تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة. قيل : وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله (لا تَقْرَبا) تناولهما معا ، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله.

فإن قيل : كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟قلت : إما لأنه دخل فم الحية خافيا عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى ـ وإن كان بعيدا ـ عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما سالمناهم منذ حاربناهم ، ومن ترك منهم شيئا خيفة فليس منا. يعني الحيات. وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة ، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس ، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة. وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه ، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولا بد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل. فإن قيل : كيف كانت الوسوسة؟ قلنا : هي التي حكاها الله تعالى (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) [الأعراف : ٢٠] فلما لم يفد عدل إلى اليمين (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم. ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور.

(اهْبِطُوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة ، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك ، وقيل : خطاب لهما وللحية. وقيل : الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضا لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم ، والدليل عليه ما جاء في طه (اهْبِطا مِنْها) [طه : ١٢٣] وقوله (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) [طه : ١٢٣] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. و (اهْبِطُوا) أمر أو إباحة. والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف. وإنما قيل : إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم. ويمكن أن يقال : نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه ، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك. ومعنى (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [طه : ١٢٣] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر : ٦]

٢٦١

فلا يدخل تحت الأمر ، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا ، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع (مُسْتَقَرٌّ) استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت. (وَمَتاعٌ) تمتع بالعيش (إِلى حِينٍ) هو يوم القيامة ، أو حين انقضاء آجالكم. والحين المدة طويلة أو قصيرة ، ولهذا لو قال : أنت طالق الى حين. فمضت لحظة طلقت. وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم ، ولله در القائل :

يا ناظرا يرنو بعيني راقد

ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي

درك الجنان ودرك فوز العابد

أنسيت أن الله أخرج آدما

منها الى الدنيا بذنب واحد؟

وعن فتح الموصلي : كنا قوما من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا ، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها.

تطلب الراحة في دار العنا

خاب من يطلب شيئا لا يكون

قوله (فَتَلَقَّى) الآية. أصل التلقي التعرض للقاء ، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي ، ثم يوضع موضع القبول ، والأخذ (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [النمل : ٦] أي تلقنه ، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما. تقول : بلغني ذاك وبلغته ، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به ، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب ، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد أن يعرف ماهية التوبة ، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلا عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة ، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة ، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة ، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] الآية. وفي رواية ابن عباس أن آدم قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى. قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : بلى. قال : يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال : بلى. قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى. قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم. وقال النخعي : أتيت ابن عباس فقلت : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا ، فهي الكلمات

٢٦٢

التي تقال في الحج ، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما. وعن ابن مسعود : إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدك ، لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وقالت عائشة : لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه‌السلام طاف بالبيت سبعا ، والبيت يومئذ ربوة حمراء ، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي. فأوحى الله تعالى إلى آدم : يا آدم ، قد غفرت لك ذنبك ، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها. وفي كلام الغزالي : أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة : أولها علم ، وثانيها حال ، وثالثها عمل. فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر ، وكونه حجابا بين العبد ورحمة الرب ، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه ، وتأسف على الفعل الذي كان سببا لذلك الفوات. ويسمى ذلك التأسف ندما ، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر ، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابسا له ، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبدا. وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ، ويجعل العلم السابق كالمقدمة ، والترك اللاحق كالثمرة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الندم توبة» (١) وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التّواب الرحيم. والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد ، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه ، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه ، فإذا عاد الى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه ، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ومعنى المبالغة في الثواب أن واحدا من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته ، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر ، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع الى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر ، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٠. أحمد في مسنده (١ / ٣٧٦).

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٠.

٢٦٣

والجود ، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل ، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض اليه لا محالة. وأيضا يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر ، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء» ولذا قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (١) فنحن أحق بالاستغفار ، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا رينا ، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها. والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعا بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤]. قيل في تأويل الحديث : إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق ، وكان إذا ذكر ذلك وجد غينا في قلبه فاستغفر لأمته. قيل : كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان. وقيل : الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا عن نفسه بالكلية ، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو ، وهذا تأويل أرباب الحقيقة. وقال أهل الظاهر : إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات ، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر. وعن ثابت البناني : بلغنا أن إبليس قال : يا رب ، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه. فقال سبحانه : جعلت صدورهم مساكن لك. فقال : رب زدني. فقال : لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال : رب زدني. قال : تجري منه مجرى الدم. قال : رب زدني. قال : اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد. قال : فشكا آدم إلى ربه فقال : يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك. فقال الله تعالى : لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال : رب زدني. قال : الحسنة بعشر أمثالها. قال : رب زدني. قال : لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الروح في الحلق. وسئل ذو النون عن التوبة فقال : إنها اسم جامع لمعان ستة : أولها الندم على ما مضى ، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل ،

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٤١. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦.

