تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

وإهمال الوعد بالضد. وأيضا القرآن مملوء من قوله (عَفُوًّا غَفُوراً رَحِيماً كَرِيماً). وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر. وأيضا إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي ، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة ، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما. فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة ، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام ، ولكن لا يوجبون عليه ثوابا ولا عقابا ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين ، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث. ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب ، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

القراآت : لا يعبدون بالياء للغيبة. ابن كثير وحمزة وعلي والمفضل (الْقُرْبى) بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على وزن «فعلى» (حُسْناً) وصفا : يعقوب وحمزة وعلي وخلف والمفضل (تَظاهَرُونَ)

٣٢١

خفيفا : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وحذف إحدى التاءين للتخفيف ، الباقون بالتشديد ووجهه إدغام التاء في الظاء (أُسارى) بالإمالة (تُفادُوهُمْ) أبو عمرو وخلف. (أُسارى) مفخما (تُفادُوهُمْ) ابن كثير وابن عامر أسرى بالإمالة (تُفادُوهُمْ) حمزة. (أُسارى) بالإمالة (تُفادُوهُمْ) علي والنجاري عن ورش والخراز عن هبيرة ، والباقون (أُسارى) مفخما (تُفادُوهُمْ) تردون بتاء الخطاب : أبو زيد عن المفضل يعملون بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف ويعقوب وأبو بكر وحماد بناء لآخر الكلام على أوّله ، الباقون بالتاء تغليبا للمخاطبين على الغيب.

الوقوف : (الزَّكاةَ) لأن «ثم» لترتيب الأخبار أي مع ذلك توليتم و (مُعْرِضُونَ) و  (تَشْهَدُونَ) (ه) (مِنْ دِيارِهِمْ) (ز) لأن (تَظاهَرُونَ) يشبه استئنافا ، وكونه حالا أوجه و (الْعُدْوانِ) (ط) (إِخْراجُهُمْ) (ط) (بِبَعْضِ) (ج) لابتداء الاستفهام أو النفي مع فاء التعقيب (الدُّنْيا) (ط) لعطف الجملتين المختلفتين (الْعَذابِ) (ط) (تَعْمَلُونَ) (ه) (بِالْآخِرَةِ) (ز) لأن الفعل مستأنف وفيه فاء التعقيب للجزاء (يُنْصَرُونَ) (ه).

التفسير : إنه سبحانه كلفهم بأشياء : الأوّل : قوله (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من قرأ بياء الغيبة فلأنهم غيب ، ومن قرأ بتاء الخطاب فلحكاية ما خوطبوا به ، وفي إعرابه أقوال : أحدها : أنه إخبار في معنى النهي كقولك «تذهب إلى فلان» تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال فهو يخبر عنه. ويؤيد هذا القول عطف (وَقُولُوا وَأَقِيمُوا) عليه. وثانيها : التقدير أن لا تعبدوا فلما حذفت «أن» رفعت كقوله «ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى» ويحتمل أن تكون «أن» مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلا من الميثاق كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم. وثالثها : هو جواب قوله (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) إجراء له مجرى القسم كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون. وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لا بد منه في الدين ، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه ، ومسبوق أيضا بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها الا بالوحي والرسالة.

التكليف الثاني : قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) معناه يحسنون بالوالدين إحسانا ليناسب (لا تَعْبُدُونَ) أو أحسنوا ليناسب (وَقُولُوا) ويمكن أن يقدر «وصيناهم» عطفا على (أَخَذْنا) وهذا أنسب لمكان الباء ، ولا بد من تقدير القول إما قبل (لا تَعْبُدُونَ) وإما قبل

٣٢٢

(إِحْساناً) وإما قبل (قُولُوا) وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تاليا لعبادة الله لوجوه منها : أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية ، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين. ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثوابا (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩]. ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم ، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بار بهما ، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة ، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد. ومنها أن المناسبة والميل والمحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان ، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية ، وهاهنا أسرار فليتأمل. ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه ، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه ، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة ، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيرا منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيرا منه. وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول ، وقد ورد «أطع الوالدين وإن كانا كافرين» وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا ، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقا. وقد تلطف إبراهيم عليه‌السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله (يا أَبَتِ ، يا أَبَتِ) والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولا وفعلا ، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما ، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] إلى آخر الآية.

