تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

والمشاهدات والأسرار والإشارات والإلهامات وغيرها من المواهب ، وإنهم يشاهدون أحوالا شتى في صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم ، فيقول بعض المتوسطين منهم : إن هذا المشهد هو الذي شاهدته قبل هذا ، فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى حقيقة أخرى ، كما أن موسى شاهد نور الهداية في صورة نار فتكون تارة تلك النار نار صفة غضبية كما كان لموسى ، إذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته نارا ، وتارة تكون نار المحبة تقع في محبوبات النفس فتحرقها ، وتارة تكون نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فافهم. وأيضا ، كل شيء له صورة في الدنيا فله في الآخرة معنى آخر غيبي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دماء الشهداء «اللون لون الدم والريح ريح المسك» (١) فاعلم. وقوله (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) جملة معترضة تفيد زيادة التقرير كقولك «فلان أحسن إلى فلان ونعم ما فعل» والمراد بتطهير الأزواج تطهيرهن من الأقذار والأدناس لا سيما التي تختص بالنساء ، وكذا من الأخلاق الذميمة وعادات السوء. وهما لغتان فصيحتان «النساء فعلن» و «هن فاعلات» و «النساء فعلت» و «هي فاعلة» والمعنى : ولهم جماعة أزواج مطهرة. وفي (مُطَهَّرَةٌ) فخامة لصفتهن ليست فيما لو قيل طاهرة وهي الإشعار بأن مطهرا طهرهن وليس ذلك إلا الله عزوجل المريد لعباده أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم. وهاهنا نكتة وهي ، أن المرأة إذا حاضت فالله تعالى يمنع من مباشرتها قال : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] مع أنها معذورة في تنجسها. فإذا كانت اللواتي في الجنة مطهرات فلأن يمنعك عنهن ، إذا كانت نجسا بالمعاصي مع أنك غير معذور فيها كان أولى. وأيضا من قضى شهوته من الحلال فإنه يمنع من الدخول في المسجد الذي يدخل فيه كل بر وفاجر ، فمن قضى شهوته من الحرام كيف يمكن من دخول الجنة التي لا يسكنها إلا المطهرون؟ وكفى دليلا على ذلك بإخراج آدم منها بسبب الزلة الصادرة عنه. وأيضا من كان على ثوبه ذرة من النجاسة لا تجوز صلاته أو تستكره ، فكيف بمن صلى وعلى قلبه جبال من نجاسات الذنوب والمعاصي؟ والخلد عند المعتزلة الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] نفى الخلد عن البشر مع تعمير بعضهم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥] وعند الأشاعرة : الخلد هو الثبات الطويل ، دام أو لم يدم. ولو كان التأبيد داخلا في مفهوم الخلد كان قوله (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) تكرارا. ويقال في العرف : حبسه حبسا مخلدا ، أو وقف وقفا مخلدا. والحق أن خوف الانقطاع ينغص النعمة وذلك لا يليق بأكرم الأكرمين.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ٤٠. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ٢١. النسائي في كتاب الجهاد باب ٢٥. الموطأ في كتاب الجهاد حديث ٢٩. أحمد في مسنده (٥ / ٢٣١ ، ٢٤٤).

٢٠١

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

الوقوف : (فَما فَوْقَها) (ط) (مِنْ رَبِّهِمْ) (ج) لأن الجملتين وإن اتفقتا فكلمة «أما للتفصيل بين الجمل (مَثَلاً) (م) لأنه لو وصل صار ما بعده صفة له وليس بصفة إنما هو ابتداء إخبار من الله عزوجل جوابا لهم. (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) (ط) (الْفاسِقِينَ) (لا) لأن (الَّذِينَ) صفتهم (مِيثاقِهِ) (ص) لعطف المتفقتين (فِي الْأَرْضِ) (ص) (الْخاسِرُونَ) (ه).

التفسير : لما بين كون القرآن معجزا أورد شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها. عن ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين ـ يعني قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية. وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله فنزلت. والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : «أجرأ من الذباب» و «أضعف من بعوضة» و «كلفتني مخ البعوض». ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر ، وكحبة خردل ، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير. قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان. فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك؟ فقال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة ، دعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد. فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزما ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين ، وأفسر لكم ، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم

٢٠٢

الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية ، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع. وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء ، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى. وقال : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح. وقال : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله. وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن ، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون؟! وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم. هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف. وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبيانا لكل شيء. ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير ، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير. فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة ، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه ، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم ،

