تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

التفسير : أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده «فبضدها تتبين الأشياء» والند المثل المناد كما سلف. والمراد بالأنداد هاهنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين ، وقيل : يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل. عن السدى : واستدل على تفسيره بأن قوله (يُحِبُّونَهُمْ) فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أندادا وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى. ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق. قال تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤]. وأيضا علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضا التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤] وقال أهل العرفان : كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك ندا لله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] (يُحِبُّونَهُمْ) يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول. وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس. وقيل : كالحب اللازم عليهم لله وقيل : كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء ، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :

أكلت حنيفة ربها

زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم

سوء العواقب والتباعة

واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ويروى أن إبراهيم عليه‌السلام قال لملك الموت. وقد جاء لقبض روحه ـ هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى الله إليه : هل رأيت

٤٦١

خليلا يكره لقاء خليله. فقال : يا ملك المو ت الآن فاقبض. وجاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : ماذا أعددت لها؟ فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المرء مع من أحبه. ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته ، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه. وأما العارفون فيقولون : إنا نحب الله لذاته لا لغرض ، ولو كان كل شيء محبوبا لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه ، والرجل الشجاع لقوته وغلبته ، والرجل الزاهد لبراءة ساحته عن المثالب ، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص ، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه. وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم ، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه ، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال«ليس في جبتي سوى الله» فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوىء أعداءه ومخالفيه (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤].

لعين تغدى ألف عين ويتقى

ويكرم ألف للحبيب المكرم

(وَلَوْ يَرَى) قرىء بالياء والتاء «وأن» «وإن» بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات : الأول : لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. وحذف جواب «لو» دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم «لو رأيت فلانا والسياط تأخذه» بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين. الثاني : ولو ترى ـ يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية ـ هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه

٤٦٢

شديد العذاب ، لرأيت أمرا عظيما. فعلى هذا «أن» «وإن» مع معمولهما بدل من العذاب. قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعا. الثالث : بياء الغيبة وكسر «إن» و «إن» ومعناه كالأول ، والجملتان معترضتان. أو المعنى لقيل : إن القوة لله. والرابع : على هذا القياس. ودخول «لو» وكذا «إذا» في المستقبل مع «أن» حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره. وقيل : لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت وكذا الكلام في (إِذْ تَبَرَّأَ) وأنه بدل من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) وقيل : هو معمول شديد. والمراد بالذين اتبعوا القادة والرؤساء من مشركي الإنس. عن قتادة والربيع وعطاء : أو شياطين الجن الذين صاروا متبوعين بالوسوسة عن السدي : وقيل الأوثان. والتبري إما بالقول وهو أقرب ، وإما بظهور العجز والندم بحيث لا يغنون عن أنفسهم من عقاب الله شيئا فكيف عن غيرهم؟ (وَرَأَوُا الْعَذابَ) الواو للحال أي تبرؤا في حال رؤيتهم العذاب (وَتَقَطَّعَتْ) عطف على (تَبَرَّأَ بِهِمُ) أي عنهم فإن «تقطع» في معنى «زال أو وقع» تقطع الأسباب ملتبسة بهم مثل (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] بضم النون أو الباء للتعدية كأن أسباب الوصل صارت أسباب القطع ومصالحهم انقلبت عليهم مفاسد. والسبب في اللغة الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به. قالوا : ولا يدعى الحبل سببا حتى ينزل ويصعد به. والمراد هاهنا الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب والأتباع والأشياع والعهود والعقود (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) تمنّ ولذلك أجيب بالفاء كأنه قيل : ليت لنا كرة رجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف والمتبوعون مفتقرون إلى اتباعنا ونصرتنا حتى نتبرأ منهم بعدم النصرة والإعانة كما فعلوا هم اليوم (كَذلِكَ) مثل ذلك الإراء الفظيع (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) هو ثالث مفعول «أرى» أو مثل ذلك التبرؤ يريهم أعمالهم حسرات ، فإن ذلك التبرؤ نوع إراءة. والمراد بالأعمال قيل الطاعات لزمتهم فلم يقوموا بها وضيعوها. عن السدي : وقيل المعاصي وأعمالهم الخبيثة يتحسرون لم عملوها. عن الربيع وابن زيد : وقيل ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر. عن الأصم : وقيل أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم. والحسرة شدة الندم على ما فات حتى بقي النادم كالحسير من الدواب وهو الذي لا منفعة فيه. والتركيب يدور على الكشف ومنه انحسر الطائر انكشف بذهاب ريشه. والحاصل أنهم لا يرون مكان أعمالهم إلا حسرات. فيا أيها المغرور بالسلامة ما أعددت ليوم القيامة ، يوم الحسرة والندامة ، يوم يجعل الولدان شيبا ، يوم يدع المسرور كئيبا. الدنيا دار تجارة فالويل لمن تزود منها الخسارة (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) استدل الأشاعرة بالتقديم على التخصيص فقالوا : إن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة

٤٦٣

يخرجون من النار. وزعم المعتزلة أن بناء الكلام على «هم» لتقوي الحكم وإفادة التأكيد كقوله تعالى (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : ١٩] فإنه لا يدل على أن غير الأصنام غير مخلوق والله أعلم حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

القراآت : (خُطُواتِ) ساكنة الطاء حيث كان : أبو عمرو وغير عباس ونافع وحمزة وخلف الهاشمي وأبو ربيعة عن البزي والقواس والحماد وأبو بكر غير البرجمي. الباقون : بالضم. (بَلْ نَتَّبِعُ). وبابه مثل (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) [الكهف : ١٠٣] و (بَلْ نَقْذِفُ) [الأنبياء : ١٨] مدغما حيث كان : علي وهشام.

