تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

البواقي. وصوم النفس عن التمني والشهوات ، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها ، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها ، وصوم السر عن شهود غير الله (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها ، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) مشارب المركبات وتطهرون عن هنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات ، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه» (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة (أَوْ عَلى سَفَرٍ) حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة ، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) على من كان له قوة في صدق الطلب (طَعامُ مِسْكِينٍ) فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق ، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به ، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله ، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر. وروي فدى ذلك المشرب أيضا أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم ، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال أبو يزيد : ناداني ربي وقال : أنا بدك اللازم فالزم بدك. رمضان يرمض ذنوب قوم ، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم. رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) وهو مقام الوصول (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مرا ، فمراده حصول

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩ ، الصوم باب ٢٠. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) ، (٦ / ١٢٦).

٥٢١

الصحة لا إذاقة مرارة الدواء. وأيضا «كل ميسر لما خلق له» لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر (شعر) :

لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه

من فيض جودك ما علمتني الطلبا

(وَلِتُكْمِلُوا) عدة أنواع الغاية بجذبات (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) ولتعظموه (عَلى ما هَداكُمْ) إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال. قوله سبحانه (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) اعلم أن في الإنسان تلونا في الأحوال. فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر ، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو ، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه ، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) [القصص : ٧٢] الآيتين. ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي (وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) بقدر الحاجة الضرورية (وَابْتَغُوا) بقوة هذه المباشرة (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من المقامات العلية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) في ليالي الصحو (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض ، وزيادة ونقص ، وجذب وحجب ، وجمع وفرق ، وأخذ ورد ، وكشف وستر ، وسكر وصحو ، وإثبات ومحو ، وتمكين وتكوين ، كما قيل :

كأن شيئا لم يزل إذا أتى

كان شيئا لم يكن إذا مضى

(فِي الْمَساجِدِ) أي في مقامات القربة والأنس. وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق ، وهذا مقام أهل التمكين (فَلا تَقْرَبُوها) بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ

٥٢٢

تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

القراآت : (الْبُيُوتَ) بضم الباء : أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والبرجمي وهشام غير الحلواني. الباقون : بكسر الباء.

الوقوف : (تَعْلَمُونَ) ه (عَنِ الْأَهِلَّةِ) ط لابتداء حكم آخر مع النفي (مَنِ اتَّقى) ج و (الْحَجِ) ط ج لعطف الجملتين المختلفتين (أَبْوابِها) ص لعطف المتفقتين (تُفْلِحُونَ) ه.

التفسير : لما كان الصوم منتهيا إلى الإفطار والإفطار يتضمن الأكل ، ناسب أن يردف حكم الصيام بحكم ما يصلح للأكل وما لا يصلح له. ولما كان الصوم والفطر منوطين برؤية الهلال عقبا بذكر السؤال عن حال الأهلة. قال الإمام الغزالي في الإحياء : المال يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه ، والأول إما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان ، أما المعادن والنبات فلا يحرم شيء منهما إلا ما يزيل الحياة وهي السموم ، أو الصحة وهي الأدوية في غير وقتها ، أو العقل كالخمر والبنج وسائر المسكرات. وأما حدثنا الحيوان فينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل. وما يحل فإنما يحل إذا ذبح ذبحا شرعيا ، وإذا ذبح فلا يحل جميع أجزائه بل يحرم منه الدم والفرث وكل ذلك مذكور في كتب الفقه. والثاني وهو ما يحرم لخلل في جهة إثبات اليد عليه نقول فيه أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك أو بغير اختياره كالإرث. والذي باختياره إما أن لا يكون مأخوذا من مالك كالمعادن ، وإما أن يكون مأخوذا من مالك وذلك إما أن يؤخذ قهرا أو بالتراضي. والمأخوذ قهرا إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم ، أولا لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم. والمأخوذ تراضيا إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية ، فهذه أقسام ستة :

الأول : ما لا يؤخذ من مالك كنيل المعادن وإحياء الموات والاصطياد والاحتطاب والاستقاء من الأنهار والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصا بذي حرمة من الآدميين.

الثاني : المأخوذ قهرا ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار المحاربين وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس فقسموه بين المستحقين بالعدل ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهده.

٥٢٣

الثالث : المأخوذ قهرا بالاستحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق واقتصر على المستحق.

الرابع : ما يؤخذ تراضيا بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط لفظي الإيجاب والقبول مع ما يعتد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة.

الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره.

السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث وهو حلال إذا كان المورث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإفراز الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة. فهذه مجامع مداخل الحلال وما سوى ذلك فحرام لا يجوز أكله. وكذا إن كان من هذه الجهات وصرفه إلى غير المصارف الشرعية كالخمر والزمر والزنا واللواط والميسر والسرف المحرم ، وكل هذه الوجوه داخلة تحت قوله سبحانه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أي بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه (بَيْنَكُمْ) أي في المعاملات الجارية بينكم والتصرفات الواقعة بينكم. وليس المراد منه الأكل خاصة بل غير الأكل من التصرف كالأكل في هذا الباب إلا أنه خص الأكل بالذكر لأنه المقصود الأعظم من المال. وقد يقال لمن أنفق ماله إنه أكله. والإدلاء أصله من أدليت دلوي أرسلتها في البئر للاستقاء ، فإذا استخرجتها قلت دلوتها. ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه يقال للمحتج أدلى بحجته كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. وفلان يدلي إلى الميت بقرابة ورحم إذا كان منتسبا إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة طلب المستقي الماء بالدلو. قوله (وَتُدْلُوا) داخل في حكم النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام أي لا ترشوها إليهم ، أو لا تلقوا أمرها والحكومة فيها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالإثم بشهادة الزور أو باليمين الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم. والفرق بين الوجهين أن الحكام على الأول حكام السوء الذين يقبلون الرشا التي هي رشا الحاجة ، فبها يصير المقصود البعيد قريبا ، وإذا أخذها حاكم السوء مضى في الحكم من غير ثبت كمضي الدلو في الإرسال. وعلى الثاني قد يكون الحاكم عادلا ولكن قد يشتبه عليه الحق كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال للخصمين : «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا فإنما

