٣. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١٥. أحمد في مسنده (٤ / ١٨٣)

٦٥٣

الخصمين وكان منفردا بنفسه عنهما. وقد أقسم الله تعالى بها في قوله (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر : ١ ، ٢] وأيضا قال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٢٨] واتفقوا على أن المراد منه صلاة الفجر فخصها في تلك الآية بالذكر للتأكيد وخص الصلاة الوسطى في هذه الآية بالذكر للتأكيد ، فيغلب على الظن أنهما واحد. وأيضا قرن هذه الصلاة بذكر القنوت في قوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) وليس في المفروضة صلاة صبح فيها القنوت إلا الصبح. وأيضا لا شك أنه تعالى أفردها بالذكر لأجل التأكيد والصبح أحوج الصلوات إلى ذلك ، ففيه ترك النوم اللذيذ واستعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد في الوقت الموحش. وأيضا الإفراد بالذكر ينبىء عن الفضل ، ولا ريب في فضيلة صلاة الصبح ولهذا جاء (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧] وروي أن التكبيرة الأولى منها في الجماعة خير من الدنيا وما فيها. وخصت بالأذان مرتين : أولاهما قبل الوقت إيقاظا للناس حتى لا تفوتهم البتة ، وخص أذانها بالتثويب وهو أن يقول بعد الحيعلتين : الصلاة خير من النوم. وإن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه صار موجودا بعد العدم ، وعند ذلك يزول عن الخلائق ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة الفجر والحيرة ، ويملأ العالم نورا والأبدان حياة وعقلا وقوة وفهما. فهذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والاستكانة لفاطر السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور. وعن علي عليه‌السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال : كنا نرى أنها الفجر. وعن ابن عباس أنه صلى الصبح ثم قال : هذه هي الصلاة الوسطى. القول الرابع : أنها صلاة الظهر ويروى عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن الظهر كان شاقا عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى. وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم» (١) فنزلت هذه الآية. وأيضا ليس في المكتوبات صلاة وقعت وسط الليل والنهار إلا هذه ، وإنها صلاة بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر وأنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي ، وإن أول إمامة جبرائيل كان في صلاة الظهر كما ورد في الأحاديث الصحاح ، وإن صلاة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٢٩ ، ٣٤. مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٥١ ـ ٢٥٤. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٤٦. الترمذي في كتاب الصلاة باب ٤٨. النسائي في كتاب الإمامة باب ٤٩. ابن ماجه في كتاب المساجد باب ١٧. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٥٤.

٦٥٤

الجمعة مع ما ورد في فضلها تنوب عن الظهر لا عن غيرها. وعن عائشة أنها كانت تقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر وكانت تقول : سمعت ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فيغلب على الظن أن المعطوف عليه العصر هو الظهر الذي قبله. وروي أن قوما كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة الظهر ، كانت تقام في الهاجرة. القول الخامس : أنها صلاة العصر ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي‌الله‌عنهم ، ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروي عن أبي حنيفة أيضا لما ورد من التأكيد فيه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» (١) وقد أقسم الله بها في قوله (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ، ٢] ولما يحتاج في معرفة وقتها إلى تأمل أكثر من حال الظهر. فالمغرب يعرف بغروب جرم الشمس ، والعشاء يعرف بغروب الشفق ، والفجر بطلوع الصبح الصادق ، والظهر بدلوك الشمس عن دائرة نصف النهار ، ولما في وقتها من اشتغال الناس بحوائجهم. وعن علي عليه‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الخندق : «شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا» (٢) رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة. وهو عظيم الموقع في المسألة. وفي صحيح مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب. وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أملي عليك كما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها فأملت عليه والصلاة الوسطى صلاة العصر. القول السادس : أنها صلاة المغرب. عن قبيصة بن ذؤيب لأنها بين بياض النهار وسواد الليل ، ولأنها وسط في الطول والقصر. القول السابع : أنها صلاة العشاء لأنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب والصبح. ولما ورد في فضلها عن عثمان بن عفان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة» (٣) وقال أهل التحقيق : القلب هو الذي في وسط

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب ١٤. مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٠٠ ، ٢٠١. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٥. الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٤. النسائي في كتاب الصلاة باب ١٧. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ٦.

(٢) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٩٨. مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٠٢ ـ ٢٠٦. النسائي في كتاب الصلاة باب ١٤. ابن ماجه في كتاب الصلاة باب ٦. أحمد في مسنده (١ / ٧٩).