التكليف الثالث : الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الرحم شجنة من الرحمن قال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين. قال الشافعي : لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث ، والمحرم وغير المحرم ، والمسلم والكافر ، والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأجداد والأحفاد ، لا الأبوان والولد

٣٢٣

على الأظهر ، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب. وهاهنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم ، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا ، فلهذا قال الشافعي : نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به. وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه ، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد ، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. قال المحققون : هذا في زمان الشافعي ، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم ، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال. وذهبت طائفة إلى أن الأقوى على ما أجاب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة ، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصية العرب أو وصية العجم ، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سعد خالي فليرني امرؤ خاله». والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين ، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفا وشرعا ، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر.

التكليف الرابع : الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم ، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة. قال ابن عباس : يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم. واليتم في غير الإنسان من قبل أمه ، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع «يتيم» على «يتامى» لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط. فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن ، وجاعي وحباطي ، قيل في يتيم يتامى. وفي الكشاف : إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو «صاحب» و «فارس» فقيل «يتائم» ثم «يتامى» على القلب وكذا في اليتيمة.

التكليف الخامس : الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون ، كأن الفقر سكنه ، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالسكير. الدائم السكر وهو أسوأ حالا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك ، واحتجوا عليه بقوله

٣٢٤

تعالى (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٦] وعند الشافعي وأحمد : الأمر بالعكس قالوا : اشتقاق الفقير من فقار الظهر ، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته ، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف : ٧٩] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس. والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايرا للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير.

التكليف السادس : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) بالوصف أي قولا حسنا. وحسنا على المصدر أي قولا ذا حسن ، أو قولا هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه ، أو ليحسن قولكم حسنا. والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة. قيل : إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسنا بدليل آية القتال (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسنا في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف. وقال أهل الحقيقة : إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] وقال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضا معتبر (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت : ٣٤] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره ، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ، وما دخل الخرق في شيء إلا شانه ، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول. وعن الباقر : قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم.

التكليف السابع والثامن : قوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وقد تقدم تفسيرهما. ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل : أخذ الميثاق ، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم ، وهذه التكاليف أيضا واجبة في شرعنا. وعن ابن عباس : أن الزكاة نسخت كل حق. وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة. واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص. فالبدني العام هو العبادة المطلقة ، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقادا مطيعا مؤتمرا لأمر الله تعالى ، بحيث لا يرى لنفسه شيئا من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ). والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة. والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها

٣٢٥

بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك. والمالي العام لكونه منوطا بالقدرة. والإمكان سببه إما نسب أولا ، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق. فالسابق الوالدان ، والمقارن الأقارب ، واللاحق اليتامى ، لأنهم أولاد. وذلك إذا كان الولي جدا أو بمنزلة الأولاد ، وذلك إذا كان الولي غيره. وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين ، أو الاشتراك في النوع ، ولا يمكن إلا بالقول الحسن ، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم» فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضا بهذا الاعتبار ، وحسن هذا الترتيب مما لا مزيد عليه ، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد ، فأكد العبادة بقوله (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦] وأكد الإحسان إلى ذي القربى. وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

قوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات ، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر ، وقيل : إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود ، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة نبوته ، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلا منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون. الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض ، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم. وقيل : ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين. وأما قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فقيل : خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : المراد أخذنا ميثاق آبائكم. وقيل : خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف. وفي قوله (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) إشكال ، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي؟ والجواب أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت من أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور ، وككثير ممن يصعب عليه الزمان ، أو المراد لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا ، أو أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ، أو لا تتعرضوا لمقاتلة من يغلبكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم. (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم. والمراد إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما تعظم فيه الفتنة حتى يقرب من الهلاك. وإعراب (لا تَسْفِكُونَ) و (لا تُخْرِجُونَ) على قياس ما تقرر في (لا تَعْبُدُونَ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم

٣٢٦

بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها كقولك «فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها» أو اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك ، لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا ، وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. (ثُمَّ أَنْتُمْ) معنى «ثم» الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل ، وإلا جلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم. «وأنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبره أي أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول : خرجت بغير الوجه الذي دخلت به ، و «تقتلون» بيان «لأنتم هؤلاء» وقيل «هؤلاء» موصول بمعنى الذين وهذا عند الكوفيين فإنهم يجوزون كون جميع أسماء الإشارة بمعنى الموصول. والتظاهر التعاون ، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة ، بيّن تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان ، وفيه دليل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة. ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره عنه ونهاه بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه مع أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. أسرى جمع أسير كجرحى في جريح ، وأسارى جمع أسرى كسكرى وسكارى. وقيل : أسارى من الجموع التي ترك مفردها كأنه جمع «إسران» كعجالى وعجلان. وقوله (تُفادُوهُمْ) جمهور المفسرين على أنه وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم و (هُوَ) ضمير الشأن و (إِخْراجُهُمْ) مبتدأ و (مُحَرَّمٌ) خبره والجملة خبر الضمير. ويجوز أن يكون (هُوَ) مبتدأ مبهما و (مُحَرَّمٌ) خبره و (إِخْراجُهُمْ) تفسيره. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي بالفداء (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي بالقتال والإجلاء. وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب فقالت :

كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟

فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن يذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى على المناقضة إذا أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ، ولعلهم صرحوا باعتقاد عدم وجوبه فلهذا سماه كفرا ، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم وفي ذلك تنبيه على أنهم في تصديقهم بنبوة موسى مع التكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحجة في أمرهما على سواء ، يجرون

٣٢٧

مجرى طريقة السلف منهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض وكل في الميثاق سواء. الخزي الذل والهوان خزي بالكسر يخزي خزيا أي ذل وهان ، وخزي أيضا يخزى خزاية أي استحيا فهو خزيان. فإذا قيل : أخزاه الله. فالمراد أهانه أو أوقعه موقعا يستحيي منه وتنكير «خزي» يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكتنه كنهه ، والأظهر أنه غير مختص ببعض الوجوه. وقيل : هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير ، وقيل : الجزية ، وعلى هذين القولين يختص الخزي بمن في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم وبمن يخلفهم دون أسلافهم ، فإن قيل : عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد ، فكيف يقال في حق اليهود يردون الى أشد العذاب؟ قلنا : إما لأن كفر العناد أغلظ ، وإما لأن المراد أشد من الخزي لا الأشد مطلقا. وفي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين ، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تدل على وصول الحقوق إلى مستحقها لا محالة. (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) استبدلوها بها (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا ينقطع ولا يفتر بل يدوم على حالة واحدة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) بدفع هذا العذاب عنهم. وفيه تنبيه على أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا إذا كانت على وفق الهوى لا الشرع ، وبين لذات الآخرة ممتنع يستتبع وجود إحداهما عدم الأخرى والله ولي التوفيق.

التأويل : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) في عهد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) بامتثال أوامر الشيطان واتباع خطواته كما قيل :

إلى حتفي مشى قدمي

أرى قدمي أراق دمي

(وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) من ديار عبوديتكم التي كنتم فيها في أصل الفطرة (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) لا تقتصرون على ضلالكم بل يعاون بعضكم بعضا على الإعراض عن حقوق الله والإقبال على حظوظ النفس (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) فمن أسر في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى ، ومن أسر في قيد حب الدنيا فخلاصه في كثرة ذكر المولى ، ومن أسر في أيدي الشكوك والشبهات ففداؤه إرشاده إلى اليقين بلوائح البراهين ولوامع البينات ، ومن أسر في حبس وجوده فنجاته فيما يحل عنه وثاق الكون ويوصله إلى معبوده ، ومن أسر في قبضة الحق فليس لأسراهم فداء ولا لقتلاهم قود ولا لرهطهم خلاص ولا لقومهم مناص ولا منهم فرار ولا معهم قرار ولا إليهم بغيره سبيل ولا لديهم دليل (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) وهو ما سمعتم في أول الخطاب (أَلَسْتُ

٣٢٨

بِرَبِّكُمْ) فقلتم بلى (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو الذي عاهدتم عليه ألا تعبدوا غير الله من الشيطان والنفس والهوى الله حسبي.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

القراآت : (الْقُدُسِ) بسكون الدال حيث كان : ابن كثير. (بِئْسَمَا) وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف. (يُنَزِّلَ) خفيفا : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب.