٥٢٤

أقضي له قطعة من نار» (١) فبكيا وقال كل واحد منهما : حقي لصاحبي. فقال : اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه. «فتوخيا» أي اقصدا الحق فيما تصنعانه من القسمة واقترعا وليأخذ كل منكما ما تخرجه القسمة بالقرعة ثم تحاللا : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم على الباطل وارتكاب المعاصي مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق.

روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) وقيل : إن السائلين هم اليهود. ثم إن الله تعالى لم يجبهم بأنه إنما يرى كذلك لأنه يستفيد النور من الشمس وأنه مظلم في ذاته ويفصل أبدا بين المضيء والمظلم منه دائرة لاستداره المنير والمستنير ، ويفصل بين المرئي وغير المرئي من القمر أيضا دائرة. والدائرتان تتطابقان في الاجتماع بحيث لا يظهر شيء من المستنير وتكون القطعة المظلمة مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق. وكذا في الاستقبال لكن القطعة المضيئة هي التي تلي البصر والقمر في هذه الحالة يسمى بدرا. وفي سائر الأوضاع يتقاطعان. أما في التربيعين فعلى زوايا قوائم تقريبا ، وفي غير التربيعين على زوايا حادة ومنفرجة ، وعلى التقديرين تنقسم كرة القمر بهما إلى أربع قطع : اثنتان مضيئتان وهما اللتان تليان الشمس ، والباقيتان مظلمتان. ويقع في مخروط البصر إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ، لكنه يحس بالمضيئة دون المظلمة. والقطع الأربع في التربيعين متساويات تقريبا ، وفي غيرهما تختلف المتجاورتان وتتساوى المتقابلتان. والقطعة المرئية من المتجاورتين الواقعتين في مخروط البصر في الربعين الأول والأخير من الشهر أصغرهما ، لأن زاوية تلك القطعة أصغر اللتين يليان الإبصار أعني أنها حادة وتسمى القطعة المرئية الصغيرة أول ما يبدو إلى ليلتين هلالا ويجمع على أهلة ، لأنه يتعدد اعتبارا. وفي الربعين الباقيين من الشهر القطعة المضيئة المرئية أعظم المتجاورتين الموصوفتين لأن زاويتها أعظم المذكورتين أعني أنها منفرجة ، وإنما لم يجابوا بذلك لأن المكلف لا يهمه معرفة هذه التصورات في باب العمل ، وإنما الذي يعود عليه من فوائده وحكمه في باب التكليف معرفة المواقيت وهي المعالم التي يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وأيام حيضهن ومدد حملهن ومعالم للحج يعرف بها وقته. والميقات من الوقت كالميزان من الوزن ، ولعمري إنه لو منع مانع من أن ضبط هذه الأمور لا يتسهل ولا يتسنى إلا بوقوع الاختلاف في تشكلات

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ٨٧.

٥٢٥

القمر حيث سمى عوده من كل تشكل إلى مثله ولا سيما من الهلالية إلى مثلها شهرا وبذلك قدر السنون ، وضبطت الأوقات والفصول فلن يمكنه جحود فائدته على تقدير وجود ، ولو لم يكن في الإظهار رسمة الحدوث والإمكان والزوال والنقصان في الفلكيات حتى لا يظن بها وجوب الوجود ، أو الاشتراك في القدم مع مفيض الخير والجود ، أو امتناع الخرق والالتئام كما ذهب إلى كل من ذلك طائفة من اللئام لكفى به تنبيها وعناية وإرشادا وهداية إلى افتقار الفلكيات إلى فاعل مختار ومدبر قهار جاعل الظلم والأنوار ، ومصير الأهلة والأقمار ، وفي إفراد الحج بالذكر مع أن الأهلة مواقيت عبادات أخر كالصوم والزكاة إشارة إلى أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى له ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر إلى شهر آخر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. ويمكن أن يقال : توقف الصوم على الهلال قد علم من قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٤] والزكاة تتعلق بالحول. والأصل في تقدير السنين لعودة الشمس من نقطة كأول الحمل مثلا إلى مثلها بحركتها الخاصة ، والأيمان والجهاد لا يتعلقان بوقت معين ، والصلاة تتعلق باليوم بليلته ، فلم يبق من الأركان المتعلقة بالشهر سوى الحج فتعين ذكره في هذه الآية والله أعلم.