٢٦٤

وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله ، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم ، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام ، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي. وكان أحمد ابن الحرث يقول : يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب ، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب ، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب ، يا صاحب الذنوب أنت غدا بالذنوب مطلوب. وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] الآية.

(قوله) (قُلْنَا اهْبِطُوا) الآية. قيل : فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان : الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) عقيب الهبوط الثاني أولى. وأيضا قوله (مِنْها) يدل على أن الهبوط الثاني أيضا من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط ، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة ، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باق تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قوله (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند ، وحواء بجدة من أرض الحجاز ، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة ، والحية بأصفهان ، فلم يتلاقيا مائة سنة ، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة ، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة ، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى ، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني. وما في (فَإِمَّا) مزيدة ، لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول. تبع واتبع بمعنى ، وإنما جاء في طه (فَمَنِ اتَّبَعَ) [طه : ١٢٣] موافقة لقوله فيها (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) [طه : ١٠٨] وفي الهدى وجهان : أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي ، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال : وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى : إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع. عن الحسن : لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه : يا آدم ، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك : واحدة لي ، وواحدة لولدك ، وواحدة بيني وبينك ، وواحدة بينك وبين الناس. أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فإذا عملت آجرتك ، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة ، وأما التي بينك وبين الناس فأن

٢٦٥

تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به. وقيل : هو رسول وكتاب بدليل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) [البقرة : ٣٩] في مقابلة (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن. وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئا كثيرا من المعاني ، لأن قوله (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان ، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين. وجمع قوله (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ، وجمع قوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه ، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه ، أو انتظار محذور ، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات. والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب ، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات. وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي ، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت ، ولا في القبر ، ولا عند البعث ، ولا عند حضور الموقف ، ولا عند تطاير الكتب ، ولا عند نصب الميزان ، ولا عند الصراط (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : ٣٠] وقال قوم من المتكلمين : إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [الحج : ٢] (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) [المزمل : ١٧] (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] وفي الحديث «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، وأشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده إلى فيه» (١). وحديث الشفاعة وقول كل نبي «نفسي نفسي» إلا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه يقول : أمتي أمتي مشهور. قلت : لا ريب أن وعد الله حق ، فمن وعده الأمن يكون آمنا لا محالة ، إلا أن الإنسان خلق ضعيفا لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة ، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين ، وأيضا إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان برا كان أو

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٥٧) (٥ / ٢٥٤).

٢٦٦

فاجرا. وأيضا ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة ، فلا عمل إلا بالإخلاص ، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى ، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. ولهذا جاء «والمخلصون على خطر عظيم» وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف ، والرغبة بالرهبة ، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] وقيل : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [يونس : ٦٢] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت ، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [يونس : ٦٢] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة ، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» (١) قلنا : المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئا من المكاره مكروها ، وإنما مراده مراد حبيبه (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية ، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان ، وتنكشف الهموم والأحزان ، ويتساوى الفقر والوجدان ، وتثبت حقيقة الإيمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) لجحدهم مولاهم (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) لإثباتهم حكما لهم بحسب مشتهاهم وهواهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) وملازموها دائما سرمدا سواء كانوا من الإنس أو من الجن ، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله.

التأويل : إنكم تسجدون لله بالطبيعة الملكية الروحانية (اسْجُدُوا لِآدَمَ) بخلاف الطبيعة تعبدا ورقا وانقيادا للأمر وامتثالا للحكم ، اسجدوا له تعظيما لشأن خلافته وتكريما لفضيلته المخصوصة به ، فمن سجد له فقد سجد لله تعالى كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) اسجدوا لآدم لأجل آدم فإن عبادتكم وطاعتكم لا توجب ثوابا لكم ولا تزيد في درجاتكم ، ولكن فائدتها تعود إلى الإنسان لقوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ولأن الإنسان يقتدي بهم في الطاعة ويتأدب بآدابهم في امتثال الأوامر والانزجار عن الإباء والاستكبار ، كيلا يلحقه من اللعن والبعد ما لحق إبليس (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) لأنهم خلقوا من نور ، والنور من شأنه الانقياد والإفاضة ، وأنه خلق من نار والنار من شأنها الاستعلاء طبعا (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) لأنه ستر الحق على آدم كما سمي إبليس لأنه أبلس الحق. (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المرضى باب ٣. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦٧. الترمذي في كتاب الزهد باب ٥٧ أحمد في مسنده (١ / ١٧٢ ، ١٧٤).