الوقوف : (طَيِّباً) ز والوصل أجوز لعطف الجملتين المتفقتين (الشَّيْطانِ) ط (مُبِينٌ) ه (ما لا تَعْلَمُونَ) ه (آباءَنا) ط لابتداء الاستفهام (وَلا يَهْتَدُونَ) ه (وَنِداءً) ط لحق المحذوف أي هم صم (لا يَعْقِلُونَ) ه.

التفسير : قال الكلبي : نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة ، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. والآية مسوقة لتقرير طرف من جهالات المشركين المتخذين من دون الله أندادا. وحلالا مفعول كلوا أو حال مما في الأرض وهو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه من الحل الذي يقابل العقد. ومنه حل بالمكان إذا نزل ، وحل عقد الرحال ، وحل الدين وجب لانحلال العقدة بانقضاء المدة ، والحلة لأنها تحل عن الطي للبس. وتحلة القسم لأن عقدة اليمين تنحل به. ثم الحرام قد يكون حراما في جنسه كالميتة والدم ، وقد يكون حراما لعرض كملك الغير إذا لم يأذن في أكله ، فالحلال هو الخالي عن القيدين والطيب إن أريد به ما يقرب من الحلال لأن الحرام يوصف بالخبيث (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] فالوصف لتأكيد المدح مثل (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) [الحاقة : ١٣] أي الطاهر من كل شبهة. ويمكن أن يراد بالطيب اللذيذ ، أو يراد بالحلال ما يكون بجنسه حلالا وبالطيب ما لا يتعلق به حق الغير. والخطوة بالضم ما بين قدمي الخاطي كالغرفة بالضم اسم لما يغترف والفعلة بالضم والسكون إذا كانت اسما تجمع في الصحيح بسكون العين وضمها.

٤٦٤

يقال : اتبع خطواته ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته (مُبِينٌ) ظاهر العداوة لا خفاء به (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٦ ـ ١٧] (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) السوء متناول جميع المعاصي من أفعال الجوارح وأفعال القلوب ، والفحشاء هي التي جاوزت الحد في القبح فلهذا قد تحقق الأول بما لم يجب فيه الحد والثاني بما يجب فيه الحد (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا أقبح الكل لأن وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم الكبائر فهذه الآية كالتفسير لقوله (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) والصغائر والكبائر والكفر والجهل كلها من مأمورات الشيطان ، بل لا يأمر الشيطان إلا بهذه الأمور بدليل «إنما» وهي للحصر وقد يدعو الشيطان إلى الخير ظاهرا وغرضه أن يجرّه إلى الشر آخرا مثل أن يجرّه من الأفضل إلى الفاضل فيتمكن بعد ذلك أن يجرّه إلى الشر. ومثل أن يجره من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشق ليصير ازدياد المشقة سببا لتنفره عن الطاعة. ويدخل في قوله (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) جميع المذاهب الباطلة والعقائد الفاسدة وقول الرجل هذا حلال وهذا حرام بغير علم بل يتناول مقلد الحق لأنه وإن كان مقلدا للحق لكنه قال ما لا يعلم فصار مستحقا للذم من جهة أنه قادر على تحصيل العلم بالحق ، ثم إنه قنع بالظن والتخمين. ومعنى أمر الشيطان وسوسته وقد سلف في شرح الاستعاذة ، وفي التعبير عن وسوسته بالأمر رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم أو قبولكم وساوسه. وإذا كان الآمر المطاع مرجوما مذموما فكيف حال المأمور المطيع؟ وفي هذا معتبر للبصراء ومزدجر للعقلاء أعاذنا الله بحوله وأيده من مكر الشيطان وكيده. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي للمتخذين من دون الله أندادا أو للناس. والالتفات إلى الغيبة للنداء على ضلالتهم كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون : وعن ابن عباس : نزلت في اليهود حين دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فقالوا : نتبع ما ألفينا أي وجدنا عليه آباءنا ، فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم. وقد يعود الضمير إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور ، وعلى هذا فالآية مستأنفة. وإنما خص هذا الموضع بقوله (أَلْفَيْنا) لأن «ألفيت» يتعدى إلى مفعولين البتة فكان نصا في ذلك فورد في الموضع الأول على الأصل. واقتصر في المائدة ولقمان على لفظ «وجدنا» المشترك بين المتعدي إلى واحد والمتعدي إلى اثنين اكتفاء بما ورد في الأول مع تغيير العبارة عارضوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة بالتقليد فما أغفلهم وأنفسهم فلا جرم أجاب الله تعالى بقوله (أَوَلَوْ كانَ) الواو للعطف لا للحال على ما وقع في الكشاف ، والهمزة للرد

٤٦٥

والتعجب وفعل الاستفهام ، محذوف وكذا جواب الشرط ، أيتبعونهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للثواب ، أيتبعونهم أيضا؟ وتقرير الجواب أن يقال للمقلد : أعرفت أن المقلد محق أم لا. فإن لم تعرف فكيف قلدته مع احتمال كونه مبطلا ، وإن عرفت فإما بتقليد آخر ويستلزم التسلسل ، أو بالعقل فذلك كاف في معرفة الحق والتقليد ضائع. وأيضا علم المقلد إن حصل بالتقليد تسلسل ، وإن حصل بالدليل فإنما يتبعه المقلد إذا علم ذلك الدليل أيضا وإلا كان مخالفا فظهر .. .. (١) فقال وضلال (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه للعلماء طريقان : أحدهما تصحيح المعنى بإضمار إما في المشبه أي مثل من يدعو الحق كمثل الذي ينعق يقال : نعق الراعي بالضأن إذا صاح بها. وأما نغق الغراب فبالغين المعجمة شبه الداعي إلى الحق براعي الغنم والكفرة بالغنم ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تعلم المراد ، وهؤلاء الكفار يسمعون صوت الرسول وألفاظه وما كانوا ينتفعون بها فكأنهم لا يفهمون معانيها. وإما بإضمار في المشبه به أي مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق الطريق. الثاني : التصحيح بغير إضمار أي مثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع ، لكن قوله (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئا. أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل فإنه لا يسمع إلا صدى صوته. فإذا قال : يا زيد. يسمع من الصدى يا زيد ، فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعوا الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء. أو مثلهم في قلة عقلهم حيث عبدوا الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم. فكما أن الكلام مع البهائم دليل سخافة العقل فكذلك عبادتهم لها أي ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل الذي يتكلم مع البهائم ، فكما أن ذلك عبث ضائع فكذا تقليدهم واتباعهم (صُمٌ) عن استماع الحق والانتفاع به (بُكْمٌ) عن إجابة الداعي إلى سبيل الخير (عُمْيٌ) عن النظر في الدلائل (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) العقل المسموع ولا المطبوع وذلك أن طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل : من فقد حسا فقد علما. فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة ، قال شابور بن أردشير : العقل نوعان : مطبوع ومسموع. فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله» فبقدر عقله تكون عبادته لربه. أما سمعتم قول الله عزوجل حكاية عن الفجار؟ (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] وقال : «ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى».