قوله تعالى عز من قائل (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) عن البراء قال : نزلت هذه الآية فينا. كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية. والحاصل أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء. فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم من دخول الباب تشديدا لأمر الإحرام (وَلكِنَّ الْبِرَّ) بر (مَنِ اتَّقى) ولكن ذا البر من اتقى مخالفة الله. وقيل : إن الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة سموا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة. كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم البتة ، ولم يجلسوا تحت سقف البيت ، ولم يستظلوا الوبر ، ولم يأكلوا السمن والأقط. وعن الحسن والأصم : كان الرجل في الجاهلية إذا هم فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ، ويبقى على هذه الحالة حولا كاملا فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيرا. وأما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله بناء على الأسباب المروية في نزوله وعليه أكثر المفسرين ، فهو أنهم لما سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة قيل لهم : اتركوا

٥٢٦

السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم ، ولا تعتقدوا أن جميع ما سنح لكم هو على شاكلة الصواب : وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم تحسبونها برا وليست من البر في شيء ، أو أنه تعالى لما ذكر الحكمة في الأهلة وهي جعلها مواقيت الناس والحج وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج ، فلا جرم تكلم الله تعالى فيه استطرادا ، أو اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معا في وقت واحد. وقيل : إنه تمثيل لتعكيسهم في سؤالهم ، فإن الطريق المستقيم هو الاستدلال بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب ، ولما ثبت بالدلائل أن للعالم صانعا مختارا حكيما ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، فإذا رأينا اختلاف حال القمر وجب أن نعلم أن فيه حكمة ومصلحة ، وهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله غير حكيم فهو استدلال بالمجهول على المعلوم ، فكأنه تعالى يقول : لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق أو قاربتم الشك ، فقد أتيتم الأمر من ورائه وهذا ليس من البر ولا من كمال العقل ، إنما البر أن تأتوا الأمور من وجوهها التي يجب أن تؤتى منها ، وهذا باب مشهور في الكناية قال الأعشى :

ويأس شربت على رغبة

وأخرى تداويت منها بها

لكي يعلم الناس أني امرؤ

أتيت المعيشة من بابها

وعن أبي مسلم : أن هذا إشارة إلى ما كانوا يفعلونه من النسيء وكان يقع الحج في غير وقته ، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثلا لمخالفتهم الواجب في الحج وشهوره. ثم إنه تعالى أمرهم بالتقوى التي تتضمن الإتيان بجميع الواجبات والاجتناب عن الفواحش والمنكرات إرادة أن يظفروا بالمطالب الدينية والدنيوية والله ولي التوفيق.

التأويل : (بِالْباطِلِ) أي بهوى النفس والحرص والإسراف (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) يعني النفوس الأمارة بالسوء (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ) من الأموال التي خلقت للاستعانة بها على العبودية. الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم. والحج إشارة إلى ما يرد بحكم الوقت عليهم من غير اختيارهم ، فمن كان وقته الصحو كان قيامه بالشريعة ، ومن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة ، فإن تجلى لهم بوصف الجلال طاشوا ، وإن تجلى لهم بوصف الجمال عاشوا ، فليس للمحبين وقت إلا أوقات محبوبهم كما ليس لهم وصف إلا أوصاف محبوبهم والله تعالى أعلم.

٥٢٧

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

القراآت : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) حمزة وعلي وخلف. الباقون : من باب المفاعلة. وقيل : إنه من جملة ما يكتب في المصحف بغير ألف كالرحمن.

الوقوف : (وَلا تَعْتَدُوا) ط (الْمُعْتَدِينَ) ه (مِنَ الْقَتْلِ) ج للعارض بين الجملتين المتفقتين (فِيهِ) ج للابتداء بالشرط مع الفاء (فَاقْتُلُوهُمْ) ط (الْكافِرِينَ) ه (رَحِيمٌ) ه (الدِّينُ لِلَّهِ) ط لتبدل الحكم (الظَّالِمِينَ) ه (قِصاصٌ) ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه (مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ص لعطف الجملتين المتفقتين (الْمُتَّقِينَ) ه (التَّهْلُكَةِ) ج لاختلاف المعنى أي لا تقتحموا في الحرب فوق ما يطاق (وَأَحْسِنُوا) ج لاحتمال تقدير الفاء واللام (الْمُحْسِنِينَ) ه

التفسير : لما أمر في الآية المتقدمة بالتقوى ، أمر في هذه الآية بأشق أقسامها على النفس وهو المقاتلة في سبيل الله. عن أبي موسى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولا يقاتل رياء ولا سمعة» (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين أعني الذين هم بصدد القتال بالفعل دون التاركين. قيل : وعلى هذا يكون منسوخا بقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ومنع بأن الأمر بقتال من يقاتل لا يدل على المنع من قتال من لا يقاتل. وكذا ما روي عن الربيع بن أنس : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف. أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أي المستعدين للقتال سوى من جنح للسلم ، أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم مستحلون لها فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل في سبب نزول الآية إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج مع أصحابه لإرادة الحج ، فلما نزل بالحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء صدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهرا لا يقدر على ذلك ، فصالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في

٥٢٨

العام القابل ويتركوا له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدى ويفعل ما يشاء ، فرضي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وصالحهم عليه وعاد إلى المدينة. وتجهز في السنة القابلة ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم. وكانوا كارهين لقتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم. فأنزل الله هذه الآيات وبيّن له كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال. وإنما كان ذلك في أول الأمر لقلة المسلمين ولكون الصلاح في استعمال الرفق واللين ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع وأقام من أقام منهم على الشرك بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حصل اليأس من إسلامهم ، فأمروا بالقتال على الإطلاق. أو لا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من غير المستعدين كالنساء والشيوخ والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالمثلة ، أو المفاجأة من غير دعوة إلى الإسلام. وهذه المعاني الثلاثة بإزاء التفاسير الثلاثة في (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين عما شرع الله لهم. في الصحاح : ثقفته أي صادفته. وفي الكشاف ، الثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف أي سريع الأخذ لأقرانه قال :

فإما تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

أمر في الآية الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على القتال ، وفي هذه الآية زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام ، وسمي حراما لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما منع من فعله وأصل الحرمة المنع (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة ، وقد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح. أو أخرجوهم من منازلهم كما أخرجوكم من منازلكم ، وقد أجلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين من المدينة بل قال : «لا يجمع دينان في جزيرة العرب» (١) والمراد بالإخراج تكليفهم الخروج قهرا أو تخويفهم وتشديد الأمر عليهم حتى اضطروا إلى الخروج (وَالْفِتْنَةُ) عن ابن عباس أنها الكفر بالله لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج وفيه الفتنة. وأيضا الكفر ذنب يستحق العقاب الدائم بالاتفاق والقتل ليس كذلك والكفر يخرج به صاحبه عن الأمة دون القتل. روي أن صحابيا قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابه المؤمنون على ذلك فنزلت. أن لا تستعظموا الإقدام على القتل في

__________________

(١) رواه مالك في الموطأ في كتاب المدينة حديث ١٧ ـ ١٩. أحمد في مسنده (٦ / ٢٧٥).