٢٦٧

أي أبحت لك نعيم الجنة بما فيها وما كان لك فيها حق لأنك ما عملت بعد عملا تستحق به الجنة فأعطني هذه الشجرة الواحدة منها وهي كلها لي وأنا خلقتها ، فإن طمعت فيها أيضا فاعلم أن الإنسان له همة عالية وحرص شديد لا يزال تقول جهنم حرصه «هل من مزيد» ولا تمتلىء حتى يضع الجبار فيها قدمه أي سابقة رحمته وعنايته «سبقت رحمتي غضبي» (١). ثم إنه أبيح له ولزوجه مشتهيات النفس كلها (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وقيل لهما اقتنعا بها ولا توقدا نار الفتنة على أنفسكما ، ولا تصبا من قربة المحبة ماء المحنة على رأسكما ، ولا تقربا شجرة المحبة وقد غرست لأجله في الحقيقة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤]. ولكن سبب النهي هو الدلال الذي يقتضيه غاية الجمال. وأيضا لو لم ينه عنها فلعله ما فرغ لها لكثرة أنواع المرادات النفسانية وكانت المحبة غذاء روحانيا فذكرها كان كالتحريض عليها فإن الإنسن حريص على ما منع وأيضا إنه تعالى وسع أسباب الانبساط أولا ثم ضيق عليه الأمر آخرا.

وأدنيتني حتى إذا ما فتنتني

بقول يحل العصم سهل الأباطح.

تجافيت عني حين لالي حيلة

وغادرت ما غادرت بين الجوانح.

خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه الجنة في جواره وزوجه حواء حتى شاهد جمال الحق في مرآة وجهه ، وأنبت شجرة المحبة بين يديه ثم منعه عنها وكان في ذلك المنع تذكير وتحريض. أيضا كما مر ثم عاتبه بقوله (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا كما أسكر موسى بأقداح الكلام وأذاقه لذة شراب السماع وقربه نجيا حتى اشتاق إلى جماله وطمع في وصاله وقال (رَبِّ أَرِنِي) [الأعراف : ١٤٣] عاتبه بسطوة (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وذلك أن البلاء والولاء توأمان والمحبة والمحنة رضيعا لبان ، والمطلوب كلما كان أرفع كان أعز وأمنع والجمال لا بد له من الدلال ، وبه يتميز العاشق الصادق من المدعي المختال. (فَلَمَّا ذاقَا) شجرة الغرام خرجا من دار السلام فما لأهل الغرام ودار السلام؟ وأين الفارغ السالي من المحب الغالي؟

فبتنا على رغم الحسود وبيننا

حديث كطيب المسك شيب به الخمر.

فلما أضاء الصبح فرق بيننا

وأي نعيم لا يكدره الدهر؟.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥ ، ٢٢. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

٢٦٨

وبالجملة ، فلما جاء القضاء ضاق الفضاء ، فلم يمس بعد أن كان مسجود الملك مرفوع السماك إلى السماك مشمول الرعاية موفور العناية حتى نزع عنه لباس الأمن والفراغ ، وبدل باستئناسه الاستيحاش ، تدفعه الملائكة بعنف أن اخرج من غير مكث ولا بحث ، فأزلتهما يد التقدير بحسن التدبير ، وكان الشيطان المسكين كذئب يوسف لطخ خرطومه بدم نصح ، فلما وقعا من القربة في الغربة ، ومن الألفة في الكلفة لما ذاقا من شجرة المحبة المورثة للمحنة استوحشا من كل شيء ، واتخذا عدوّا بعضكم لبعض عدو ، وهكذا شرط المحبة عداوة ما سوى المحبوب. فكما أن ذاته لا تقبل الشركة في التعبد ، كذلك لا تقبل الشركة في المحبة. فلما استقرت حبة المحبة في أرض قلب آدم جعل الأرض مستقر شخصه ليتمتع بتربية بذر المحبة بماء الطاعة والتكليف إلى حين إدراك ثمرة المعرفة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن داود قال : يا رب لم خلقت الخلق؟ فقال : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف». ثم إنه بعد ما ابتلي بالهبوط بشره بأن وحيه لا ينقطع وهدايته لا ترتفع ، وإن من ربى بذر المحبة بماء الطاعة والطباعة (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في المستقبل (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما مضى من الهبوط إلى الأرض ، لأنهم يرجعون بجذبات العناية والهداية إلى ذرى حظائر القدس وبالله التوفيق.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

القراآت : (إِسْرائِيلَ) بغير همزة حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف (نِعْمَتِيَ) وكذلك ما بعدها ساكنة الياء : أبو زيد عن المفضل (فَارْهَبُونِ فَاتَّقُونِ) بالياء في الحالين : يعقوب ، وكذلك كل ياء محذوفة في الخط عند رأس الآية. وروى مسيح بن حاتم وابن دريد عن سهل وعباس بالياء في الوصل. (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ممالة : قتيبة وأحمد بن فرج

