تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

والمعتزلة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب بقي خالدا في النار ولا شفاعة له وسائر الناس لهم الشفاعة. قالوا : إن هذه الآية تدل على نفي الشفاعة مطلقا ، والآيات والأحاديث الدالة على وجود الشفاعة كثيرة ، فعرفنا أن الآية ليست على عمومها ، لكن الآيات الواردة في وعيد صاحب الكبيرة كثيرة كقوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [الجن : ٢٣] فخرج غير صاحب الكبيرة وبقيت الآية حجة في الكفار وفي صاحب الكبيرة. وزعم أهل السنة أن اليهود كانوا يدعون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا من ذلك. وأجيب بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وسوف يجيء سائر حجج الفريقين في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى. وقالت الفلاسفة في تحقيق الشفاعة : إن واجب الوجود عام الفيض والنقصان من القابل ، وجائز أن لا يكون الشيء مستعدا لقبول الفيض من واجب الوجود إلا أن يكون مستعدا لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود ، فيكون ذلك الشيء متوسطا بين الواجب. وذلك الشيء مثاله في المحسوس الشمس ، فإنها لا تضيء إلا القابل المقابل ، والسقف لما لم يكن مقابلا لم يكن مستعدا لقبول النور منها ، لكنه لو وضع طست مملوء من الماء الصافي انعكس منه الضوء إلى السقف. فأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق كالماء بين الشمس وبين السقف ، وهذا يدل على أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده أشرف من نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث إنه لا شفاعة إلا له.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

القراآت : (سُوءَ الْعَذابِ) و (سُوءُ الْحِسابِ) بغير همز حيث وقعتا مفتوحتين : الأصبهاني عن ورش. وعدنا حيث كان أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد. (مُوسى) بالإمالة المفرطة كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعن أبي عمرو وجهان : إن جعلته «فعلى» فبالإمالة بين الفتح والكسر ، وإن جعلته على «مفعل» فبالفتح لا غير (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ) وبابه بالإظهار : ابن كثير وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي. (وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ) مدغما : عباس ، وكذلك يدغم إذا كان قبل النون حرف من حروف المد واللين وهي الواو والمضموم ما قبلها مثل (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) والياء المكسور ما قبلها مثل (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما) والألف المفتوح ما قبلها مثل (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) وما أشبه ذلك.

٢٨١

الوقوف : (نِساءَكُمْ) (ط) (عَظِيمٌ) (ه) (تَنْظُرُونَ) (ه) (ظالِمُونَ) (ه) (تَشْكُرُونَ) (ه) (تَهْتَدُونَ) (ه)

التفسير : إنه سبحانه لما قدّم ذكر النعمة على بني إسرائيل إجمالا أخذ في تفصيلها واحدة فواحدة ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة كأنه قال : اذكروا نعمتي ، واذكروا إذ نجيناكم ، وإذ فرقنا ، وإذ كان كذا وكذا. «وإذ» في جميع هذه القصص بمعنى مجرد الوقت مفعول به لـ «اذكروا» وأصل الإنجاء والتنجية التخليص ، ومنه النجوة للمكان العالي لأن من صار إليه نجا أي تخلص من أن يعلوه سيل ، أو لأن الموضع تخلص مما انحط عنه. وأصل آل أهل بدليل أهيل وأهال في تحقيره وتكسيره على الأعرف ، فأبدلت إلى «أءل» على خلاف القياس ، ثم إلى «آل» وجوبا فالألف فيه بدل عن همزة بدل عن هاء. ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر. يقال «آل النبي» «وآل الملك» ولا يقال : آل الحائك. وإنما يقال أهله ، وهكذا لا يقال : آل البلد وآل العلم ، وإنما يقال أهلهما. وعند الكسائي ، أصله أول بدليل تصغيره على أويل ، كأنهم يؤلون إلى أصل قلبت الواو ألفا على القياس. و (فِرْعَوْنَ) علم لمن ملك العمالقة أولاد عمليق ابن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح كقيصر لملك الروم ، وكسرى لملك الفرس ، وخاقان للترك ، وتبع لليمن. واختلف في اسمه. فابن جريج : أن اسمه مصعب بن ريان. وابن إسحق : أنه الوليد بن مصعب. ولم يكن من الفراعنة أغلظ وأقسى قلبا منه. وعن وهب بن منبه : أن أهل الكتابين قالوا : إن اسمه قابوس وكان من القبط. وقيل : إن فرعون يوسف هو فرعون موسى. وضعف إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين دخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. وقال محمد بن إسحق : هو غير فرعون يوسف وإن اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد. والمراد بآل فرعون أتباعه وأعوانه الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل بأمره. ولعتوّ الفراعنة اشتقوا «تفرعن» فلان إذا عتا وتجبر. و (يَسُومُونَكُمْ) من سامه خسفا إذا أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم :

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن نقر الخسف فينا

وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه. والسوء مصدر السيء يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفجور يراد قبحهما. ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه ، كأنه قبحه بالإضافة إلى سائره ، أو المراد عذاب من غير استحقاق ، لأن العذاب بالاستحقاق حسن واختلف في سوء العذاب فابن إسحق : إنه جعلهم خدما وخولا وصنفهم في أعماله ، فمن بان وحارث وزارع ومن لم يكن

٢٨٢

ذا عمل وضع عليه جزية يؤديها. السدي : كان يجعلهم في الأعمال القذرة ككنس الكنيف ونحوه ، ولا ريب أن كون الإنسان تحت تصرف الغير كيف شاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة القذرة من غير أن يأخذه بهم رأفة وإشفاق ، من أشدّ العذاب ، حتى إن من هذه حاله ربما يتمنى الموت. سئل حكيم : أي شيء أصعب من الموت؟ فقال : ما يتمنى فيه الموت. فبين تعالى عظيم نعمته عليهم بأن نجاهم من ذلك ، ثم أتبع نعمة أخرى فقال (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) ومعناه هم يقتلون الذكور من أولادكم دون الإناث. والذي دعاهم إلى ذلك أمور منها : أن ذبح الأبناء يقتضي إفناء الرجال وانقطاع النسل بالآخرة. ومنها أن هلاك الرجال يقتضي فساد معيشة النساء حتى يتمنين الموت من النكد والضر. ومنها أن قتل الولد عقيب الحمل والكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب. ومنها أن الأبناء أحب وأرغب من البنات ولهذا قيل :

سروران مالهما ثالث

حياة البنين وموت البنات

لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دفن البنات من المكرمات» ومنها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات للأعداء ، وذلك نهاية الذل والهوان. قال بعضهم : المراد بالأبناء الرجال ليطابق النساء ، إذ النساء اسم للبالغات وهو جمع المرأة من غير لفظها. قالوا : وإنما كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره. والأكثرون على أن المراد بالأبناء الأطفال لظاهر اللفظ ، ولأنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم ، ولأنهم كانوا محتاجين إليهم في الأعمال الشاقة ، ولأنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى في اليم معنى. وإنما لم يقل البنات في مقابلة الأبناء لأنهن لما لم يقتلن كن بصدد أن يبلغن ، فحسن إطلاق اسم النساء عليهن مثل (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] عن ابن عباس : أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على أعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، فلما رأوا أن كبارهم يموتون ، والصغار يذبحون ، خافوا فناءهم وأن لا يجدوا من يباشر الأعمال الشاقة ، فصاروا يقتلون عاما دون عام. وعن السدي : أن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى استولت على بيوت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا : يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده. وقيل : إن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة ، فلهذا كان يقتل أبناءهم من تلك السنة. قيل : والأقرب هو الأول ، لأن المستفاد من علم النجوم والتعبير لا يكون أمرا مفصلا ، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار

٢٨٣

عن الغيب معجزا ، بل يكون أمرا مجملا ، والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على هذا الأمر العظيم بسببه (قلت) كون فرعون عاقلا ممنوع ، فإن من شك في أجلى البديهيات وهو أنه ممكن الوجود ، فعدّه من العقلاء لا يكون من العقل. ثم قال ذلك القائل : لعل فرعون كان عارفا بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافرا كفر الجحود والعناد ، أو يقال إنه كان شاكا متحيرا في دينه وكان يجوّز صدق إبراهيم عليه‌السلام ، وأقدم على ذلك الفعل احتياطا. (قلت) : إذا أخبر الله تعالى عنه بأنه قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] و (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] فلا ضرورة بنا إلى تجويز كونه عارفا بالله وبصدق الأنبياء وجعل كفره كفر جحود (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢] (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] فإن قلت : لم ذكر (يُذَبِّحُونَ) هاهنا بلا «واو» ، وفي سورة إبراهيم بواو؟ فالوجه فيه أنه إذا جعل (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) مفسرا بقوله (يُذَبِّحُونَ) فلا حاجة إلى الواو ، وإذا جعل (يَسُومُونَكُمْ) مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح ، وجعل الذبح شيئا آخر احتيج إلى الواو. وإنما جاء هاهنا (يُذَبِّحُونَ) وفي الأعراف (يُقَتِّلُونَ) بغير واو لأنهما من كلام الله فلم يرد تعداد المحن عليهم. والذي في إبراهيم من كلام موسى فعدّ المحن عليهم وكان مأمورا بذلك في قوله (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] وقال بعضهم : إن معنى يستحيون يفتشون حياء المرأة أي فرجها ، هل بها حمل أم لا؟ وفيه تعسف. والبلاء المحنة إن أشير بذلك إلى صنيع فرعون ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، والحمل على النعمة أولى لأنها هي التي يحسن إضافتها إلى الرب تعالى ، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم حيث عاينوا إهلاك من حاول إهلاكهم وإذلال من بالغ في إذلالهم. وهاهنا نكتة ، وهي أنهم كانوا في نهاية الذل ، وخصمهم في غاية الاستيلاء والغلبة ، إلا أنهم كانوا محقين وخصومهم مبطلين ، فانقلب المحق غالبا والمبطل مغلوبا ، فكأنه قيل : لا تغتروا بفقر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقلة أنصاره في الحال ، فإنه سينقلب العز إلى جانبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذل إلى جانب أعدائه. وفيه تنبيه على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء ، فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا وينسى أمر الآخرة. قال أهل الإشارة : النفس الأمارة وصفاتها الذميمة وأخلاقها الرديئة تسوم الروح الشريف ذبح أبناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في الأعمال القذرة الحيوانية ولا ينجيه من ذلك إلا الله تعالى.

قوله (وَإِذْ فَرَقْنا) نعمة أخرى في نعمة أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم على عدد الأسباط وكانوا اثني عشر. ومعنى بكم أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق لماء كما يفرق بين الشيئين بما يوسط بينهما ، أو يراد فرقناه بسبب إنجائكم ، أو يكون حالا

٢٨٤

أي ملتبسا بكم. روي أنه تعالى لما أراد غرق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله تعالى أنه لا يؤمن أحد منهم ، أمر موسى بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ، إما ليخرجوا خلفهم لأجل المال ، وإما لتبقى أموالهم في أيديهم. ثم نزل جبريل وقال : أخرج ليلا كما قال تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) [الشعراء : ٥٢] وكانوا ستمائة ألف ، وكل سبط خمسون ألفا. فلما خرجوا وبلغ الخبر فرعون قال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك. قال الراوي : فو الله ما صاح الليلة ديك. فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال : لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط. قال قتادة : فاجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف ، كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهارا وهو قوله (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء : ٦٠] أي بعد طلوع الشمس. فلما سار بهم موسى إلى البحر قال له يوشع : أين أمرك ربك؟ فقال له موسى : إلى أمامك. وأشار إلى البحر ـ فأقحم يوشع فرسه في البحر وكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر ، فسبح الفرس وهو عليه ، ثم رجع وقال له يا موسى : أين أمرك ربك؟ فقال : البحر. فقال : والله ما كذبت وما كذب. ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر ، فانشق البحر اثني عشر طريقا. فقال له : ادخل ، وكان فيه وحل فهب الصبا نحو البحر حتى صار طريقا يبسا ، فاتخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه ، فقالوا لنبيهم : أين أصحابنا لا نراهم؟ فقال موسى : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم. قالوا : لا نرضى حتى نراهم. فقال : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة. فأوحى إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على حيطان المياه فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم. ثم اتبعهم فرعون فلما بلغ شاطىء البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول فهمّ بأن لا يدخل البحر ، فجاء جبريل على مهرة فتقدم وهو كان على فحل ، فتبعه فرس فرعون ودخل البحر ، فصاح ميكائيل بهم ألحقوا آخركم بأوّلكم ، فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله تعالى الماء حتى نزل عليهم فذلك قوله تعالى (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) قيل : ذلك اليوم كان يوم عاشوراء ، فصام موسى عليه‌السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى ، ومعنى قوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه. وقيل : إن قوم موسى سألوا أن يريهم الله تعالى حالهم ، فسأل موسى ربه فلفظهم البحر ألف ألف ومائة ألف نفس فنظروا إليهم طافين. وقيل : المراد وأنتم بالقرب منهم. قال الفراء : وهو مثل قولك «لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك» تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم. قال أهل الإشارة : البحر هو الدنيا ، وماؤه شهواتها ولذاتها ، وموسى القلب ، وقومه صفات القلب ، وفرعون النفس الأمارة ، وقومه صفات النفس ، والعصا عصا الذكر ، فينفلق بحر الدنيا بتفليق لا إله إلا الله ، وينشبك ماء شهواته