٥٢٩

الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك. وقيل الفتنة أصلها عرض الذهب على النار للخلاص من الغش ، ثم صار اسما لكل محنة. والمعنى إن إقدام الكفار على تخويف المؤمنين وعلى تشديد الأمر عليهم حتى صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والأوطان هربا من إضلالهم في الدين وإبقاء على مهجهم وحرمهم ، أشد من القتل الذي أوجبته عليكم جزاء عن تلك الفتنة لأنه يقتضي التخلص ، من غموم الدنيا وآفاتها.

لقتل بحد السيف أهون موقعا

على النفس من قتل بحد فراق

وقيل : الفتنة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتلوهم حيث ثقفتموهم ، واعلموا أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه قال عز من قائل : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] وقيل : فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام لأنه سعي في المنع عن الطاعة التي ما خلق الجن والإنس إلا لها ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم. وقيل : ارتداد المؤمن أشد من أن يقتل محقا. فالمعنى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم من أن ترتدوا على أدباركم أو تتكاسلوا عن طاعة معبودكم. يروى أن الأعمش قال لحمزة : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا ، وإذا ضرب منهم واحد قالوا ضربنا ، وذلك أن وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. (فَإِنِ انْتَهَوْا) قيل : أي عن القتال لأن المقصود من الإذن في القتال منع المقاتلة عن ابن عباس. وقيل : أي عن الشرك بدليل قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الدال على أنه يغفر لهم ويرحهم والكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال بل بترك الكفر ، عن الحسن. قلت : إن أريد بالقتال استحلالهم قتل المسلمين تلازم القولان ، والانتهاء عن الكفر ظاهره التلفظ بكلمة الإسلام وأنه مؤثر في حقن الدم وعصمة المال ، وباطنه هو التشبث بأركان الإسلام جميعا ويؤثر في استحقاق الرحمة والغفران. وقد يستدل بقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) على أن التوبة عن قتل العمد بل من كل ذنب. مقبولة لأن الشرك أعظم الذنوب ، فإذا قبل الله تعالى توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى. وأيضا الكافر القاتل مقبول التوبة بالاتفاق إذا أسلم ، فالقاتل غير الكافر أولى. ويمكن أن يجاب بأن حق الله تعالى مبني على المساهلة فظهر الفرق. وأيضا الإيمان يجب ما قبله ، فلا يلزم من عدم مؤاخذة الكافر بقتله إذا أسلم أن لا يؤاخذ المسلم بقتله ، ولهذا يجب قضاء الصلوات الفائتة على المسلم إذا تاب عن ترك الصلاة ، ولا يجب على الكافر إذا أسلم.

٥٣٠

قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ) وقيل : إنه ناسخ لقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهو وهم لأن البداءة بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته. غاية ما في الباب أن هذه الآية عامة وما قبلها مخصصة إياها وهذا جائز ، فإن القرآن ليس على ترتيب النزول ، ولو كان على الترتيب أيضا فلا يضرنا لجواز نزول الخاص قبل العام عندنا وذلك أن الخاص قاطع في دلالته تقدم أو تأخر ، والعام دلالته على ما يدل عليه الخاص غير مقطوع بها فلا بد من التخصيص جمعا بينهما (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قيل : أي شرك وكفر. وعلى هذا فالآية محمولة على الأغلب. فإن قتالهم لا يزيل الكفر رأسا ، وإنما الغالب الإزالة لأن من قتل منهم فقد زال كفره ومن لم يقتل كان خائفا من الثبات على كفره. والحاصل قاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وهو المراد أيضا من قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي ليس للشيطان فيه نصيب لوضوح شأنه وسطوع برهانه كما قال تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الصف : ٩] ولا يعبأ بالمخالف لقلة شوكته وسقوطه عن درجة الاعتداد به ، أو محمولة على قصد إزالة الكفر فترتب هذا العزم على القتال كلي لا يتخلف عنه. وقيل : فتنتهم أنهم كانوا يضربون أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤذونهم حتى ذهب بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، أي قاتلوهم حتى تظهروا عليهم ولا يفتنوكم عن دينكم. وعن أبي مسلم : معناه قاتلوهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدأوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. ولا يخفى أن قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) يرجح القول الأول ليكون المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويظهر الإسلام (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الأمر الذي وجب قتالهم لأجله وهو إما الكفر أو القتال (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي فلا تعدوا على المنتهين فيكون مجموع قوله (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) قائما مقام على المنتهين. لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم ، فنهوا عنه بدليل انحصاره في غير المنتهين. أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين. وعلى الوجهين سمي جزاء الظلم ظلما للمشاكلة كما يجيء في قوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) أو أريد إنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيتسلط عليكم من يعدو عليكم. قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة سنة ست من الهجرة وصدّوهم عن البيت. فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذاك في ذي القعدة سنة سبع (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي هذا الشهر بذاك الشهر ، وهتكه بهتكه. فلما لم تمنعكم حرمته عن الكفر والأفعال القبيحة فكيف تمنعنا عن القتال معكم دفعا لشروركم وإصلاحا لفسادكم؟ والحرمة ما لا يحل انتهاكه ، والقصاص المساواة أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أيّ حرمة