الوقوف : (فَارْهَبُونِ) (ه) ربع الجزء. (كافِرٍ بِهِ) (ص) لاتفاق الجملتين وعلى (قَلِيلاً) أجوز لاختلاف النظم بتقديم المفعول. (فَاتَّقُونِ) (ه) (تَعْلَمُونَ)

٢٦٩

(ه) (الرَّاكِعِينَ) (ه) (الْكِتابَ) (ط) (تَعْقِلُونَ) (ه) (الصَّلاةِ) (ط) (الْخاشِعِينَ) (لا) لأن «الذين» صفتهم. (راجِعُونَ)

التفسير : أنه تعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، ثم ذكر الإنعامات العامة للبشر ومن جملتها خلق آدم إلى تمام قصته ، أردفها الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود ، إلانة لشكيمتهم واستمالة لقلوبهم وتنبيها على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث كونه إخبارا بالغيب مدرجا في مطاوي ذلك ما يرشدهم إلى أصول الأديان ومكارم الأخلاق ، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عير منصرف للغلمية والعجمية المعتبرة لقب له ، ومعناه صفوة الله. وقيل : عبد الله ، لأن «إسر» بالعبرية هو العبد ، «وإيل» الله. وقوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب في أيام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحد النعمة وما يتعلق بها قد سبق في تفسير الفاتحة. والعائد من الصلة محذوف أي أنعمت بها عليكم. قال بعض العارفين : عبيد النعم كثيرة ، وعبيد المنعم قليلون ، فإن الله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم ، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرهم المنعم فقال (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] عن ابن عباس أنه قال : من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم في التيه الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأعطاهم الحجر الذي كان يسقيهم ما شاءوا ، وأعطاهم عمودا من النور أضاء لهم بالليل ، وكانت رؤوسهم لا تتشعت وثيابهم لا تبلى ، وفي تذكير هذه النعم فوائد : منها أن فيها ما يشهد بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور. ومنها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكرهم إياها ليحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. ومنها أن تذكر النعم الكثيرة يوجب الحياء من إظهار المخالفة. ومنها أن كثرة النعم تفيد أن المنعم خصهم بها من بين سائر الناس ، ومن خص أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم كما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه. فتذكير النعم السالفة مطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة والمخاصمة. والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء إذ لولاها لم يبق نسلهم ، ولأن الانتساب إلى آباء خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، ولأنهم إذا علموا أن آباءهم إنما خصوا بهذه النعم لمكان طاعتهم والإعراض عن الكفر والجحود ، رغبوا في هذه الطريقة لأن الابن مجبول على اتباع الأب «من أشبه أباه فما ظلم». والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا. يقال : أوفيت بعهدي أي بما عاهدتك عليه ، وأوفيت بعهدك أي بما عاهدتك عليه. والمعنى : أوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أوف بعهدكم أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة حكاه الضحاك عن ابن

٢٧٠

عباس. وتحقيقه في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١١١] وقيل : المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه سيبعثه ، وإليه الإشارة في قوله (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إلى قوله (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [المائدة : ١٢] وفي الأعراف (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] الآية. وفي آل عمران (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] وفي الصف (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) [الصف : ٦] وعن ابن عباس : إن الله كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا ، فمن تبعه وصدق بالتوراة الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين ، أجرا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل ، وأجرا باتباع ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي الأمي الذي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨]. وعن أبي موسى الأشعري مرفوعا «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران» (١) فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم ، فكيف يجوز من جماعتهم جحده صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلنا : إما لأن هذا العلم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حاصلا عند العلماء بكتبهم ولم يكن لهم عدد كثير فجاز منهم كتمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما لأن ذلك النص كان نصا خفيا لعدم تعيين الزمان والمكان بحيث يعرفه كل أحد ، فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه. جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك لله تعالى. فقال لها : يا هاجر أين تريدين؟ قالت : أهرب من سيدتي سارة. فقال : ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك ، وستحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل ، من أجل أن الله سمع خشوعك ، وهو يكون عينا بين الناس وتكون يده فوق الجميع ، ويد بجميع مبسوطة إليه بالخضوع. فقيل : هذا الكلام خرج مخرج البشارة لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف ، فلما جاء الإسلام استولوا على الخافقين بالإسلام ومازجوا الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة.

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٦.

٢٧١

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك : زيد أرهبته أي زيدا رهبت رهبته بتقديم المفعول للاختصاص. فتقديره : وإياي ارهبوا فارهبون. وهو أوكد في إفادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٤] لمكان الفاء المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها. أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. ومن قبل التكرير ولأجل الإضمار والتفسير. والرهبة هي الخوف ، والخوف إما من العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وإما من الجلال وهو وظيفة أرباب القلوب ، والأول يزول ، والثاني لا يزول. ومن كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس. يروى أنه ينادي مناد يوم القيامة : وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. قوله (وَآمِنُوا) معطوف على (اذْكُرُوا) والمراد (بِما أَنْزَلْتُ) القرآن و (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكدا للإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقا للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن تكذيبا لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقا ، ومن جهة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أوّل من كفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله «كسانا حلة» أي كل واحد منا.