٢٨٥

يمينا وشمالا ، ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابسا من ماء الشهوات ، فيخوض موسى القلب وصفاته فيعبرونه وتنجيهم عناية الله إلى ساحل (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ويغرق فرعون النفس وقومه والله تعالى أعلم. ولما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله موسى.

ونسبه : موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليه‌السلام. أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وإنما قيل أربعين ليلة لأن الشهور غررها بالليالي. وقال أهل التحقيق : لأن الليلة وقت العبادة والخلوة فخصت بالذكر لشرفها. ولعدد الأربعين خاصية لن ينكرها أهل الذوق ، ولهذا جاء في الحديث «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» والجنين يتقلب في الأطوار في الأربعينات ، قال أبو العالية : وبلغنا أنه لم يحدث حدثا في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور. ولا بد من تقدير مضاف أي انقضاء أربعين كقولك «اليوم أربعون يوما منذ خرج فلان» أي تمام الأربعين. ومن قرأ (واعَدْنا) من المواعدة فمعناه أن الله تعالى وعده الوحي ووعد هو المجيء للميقات إلى الطور. وذكر الأربعين هاهنا مجمل وتفصيله في الأعراف كقوله : (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] فصل أولا ثم أجمل. ومعنى «ثم» في قوله (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ) استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له ، لأنه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين تنبيها للحاضرين وتعريفا للغائبين وإظهارا لدرجة موسى وسائر بني إسرائيل ، وأتوا عقيب ذلك بأشنع أنواع الجهل والكفر ، كان ذلك في محل التبعيد والتعجيب كما تقول : إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء. والاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء ، ثم لما كثر استعماله على لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه «فعل» «يفعل» وقالوا : يخذ يتخذ ، وقد أجرى اتخذ مجرى الأفعال القلبية في الدخول على المبتدأ والخبر نحو «جعل» و «صير» والتقدير : اتخذتم العجل إلها إلا أنه حذف الثاني للعلم به ولذكره في مواضع أخر منها في طه (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] وقوله من بعده من بعد مضيه إلى الطور. قال أهل السير : لما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي التي استعاروها من القبط ، قال لهم هارون : إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها ، فجمعوا نارا وأحرقوها. وكان السامري في مسيره مع

٢٨٦

موسى عليه‌السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة. ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلا وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] فاتخذه إلها لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) كما قال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات. والواو في (وَأَنْتُمْ) إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلا يعبدونه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة» (١) وقال «ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى» وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية. ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلها ، وما رضوا بأن يكون البشر نبيا وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وهاهنا يظهر التفاوت بين أمة موسى وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [الفتح : ٢٩].

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٧٠. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٨.

٢٨٧

قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أي حين تبتم بأن قتلتم أنفسكم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الأمر العظيم الذي ارتكبتموه من اتخاذ العجل (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة العفو. ومعنى الترجي في كلام الله تعالى قد مر في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل يعني التوراة نحو : رأيت الغيث والليث ، يريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل : الفرقان انفراق البحر ، ولا يلزم التكرار لأنه لم يبين هناك أن ذلك لأجل موسى وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص. وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] يعني يوم بدر. وقيل : آتينا موسى التوراة ومحمدا الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وفيه تعسف.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

القراآت : (بارِئِكُمْ) بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو من طريق أبي الزعراء ، وعبد الرحمن بن عبدوس. وقرأ أبو عمرو بالاختلاس (إِنَّهُ هُوَ) مدغما : أبو عمرو غير عباس ، وكذلك كل ما كان بينهما ياء أو واو ملفوظة مثل (مِنْ دُونِهِ هُوَ) و (إِنَّهُ هُوَ) وأشباه ذلك. (حَتَّى) حيث كان بالإمالة : نصير والعجلي (نَرَى اللهَ) مكسورة الراء : روى ابن رومي عن عباس وأبو شعيب عن اليزيدي ، وكذلك كل راء بعدها ياء استقبلها ألف ولام مثل (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ) (جَهْرَةً) مفتوحة الهاء : قتيبة (السَّلْوى) بالإمالة الشديدة : حمزة وعلي وخلف. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على مثال «فعلى».