٥٣١

كانت ، اقتص منه بأن يهتك له حرمة. والحرمات الشهر الحرام والبيت الحرام والإحرام ، فلما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وفقتكم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع ، وإن أقدموا على مقاتلتكم فقد أذنت لكم في قتالهم فافعلوا بهم مثل ما فعلوا ولا تبالوا. ثم أكد ذلك بقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) حين تنتصرون ممن اعتدى عليكم حتى لا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصر والتأييد والتقوية والتسديد ، فإن الاستصحاب بالعلم أو بالمكان إن جاز شامل للمتقين وغيرهم. قوله عز من قائل (وَأَنْفِقُوا*) وجه اتصاله بما قبله أنه تعالى لما أمر بالقتال وأنه يفتقر إلى العدد والعدد قد يكون ذو المال عاجزا عن القتال ، وقد يكون القوي على القتال عديم المال فلهذا أمر الله الأغنياء بالإنفاق في سبيله إعدادا للرجال وتجهيزا للأبطال ويروى أنه لما نزل (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا. فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة ولو بمشقص يحمل في سبيل الله فيهلكوا فنزلت هذه الآية على وفق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والإنفاق صرف المال في وجوه المصالح. فلا يقال للمضيع : إنه منفق وإنما يقال : مبذر. وسبيل الله دينه فيشمل الإنفاق فيه الإنفاق في الحج والعمرة والجهاد والتجهيز والإنفاق في صلة الرحم وفي الصدقات أو على العيال أو في الزكاة والكفارات أو في عمارة بقاع الخير وغير ذلك. الأقرب في هذه الآية. وقد تقدم ذكر القتال. أن يراد به الإنفاق في الجهاد ، ولكنه تعالى عبر عنه بقوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) ليكون كالتنبيه على السبب في وجوب هذا الإنفاق. فالمال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز نفسه ونشط وهان عليه ما دعي إليه. والباء في (بِأَيْدِيكُمْ) مزيدة مثلها في «أعطى بيده للمنقاد» والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل : الأيدي الأنفس كقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الأنفال : ٥١] أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقيل : بل هاهنا حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة كما يقال «أهلك فلان نفسه بيده» إذا تسبب لهلاكها. عن أبي عبيدة والزجاج : إن التهلكة والهلاك والهلك واحد. لم يوجد مصدر على تفعلة بضم العين سوى هذا ، إلا ما حكاه سيبويه من قولهم «التضرة» «والتسرة» ونحوها في الأعيان «التنضبة» لشجر و «التتفلة» لولد الثعلب. ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة بالكسر كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر من هلك مشدد العين ، فأبدلت من الكسرة ضمة كما جاء الجوار في الجوار. وليس الغرض

٥٣٢

من هذا التكلف على ما ظن تصحيح لفظ القرآن كيلا تنخرم فصاحته فإنه أجل من أن يحتاج في تصحيحه إلى الاستشهاد بكلام الفصحاء من البشر ، وكيف لا وهو حجة على غيره وليس لغيره أن يكون حجة عليه. وإنما الغرض الضبط والتسهيل ما أمكن فتنبه. وللمفسرين في هذا الإلقاء خلاف فمنهم من قال إنه راجع إلى الإنفاق. وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة. وذلك أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، أو ينفقوا كل مالهم فيحتاجوا ويجتاحوا فيكون نهيا عن التقتير والإسراف وعنهما جميعا (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] أو المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إن أنفقنا نهلك ذلا وفقرا. نهوا عن أن يحكموا على أنفسهم بالهلاك للإنفاق ، أو أنفقوا ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط منا أو أذى أو رياء وسمعة مثل (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٣] ومنهم من قال : إنه راجع إلى غير الإنفاق أي لا تخلوا بالجهاد فتتعرضوا للهلاك الذي هو سخط الله وعذاب النار ، أو لا تقحموا في الحرب حيث لا ترجون النفع ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل كما روي عن البراء بن عازب أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقتل بين الصفين. وإنما يجب أن يتقحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل. روى الشافعي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابرا محتسبا؟ قال : لك الجنة. فانغمس في جماعة العدو فقتلوه. وأن رجلا من الأنصار ألقى درعا كان عليه حين ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجنة. ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي الرسول. وروي أن رجلا من الأنصار تخلف من أصحاب بئر معونة فرأى الطير عكوفا على من قتل من أصحابه. فقال لبعض من معه : سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ففعل ذلك. فذكروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال فيه قولا حسنا. وروى أسلم أبو عمران قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس ، إنكم تأوّلون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه. فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال

٥٣٣

وإصلاحها وترك الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. وقيل : إن الآية من تمام ما قبلها أي إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فإن الحرمات قصاص ، ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال. وعن النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب فيقول : لا يغفر لي فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذلك أنه يرى أنه لا ينفعه معه عمل فيترك العبودية ويصر على الذنب فنهى عن القنوط من رحمة الله (وَأَحْسِنُوا) في الإنفاق بأن يكون مقرونا بطلاقة الوجه أو على قضية العدالة بين التقتير والإسراف أو في فرائض الله عن الحسن (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وهذا مقام القرب ، والقرب يقتضي الإرادة الذاتية وهذا رمز والله ولي كل خير.