(وهاهنا سؤالان) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشركو العرب؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : انه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعرفتهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم. فلما بعث كان أمرهم على العكس (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩]. والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا ـ وأنتم تعرفونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم موصوفا في التوراة ـ مثل من لم يعرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لا كتاب له. الثالث : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل. الرابع (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) يعني بكتابكم. يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم. الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق الى الكفر كفره

٢٧٢

غليظ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» (١) والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان ، فاشتركا من هذا الوجه ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر. السادس : ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة. السابع : أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير ، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. الثامن : ولا تكونوا أول الكافرين به صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سماعكم بذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

السؤال الثاني : كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه. وأيضا في قوله (وَآمِنُوا) دلالة على أن كفرهم أولا وآخرا محظور. وأيضا قوله (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير. وقوله (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك هاهنا. قال المبرد : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه سيكون بعدكم كفار ، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة. والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا ، وإلا فالثمن هو المشترى به ، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم. خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام. وقيل : الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) مثل (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقيل : الاتقاء إنما يكون عند الجزم الجزم بحصول ما يتقى عنه ، فكأنه أمرهم بالرهبة. على أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم.

قوله (وَلا تَلْبِسُوا) أمر بترك الإغواء والإضلال كما أن قوله (وَآمِنُوا) أمر بترك الكفر والضلال. ولإضلال الغير طريقان : لأنه إن سمع الدلائل فإضلاله بتشويشها عليه ، وإن لم يسمعها فإضلاله بكتمانها ومنعه من الوصول إليها. فقوله (وَلا تَلْبِسُوا) إشارة إلى القسم الأول ، وقوله (وَتَكْتُمُوا) المجزوم بلا المقدرة للنهي عطفا على المنهي قبله إشارة إلى القسم الثاني. والباء التي في (بِالْباطِلِ) إما للوصل كما في قولك «لبست الشيء بالشيء» خلطته به ، فكان المعنى : ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب العلم حديث ١٥. النسائي في كتاب الزكاة باب ٦٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٩).

٢٧٣

الذي كتبتم حتى لا يميز بينهما. وإما للاستعانة كما في «كتبت بالقلم» فالمعنى : ولا تجعلوا الحق ملتبسا بباطلكم وهو الشبهات التي توردونها على السامعين. وذلك أن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين كقوله (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [غافر : ٥] قيل : ويجوز أن يكون (وَتَكْتُمُوا) منصوبا بإضمار «أن» ، والواو بمعنى الجمع أي لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق نحو «لا تأكل السمك وتشرب اللبن». قلت : هذا التقدير يوهم أن يكون المحظور هو الجمع بين الأمرين كالجمع بين أكل السمك وشرب اللبن حتى لو أتى بكل منهما منفردا عن الآخر جاز ، اللهم إلا أن يحال ذلك على القرينة كما في قوله (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الدهر : ٢٤] إذ لا يجوز أن يريد أطع أحدهما لقرينة الإثم والكفر. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها» (١) والنهي عن اللبس والكتمان وإن قيد بالعلم لم يدل على جوازهما حال عدم العلم ، لأن السبب في ذكره أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضارا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارا ، والنهي وإن كان خاصا لكنه عام ، فكل عالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه. ثم لما أمرهم بذكر نعمته وبالإيمان برسوله وكتابه ونهاهم عن اللبس والكتمان ، بين لهم ما لزمهم من أصول الشرائع فقال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي التي عرفتموها بوصف النبي ، بناء على أنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب. وأما القائلون بجواز التأخير فقد جوزوا ورود الأمر بالصلاة وإن لم يعرف حقيقتها ، ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما لو قال السيد لعبده : إني آمرك غدا بشيء فلا بد أن تفعله. ويكون الغرض أن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني. ومعنى الصلاة لغة وشرعا قد تقدم في أول البقرة. وأما الزكاة فهي في اللغة ، الزيادة والنماء ، وفي الشرع القدر المخرج من النصاب لأنها تزيد في بركة المخرج عنه ، ويمكن أن يقال : مأخوذة من التطهير من زكى نفسه تزكية إذا مدحها وطهرها من العيوب. قال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] فإن المخرج يطهر ما بقي من المال. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليك بالصدقة فإن فيها ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فتزيد في

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٧٤

الرزق ، وتكثر المال ، وتعمر الدار. وأما التي في الآخرة فتستر العورة ، وتصير ظلا فوق الرأس ، وتكون سترا من النار». وفي هذا الخطاب مع اليهود دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.