(٣) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٦٠. البخاري في كتاب الأذان باب ٣٤. الترمذي في كتاب الصلاة باب ٥١. ابن ماجه في كتاب المساجد باب ١٨. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٢٨. أحمد في مسنده (١ / ٥٨ ، ٦٨).

٦٥٥

الإنسان بل هو واسطة بين الروح والجسد فكأنه قيل : حافظوا على صورة الصلوات بشرائطها ، وحافظوا على معاني الصلوات وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة وبعدها. ثم إن الشافعي احتج بالآية على أن الوتر ليس بواجب وإلا كانت الصلوات ستا فلم يبق لها وسطى. وهذا إنما يتم لو كان المراد الوسطى في العدد ، لكنه يحتمل أن يكون الوسطى في الفضيلة من قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أو الوسطى في الزمان وهو الظهر ، أو الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات فيتوسط بين الاثنتين والأربع ، أو الوسطى في الصفة كصلاة الصبح يتوسط بين صفتي الظلام والضياء (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) عن ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر لقوله تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) [الزمر : ٩] ولأن قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) أمر بما في الصلاة من الفعل فيكون القنوت عبارة عن كل ما في الصلاة من الذكر. وعن الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل : قانتين أي مطيعين لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل قنوت في القرآن فهو الطاعة» (١) (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [الأحزاب : ٣١] (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ) [النساء : ٣٤] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها. وفيه زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما لا يجزى وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قالوا وجب أن لا يصلي أصلا لأنه تعالى كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسائر الرسل والسلف الصالح فأطالوا وخشعوا واستكانوا وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال وقيل : قانتين ساكتين. عن زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وعن مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف ، وكان أحدهم إذا صلى خاف ربه فلا يلتفت ، ولا يقلب الحصى ، ولا يبعث بشيء من جسده. ولا فحذف المفعول به للعلم به أو فإن حصل لكم خوف أو كنتم على حالة الخوف على أنه متروك المفعول (فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) أي فصلوا راجلين أو راكبين. وقيل : المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالا أو ركبانا. وعلى هذا فالآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود. ورجالا جمع راجل كقيام جمع قائم وتجار جمع تاجر ، أو جمع رجل يقال :

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٧٥).

٦٥٦

رجل رجل أي راجل. والركبان جمع راكب كفارس وفرسان. ولا يقال راكب إلا لمن كان على إبل ، فإن كان على فرس فإنما يقال له : فارس. لكن المراد في الآية أعم ، وتخصيص اللفظ بالركبان لأنه الغالب فيهم. واعلم أن صلاة الخوف ، إما أن تكون في غير حال القتال وسوف يجيء بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، وإما أن تكون عند التحام القتال وهو المراد بهذه الآية. ومذهب الشافعي أنهم يصلون ركبانا على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة ، ويقتصرون من الركوع والسجود على الإيماء إلا أنهم يجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويحترزون عن الصيحان ، أنّه لا ضرورة إليه بل الشجاع الساكت أهيب. وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخر الصلاة يوم الخندق. وأجيب بأن الآية ناسخة لذلك الفعل. ويدخل في الخوف المفيد لهذه الرخصة الخوف في القتال الواجب كالقتال مع الكفار أو مع أهل البغي ، وفي القتال المباح كالدفاع عن النفس ، أو عن حيوان محترم ، أو عن المال. أما القتال المحظور فإنه لا يجوز فيه صلاة الخوف لأن الرخص لا تناط بالمعاصي والخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع ، وكذا المطالب إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بينة الإعسار يرخص أيضا في هذه الصلاة لأن قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ) مطلق يتناول الكل (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فإذا زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من صلاة الأمن بقوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) كما بينه بشروطه وأركانه. والصلاة قد تسمى ذكرا (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وقيل : فاذكروا الله أي فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم بالأمن. وقيل : فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه. وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن. و «ما» في (كَما عَلَّمَكُمْ) إما مصدرية أو كافة.