الوقوف : (الْقُدُسِ) (ط) (اسْتَكْبَرْتُمْ) (ج) لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده (كَذَّبْتُمْ) (ز) لعطف المستقبل على الماضي مع تقديم المفعولين فيهما (تَقْتُلُونَ) (ه) (غُلْفٌ) (ط) (ز) لأن «بل» إعراض عن الأول وتحقيق للثاني (يُؤْمِنُونَ) (ه) (لِما مَعَهُمْ) (ط) «لأن» الواو للحال (كَفَرُوا) (ج) لأن «لما» متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن «لما» مكرر وجوابهما متحد ، وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) حال معترض (كَفَرُوا بِهِ) (ج) لأن ما بعده مبتدأ لكن الفاء تقتضي تعجيل ذكر جوابهم (الْكافِرِينَ) (ه) (مِنْ عِبادِهِ) (ج) لطول الكلام مع فاء التعقيب (عَلى غَضَبٍ) (ط) (مُهِينٌ) (ه) (لِما مَعَهُمْ) (ط) (مُؤْمِنِينَ) (ط).

التفسير : لما ذكر سبحانه في الآي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم ، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران

٣٢٩

ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم. أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة. عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث الله لكل آية منها ملكا فلم يطيقوا حملها ، فبعث الله لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها ، فخففها الله على موسى عليه‌السلام فحملها. القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلا كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم. روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه‌السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى ، وكان المقصود من بعثة هؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» «إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها» فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك ، ومريم بمعنى الخادم. وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن ، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة :

قلت لزير لم تصله مريمه

ووزن «مريم» عند أهل الصرف «مفعل» لأن فعيلا بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو «عثير» للغبار «وعليب» اسم واد. البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ، أيدناه قويناه من الأيد القوة ، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن ، ولأنه الغالب عليه الروحانية ، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات ، وقيل بالإنجيل كما قال (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] لأن العلم سبب حياة القلوب ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل : الروح الذي نفخ فيه ، والقدس والقدوس هو الله ، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال «بيت الله» و «ناقة الله». عن الربيع : وكون الروح هاهنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه‌السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء.

قوله تعالى : (أَفَكُلَّما) وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله : (وَلَقَدْ

٣٣٠

آتَيْنا) لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما (جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) الباء للتعدية أو بمعنى «مع» ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعا وترؤسا على عامتهم. وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الباطل ، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه‌السلام (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) على التمام وما بقي منه غير مكذب (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند وفاته : ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري. والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة ، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه. ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله :

فأضر بها بلا دهش فخرت

وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في (تَقْتُلُونَ) بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين : أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل ، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين ، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف. غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن ، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما. وقيل : غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك. (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة. وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة ، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد «فكل ميسر لما خلق» له (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) أي إيمانا قليلا يؤمنون. و «ما» مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به. يؤمنون ، فانتصب بنزع الخافض. و «ما» صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها.

٣٣١

ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلا لا قليلا ولا كثيرا كما يقال : قليلا ما تفعل. أي لا تفعل البتة. وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمنا بجميع ما أنزل الله ، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل. (وَلَمَّا جاءَهُمْ) جوابه محذوف وهو نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه. ويجوز أن يكون جوابه هو جواب «لما» الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ) [آل عمران : ١٨٨] بعد قوله (لا تَحْسَبَنَ) [آل عمران : ١٨٨]. واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن ، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع ، لأن جميع كتب الله كذلك ، بل المراد ما يختص بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العلامات والنعوت والصفات. والتحقيق أن ذكر الكتاب هاهنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفا أو مجازا لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة. وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه. والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في «استعجب» و «استسخر» ، أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليه ، (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) من الحق وهو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «من» نحو : سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم (كَفَرُوا بِهِ) ، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب من ذرية إسماعيل عليه‌السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغيا وحسدا وعنادا ولددا ، وإما لأنهم ظنوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى العرب خاصة ، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار. فكفرهم إذا كفر عناد ، (فَلَعْنَةُ اللهِ) وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية) (عَلَى الْكافِرِينَ) أي عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم ، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا. فإن قيل : أليس أنه تعالى ذكر (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] قلنا : العام قد يخص ، وأيضا لعن من يستحق اللعن حسن ، وأيضا أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩] «بئس» لإنشاء الذم ، وفاعله قد يكون مظهرا نحو «بئس الرجل زيد» ، وقد يكون مضمرا يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم

٣٣٢

فـ «ما» نكرة منصوبة مفسرة : لفاعل «بئس» أي بئس شيئا اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم (أَنْ يَكْفُرُوا) واختلف في إعراب المخصوص فقيل : مبتدأ والجملة قبله خبره. وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا. واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أن الثمن حاصل ملك المالك. وقيل : إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها ، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره. ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال (بَغْياً) أي حسدا وطلبا لما ليس لهم ، ولو لا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوها شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الذي هو الوحي (عَلى مَنْ يَشاءُ) وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد ، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل ، ويحتمل أن يقال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل.

(فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) لا بد من إثبات سببي غضبين : أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه ، والثاني تكذيبهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه ، فصار ذلك سببا بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة. وقيل : الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحدهم نبوته عن السدي. وقيل : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] عن عطاء وعبيد بن عمير. وقيل : المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحدا إلا أنه عظيم ، وهو قول أبي مسلم. ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مرارا أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام ، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب ، وفائدته ما ذكرنا في قوله (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه ، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد

٣٣٣

يؤدب ولده (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم «ما» (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه‌السلام (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُ) الضمير يعود إلى «ما وراءه» أو إلى القرآن فقط. و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية ، أو كون مضمونها لازما لمضمون الجملة الاسمية ، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في (مُصَدِّقاً) محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح. وأما الواو في (وَهُوَ الْحَقُ) فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة ، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله (وَيَكْفُرُونَ) على أن كلا منهما حال بحيالها ، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان. وفي قوله (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر المكلفين بالإيمان ، كان الإيمان به واجبا لا محالة ، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال. وأيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتعلم علما ولم يقرأ ولم يخط ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة ، فيعلم بالضرورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم استفادها من قبل الوحي وأيضا القرآن يدل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته. فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا كان كاذبا. ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم ، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك ، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز. والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل (مِنْ قَبْلُ) وتقتلون حكاية حال ماضية. وأصل «لم» لما بإدخال لام التعليل في «ما» الاستفهامية ، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء. وفي قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه. وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم.

التأويل : هذا حال أكثر البطالين المتشبهين بالطالبين يصغون الى كلمات العلماء الراسخين ، فما استحلته نفوسهم قبلوه ، وما استغربته نبذوه وأنكروه ، فيكذبون فريقا منهم

٣٣٤

فرارا عن تحمل أعباء الطلب ويثيرون الفتنة على فريق بالحسد والإنكار والفتنة أشد من القتل (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) فيه إشارة إلى أن الطالب إذا ابتلى في أثناء الطلب بالرهقة أو الفترة لم يضره ذلك ما دام متمسكا بالإرادة ، فيرجى رجوعه بإذن الله وبمدد همة الأستاذ والشيخ ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة وأظهر الإنكار والاعتراض فلن يرجى فلاحه. (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) فيه إشارة إلى أن أهل كل زمان يتمنون أن يدركوا أحدا من العلماء والأولياء المحظوظين بالعلوم الكسبية واللدنية ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في صالح دعائهم ويظهرون محبتهم عند الخلق (فَلَمَّا جاءَهُمْ) واحدا منهم (ما عَرَفُوا) قدره وحسدوه وأظهروا عداوته وما أنصفوه (فَباؤُ بِغَضَبٍ) من رد ولاية الأولياء (عَلى غَضَبٍ) من الله لأوليائه كما جاء في الحديث «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» و «إنما أنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه» والله أعلم بالصواب.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

القراآت : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ) مدغمة الدال في الجيم كل القرآن : أبو عمرو وحمزة وعلي خلف وهشام (جاءَكُمْ) وبابه بالإمالة : حمزة وخلف وابن ذكوان (قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضم الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم وكذلك كل ما لقي الميم حرف ساكن وقبل الهاء كسرة بما تعملون بتاء الخطاب : يعقوب.