وفي قوله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) وجوه : أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم ، فخص الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين. وثانيها صلوا مع المصلين فلا تكرار لأن الأول أمر بإقامتها ، والثاني أمر بالجماعة. وثالثها الركوع والخضوع لغة سواء ، فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم وأمرا بالتذلل للمؤمنين ، ثم إنه سبحانه لما أمرهم بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم رغبهم في ذلك بناء على مأخذ آخر ، وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول. والهمزة في (أَتَأْمُرُونَ) للتقرير مع التقريع ، والتعجيب من حالهم. والبر اسم جامع لأعمال الخير ، ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما وعمل مبرور مرضي. واختلف في البر هاهنا. قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله ثم يتركونها وينهونهم عن معصية الله ويرتكبونها. وقال ابن جريج. تأمرون الناس بالصلاة والزكاة وتتركونهما. أبو مسلم : كانوا قبل مبعث النبي يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق ويرغبونهم في اتباعه ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه وأعرضوا عن دينه. الزجاج : يأمرون الناس بالصدقة ويشحون بها. وقيل : يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يتبعونه. وقيل : يأمرون غيرهم باتباع التوراة وهم يخالفونها لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ما آمنوا به. وقيل : لعل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباعه في الظاهر وينكرونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الباطن ، فوبخهم الله على ذلك. والنسيان هو السهو الحادث بعد حصول العلم ، والناسي غير مكلف فكيف يتوجه الذم على ما صدر عنه؟ فإذن المراد وتغفلون عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي التوراة وتدرسونها وتعلمون ما فيها من أعمال البر ومن نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الوعيد على ترك البر ومخالفة القول العمل (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟ وهو تعجيب للعقلاء من أفعالهم. وكثيرا ما يحذف الفعل بعد همزة الاستفهام للعلم به والتقدير : أفعلتم ذلك فلا تعقلون. وقس على هذا نظائره في القرآن فإنها كثيرة. وللتعجيب وجوه : منها أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير إلى المصالح وتحذيره عن المفاسد ، وإرشاد النفس إليها وتحذيرها منها أهم بشواهد العقل والنقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بما لا يقبله العقل الصحيح. ومنها

٢٧٥

أن مثل هذا الوعظ يصير سببا للمعصية لأن الناس يقولون لولا أن هذا الواعظ مطلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المناهي ، فيكون داعيا لهم إلى التهاون بالدين والجرأة على المعاصي ، وهذا مناف للغرض من الوعظ فلا يليق بالعقلاء. ومنها أن غرض الواعظ ترويج كلامه وتنفيذ مرامه ، فلا خالف إلى ما نهى عنه صار كلامه بمعزل عن القبول وهذا خلاف المعقول. قال بعضهم : ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استدلالا بهذه الآية ، وبقوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢] وبأن الزاني بامرأة يقبح منه أن ينكر عليها ، وأجيب بأن المكلف مأمور بشيئين : ترك المعصية ، ومنع الغير عنها ، والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر. والذم في الآية مترتب على الشق الثاني وهو نسيان النفس لا على مجموع الأمرين ، قالوا : وحديث القبح ممنوع. قلت : والحق أنه مكابرة ، فعن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار. فقلت : يا أخي يا جبريل من هؤلاء؟ فقال : هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه». فقيل : من هو يا رسول الله؟ قال : عالم لا ينتفع بعلمه» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه» وعن الشعبي : يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون : لم دخلتم النار فإنا دخلنا الجنة بفضل تعليمكم؟ فقالوا : إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله. وقيل : من وعظ بقوله ضاع كلامه ، ومن وعظ بفعله نفذت سهامه. وقيل : عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل. روي أن يزيد بن هارون مات ـ وكان واعظا زاهدا مات ـ فرؤي في المنام فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ، وأوّل ما سألني منكر ونكير فقالا : من ربك؟ فقلت : أما تستحيان من شيخ دعا الناس إلى الله كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك. وقيل للشبلي عند النزع : قل لا إله إلا الله. فقال :

إن بيتا أنت ساكنه

غير محتاج إلى سرج

ولما أمرهم الله تعالى بالإيمان وترك الإضلال وبالتزام الشرائع وموافقة القول للفعل وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه ، عالج الله تعالى هذا المرض بقوله (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فكأنه قيل : واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر أي حبس

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ١٢٠ ، ٢٣١ ، ٢٣٩).