الحكم الثامن عشر : عدة الوفاة بوجه آخر (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية. من قرأ (وَصِيَّةً) بالرفع فـ (وَصِيَّةً) مبتدأ وخبره (لِأَزْواجِهِمْ) وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية ، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائز حسن. ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل «أنت سير البريد» أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعا نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعا. والتقدير : جعل الله لهن ذلك متاعا لأن ما قبله من الكلام يدل عليه ، أو نصب على الحال ، أو نصب بالوصية و (غَيْرَ إِخْراجٍ) نصب على المصدر المؤكد كقولك «هذا القول غير ما تقول» أو بدل من (مَتاعاً) أو حال من الأزواج أي غير مخرجات. والمعنى أن

٦٥٧

حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولا كاملا أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن. وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا لا وصية لوارث» (١) وعن علي عليه‌السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلا. وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، واختاره المزني قياسا على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين. وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود ، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة ، ووافقه مالك والثوري وأحمد. وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال : نعم. فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب. وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول. قال : وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولا بها. وعن أبي مسلم : إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولا. فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن ـ أي قبل ذلك ـ وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة. والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا ، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب. ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا مرتين أو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٦. أبو داود في كتاب الوصايا باب ٦. الترمذي في كتاب الوصايا باب ٥. النسائي في كتاب الوصايا باب ٥. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب ٦. الدارمي في كتاب الوصايا باب ٢٨. أحمد في مسنده (٤ / ١٨٦).

٦٥٨

ثلاثا كل ذلك يقول : لا. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول. قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا أي بيتا صغيرا ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيبا حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به. قال مالك : أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح. ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها. وإنما قال هاهنا (مِنْ مَعْرُوفٍ) منكرا لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه. وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع. ويمكن أن يقال : إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولا ، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٦].

الحكم التاسع عشر : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المذكورة في الحكم الخامس عشر. وروي أنها لما نزلت (وَمَتِّعُوهُنَ) إلى قوله (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت فإن لم أرد ذلك لم أفعل فنزلت هذه الآية أي حقا على من كان متقيا عن الكفر والمعاصي واعلم أن المطلقات قسمان : مطلقة قبل الدخول فلها المتعة إن لم يفرض لها مهر كما مر في الحكم الخامس عشر ، وإن فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنه تعالى اقتصر على ذلك ولم يذكر المتعة فهي مستثناة من عموم هذه الآية. ومطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أم لم يفرض. واختلفوا في استحقاقها المتعة. فالقديم من قول الشافعي وبه قال أبو حنيفة ، لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض وقبل الدخول. وفي الجديد لها المتعة وهو قول علي وابنه الحسن وابن عمر لعموم الآية ، ولقوله تعالى (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) [الأحزاب : ٢٨] وكان ذلك في حق نساء دخل بهن النبي. وليست كالمطلقة المذكورة لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض ، وهذه استحقت الصداق في مقابلة استباحة البضع فيجب لها المتعة للإيحاش. وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري أنها واجبة لكل مطلقة تمسكا بظاهر عموم الآية. وقيل : المراد بهذا المتعة النفقة في العدة بدليل (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) والله أعلم.

٦٥٩

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

القراآت : (فَيُضاعِفَهُ) بالألف والنصب : عاصم غير المفضل وسهل «فيضعفه» بالتشديد والنصب : ابن عامر ويعقوب غير روح. فيضعفه بالتشديد والرفع : ابن كثير ويزيد وروح. الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد (وَيَبْصُطُ) بالصاد : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح ، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير. الباقون بالسين.

الوقوف : (الْمَوْتِ) ص (أَحْياهُمْ) ط (لا يَشْكُرُونَ) ه (عَلِيمٌ) ه (كَثِيرَةً) ط (وَيَبْصُطُ) ص (تُرْجَعُونَ) ه.

التفسير : قد جرت عادته سبحانه أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص اعتبارا للسامعين ليحملهم ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال : (أَلَمْ تَرَ) وفيه تقرير لمن سمع بقصتهم ووقف على أخبار الأولين وتعجيب من حالهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب ، أو تكون الرؤية بمعنى العلم والمعنى : ألم ينته علمك ولهذا عدي بإلى. وعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن يقال : كان العلم بها سابقا على نزول هذه الآية ، ثم إنه تعالى أنزل الآية على وفق ذلك. روي أن أهل داوردان ـ قرية قبل واسط ـ وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه. ويروى أن حزقيل النبي الذي يقال له : ذو الكفل مر عليهم بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب مما رأى فأوحى إليه : أتريد أن أريك كيف أحيهم؟ فقال : نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي. فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام. ثم أوحى الله إليه : نادها إن الله يأمرك أن تكتسي لحما فصارت لحما ودما. ثم نادها إن الله يأمرك أن تقومي فقامت. فلما أحياهم كانوا يقولون : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت. ثم رجعوا إلى قومهم بعد حياتهم ، وكانت تظهر أمارات الموت في وجوههم إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم. وعن ابن عباس أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال

٦٦٠