التأويل : الذين كفروا لم يسمعوا إذ خاطبهم الحق بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف :

__________________

(١) موضع النقط كلمات مطموسة في الأصل.

٤٦٦

١٧٢] إلا دعاء ونداء لأنهم كانوا في الصف الأخير من الأرواح المجندة في أربعة صفوف : الأول للأنبياء ، والثاني للأولياء ، والثالث للمؤمنين ، والرابع للكافرين فما شاهدوا شيئا من أنوار الحق ولكنهم قالوا بالتقليد بلى فبقوا على التقليد (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

القراآت : (الْمَيْتَةَ) بتشديد الياء : يزيد. الباقون : بالسكون ؛ (فَمَنِ اضْطُرَّ) بكسر النون وضم الطاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وكسر الطاء : يزيد. الباقون : بضمهما.

الوقوف : (تَعْبُدُونَ) ه (لِغَيْرِ اللهِ) ج الشرط مع فاء التعقيب (عَلَيْهِ) ط (رَحِيمٌ) ه (قَلِيلاً) لا لأن ما بعده خبر «إن» (يُزَكِّيهِمْ) ج والوصل أولى لاتصال بعض جزائهم بالبعض (أَلِيمٌ) ه (بِالْمَغْفِرَةِ) ج للابتداء بالتعجب أو الاستفهام والوجه الوصل للمبالغة في الإنكار. (عَلَى النَّارِ) ه (بِالْحَقِ) ط للابتداء بأن (بَعِيدٍ) ربع الجزء.

التفسير : إنه سبحانه تكلم من أول السورة إلى هاهنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى شرح أهل النفاق والشقاق من المشركين وأهل الكتاب ، وذيل كلا من ذلك بما يناسبه ، ومن هاهنا شرع في بيان الأحكام الشرعية. الحكم الأول : إباحة الأكل للمؤمنين بعد ما عمم للناس كلهم ، وهذا بالنظر إلى الأصل. وقد يصير واجبا العارض كما لو أشرف على الهلاك بسبب المجاعة ، وقد يكون مندوبا كموافقة الضيف واستدل بقوله (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) على أن الرزق قد يكون حراما فإن الطيب هو الحلال. ولو كان الرزق حلالا البتة لم يبق في ذكر الطيب فائدة إذ يصير المعنى كلوا من حلالات ما أحللنا لكم وأجيب بالمنع من أن معنى الطيب ما ذكر بل المعنى كلوا من متلذذات ما رزقناكم ، ولعل أقواما ظنوا أن التوسع في الأكل الحلال والاستكثار من الملاذ ممنوع منه فرفع الحرج. (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذي رزقكموها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه مولى النعم فإن الشكر رأس العبادة ، والتركيب يدور على الكشف والإظهار ومنه كشر إذا كشف عن ثغره ، فنشر النعم وحصرها باللسان من الشكر. وباطن الشكر أن يستعين بالنعم على الطاعة دون المعصية وقال بعضهم :

٤٦٧

أو ليتني نعما أبوح بشكرها

وكفيتني كل الأمور بأسرها

فلأشكرنك ما حييت فإن أمت

فلتشكرنك أعظمي في قبرها

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى إني والجن والإنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» ولما أجمل في الآية ما يباح أكله ذيل بحصر ما هو محرّم ليبقى ما عدا ذلك على أصل الإباحة فقيل (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) يتناول ما مات حتف أنفه وما لم تدرك ذكاته على الوجه الشرعي. وإذا كانت محرمة وجب الحكم بنجاستها إجماعا ، ولأن تحريم ما ليس بمحرم ولا فيه ضر وظاهر يدل على النجاسة. وليس في الآية إجمال عند الأكثرين ، لأن المفهوم من تحريم الميتة ليس تحريم أعيانها وإنما المفهوم في العرف حرمة التصرف في هذه الأجسام كما لو قيل : فلان يملك جارية. فهم منه عرفا أنه يملك التصرف فيها. وعلى هذا فالآية تدل على حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل المخصص كالسمك والجراد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحلت لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالجراد والنون. وأما الدمان فالطحال والكبد» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (٢) وهذا عام لجميع الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء وإن لم تكن على صورة السمكة المشهورة. ولا فرق أيضا بين ما يؤكل نظيره في البر كالبقر والشاة وبين ما لا يؤكل كخنزير الماء وكلبه على أصح القولين للشافعي. وقد زعم بعض الناس كصاحب الكشاف أن السمك والجراد يخرج بنفسه لأن الميتة لا تتناولهما عرفا وعادة ، ولهذا من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث ، وإن أكل لحما في الحقيقة لقوله تعالى (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل : ١٤] وشبهوه بما لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث وإن عدّ الكافر من الدواب لقوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٥٥] وفيه نظر. لأن عدم التناول عرفا إنما هو بعد تخصيص الشارع فلا يمكن أن يجعل دليلا على عمومه. وكالجنين الذي يوجد ميتا عند ذبح الأم عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد وهو المروي عن علي رضي‌الله‌عنه وابن مسعود وابن عمر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذكاة الجنين ذكاة أمه» (٣) وقال أبو حنيفة : لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وحمل الحديث

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب ٣١.