٢٧٦

النفس عن اللذات ، فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها. ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك كمل الأمر ، لأن المشتغل بالصلاة مشتغل بذكر لطفه وقهره ، فإذا تذكر لطفه مال إلى الطاعة ، وإذا تذكر قهره انتهى عن المعصية. وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس النفس عن المفطرات ومنه يقال : شهر الصبر لشهر رمضان. ومن حبس نفسه عن قضاء شهوتي البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا ، فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله. وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات. ويجوز أن يراد بالصلاة الدعاء أي استعينوا على البلاء بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال في دفعه إلى فاطر الأرض والسماء. وهذا الخطاب وإن كان خاصا ببني إسرائيل وإلا لزم تفكك النظم ، لكن المعنى على العموم فعلى كل مكلف أن يستعين على حوائجه إلى الله بالصلاة والصبر على تكاليفها مراعيا في ذلك ما يجب من الإخلاص وحسن الأدب واستحضار العلم بأنها انتصاب بين يدي الجبار العالم بالطويات والأسرار ومنه قوله (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢]. ومن خواص الصلاة اندفاع البلايا وانكشاف الغموم والرزايا. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وإنها أي الصلاة أو الاستعانة أو جميع المأمورات والمنهيات في هذه الآيات لكبيرة لشاقة ثقيلة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يعلمون أنهم ملاقو جزاء ربهم وأنهم إلى حكمه راجعون ، فتصدر عنهم الأعمال مع طيب نفس وانشراح صدر ، وهذا بخلاف حال المنافقين الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. فالملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة لا يواتيه طبعه في الاشتغال بها وإن كان زمانا يسيرا فتثقل عليه ، والموحد حيث اعتقد في فعلها أعظم المنافع وهو الفوز بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم يهون عليه تزجية الأوقات بوظائف العبادات. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي حتى تورّمت قدماه ، ومع ذلك يقول : «يا بلال روّحنا» ، «وجعلت قرة عيني في الصلاة» (١) والخشوع والخضوع أخوان وهما التطامن والتواضع ، ومنه الخشعة للأكمة المتواضعة. وفي الحديث «كانت الأرض خاشعة على الماء ثم حيت» وللظن هاهنا تفسيران : أحدهما أنه بمعنى العلم تجوّزا لأن الظن هو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض ، وتجويز نقيض لقاء الرب أي البعث والنشور كفر فكيف يمدح به؟ وسبب هذا التجوز أنهما يشتركان في رجحان الاعتقاد ، وإن افترقا بتجويز النقيض وعدمه فصح إطلاق

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب النساء باب ١. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٨ ، ١٩٩).

٢٧٧

أحدهما على الآخر ، ولا سيما إذا كان الظن عن أمارة قوية تقرّبه من العلم. وثانيهما أن الظن بمعناه الحقيقي والمراد بملاقاة الرب ، إما لقاء ثوابه وذلك مظنون لا معلوم ، وإما الموت الذي هو سبب اللقاء ووقته غير معلوم إلا أنه متوقع كل لحظة وقوعا راجحا عند المؤمن ، لأنه قطع أمله أو لأنه يحب لقاء ربه (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) [الجمعة : ٦]. ويحتمل أن يقال : معناه على هذا التفسير الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم ، فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله بذنوبه ، فعند ذلك يتسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح.

وبقي هاهنا بحثان : الأول : استدل أهل السنة بالآية على جواز رؤية الله تعالى ، وأنكرها المعتزلة قالوا : اللقاء لا يفيد الرؤية لقوله تعالى (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] والمنافق لا يرى ربه ، ولقوله (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] ويشمل الكافر والمؤمن. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» (١) وأجيب بأن اللقاء في اللغة وصول أحد الجسمين إلى الآخر اتصال التماس ، وهذا اللقاء سبب الإدراك. فحيث يمتنع حمله على أصله وجب حمله على الإدراك ، لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز. فإن منع من ذلك أيضا مانع أضمر بحسب ذلك ، فإن الإضمار خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لمانع. ففي قوله (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] دعت الضرورة إلى إضمار الجزاء ونحوه ، وفي الآية لا ضرورة ، فحمله على الإدراك أولى.

البحث الثاني : المراد من الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه حيث لا مالك لهم سواه (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] كما كانوا كذلك في أول الخلق بخلاف أيام حياتهم في الدنيا ، فإنه قد يملك الحكم عليهم ظاهرا غير الله تعالى. قال المجسمة : الرجوع إلى غير الجسم محال فدل ذلك على كونه تعالى جسما. وقال أهل التناسخ : الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت الآية على كون الأرواح قديمة ولا يخفى جوابهما والله أعلم.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الخصومات باب ٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٢٠ ـ ٢٢٢. أبو داود في كتاب الايمان باب ١. الترمذي في كتاب البيوع باب ٤٢. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب ٨. أحمد في مسنده (١ / ٣٧٧ ، ٤١٦).

٢٧٨

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

القراآت : ولا تقبل بالتاء الفوقانية ، ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب.