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ، ويذم واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا ، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى ، أن أمثال هذه الصفات

٢٠٣

إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ. فحديث سلمان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» (١) إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. ومعنى قوله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :

من مبلغ أفناء يعرب كلها

أني بنيت الجار قبل المنزل

فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه

كر عن بسبت في إناء من الورد

فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد. وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان هاهنا. وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما من ذهب. و «ما» هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعا وعموما كقولك «أعطني كتابا ما» تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] أي مثلا حقا أو البتة. وانتصب (بَعُوضَةً) بأنها عطف بيان و (مَثَلاً) وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلا كما يقال : حاتم مثل في الجود. أو مفعول لـ (يَضْرِبَ) و (مَثَلاً) حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل». والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب. ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الاخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم على

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٣. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٠٤. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١٣. أحمد في مسنده (٥ / ٤٣٨).

٢٠٤

صورته (١) أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجا ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه. ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر ، ومع ذلك مجوف. ومع فرط صغره وكونه مجوفا يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم.

وقوله (فَما فَوْقَها) أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا للدنيا ، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فيجب أن يكون المذكور ثانيا أحقر من الأول. والفاء هاهنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله :

«يا دار مية بالعلياء فالسند»

لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم ، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند. (وَأَمَّا) حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، وفائدته التوكيد. تقول : زيد ذاهب. فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره. «مهما يكن من شيء فزيد ذاهب» وليس مراده من هذا التفسير أن «أما» بمعنى «مهما» «كيف» ـ وهذه حرف ومهما اسم ـ بل قصده إلى المعنى البحث أي إن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا ، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازما لحصول أي شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية فلا بد من حصول شيء فيها. ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء. والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب. والضمير في (أَنَّهُ الْحَقُ) للمثل ، أو لـ (أَنْ يَضْرِبَ) و (ما ذا) فيه وجهان : أن يكون «ذا» اسما موصولا بمعنى الذي ، فيكون كلمتين : «ما» مبتدأ وخبره «ذا» مع صلته ، وأن تكون «ذا» مركبة مع «ما» مجعولتين اسما واحدا ، فيكون منصوب المحل في حكم «ما» وحده لو قلت : ما أراد الله ، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب. وقد يجيء على العكس

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥١). البخاري في كتاب الاستئذان باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ١١٥.

٢٠٥

كما تقول في جواب من قال : ما رأيت خير «أي المرئي خير». وفي جواب : ما الذي رأيت خيرا «أي رأيت خيرا». والإرادة نقيض الكراهة ، قال الإمام الرازي : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته. والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع بل في الإيقاع. واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة. واختلفوا في كونه تعالى مريدا مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى. فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساه ولا مكره. ومنهم من قال : إنه أمر ثبوتي. ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف. والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم : أنه صفة زائدة على العلم. ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وهو قول الأشعري ، أو محدثا وذلك المحدث إما أن يكون قائما بالله تعالى وهو قول الكرّامية ، أو قائما بجسم آخر ولم يقل به أحد ، أو موجودا لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما. وفي قوله (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال «يا عجبا لابن عمرو هذا» محقرة له. و (مَثَلاً) نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث «ماذا أردت بهذا جوابا» ولمن حمل سلاحا رديئا «كيف تنتفع بهذا سلاحا» أو على الحال نحو (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [هود : ٦٤] وقوله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بـ (أَمَّا) وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٦٤] إنما يوصفون بها بالقياس إلى أهل الضلال. وأيضا فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة.

إن الكرام كثير في البلاد وإن

قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد ، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نورا إلى نورهم فتسبب لهديهم ، وازدادت الكفرة رجسا إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق. والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة :

فواسقا عن قصدها جوائر

يذهبن في نجد وغورا غائرا

والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو عند أهل السنة من

٢٠٦

أهل الإيمان إلا أنه عاص ، وعند الخوارج كافر ، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين ، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزىء خلفه. ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١] يعني اللمز والتنابز (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧] والنقض : الفسخ وفك التركيب. وإنما ساغ استعمال النقض في إبطال العهد من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا كقولك «عالم يغترف منه الناس» فتنبه بالاغتراف من العالم بأنه بحر ، وتسكت عن المستعار لأنك رمزت إليه بذكر شيء من لوازمه. والعهد : الموثق. عهد إليه في كذا إذا أوصاه به ووثقه عليه. والمراد بالناقضين إما كل من ضل وكفر لأنهم نقضوا عهدا أبرمه الله بإراءة آياته في الآفاق وفي أنفسهم وبما ركز في عقولهم من إقامة البينة على الصانع وعلى توحيده وعلى حقية شريعته بعد إزاحة العلات وإزالة الشبهات ، وإما قوم من أهل الكتاب وقد أخذ عليهم العهد والميثاق في الكتب المنزلة على أنبيائهم بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيّن لهم أمره وأمر أمته فنقضوا ذلك وأعرضوا عنه وجحدوا نبوته. وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الذي أخذه على جميع درية آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) [الأعراف : ١٧٢] الآية. وعهد خص به النبيين أن يبلغو الرسالة ويقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) [الأحزاب : ٧] وعهد خص به العلماء (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] والضمير في (مِيثاقِهِ) للعهد. والميثاق إما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة ، أو اسم لما وثقوا به عهد الله من قبوله وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله أي من بعد توثقته عليهم ، أو من بعد ما وثق الله تعالى به عهده من آياته وكتبه ورسله. ومعنى قطعهم ما أمر الله به أن يوصل ، إما قطعهم ما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرابة والرحم ، أو قطعهم موالاة المؤمنين إلى موالاة الكافرين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض. والأمر طلب الفعل ممن هو دونك وبعثه عليه وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور ، لأن الداعي الذي يدعو إليه من يتولاه شبه بآمر يأمره به ، فقيل له : أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به. وللأمر حرف واحد وهو اللام الجازم نحو «ليفعل» وصيغ مخصوصة للمخاطب نحو «انزل» و «نزال» و «صه». وقد يستعمل في الدعاء والالتماس بمعونة القرينة وظاهره للوجوب ، وغيره من الندب أو الإباحة يتوقف على القرينة. وقوله (أَنْ يُوصَلَ) بدل الاشتمال من الضمير المجرور ، والجار الذي ينبغي أن يعاد

٢٠٧

مقدر تقديره بأن يوصل أي بوصله. والإفساد في الأرض إما إظهار المعاصي ، وإما التنازع وإثارة الفتن. (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقاب هذه الأمور بثوابها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ٢ ، ٣] الآية.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

القراآت : (فَأَحْياكُمْ) وبابه بإلامالة : علي (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء وكسر الجيم كل القرآن : يعقوب. وهو وبابه بسكون الهاء : أبو جعفر ونافع غير ورش وعلي وأبو عمرو.

الوقوف : (فَأَحْياكُمْ) (ج) للعدول أي ثم هو يميتكم مع اتحاد مقصود الكلام (تُرْجَعُونَ) (ط) (سَماواتٍ) (ط) (عَلِيمٌ) (ه).

التفسير : هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة ، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله ، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا. ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لا بد من أن يكونوا على أحد الحالين : إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة. فإذا قيل لهم : كيف تكفرون بالله؟ ومن المعلوم أن «كيف» للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به ، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالما بالله أو جاهلا به ، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة ، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود. وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام ، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل ، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتا فصاروا أحياء ، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة ، ثم الإحياء ثم الرجع إليه ، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر. فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل : ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي

٢٠٨

أن كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم. وهذه القضايا أيضا مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله (بَلْدَةً مَيْتاً) [ق : ١١] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ويحتمل أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الدهر : ١] قال أبو نخيلة السعدي :

وأحييت لي ذكري وما كنت خاملا

ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة : ٢٥٩] (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٢] (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٦] (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) [الكهف : ١٩] (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) [الأنبياء : ٨٤] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه. ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء. ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : (فَأَحْياكُمْ) أي بعقب كونكم نطفا من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب. فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشرا سويا وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور. ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون.

يمرّ أقاربي بحذاء قبري

كأن أقاربي لم يعرفوني

٢٠٩

الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا ، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا ، يا واسع المغفرة ، ويا باسط اليدين بالرحمة. ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر ، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها ، وخلق السماء. ومعنى (لَكُمْ) لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر ، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم ، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية ، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض. فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها. و (جَمِيعاً) نصب على الحال من الموصول الثاني وهو «ما» أي مجموعة ، والمجموع الذي جمع من هاهنا وهاهنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف. وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفا في ملك الغير من غير إذنه. ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللا بغرض ، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية ، وإلا كان عبثا لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة ، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية ، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك ، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل : إنه تعالى خلق الكل للكل ، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا ، قلنا : قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد ، والتعيين يستفاد من دليل منفصل .. والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام ، وإنه تعالى منزه عن ذلك. وأيضا «ثم» تقتضي التراخي ، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلا أزلا ولم يكن متأخرا عن خلق ما في الأرض ، فيجب التأويل. وتقريره أن يقال : استوى العود إذا اعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض

٢١٠

من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر «اعمل هذا الثوب» وإنما معه غزل. على أنها كانت دخانا ثم سواها سبع سموات. و «ثم» هاهنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقا آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين. وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] وكقوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] وتفسير هذه الآية في قوله (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ٩ ، ١٠] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة إلى المدينة عشرون يوما ، وإلى مكة ثلاثون يوما ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر. ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [يونس : ٣] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله (كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء : ٣٠] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية. وأيضا قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة. وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضا بأن قوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدما على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان. وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال «ثم» ليس للترتيب هاهنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم. مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعما عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع.

٢١١

(قلت) : وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولا في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم. والضمير في (فَسَوَّاهُنَ) ضمير مبهم ، و (سَبْعَ سَماواتٍ) تفسيره نحو : ربه رجلا. وفائدة الإبهام أولا ثم البيان ثانيا أن الكلام هكذا أوقع في النفس ، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب. وقيل : الضمير راجع إلى السماء ، والسماء في معنى الجنس. وقيل : جمع سماءة والوجه العربي هو الأول. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم ، فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح ، ومقتضى الحكمة والتدبير. وهذا عام لم يدخله التخصيص قط ، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات ، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام ، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف ، والدرة في الأصداف ، والقطرة في البحر ، والخطرة في النحر ، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم. ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات ، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم ، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية ، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام ، فيجب أن يكون فلكها حاويا للكل. وثانيها للثوابت جميعها تحديدا لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزا. والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه. وعلى ترتيب خسف بعضها بعضا ، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل. ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال : من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل ، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به ، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلا. وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلا ولا سمعا (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) [المدثر : ٣١].

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

٢١٢

القراآت : (خَلِيفَةً) وأشباهها بالإمالة عند الوقف : أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي : الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو : خاصة ، وفريضة ، وحطة ، وغلظة ، وصبغة ، وصاخة ، وشقة. وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة ، فأشدهم إمالة حمزة وعلي ، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب (إِنِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو.

الوقوف : (خَلِيفَةً) (ط) بناء على أن عامل «إذ» محذوف أي اذكر. ومن جعل (قالُوا) عامل «إذ» وصل. (الدِّماءَ) (ج) لأن انتهاء الاستفهام على قوله (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) يقتضي الفصل ، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) يقتضي الوصل (وَنُقَدِّسُ لَكَ) (ط) (ما لا تَعْلَمُونَ) (ه).

التفسير : هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه‌السلام وعن كيفية تعظيمه إياه ، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم ، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، وإذ هاهنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ) [الأحقاف : ٢١] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل واحد من بني آدم ، ويجوز أن ينتصب بـ (قالُوا) فيكون للمجازاة. والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة ، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل : ملأك ، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق. واعلم أن الملك قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا ، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة. وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه. وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب : منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السموات وهو قول أكثر المسلمين ، ومنهم عبدة الأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة ، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب. ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما

٢١٣

عندهم جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير. فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى ، وجوهر الظلمة ضد ذلك ، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه. ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى ـ إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها ، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة ، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين. وقال آخرون ـ وهم الفلاسفة ـ إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية ، وإنها أكمل قوة وأكثر علما ، ونسبتها الى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء ، فمنها نفوس ناطقة فلكية ، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي ، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها هاهنا. وقد يستدل عليها أصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة. ولا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم‌السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، وأما شرح كثرتهم فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع» (١) وروي «إن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها ، فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا قليلا ، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ،

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٩. أحمد في مسنده (٥ / ١٧٣).

٢١٤

ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون» وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل ملك الموت ، ومنهم ملائكة الجنة (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [الرعد : ٢٣] ومنهم ملائكة النار (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد. ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [الصافات : ١] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه : منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره. منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار ركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر. ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا ، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر ، فقال تعالى لهم (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل.