التأويل : (وَقاتِلُوا) من يمنعكم عن السير في سبيل الله أو أراد أن يقطع عليكم طريقه من شياطين الإنس والجن حتى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم (وَلا تَعْتَدُوا) لا تتجاوزوا عن حد الشرع فتجاهدوا بالطبع ، ولكن كونوا ثابتين على قدم الاستقامة بقدر الاستطاعة من غير إفراط وتفريط ، واقتلوا كفار النفس بسيف الرياضة حيث ظفرتم بهم ، ومجاهدتها مخالفة هواها. (وَأَخْرِجُوهُمْ) من صفات النفس كما (أَخْرَجُوكُمْ) من جمعية القلب وحضوره (وَالْفِتْنَةُ) أي المحنة التي ترد على القلب من طوارق صفات النفس الحاجبة عن الله (أَشَدُّ مِنَ) قتل النفس بمخالفة هواها (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لا تلتفتوا إلى النفس وصفاتها إذا كنتم آمنين مطمئنين في مقامات القلب والروح حتى يزاحموكم في الحضور وداعية الهوى ؛ فإن نازعوكم في الجمعية والحضور (فَاقْتُلُوهُمْ) بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي عن نفوسكم بكل ما أمكن لئلا يبقى لكم علاقة تصدكم عن الله (فَإِنِ انْتَهَوْا) بأن قنعت بما لا بد لها فلا تغلوا في مجاهدتها. (الشَّهْرُ الْحَرامُ) أي ما يفوتكم من الأوقات والأوراد بتواني النفس ونزاعها وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم (فَمَنِ اعْتَدى) فكل صفة غلبت واستولت فعالجوها بضدها البخل بالسخاء ، والغضب بالحلم ، والحرص بالزهد ، والشهوة بالعفة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في الإفراط والتفريط (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالتفريط في الحقوق والإفراط في الحظوظ أو بموافقة النفوس ومخالفة النصوص ، أو بالركوب إلى الفتور بالحسبان والغرور والله المستعان على ما يصفون.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ

٥٣٤

يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))

القراآت : (مِنْ رَأْسِهِ) وكذلك «البأس» و «الكأس» كلها بغير همزة أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى وحمزة في الوقف.

الوقوف : (لِلَّهِ) ط لأن عارض الإحصار خارج عن موجب الأصل (مِنَ الْهَدْيِ) ج لعطف المختلفتين (مَحِلَّهُ) ط لابتداء حكم كفارة الضرورة (أَوْ نُسُكٍ) ج لأن «إذا» للشرط مع الفاء وجوابه محذوف أي فإذا أمنتم من خوف العدو وضعف المرض فامضوا. أمنتم وقف لحق الحذف ولابتداء الشرط في حكم آخر وهو التمتع (مِنَ الْهَدْيِ) ج (رَجَعْتُمْ) ط (كامِلَةٌ*) ط (الْحَرامِ) ط (الْعِقابِ) ه.

التفسير : الحج في اللغة القصد كما مر في قوله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة : ١٥٨] وفي الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة. وهي على ثلاثة أقسام : أركان وأبعاض وهيئات. لأن كل عمل يفرض فيه فإما أن يتوقف التحلل عليه وهو الركن ، أو لا يتوقف. فإما أن يجبر بالدم وهو البعض ، أو لا يجبر وهو الهيئة. والأركان عند الشافعي خمسة : الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو تقصيره. وخالف أبو حنيفة في السعي ، ولا مدخل للجبران في الأركان. وأما الأبعاض أعني الواجبات المجبورة بالدم ، فالإحرام من الميقات والرمي وفاقا وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس وفي المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى ، وفي طواف الوداع خلاف. وأما الهيئات فالاغتسال وطواف القدوم والرمي والاضطباع في الطواف وفي السعي واستلام الركن وتقبيله والسعي في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية إلى غير ذلك. وبالجملة ما سوى الأركان والأبعاض ولا دم في تركها. وأما في العمرة فما سوى الوقوف من أركان الحج أركان فيها. ثم إن قوله عز من قائل : (وَأَتِمُّوا) أمر بالإتمام. وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط؟ فالشافعي على أنه مطلق والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام والكمال. وأبو حنيفة على أنه مشروط والمعنى : من شرح فيه فليتمه كما إذا كبر بالصلاة تطوعا لزمه الإتمام. وفائدة الخلاف تظهر في العمرة فإنها تصير واجبة على المعنى الأول دون الثاني. حجة الشافعي أن الإتمام قد يراد به فعل الشيء تاما كاملا كقوله (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤] أي أدّاهن على التمام والكمال. وقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧]

٥٣٥

أي افعلوا الصيام تاما إلى الليل وهذا أولى من تقدير أنكم إذا شرعتم فيه فأتموه ، لأن الأصل عدم إضمار هذا الشرط ، ولأن المفسرين أجمعوا على أن هذه أول آية نزلت في الحج ، فحملها على الإيجاب ليكون تأسيسا أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع ، فإنها تكون حينئذ تبعا ، ولأنه قرىء أقيموا الحج والعمرة والشاذ يصلح للترجيح وإن لم يصلح للقطع كخبر الواحد ، ولأن الوجوب المطلق يستلزم الإتمام ، والإتمام بشرط الشروع لا يستلزم أصل الوجوب. فتأويلنا أكثر فائدة ، فيكون أولى. وأيضا أنه أحوط. واعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الحج ، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب. وقال تعالى (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] وفيه دليل على وجود حج أصغر وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق. لكن الحج واجب على الإطلاق لقوله (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] فيدخل فيه الأكبر والأصغر.