(٢) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤١. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥٢. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٦. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٣٨. الموطأ في كتاب الطهارة حديث ١٢.

(٣) رواه الترمذي في كتاب الصيد باب ١٠. أبو داود في كتاب الأضاحي باب ١٧. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب ١٥. الدارمي في كتاب الأضاحي باب ١٧. أحمد في مسنده (٣ / ٣١).

٤٦٨

على الإضمار أي ذكاة الجنين كذكاة أمه وردّ بأن الإضمار خلاف الأصل ، وبأنه إذا خرج لا يسمى جنينا ، وبأنه لا يبقى للخبر حينئذ فائدة ، لأن ذلك معلوم ، ولما روي عن أبي سعيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الجنين يخرج ميتا قال : «إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه» (١) وكشعر الميتة وصوفها فإنهما عند أبي حنيفة ظاهران لقوله تعالى في معرض الامتنان (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» (٢) ولأنهم كانوا يلبسون جلود الثعالب ، ولأن الشعر ، والصوف لا حياة فيه لأن حكم الحياة الإدراك والشعور. ومن هاهنا ذهب مالك إلى تحريم العظام دون الشعور ، وعند الشافعي الشعر والعظم ونحوهما كالقرن والظفر والسن كلها نجسة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أبين من حي فهو ميت» ولأن الحياة عندنا عبارة عن كونه متعرض للفساد والتعفن ، وهذا المعنى يعم الشعر واللحم. وأما الإهاب فللفقهاء فيه مذاهب سبعة. فأوسع الناس قولا الزهري. جوز استعمال الجلود بأسرها قبل الدباغ ، ثم داود قال : تطهر كلها بالدباغ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (٣) ولأن الدباغ يعيد الجلد إلى ما كان عليه حال الحياة من عدم التعفن والفساد. ثم مالك يطهر ظاهر كلها دون باطنها. ثم أبو حنيفة يطهر كلها إلا جلد الخنزير لدسومته والآدمي لكرامته. ثم الشافعي يطهر الكل إلا جلد الكلب والخنزير. ثم الأوزاعي وأبو ثور يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط. ثم أحمد بن حنبل والشيعة لا يطهر شيء منها بالدباغ لإطلاق الآية ولقول عبد الله بن حكيم : أتانا كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب. واختلف في أنه هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازي والبهيمة؟ فمنهم من منع منه حتى قال بعضهم : إذا أقدم البازي من عند نفسه على أكل الميتة وجب علينا منعه. وجوز الشافعي استعمال نجس العين كجلد الكلب والخنزير للضرورة كمفاجأة قتال مع فقدان غيره ، وكدفع الحر والبرد المهلكين ، ولأجل تجليل الكلب وإن لم يكن ضرورة ، وكذا استعمال جلد الميتة قبل الدباغ لتجليل الدابة والكلب ، وكذا استعمال النجس العين كودك الميتة والخنزير والزبل للاستصباح

__________________

(١) رواه أبو داود في الأضاحي في باب ١٨. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب ١٥. أحمد في مسنده (٣ / ٣١).

(٢) رواه البخاري في كتاب الزكاة : باب ٦١. مسلم في كتاب الحيض حديث ١٠٠ ، ١٠١. أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٨. الدارمي في كتاب الأضاحي باب ٢٠. الموطأ في كتاب الصيد حديث ١٦.

(٣) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث ١٠٥. أبو داود في كتاب اللباس باب ٣٨. الترمذي في كتاب اللباس باب ٧. النسائي في كتاب الفرع باب ٤ الدارمي في كتاب الأضاحي باب ٢٠.

٤٦٩

وتسميد الأرض لعموم الحاجة القريبة من الضرورة ، وقد نقله الأثبات عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسئل عليه‌السلام عن الفأرة تقع في السمن فقال : استصبحوا به ولا تأكلوه. والدخان وإن كان نجسا لكنه قليل معفو عنه. وعند أبي حنيفة : إذا مات في الماء القليل ما ليس له نفس سائلة أي دم كالذباب والبعوض والخنفساء والعقرب وبنات وردان لم يفسد الماء قل أو كثر لأن رطوبة هذه الحيوانات تشبه رطوبة النبات فهي حية وميتة على هيئة واحدة. وعند الشافعي فيه قولان : وعامة الأصحاب عدّوا دود الطعام من جملة ما ليس له نفس سائلة وقالوا : لا ينجس الطعام الذي تولد منه بموته فيه بلا خلاف. وإن وقع في ماء أو في مائع آخر فقولان. ثم الذباب والبعوض ونحوهما وإن حكم بطهارة ميتتهما فهي محرمة لأنها مستقذرة مندرجة تحت عموم اسم الميتة. وفي جواز أكل دود الطعام والفواكه والماء وجهان ، والأظهر تحريمها عند الانفراد ، ومع هذه الأشياء يمكن أن يسامح به. وسأل عبد الله بن المبارك أبا حنيفة عن طائر وقع في قدر مطبوخ فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه : ما ترون فيها؟ فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل فيهراق المرق. فقال أبو حنيفة : بهذا نقول على شريطة إن كان وقع فيها في حال سكونها : فكما في هذه الرواية ، وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق. قال ابن المبارك : ولم ذلك؟ قال : لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم ، وإذا وقع فيها في حال سكونها فمات فقد وسخت الميتة اللحم. فاستحسنه ابن المبارك. وعند أبي حنيفة : ذبح ما لا يؤكل لحمه يستعقب الطهارة. وعند الشافعي لا يستعقبها كما لا يستعقب حل الأكل ، وكما لو ذبح المجوسي مأكول اللحم. ولبن الشاة الميتة وأنفحتها طاهران عند أبي حنيفة دون الشافعي ومالك ، لا لأن الآية لا تتناولهما فإن اللبن لا يوصف بأن ميتة ، بل لتنجسهما بمجاورة الميتة. وبيض مأكول اللحم إذا مات ووجد ذلك في جوفه فإن كان متصلبا فطاهر بعد أن يغسل وإلّا فلا. وأما الدم فعند الشافعي جميعه محرم سواء كان مسفوحا أو غير مسفوح لإطلاق الآية إلا الكبد والطحال للخبر عند من يقول بتناول الآية إياهما ، وعند من يقول بذلك لا تخصيص. وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، وأما لحم الخنزير فأجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وتخصيص اللحم بالذكر لأن معظم الانتفاع متعلق به. أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمه وتنجيسه. واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز؟ فأبو حنيفة ومحمد يجوز ، والشافعي لا يجوز. واحتج أبو حنيفة بأنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ، ولأن الحاجة ماسة اليه. وأما ما