الوقوف : (ظالِمُونَ) (ه) (الطُّورَ) (ط) لتقدير القول (وَاسْمَعُوا) (ط) (بِكُفْرِهِمْ) (ط) (مُؤْمِنِينَ) (ه) (صادِقِينَ) (ه) (أَيْدِيهِمْ) (ط) (بِالظَّالِمِينَ) (ه) (عَلى حَياةٍ) (ج) على تقدير : ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، ومن وقف على (أَشْرَكُوا) فتقديره أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا و (يَوَدُّ) مستأنف للبيان وإنما لم يدخل

٣٣٥

من في الناس وأدخل في الذين أشركوا لأن اليهود من الناس وليسوا من المشركين كقولك «الياقوت أفضل الحجارة وأفضل من الديباج» (سَنَةٍ) (ط) لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا (أَنْ يُعَمَّرَ) (ط) (يَعْمَلُونَ) (ه).

التفسير : السبب في تكرير قصة اتخاذ العجل هاهنا القدح بوجه آخر في قولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] وبيان وصفهم بالعناد والتكذيب تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيتا له ، فإن قوم موسى عليه‌السلام بعد ظهور المعجزات الواضحات على يده اتخذوا العجل إلها ومع ذلك صبر وثبت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه. وكرر ذكر رفع الطور للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) الدال على نهاية لجاجهم وذلك أنه قال لهم : اسمعوا سماع تقبل وطاعة. فقالوا : سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، وظاهر الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول أعني سمعنا وعصينا وعليه الأكثرون. وعن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المعنى سمعوه وتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول مثل (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ. وقوله تعالى (فِي قُلُوبِهِمُ) بيان لمكان الإشراب كقوله (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وفي هذه الاستعارة لطيفة وهي أنه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة للقبائح الصادرة عنهم. وفي قوله (وَأُشْرِبُوا) دلالة على أن فاعلا غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري وإبليس وشياطين الجن والإنس ، وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى وقد عرفت التحقيق في أمثال ذلك مرارا. (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل ، فليس في التوراة عبادة العجاجيل. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي ، لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الدار اسم «كان» وفي الخبر ثلاثة أوجه : الأول : (خالِصَةً) و (عِنْدَ) ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في (لَكُمُ) ويجوز أن يكون (عِنْدَ) حالا من الدار والعامل فيها «كان» أو الاستقرار. وأما (لَكُمُ) فيكون على هذا متعلقا بـ «كان» لأنها تعمل في حروف الجر ، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد (خالِصَةً) أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة ، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف. الثاني : أن يكون خبر كان (لَكُمُ) و (عِنْدَ

٣٣٦

اللهِ) ظرف و (خالِصَةً) حال والعامل «كان» أو الاستقرار. الثالث : أن يكون (عِنْدَ اللهِ) هو الخبر و (خالِصَةً) حال والعامل فيها إما عند ، أو ما يتعلق به أو «كان» أو «لكم» وسوغ أن يكون (عِنْدَ) خبر (كانَتْ لَكُمُ) إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] وقوله (مِنْ دُونِ النَّاسِ) نصب بـ (خالِصَةً) لأنك تقول : خلص كذا من كذا. والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار. والمراد بقوله (عِنْدَ اللهِ) الرتبة والمنزلة ، وحمله على عندية المكان ممكن هاهنا إذا لعلهم كانوا مشبهة. ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم. «ودون» هاهنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكا : هذا لك من دون الناس. أي لا يتجاوز منك إلى غيرك. والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ولأنه لم يوجد هاهنا معهود. فإن قلت : من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك؟ قلنا : لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني ، ولقوله تعالى (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون ، لأن النسخ غير جائز عندهم ، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب ، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب ، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية. وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة ، وذلك القليل كان أيضا منغصا عليهم بعد ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال. فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص ، ولا يفوت إلا القليل النكد. والوسيلة وإن كانت مكروهة نظرا إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظرا إلى غايتها كالفصد ونحوه. والنهي عن تمني الموت في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي» (١) محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المرضى باب ١٩. مسلم في كتاب الذكر حديث ١٠ ، ١٣. أبو داود في كتاب الجنائز باب ٩. النسائي في كتاب الجنائز باب ١. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣١. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٥.