و (جاعِلٌ) من جعل الذي له مفعولان ، معناه مصير في الأرض خليفة ، وإنما لم يقل إني خالق كما قال (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق. والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين ، وقد يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأرض هاهنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها. والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وجمعه خلائف مثل :

٢١٥

كريمة وكرائم. وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل : ظريف وظرفاء. والمراد به آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) [ص : ٢٦] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي. وعن الحسن ، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضا ويؤيده قوله (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٣٩] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفا يخلف ، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات ، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه. وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب ، والزجاجة في مشكاة الجسد ، وفي زجاجة القلب زيت الروح (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور ، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء ، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه ، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر ، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم. والفائدة في إخبار الملائكة بذلك ، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنيا عن ذلك ، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا. واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات ـ لأن المنهي مأمور بتركه ـ إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضا لقوله (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ ، ٢٧] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] إلى غير ذلك من الآيات.

وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل ، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب. وأيضا نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر. وأيضا مدحوا أنفسهم بقولهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) وهو عجب. وأيضا قولهم (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) اعتذار والعذر دليل الذنب. وأيضا قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه. وأيضا قوله (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات. وأيضا علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة ، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الأسراء : ٣٦] وأيضا قصة هاروت وماروت وأن

٢١٦

إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر. والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الاعتقاد كفر ، وإنما المقصود من ذلك أمور منها : أن الإنسان إذا كان قاطعا بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلا لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه ، استفهم عن ذلك متعجبا. فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك ، ومنها أن إبداء الإشكال طلبا للجواب غير محذور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه البتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟ وهذا جواب المعتزلة ، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا : ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق. وأيضا قالوا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام (وَنُقَدِّسُ لَكَ) والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه ، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير. فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم. ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه. ومنها أن قولهم (أَتَجْعَلُ) مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحا نحو قول موسى (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] أي لا تهلك ، فقال تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ، ليرضى كل فريق بما أختار الله له. ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا؟ أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحا ، فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم. وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية ، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين.

والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال ، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة. وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقا

٢١٧

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة ، بل لطلب وجه الحكمة. وعن الاعتذار ، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى. وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا كنا خلقا أعظم منه وأكرم عليه ، فلما خلق آدم عليه‌السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقا إلا وأنتم أفضل منه ، ففزعوا إلى التوبة وقالوا (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوها منها : أنهم قالوا ذلك ظنا إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه‌السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي ، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء. ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين ، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ، أو لأن معنى الخليفة إذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم ، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخبارا عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل : لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفا شديدا فقالوا : لم خلقت هذه النار؟ قال : لمن عصاني من خلقي. ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق البتة. فلما قال : إني جاعل في الأرض خليفة ، عرفوا أن المعصية منهم تظهر. وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها. واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا. فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا : إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر. والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين ، لأن قولهم (أَتَجْعَلُ) إما معصية أو ترك الأولى ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وأيضا قال تعالى (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] وهذا يقتضي كونهم مزجورين. وقال (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ)

٢١٨

[الأنبياء : ١٩] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدرا على الاستكبار. ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب. والواو في (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ) للحال كقولك «أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان» والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس ، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد. والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند ، وإما في الصفات بأن يكون مبرءا عن العجز والجهل والتغيرات محيطا بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات ، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار ، يقول الله تعالى : أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار ، أنا المدبر للسموات والأرض سبحان رب السموات والأرض ، أنا المدبر لكل العالمين ، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني ، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، أنا المنزه عن الصحابة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٧] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٣] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) [طه : ١٣٠] فإن أردت رضوان الله فسبح (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) [طه : ١٣٠] وإن أردت الخلاص من النار فسبح (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) [آل عمران : ١٩١] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] أيها العبد ، واظب على تسبيحي (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤٢] وإلا فالضرر يعود إليك (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] يسبح لي الحجر والمدر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ١] (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] أيها العبد ، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء ، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا

٢١٩

التسبيح ، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات ، فإن ذلك لا يليق بي (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء» (١) أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٣٥] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن : ١٧] لا حاجة لي إلى العسكر (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) [محمد : ٤] ولكن إذا نصرتني نصرتك (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] اخدمني (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٩] ولكن أصرف في خدمتي عمرا قصيرا لتنال ملكا كبيرا وخيرا كثيرا (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ٧٢].

قوله (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك ، فإنه لو لا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك. وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الكلام أفضل؟ فقال : ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان الله وبحمده. ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت. وعن ابن عباس وابن مسعود : نسبح أي نصلي ، والتسبيح الصلاة. وعن مجاهد : نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك. وقيل : نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرّه ، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه ، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي. اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني ، يؤدون حق العبادات ثم لا

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب العلم باب ١٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٦).

٢٢٠