٤٧٠

أهل به لغير الله فمعناه رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى. وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية. قال العلماء : لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا ، وذبيحة ذبيحة مرتد. وقدم به في هذه السورة وأخر في المائدة والأنعام والنحل لأن تقدم الباء هو الأصل لأنه يجري في إفادة التعدية مجرى الهمزة والتضعيف ، فكان الموضع الأول هو اللائق بهذا الأصل ، وفي سائر المواضع قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله ، ولهذا لم يذكر في سائر الآية قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) اكتفاء بما ذكر في الموضع الأول. ويستثنى مما أهل به لغير الله ذبائح أهل الكتاب إذا سمي عليها باسم المسيح مثلا لإطلاق قوله تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] ولأن النصراني إذا سمي الله تعالى فإنما يريد به المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله فوجب أن يحرم. وإذا ذبحوا على اسم الله فظاهر اللفظ يقتضي الحل ولا عبرة بما لو أراد به المسيح. وعن علي كرم الله وجهه : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون سوى هذه الأشياء محرما ، لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات ، فكلمة إنما متروكة العمل بظاهرها والله أعلم (فَمَنِ اضْطُرَّ) افتعل من الضر وهو الضيق أي ألجئ. استثنى من التحريم حالة الضرورة ولها سببان : أحدهما الجوع الشديد وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق فعند ذلك يكون مضطرا إلى أكل المحرم. الثاني : إذا أكرهه على تناوله مكره فيحل له تناول ما أكره عليه. والاضطرار ليس من أفعال المكلف حتى يقال إنه لا إثم عليه فيه ، فلا بد من إضمار وهو الأكل. أي فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه ، وإنما حذف للعلم به. «وغير» هاهنا بمعنى «لا» النافية كأنه قيل : فمن اضطر باغيا ولا عاديا. والبغي في اللغة الظلم والخروج عن الإنصاف. بغي الجرح ورم وترامي إلى فساد. وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي. والعدوان الظلم الصراح وتجاوز الحد. وللأئمة في الآية قولان : أحدهما وإليه ذهب أبو حنيفة تخصيص البغي والعدوان بالأكل ، وعلى هذا فالمعنى غير باغ بأن يجد حلالا تكرهه النفس ، فعد إلى أكل الحرام للذته (وَلا عادٍ) أي متجاوز قدر الرخصة ، أو غير باغ أي طالب للذة ولا عاد متجاوز سدا لجوعه ، عن الحسن وقتادة والربيع ومجاهد وابن زيد : أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، ولا عاد في سد الجوعة.

٤٧١

والثاني وإليه ذهب الشافعي والإمامية : غير باغ على إمام المسلمين ، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين. ويتفرع على الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا؟ فعند أبي حنيفة يترخص لأنه مضطر وغير باغ ولا عاد في الأكل. وعند الشافعي لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان ويؤيده الآية الأخرى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [المائدة : ٣] وأيضا غير باغ ولا عاد حالان من الاضطرار ، فلا بد أن يكون وصف الاضطرار باقيا في الحالين وليس كذلك ، لأنه حال الأكل لا يبقى وصف الاضطرار. وأيضا الإنسان نفور بطبعه عن تناول الميتة والدم فلا حاجة الى نهيه عن التعدي في الأكل. وأيضا إنه نفي ماهية البغي والعدوان ، وإنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ويتحقق حينئذ نفي العدوان في السفر كما هو مقصودنا. وأما تخصيص البغي بالأكل كما ذهبتم إليه فترجيح من غير دليل. حجة أبي حنيفة قوله تعالى في آية أخرى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص. وأيضا قال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] والامتناع عن الأكل سعي في قتل النفس ، فيحرم كما لو ترك دفع أسباب الهلاك عن نفسه إذا صال عليه جمل أو فيل أو حية. وأيضا الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا هاهنا. أجاب الشافعي : بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة ، فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه. ثم إن الرخصة إعانة على السفر وإذا كان السفر معصية فالرخصة إعانة على المعصية ، والسعي في تحصيل المعصية محظور ، فالجمع غير ممكن ثم اتفق الإمامان على أن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه إلا إذا عجز عن السير ويهلك فيتناول المشبع. وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعته. وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها. والأول أقرب ، لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يحل له تناول الميتة ، وكما أن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه. وهذه الرخصة لجميع المحرمات عند الأكثرين ، وبعضهم خصصها بما سوى لحم الخنزير ، والشافعي منع عن شرب الخمر لشدة العطش دون إساغة اللقمة. وفي التداوي بها وجهان ، وبسائر المحرمات يجوز ولا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن الأكل حينئذ لا ينفع ، بل لو انتهى إلى تلك الحالة له التناول. وحدوث مرض مخوف في جنسه كخوف الموت ، وهكذا إن كان يخاف منه لطوله وتماديه. ولا يشترط في جميع