حجة أبي حنيفة قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أركان الإسلام فعلمه الصلاة والزكاة والحج والصوم فقال الأعرابي : لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلح الأعرابي إن صدق. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بني الإسلام على خمس» (١) الحديث. ولم يذكر العمرة. وأجيب بأن العمرة حج أصغر فتدخل في مطلق الحج قالوا : روي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ فقال : لا ، وأن تعتمر خير لك. وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحج جهاد والعمرة تطوع» (٢) وأجيب بأنها أخبار آحاد فلا تعارض القرآن. وأيضا لعل العمرة ، ما كانت واجبة حينما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الأحاديث ، ثم نزل بعدها (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) وذلك في السنة السابعة من الهجرة. وأيضا إنها معارضة بأخبار تدل على وجوبها. روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حج عن أبيك واعتمر أمر بهما والأمر للوجوب. وروي عن ابن عباس أنه قال : إن العمرة لقرينة الحج ، وحمله على أنهما يقترنان في الذكر تكلف. وعن عمر أن رجلا قال له : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال : هديت لسنة نبيك وحمله على أن الوجوب مستفاد من الإهلال بهما لا يخلو من تعسف. قالوا : قرأ علي وابن مسعود والشعبي (وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بالرفع. فكأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج في

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ١ ، ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٠ ، ٢١. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٣. النسائي في كتاب الإيمان باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٦ ، ٩٣).

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٤٤.

٥٣٦

الوجوب. وأجيب بأن الشاذة لا تعارض المتواترة ، وبأنها ضعيفة من حيث العربية لعطف الاسمية على الفعلية ، والخبرية على الطلبية ، وبأن كون العمرة عبادة لله لا ينافي وجوبها. واعلم أن لأداء النسكين وجوها ثلاثة : الإفراد والتمتع والقران فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة. والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه معا ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم قبل الطواف أدخل الحج عليها يصير قارنا. والتمتع هو أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ، ثم يحج في هذه السنة من مكة. سمي تمتعا لاستمتاعه بمحظورات الإحرام بينهما بعد التحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج ، وأنه أيضا يربح ميقاتا لأنه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع استغنى عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة. ولا خلاف بين أئمة الأمة في جواز هذه الوجوه ، وإنما الخلاف في الأفضلية فقال الشافعي : أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران. وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد وبه قال مالك. والإمامية قالوا : لا يجوز لغير حاضري المسجد الحرام العدول عن التمتع إلا لضرورة. وقال أبو حنيفة ، القران أفضل ثم الإفراد ثم التمتع. وهو قول المزني وأبي إسحق المروزي. وقال أبو يوسف ومحمد : القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد. حجة الشافعي في أفضلية الإفراد قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وذلك أن العطف يقتضي المغايرة وأنها تحصل عند الإفراد ، فأما عند القران فالموجود شيء واحد هو حج وعمرة معا. وأيضا الأعمال عند الإفراد أكثر فيكون الثواب أكثر وذلك هو الفضل. وما روي عن أنس أنه قال : كنت واقفا عند جران ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان لعابها يسيل على كتفي فسمعته يقول : لبيك بعمرة وحجة معا. معارض بما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرد بالحج ، وهكذا روى جابر وابن عمر. وقد رجح الشافعي رواية عائشة وجابر وابن عمر على رواية أنس بأنهم أعلم وأقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقدم صحبة ، أن أنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قليل العلم.

حجة القائلين بأفضلية القران : أن في القران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك المسارعة إلى أحدهما ، فيكون أفضل لقوله (وَسارِعُوا) [آل عمران : ١٣٣] وأجيب بأنا لا نقول الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنا نقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها ، فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة ، واختلف في تفسير الإتمام في قوله تعالى (وَأَتِمُّوا). فعن علي رضي‌الله‌عنه وابن عباس

٥٣٧

وابن مسعود : أن إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك. وقال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن الآية نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة. فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية بأن لا يرجع حتى يتم الفرض. ويعلم منه أن تطوع الحج والعمرة كفرضهما في وجوب الإتمام. وقال الأصم : المراد إتمام الآداب المعتبرة فيهما وهي عسرة على ما ذكر في الإحياء الأول : في المال ، فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير ، بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها. الثاني : الإخوان والرفقاء المقيمون يودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيرا. والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك. الثالث : إذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد «الفاتحة» ، (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثانية «الإخلاص» وبعد الفراغ يتضرع إلى الله تعالى بالإخلاص. الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله ، توكلت عل الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكلما كانت الدعوات أكبر كان أولى. الخامس : إذا ركب قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٣] السادس : في النزول. والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيرا. السابع : انق قصده عدوّ أو سبع بالليل أو بالنهار فليقرأ آية الكرسي و (شَهِدَ اللهُ) [آل عمران : ١٨] و «الإخلاص» و «المعوذتين» ثم يقول : تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي الذي لا يموت. الثامن : مهما علا نشزا من الأرض في الطريق يستحب أن يكبر ثلاثا. التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها. العاشر : أن يصون لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الإتيان بهذه المقدمات يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ليكون مؤتمرا لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) اقتداء بإبراهيم عليه‌السلام حين ابتلي. بكلمات فأتمهن. وقيل : المراد من قوله : (وَأَتِمُّوا) أفردوا كل واحد منهما بسفره ويؤيد هذا تأويل من قال الإفراد أفضل. وأقرب هذه الأقوال ما يرجع حاصله إلى معنى ائتوا بالحج والعمرة تامين كاملين بمناسكهما