الوقوف : (الْعالَمِينَ) (٥) (يُنْصَرُونَ) (٥)

التفسير : إنما أعاد سبحانه هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة وتحذيرا من ترك اتباع صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأنه قال : إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل. والمراد بالعالمين هاهنا الجم الغفير من الناس كقوله «(بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٧١]. ويقال : رأيت عالما من الناس. يراد الكثرة بقرينة العلم بأنه لم ير كل الناس ، ويمكن أن يكون المراد فضلتكم على عالمي زمانكم ، لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك لا يكون من جملة العالمين. ويحتمل أن يكون لفظ (الْعالَمِينَ) عاما للموجودين ولمن سيوجد لكنه مطلق في الفضل ، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة. فالآية تدل على أنهم فضلوا على كل العالمين في أمر ما ، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور ، فلعل غيرهم يكون أفضل منهم في أكثرها. وقيل : الخطاب لمؤمني بني إسرائيل لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير ، وفي جميع ما يخاطب الله تعالى بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم. وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١]. روي عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : قد مضى والله بنو إسرائيل وما يعني بما تسمعون غيركم. واتقاء اليوم هو اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ، لأن نفس اليوم لا يتقى. وقوله (لا تَجْزِي) إلى آخر الآية. الجمل منصوبات المحل صفات متعاقبة لليوم ، والراجع منها إلى الموصوف محذوف تقديره : لا تجزي فيه. ومنهم من يقول : اتسع فيه فأجرى مجرى المفعول به فحذف الجار وهو «في» فبقي لا تجزيه ، ثم حذف الضمير كما حذف في قوله «أم مال أصابوا» قال :

فما أدري أغيرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

أي أصابوه. ولا يخفى أن هذا التكلف لا يتمشى في سائر الجمل ، بل يتعين تقدير الجار والمجرور العائد. ومعنى لا تجزي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق ، ومنه الحديث في الجذعة التي ضحاها ابن نيار قبل الوقت «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك» و (شَيْئاً)

٢٧٩

مفعول به ، ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلا من الجزاء مثل «ولا تظلمون شيئا». ومعنى تنكير النفس أن نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئا من الأشياء وهو الإقناط الكلي القاطع للمطامع. وكذلك قوله (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي فدية لأنها معادلة للمفدى. وفي الحديث «لا يقبل منه صرف ولا عدل» أي توبة ، لأنها تصرف من الحال الذميمة إلى الحال الحميدة ولا فداء. والضمير في (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) يرجع إلى النفس الثانية العاصية غير المجزي عنها وهي التي لا يؤخذ منها عدل. ومعنى لا تقبل منها شفاعة أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم يقبل منها ، ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها ، كما لا تجزي عنها شيئا ولو أعطت عدلا منها لم يؤخذ منها ولا هم ينصرون ، الضمير عائد إلى ما دلت عليه النفس المنكرة من النفوس الكثيرة ، والتذكير بمعنى العباد أو الأناسي مثل ثلاثة أنفس. وفي وصف اليوم بهذه الصفات تهويل عظيم تنبيه على أن الخطب شديد ، لأنه إذا وقع أحد في كريهة وحاولت أعزته دفاع ذلك عنه ، بدأت بما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية ، فتحمل عنه ما يلزمه وتذب عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوّته ونهاية بطشه. فإن رأى من لا طاقة له بممانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة وبذل المال والمنال ، فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة ، فإن لم تغن هذه الأمور تعلل بما أمكنه من نصر الإخوان ومدد الأخدان ، فأخبر الله تعالى أن شيئا من هذه لا يدفع يومئذ عن عذابه. وفي هذا تحذير من المعاصي وترغيب في تلافي ما فات بالتوبة ، لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية ، علم أنه لا ينفعه إلا الطاعة وتلافي البوادر. فالآية وإن كانت في بني إسرائيل إلا أنها تعم كل من يحضر ذلك اليوم. فإن قيل : قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الدية ، وفي موضع آخر من هذه السورة عكست القضية ، فما الحكمة في ذلك؟ قلنا : من الناس من ميله إلى حب المال أشدّ من ميله إلى علو النفس فيتمسك أوّلا بالشفيع ثم يستروح إلى بذل المال ، ومنهم من على العكس فيقدم الفدية على الشفاعة ، فتغيير الترتيب إشارة إلى الصنفين والله أعلم.

واعلم أن الشفاعة هي أن يستوهب أحد لأحد شيئا ويطلب له حاجة من الشفع ضد الوتر ، كأن صاحب الحاجة كان فردا فصار بالشفيع شفعا. ثم إن الأمة أجمعت على أن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رتبة الشفاعة في الآخرة ، وعليه يحمل قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الاسراء : ٧٩] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥]. وأجمعوا على أنه لا شفاعة للكفار. بقي الخلاف فيمن عداهم. فأهل السنة أثبتوا الشفاعة لغير الكفار ،

٢٨٠