٤٧٢

ذلك إلا غلبة الظن دون التيقن. ومعنى قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) رفع الحرج والضيق كما مر في قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] ورفع الحرج قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح فلا ينافي وجوب الأكل في حالة الاضطرار. ومعنى قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أن المقتضي للحرمة قائم إلا أنه زالت الحرمة لوجود العارض ، فلما كان تناوله تناول ما حصل فيه المقتضى للحرمة ذكر بعده المغفرة ، ثم ذكر أنه رحيم يعني لأجل الرحمة أبحت لكم ذلك ، أو لعل المضطر يزيد على تناول قدر الحاجة فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح تناول قدر الحاجة. أو أنه لما بين هذه الأحكام فالمكلفون بالنسبة إليها إما أن يعصوا فذكر أنه غفور لهم إذا تابوا ، أو يطيعوا فهو رحيم حيث وفقهم للطاعة. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) عن ابن عباس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم ـ كعب بن الأشرف وحي بن أخطب ونحوهما ـ كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت نبي آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة. فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يتبعونه (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي بالكتمان لدلالة الفعل عليه ، أو بالمنزل. وقد سبق معنى الاشتراء والثمن القليل (فِي بُطُونِهِمْ) حال أي ملء بطونهم. أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه (إِلَّا النَّارَ) لأنه إذا أكل ما يلتبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقولهم «أكل الدم» أي الدية التي هي بدل منه : قال :

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

وذلك أنهم كانوا يستنكفون عن أخذ الدية وبعيدة مهوى القرط كناية عن طول العنق. ويمكن أن يقال : إنهم يأكلون في الآخرة النار لأكلهم في الدنيا الحرام (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بما يحبون لأنهم كتموا كلامه في الدنيا بل بنحو (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] أو لا يكلمهم الله أصلا لغضبه عليهم كما هو ديدن الملوك من الإعراض عند السخط والإقبال عند الرضا (وَلا يُزَكِّيهِمْ) بالإثناء عليهم أو بقبول أعمالهم (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) بيان لتماديهم في الخسارة فإن أحسن الأشياء في الدنيا الاهتداء والعلم ، وأقبحها الضلال والجهل. وفي الآخرة أنفع الأشياء المغفرة ، وأضرها العذاب فهم في خسران الدارين لاستبدالهم في الدنيا أقبح الأمور بأحسنها ، وفي

٤٧٣

الآخرة أضر الأشياء بأنفعها. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في تلبسهم بمواجب النار من غير مبالاة منهم ، فإن الراضي بموجب الشيء لا بد أن يكون راضيا بمعلوله ولازمه إذا علم ذلك اللزوم كما تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان «ما أصبرك على القيد والسجن» وهذا التعجب منهم في حال التكليف واشترائهم الضلالة بالهدى. وعن الأصم : أن المراد أنه إذا قيل لهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] فهم يسكتون ويصبرون على النار لليأس من الخلاص. وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأن أهل النار قد يقع منهم الجزع والاستغاثة. وقيل : إن «ما» في (فَما أَصْبَرَهُمْ) للاستفهام لمعنى التوبيخ معناه أي شيء صبرهم عليها حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وهذا أصل معنى فعل التعجب والتعجب استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء هذا هو الأصل ، ثم قد يستعمل لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب كما في حق الله تعالى (ذلِكَ) الوعيد الشديد أو ذلك الكتمان وسوء معاملتهم إنما هو بسبب (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) يعني جنس الكتب السماوية أو القرآن (بِالْحَقِ) بالصدق أو ببيان الحق وقد نزل في جملة ما نزل أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر فإنه تعالى ختم على قلوبهم (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) جنسه فقالوا في البعض حق وفي البعض باطل وهم أهل الكتاب (لَفِي شِقاقٍ) خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق ، أو الذين اختلفوا في القرآن فقال بعضهم شعر ، وبعضهم سحر ، وبعضهم أساطير الأولين ، أو الذين اختلفوا في التوراة والإنجيل فقدح كل منهما في الآخر ، أو ذكر كل منهما للآيات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأويلا آخر فاسدا ، أو حرفوا كلا منهما على وجه آخر لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة. فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة ، فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة. وعن أبي مسلم : اختلفوا في الكتاب أي توارده مثل (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [يونس : ٦] أي تعاقبهما. واعلم أن الآية وإن نزلت في أهل الكتاب ، يشبه أن تكون عامة في كل من كتم شيئا من باب الدين فيكون حكما ثانيا للمسلمين ، ويصلح أن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر. وكان السبب في تعقيب هذا الحكم الحكم الأول أن أهل الكتاب قد حرموا بعض ما أحل الله كلحوم الإبل وألبانها وأحلوا بعض الشحوم ، فسيقت الآية تعريضا بصنعهم وتصريحا بجزائهم وجزاء أضرابهم والله أعلم.

التأويل : الميتة جيفة الدنيا والدم وهي الشهوات النفسانية «إن الشيطان يجري من ابن

٤٧٤

آدم مجرى الدم» (١) وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سدوا مجاري الشيطان بالجوع» ولحم الخنزير مادة الشره والحرص ، وما أهل به لغير الله كل ما يتقرب به إلى الله رياء وسمعة والله تعالى أعلم.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

القراآت : (لَيْسَ الْبِرَّ) بنصب الراء : حمزة وحفص الخراز عنه مخير. الباقون : بالرفع (وَلكِنَ) خفيفا (الْبِرَّ) رفعا وكذلك فيما بعد : نافع وابن عامر. الباقون : بالتشديد والنصب.

الوقوف : (وَالنَّبِيِّينَ) ج لطول الكلام واختلاف المعنى لأن ما قبله أصول الإيمان وما بعده فروع : (وَفِي الرِّقابِ) ج للطول مع انتهاء شرع المكارم وابتداء اللوازم (الزَّكاةَ) ج (عاهَدُوا) ج للعدول عن النسق الى المدح والتقدير : هم الموفون أعني الصابرين (الْبَأْسِ) ط (صَدَقُوا) ط (الْمُتَّقُونَ) ه.

التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الإسلام. عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة. وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا لشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر من آمن وقام بهذه الأعمال ، وعلى هذا فالخطاب عام. وقيل : الخطاب لأهل الكتاب لأن المشرق قبلة النصارى ، والمغرب قبلة اليهود ، وأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة. وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن ما أنتم عليه خارج من البر. أما أولا فلأنه منسوخ ، وأما ثانيا فلأنه على تقدير صحته شرط من شرائط أعمال البر لأن من جملتها الصلاة واستقبال القبلة شرط فيها ، ولن يكون شرط جزء الشيء تمام حقيقة ذلك الشيء ، وذلك أن البر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب ٢١. أبو داود في كتاب الصيام باب ٧٨. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٦٥. الدارمي في كتاب الرقاق (١٢٨) باب ٦٦. أحمد في مسنده (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥).

٤٧٥

المقربة إلى الله ومنه بر الوالدين وهو استرضاؤهما بكل ما أمكن. والتركيب يدل على الاتساع ومنه البر خلاف البحر. قيل : إن قراءة رفع البر أولى ليكون الاسم مقدما على الخبر على الأصل. وقيل : بالنصب أولى لأن «أن» مع صلتها تشبه المضمر في أنها لا توصف ، والمضمر أدخل في الاختصاص من المظهر فهو أولى بأن يكون اسما (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) على تقدير حذف المضاف أي بر من آمن. وقيل : التقدير هكذا ولكن ذا البر من آمن. وقيل : البر بمعنى البار مثل رجل صوم أي صائم. وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت (وَلكِنَّ الْبِرَّ) بفتح الباء. قال في التفسير الكبير : إنه تعالى اعتبر في تحقيق ماهية البر أمورا :

الأول : الإيمان بأمور خمسة : أولها الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلائل الدالة عليها فيدخل فيها العلم بحدوث العالم. والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوبه وقدمه وبقائه وكونه عالما بكل المعلومات ، قادرا على كل الممكنات ، حيا مريدا سميعا بصيرا متكلما ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية. ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثه الرسل. وثانيها الإيمان باليوم الآخر ويتفرع على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات قادرا على كل الممكنات. وثالثها الإيمان بالملائكة ورابعها الإيمان بالكتب السماوية. وخامسها الإيمان بالنبيين. وسبب هذا الترتيب أن للمكلف مبدأ وسطا ونهاية ، ومعرفة المبتدأ والمنتهي هو المقصود بالذات أعني الإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي منوطة بالوحي الذي يأتي به الملك ، فثبت أن كل ما يلزم المكلف التصديق به داخل في الآية.

الثاني : إيتاء المال على حبه أي على حب المال. عن أبي هريرة أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الصدقة خير؟ قال : «أن تتصدق وأنت صحيح حريص ، تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا» (١). عن أبي الدرداء أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعد ما يشبع» والسبب

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٧. مسلم في كتاب الزكاة حديث ٩٢. أبو داود في كتاب الوصايا باب ٣. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب ٤. أحمد في مسند (٢ / ٢٢١).

٤٧٦

أنه عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال ، وعند ظن الموت يحصل الاستغناء ، وبذل الشيء عند الاحتياج أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه. وأيضا الإعطاء عند الصحة أدل على كونه متيقنا بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت. وأيضا الهبة عند الموت تشبه الهبة عند الخوف من الفوت. وقيل : الضمير يرجع إلى الإيتاء أي يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله. وقيل : يرجع إلى الله أي يعطي المال على حب الله وطلب مرضاته. ثم ذكر سبحانه وتعالى ممن يؤتون المال أصنافا ستة : أولهم القرابة ، وثانيهم اليتامى ، وثالثهم المساكين وقد مر ما يتعلق بكل منهم في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣] وإنما قدم ذوي القربى لأنهم أحق قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذي رحمك اثنتان» لأنها صدقة وصلة ولتأكد استحقاقه نال رتبة الوارثة ويحجر بسببه على المالك في الوصية حتى لا يمكن من الوصية إلا في الثلث. وأطلق ذوي القربى واليتامى والمراد الفقراء منهم لعد الإلباس ، وتقديم اليتامى على المساكين لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا هو كاسب منقطع الحيلة من كل الوجوه. ورابع الأصناف ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله. جعل ابنا للسبيل لملازمته له كما يقال لطير الماء «ابن الماء» وللشجاع «أخو الحرب» وللناس «بنو الزمان». وقيل : هو الضيف لأن السبيل يرعف به. وخامسهم السائلون وهم المستطعمون ويدخل فيه المسلم والكافر وقريب منه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «للسائل حق وإن جاء على فرس» وسادسهم المكاتبون وأشار إليه بقوله (وَفِي الرِّقابِ) أي في معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل : في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل : في فك الأسارى. والرقاب جمع الرقبة وهو مؤخر أصل العنق. واشتقاقها من المراقبة وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا يقال للمملوك رقبة كأنه يراقب العذاب ولا يقال له عنق.

الثالث والرابع : قوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وقد سلف مباحثهما. ثم إن الأئمة حيث ذكر الله تعالى ، إيتاء المال في الوجوه المذكورة ، ثم قفاه بإيتاء الزكاة. ومن حق المعطوف عليه ، غلب على ظنونهم أن في المال حقا سوى الزكاة. وكيف لا وقد اكتنف الإيتاء فرضان وهما الإيمان وإقامة الصلاة؟ وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره طاو إلى جنبه». ولا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة. وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرا. وما روي عن علي عليه‌السلام أن الزكاة نسخت كل حق كأنه أراد الحقوق المقدّرة بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة والنفقة على الأقارب وعلى المملوك.