٣٣٧

ألا موت يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن روح عبد

تصدق بالوفاة على أخيه

فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم ، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب ، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله. روي أن عليا عليه‌السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضا. فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين. فقال : يا بني ، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه رضي‌الله‌عنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال رضي‌الله‌عنه : حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم. يعني على التمني. وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة ، محمدا وحزبه. وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله ونيل ثوابه وذلك لمكان البشارة ، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله «أنا عند ظن عبدي بي» (١) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي» وليس لهم أن يقبلوا هذا السؤال على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولوا : إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم ، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته ، فله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه ، فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده ، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه ، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [الأحزاب : ٢٣] عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه. وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٣٥. مسلم في كتاب التوبة حديث ١. الترمذي في كتاب الزهد باب ٥١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٨.

٣٣٨

أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» (١) ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) وبرهن عليه بقوله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم. وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد. وقوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به كقوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد ، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب. فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ. وأيضا لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك. وأيضا لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام ، لأنه في غاية السهولة ، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدار الآخرة لهم خالصة ، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضا ، فيستفاد من الآية التالية. وفي قوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) إشارة أيضا إلى ذلك لأنه إذا كان محيطا بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له. وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٧] واللام إما للعهد وإما للجنس ، فيشملهم أولا وغيرهم من الظلمة ثانيا. فإن قيل : ما الفائدة في قوله هاهنا (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) وفي سورة الجمعة (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ) [الجمعة : ٧]؟ قلنا : لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم ، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس ، والأول مطلوب بالذات ، والثاني وسيلة إليه ، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو «لن» ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة وليا بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال ، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك «فلان ابن فلان موجود» أبعد من إثبات العام في قولك «الإنسان موجود». فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة. هي في باب النفي أبلغ. ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت ، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة ، لأن هاهنا قسما ثالثا وهو أن لا يتمنى

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ١٤ ـ ١٨. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٦٧. النسائي في كتاب الجنائز باب ١٠. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤٣. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٥١.

٣٣٩

الحياة ولا الموت فقال (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ) مؤكدا باللام والنون والقسم المقدر وهو من وجد بمعنى علم. وقوله (عَلى حَياةٍ) بالتنكير لأنه أراد نوعا من الحياة مخصوصا وهي الحياة المتطاولة أو حياة وأيّ حياة. وفي جعلهم أحرص من الذين أشركوا توبيخ عظيم ، لأن المشركين لا يؤمنون بمعاد وعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فهي جنتهم ، فلا يستبعد حرصهم عليها. فإذا ازداد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان خليقا بالتوبيخ. وسبب زيادة حرصهم هو علمهم بأنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون غافلون عن ذلك. وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عباس : هو قول الأعاجم «زي هزار سال» ، ويحسن أن يقال (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) كلام مبتدأ أي ومنهم ناس يودّ على حذف الموصوف كقوله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] أي وما منا ملك لقوة الدلالة عليه بذكر ما اشتمل عليه قبله ، فكأنه مذكور ، وعلى هذا يلزم توبيخ اليهود من جهة أخرى وهي انضمامهم في زمرة المشركين وكونهم بعضا منهم وذلك كقولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]. وقال أبو مسلم : في الآية تقديم وتأخير أي ولتجدنهم طائفة من الذين أشركوا وأحرص الناس على حياة ، ثم فسر بقوله (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) أي كل واحد يغرض لو يعمر. و «لو» في معنى التمني و (لَوْ يُعَمَّرُ) حكاية لودادتهم ، وكان يجوز «لو أعمر» على الحكاية إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) مثل «حلف بالله ليفعلن» وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو يندر. والضمير في قوله (وَما هُوَ) يعود إلى أحدهم و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل (بِمُزَحْزِحِهِ) أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره. ويجوز أن يكون الضمير لما دل عليه (يُعَمَّرُ) من مصدره و (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل منه كأنه قيل : وما التعمير بمزحزحه من العذاب أن يعمر. ويجوز أن يكون (هُوَ) مبهما و (أَنْ يُعَمَّرَ) موضحه. والزحزحة المباعدة والتنحية. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيه تهديد لأهل البغي والعناد ، وزجر للعصاة عن الفساد. والبصر قد يراد به العلم يقال فلان بصير بهذا الأمر أي عارف به ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصح عليه سبحانه ما لم يثبت له جارحة. فإن قلنا : إن من الأعمال ما لا يصح أن يرى ، تعين حمل البصر فيه على العلم والله أعلم بالصواب. وإليه المرجع والمآب.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ

٣٤٠