٥٣٨

وشرائطهما وآدابهما لوجه الله بدليل قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) قال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس ومنه الحصير للملك لأنه كالمحبوس في الحجاب. والحصير معروف سمي به لانضمام بعض أجزائه إلى بعض. فكأن كلا منها محبوس مع غيره ، والحصير المحبس أيضا. والأكثرون على أن لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو. يقال : حصره العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه. وعن أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وغيرهم : أن لفظ الإحصار مختص بالمرض ونحوه من خوف وعجز قال تعالى (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] وقيل : الإحصار مختص بمنع العدو. ومنه ما يروى عن ابن عمر وابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو. وفائدة الخلاف في الآية تظهر في مسألة فقهية وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت. وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟ قال أبو حنيفة : يثبت. وقال الشافعي ومالك وأحمد : لا يثبت ، بل يصبر حتى يبرأ. نعم لو شرط أنه إذا مرض تحلل صح الشرط لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال : أما تريدين الحج؟ فقالت : إني شاكية. فقال : حجي واشترطي أن تحلي حيث حبست. وفي حكم المرض كل غرض صحيح كضلال الطريق ونفاد الزاد ، حجة أبي حنيفة ظاهر كلام أكثر أهل اللغة ، وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل» (١) وحجة الشافعي قول ابن عمر وابن عباس وطائفة من أهل اللغة. وأيضا الهمزة في (أُحْصِرُوا) ليس للتعدية لمساواته حصر في اقتضاء المفعول فتكون للوجود ، أو لصيرورته ذا كذا فيؤوّل المعنى إلى أنكم إن وجدتم أو صرتم محصورين فلا يبقى النزاع ، وأيضا المانع إنما يتحقق عند وجود المقتضي ، والمريض لا قدرة له على الفعل فلا مانع بالنسبة إليه ، فثبت أن لفظ الإحصار حقيقة في العدو دون المرض. وأيضا لفظ المانع على المرض غير معقول لأنه عرض لا يبقى زمانين. وأيضا لو كان المريض داخلا في المحصر لكان في قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) نوع تكرار ولزم عطف الشيء على نفسه. واعتذر عن هذا بأن المريض إنما خص بالذكر لأن له حكما خاصا وهو حلق الرأس ، فصار تقدير الآية إن منعتم لمرض تحللتم بدم ، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفّرتم ، وأيضا فإذا أمنتم يناسب الخوف من العدو إذ يقال في المرض شفي وعوفي لا أمن. ولو قيل : إن خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها قلنا : لا يلزم من عدم القدح وجود المناسبة.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب ٤٣. الترمذي في كتاب الحج باب ٩٤ النسائي في كتاب المناسك باب ١٠٢. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٨٥ ، الدارمي في كتاب المناسك باب ٥٧.

٥٣٩

وقيل : إنه منع المرض خاصة وهو باطل بالدلائل المذكورة وزيادة وهي أن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول الآية أن الكفار أحصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية. والأئمة وإن اختلفوا في أن الآية هل تتناول غير سبب النزول أم لا ، إلا أنهم اتفقوا على أن خروج ذلك السبب غير جائز. ثم في الآية إضماران ، والتقدير : فتحللتم أو أردتم التحلل فعليكم ما استيسر ، أو فاهدوا ما استيسر أي ما تيسر مثل استعظم وتعظم واستكبر وتكبر. أما الإضمار الأول فلأن نفس الإحصار لا يوجب هديا وإنما الموجب هو التحلل أو نية التحلل. وأما الإضمار الثاني فلأن قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ) إما مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، أو منصوب على المفعولية وناصبه محذوف. والهدي جمع هدية كما يقال في جدية السرج وهي شيء محشو تحت دفتي السرج جدي. وقرىء من الهدي جمع هدية كمطية ومطيّ ، وهذه لغة تميم. ومعنى الهدي ما يهدى إلى بيت الله تقربا إليه بمنزلة الهدية. عن علي وابن عباس والحسن وقتادة رضي‌الله‌عنهم : أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدونها شاة. فعليه ما تيسر له من هذه الأجناس ، والمحصر المحرم إذا أراد التحلل وذبح ، وجب أن ينوي التحلل. البتة قبل الذبح ، وأكثر الفقهاء على أن حكم العمرة في الإحصار حكم الحج ، وعن ابن سيرين : أنه لا إحصار فيها لأنها غير موقتة. ورد بأن قوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) مذكور عقيب الحج والعمرة فكان عائدا إليهما ، وبأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحلل بالإحصار عام الحديبية وكان معتمرا.

وما حد الإحصار؟ قالت العلماء : لو منعوا ولم يتمكنوا من المسير إلا ببذل مال فلهم أن يتحللوا ولا يبذلوا المال وإن قل إذ لا يجب احتمال الظلم في أداء الحج بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارا ، والأكثرون على إنه لا يجب القتال على الحجيج وإن كان العدو كفارا وكان في مقابلة كل مسلم أقل من مشركين ولو قاتلوا فلهم لبس الدروع والمغافر ، لكنهم يفدون كما لو لبسوا المخيط لدفع حر أو برد ، لا فرق على الأصح في جواز التحلل بين أن يمنعوا من المضي دون الرجوع أو يمنعوا من جميع الجوانب ، لأنهم يستفيدون بالتحليل الأمن من العدو المواجه. ولو صد عن طريق وهناك طريق آخر ووجدوا شرائط الاستطاعة فيه لزمهم سلوكه ولم يكن لهم التحلل في الحال ، وإذا سلكوه ففاتهم الحج لحزونته أو لطوله تحلّلوا بعمل عمرة ولا يلزمهم القضاء على الأظهر من قولي الشافعي ، لأنهم بذلوا مجهودهم فصاروا كالمصدودين مطلقا ، نعم لو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء لأن الموجود فوات محض. وفي قوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حذف لأن الرجل لا يتحلل ببلوغ الهدي محله ،

٥٤٠