٤٧٧

الخامس : قوله (الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) وهو مرفوع على المدح أي هم الموفون ، أو عطف على (مَنْ آمَنَ) والمراد بالعهد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك حيث آمنوا بالأنبياء والكتب. ويندرج فيه ما يلتزمه المكلف ابتداء من تلقاء نفسه مما يكون بينه وبين الله كالنذور والأيمان ، أو بينه وبين رسول الله كبيعة الرضوان بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أن لا يقولوا إلا بالحق أينما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم ، أو بينه وبين الناس واجبا كعقود المعاوضات ، أو مندوبا كالمواعيد ، فلهذا قال المفسرون هاهنا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا اؤتمنوا أدّوا ، وإذا قالوا صدقوا.

السادس : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) وهو نصب على المدح والاختصاص إظهارا لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. قال أبو علي الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القبول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. وذكر المحققون في إفادة اختلاف الحركة المدح والذم أن أصل المدح والذم من كلام السامع ، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له : قام زيد. فربما أثنى السامع على زيد وقال : ذكرت والله الظريف وذكرت العاقل. أو هو ـ والله ـ الطريف ، أو هو العاقل. فأراد المتكلم أن يمدحه بمثل ما مدحه به السامع فجرى الإعراب على ذلك أي أريد الظريف أو العاقل و (الْبَأْساءِ) الفقر والشدة (وَالضَّرَّاءِ) المرض والزمانة. وهما فعلاء من البؤس والضر لا أفعل لهما لأنهما ليسا بنعتين (وَحِينَ الْبَأْسِ) القتال في سبيل الله والجهاد. وأصل البأس الشدة (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم وجدّوا في الدين (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ونظير هاتين الجملتين في القطع للاستئناف قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات وصفوا بالبر الذي هو أصل كل خير؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين لهم قدم صدق في الإسلام ، وهم المتسمون بسمة التقوى. وكل منهم منطو على جميع الخيرات ومتضمن لكل المأمورات والمنهيات ، فلهذا اتصفوا بتلك الصفات. وذكر الواحدي هاهنا أن الواوان في هذه الأوصاف للجمع. فمن شرائط البر

٤٧٨

وتمام شرط البار أن يجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائما بالبر إلا عند استجماع هذه الخصال حتى قال بعضهم : إن البر من خواص الأنبياء. والحق أنه ليس بمستبعد أن يوجد في الأمة موصوف بالبر إلا أن كمال البر لا يكون إلا في النبي ولا سيما نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إن أهل الكتاب كما أخلوا بجميع أوصاف البر أخلوا بالإيمان بالله (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] وذهبت اليهود إلى التجسيم ، والنصارى إلى الحلول والاتحاد ، وأنكروا المعاد الجسماني وقالوا (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨] وقالوا : إن جبريل عدوّنا وكفروا بالكتب السماوية (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥] وقتلوا النبيين وطعنوا في نبوة المرسلين ، واتسموا بسمة الشح حتى اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، ونقضوا العهود (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٠٠] ولم يصبروا في اللأواء (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] ولا حين البأس (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] فالعجب كل العجب منهم حيث ادّعوا البر ولا شيء ولا واحد من أجزاء البر فيهم ، وهذا غاية القحة ونهاية العناد والله بصير بالعباد.

التأويل : ليس البر بركم بتولية وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر الحقيقي هو بري معكم بتولية وجوه أرواحكم بجذبات المحبة قبل الحضرة الربوبية المحبوبية لتؤمنوا بدلالة نور بري بي وببر حبي لكم تحبوني ، والملائكة يحبونكم ببر حبي لكم. وبر حبي لكم ليس بمحدث كبركم معي بل هو بر قديم في الكتاب القديم ، وبنور هذه المحبة تحبون أهل محبتي وهم النبيون. فالجنسية علة الضم. (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) أي ما حصل للعبد من بر الحب وما مال إلى سره من عواطف الحق ينفقه على حب حبيبه بأداء حقوق الشريعة والطريقة بالمعاملات القالبية والقلبية (ذَوِي الْقُرْبى) وهم الروح والقلب والسر ذوو قرابة الحق (وَالْيَتامى) المتولدات من النفس الحيوانية الأمارة بالسوء إذا ماتت النفس عن صفاتها بسطوات تجلي صفات الحق (وَالْمَساكِينَ) هم الأعضاء والجوارح (وَابْنَ السَّبِيلِ) القوى البشرية والحواس الخمس فإنهم في التردد والسفر إلى عوالم المعقولات والمخيلات والمحسوسات والموهومات (وَالسَّائِلِينَ) الدواعي الحيوانية والروحانية (وَفِي الرِّقابِ) في فك رقبة السر عن أسر تعلقات الكونين. فحينئذ أقام صلاة

٤٧٩

المحاضرة مع الله بالله وآتى زكاة مواهب الحق إلى أهل استحقاقها من الخلق وهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا مع الله بالتوحيد والعبودية الخالصة يوم الميثاق ، والصابرين في بأساء مراعاة الحقوق وضراء مخالفات الحظوظ وفناء الوجود عند لقاء الشهود وحين بأس سطوات تجلي صفات الجلال (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) ببذل الوجود (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) من شرك الأنانية والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

الوقوف : (فِي الْقَتْلى) ط (بِالْأُنْثى) ط لأن العفو إعطاء الدية صلحا فكان خارجا عن أصل موجب القتل مستأنفا (بِإِحْسانٍ) ط (رَحْمَةٌ) ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفا (أَلِيمٌ) ه (تَتَّقُونَ) ه.

التفسير : هذا حكم آخر ، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى يوجبون العفو فقط. فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية ، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين. فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلا قتل رجلا من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا : ماذا تريد؟ قال : إحدى ثلاث. قالوا : وما هي؟ قال : تحيون ولدي ، أو تملؤن داري من نجوم السماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضا. وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمدا بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص. وقيل : نزلت في واقعة قتل حمزة. ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] ولفظة «على» أيضا تفيد الوجوب كقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك «اقتص فلان أثر فلان» إذا فعل مثل فعله. ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه. وقوله (فِي الْقَتْلى) أي بسبب قتل القتلى كقوله «في النفس المؤمنة مائة

٤٨٠