الوقوف : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (ط) (عِنْدَ بارِئِكُمْ) (ط) لأن التقدير ففعلتم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) (ط) (الرَّحِيمُ) (ه) (تَنْظُرُونَ) (ه) (تَشْكُرُونَ) (ه) (السَّلْوى) (ط) (ما رَزَقْناكُمْ) (ط) (يَظْلِمُونَ) ه

٢٨٨

التفسير : إنه سبحان نبههم على عظم ذنبهم ثم على ما به يتخلصون منه ، وذلك من أعظم النعم في الدين وأيضا لما أمرهم بالقتل ورفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية ، كان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي أعقابهم إلى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيضا لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل ، ظهر أن بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم نعمة ورحمة لأنه لا يأمرهم بشيء من ذلك متى رجعوا عن كفرهم. وفيه ترغيب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوبة ، فإن أمة موسى لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب أحدنا في مجرد الندم كان أولى. هذا وقد مر أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه إلا أنه لا بد فيه من تعدي ضرر ، فبين هاهنا أن الضرر إنما يعود على أنفسهم فبذلك استحقوا العذاب الأبدي. والفرق بين الفاءات الثلاثة في الآية ، أن الأولى للتسبيب لا غير لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب إما لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم على أن التوبة مفسرة بقتل النفس في شرعهم لا بالندم ، وإما لأن القتل تمام توبة المرتد في شرعهم ، والمعنى فتوبوا فاتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم كما أن القاتل عمدا لا تتم توبته في شرعنا إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلونه. ومعنى (إِلى بارِئِكُمْ) النهي عن الرياء في التوبة كأنه قيل : لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس. وقوله (ذلِكُمْ) أي القتل (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) جملة معترضة تفيد التنبيه على أن ضرر الدنيا أهون من عذاب الآخرة إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. والموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير. والثالثة هي الفاء الفصيحة أي المفصحة عن محذوف تقديره : فامتثلتم فتاب عليكم. وعلى هذا يكون الكلام خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، ويمكن أن يقال : المحذوف شرط منتظم في جملة قول موسى كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم ، وإنما اختص هذا الموضع بذكر البارئ لأن معناه كما مر في الأسماء الذين خلق الخلق على الوجوه الموافقة للمصالح والأغراض ، ففيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العليم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة برآء من التنافر مناسبة للحكم والمقاصد إلى عبادة العجل الذي هو مثل في البلادة والغباوة ، فلا جرم كان جزاؤهم تفكيك ما ركب من خلقهم وتبديل. من أشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها باتخاذ من لا يقدر على شيء منها. والمراد بقتل الأنفس إما ما يقتضيه ظاهر اللفظ وهو أن يقتل كل واحد نفسه ، والقتل اسم للفعل المؤدي إلى زهوق الروح في الحال أو في المآل. وإما قتل بعضهم بعضا وعليه المفسرون لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] (فَسَلِّمُوا عَلى

٢٨٩

أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] وذلك أن المؤمنين كنفس واحدة. ثم اختلفوا فقيل : إنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم. وقيل : لما أمرهم موسى عليه‌السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة ، وأتاهم هارون بالاثني عشر ألفا الذين ما عبدوا العجل وبأيديهم السيوف فقال : إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين للسيوف فاجلسوا بأفنية بيوتكم واتقوا الله واصبروا ، فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل ويقولون آمين. روي أن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه فلم يمكنه المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها ، فجعلوا يقتلونهم إلى المساء. وقام موسى وهارون يدعوان الله ويقولان : هلكت بنو إسرائيل ، البقية البقية يا الهنا. فكشفت الضبابة والسحابة ، وأوحى الله تعالى إليه : قد غفرت لمن قتل ، وتبت على من لم يقتل. قالوا : وكانت القتلى سبعين ألفا. وقيل : كانوا قسمين : منهم من عبد العجل ، ومنهم من لم يعبد. ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة. والقائلون بأن العجل عجل الهوى قالوا : معنى قتل الأنفس هو قمع الهوى لأن الهوى حياة النفس.

قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الواقعة كانت قبل أن كلف الله عبدة العجل بالقتل. قال محمد بن إسحق : لما رجع موسى عليه‌السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وأحرق العجل ونسفه في اليم ، اختار سبعين رجلا من خيارهم. فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى : سل ربك حتى نسمع كلامه. فسأل موسى ذلك فأجابه الله إليه ، فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ، ودنا موسى عليه‌السلام من ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم : ادخلوا وعوا. وكان موسى متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل النظر إليه. وسمع القوم كلام الله مع موسى يقول له : افعل ولا تفعل. ومن جملة الكلام «إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة ، أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري». فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدقك ولن نقر بنبوتك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) عيانا ، وهي مصدر قولك جهر بالقراءة والدعاء ، كأن الذي يرى بالعين يجاهر بالرؤية ، والذي يرى بالقلب يخافت بها. وانتصابها على نحو انتصاب «قعد القرفصاء» لأن هذه نوع من الرؤية كما أن تلك نوع من القعود ، ويحتمل أن يكون نصبها على الحال بمعنى ذوي جهرة. ومن قرأ

٢٩٠

(جَهْرَةً) بفتح الهاء فإما لأنه مصدر كالغلبة ، وإما لأنه جمع جاهر. وإنما أكدوا بهذا لئلا يتوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ما يراه النائم (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي ما صعقهم أي أماتهم. فقيل : نار وقعت من السماء فأحرقتهم ، وقيل : صيحة جاءت من السماء ، وقيل : أرسل الله جنودا سمعوا بحسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة. وصعقة موسى في قوله (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] لم تكن موتا ولكن غشية بدليل (فَلَمَّا أَفاقَ) [الأعراف : ١٤٣] والظاهر أنه أصابهم ما ينظرون إليه لقوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فرفع موسى يديه إلى السماء يدعو ويقول : إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي أحد ، فما الذي يقولون فيّ؟ فلم يزل يدعو حتى رد الله إليهم أرواحهم وذلك قولهم (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة البعث بعد الموت ، أو نعمة الله بعد ما كفرتموها فطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقيل : إن هذه الواقعة كانت بعد القتل. قال السدي : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم ، أمر الله أن يأتيه موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل ، فاختار موسى سبعين رجلا. فلما أتوا الطور قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا ، فقام موسى يبكي ويقول : يا رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بينهم هؤلاء ، فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي أحد منهم فماذا أقول لهم؟ فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلها. فقال موسى : إن هي إلا فتنتك. فأحياهم الله تعالى فقاموا ونظر كل واحد إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى. فقالوا : يا موسى إنك لا تسأل الله شيئا ، إلا أعطاك ، فادعه يجعلنا أنبياء. فدعا بذلك فأجاب الله دعوته. هذا ما قاله المفسرون ، وليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر ، ولا على أن الذين سألوا الرؤية عبدة العجل أم لا ، والصحيح أن موسى لم يكن من جملة الصعقين في هذه الواقعة لأنه خطاب مشافهة ، ولأنه لو تناوله لوجب تخصيصه بقوله في حق موسى (فَلَمَّا أَفاقَ) [الأعراف : ١٤٣] مع أن لفظة «الإفاقة» لا تستعمل في الموت.

ثم في الآية فوائد منها : التحذير لمن كان في زمان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك. ومنها تشبيه جحودهم معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجحود أسلافهم نبوة موسى عليه‌السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات ليتنبهوا أنه إنما لا يظهر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحدوها ، ولو جحدوها لاستحقوا العقاب كما استحقه أسلافهم. ومنها التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت فؤاده كي يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل.

٢٩١

ومنها إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب ، حيث إنهم عرفوا خبره ، وذلك أنه تعالى بيّن أن أسلافهم بعد مشاهدة تلك الآيات كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ، فكيف يتعجب من مخالفتهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن وجدوا في كتبهم أخبار نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها لما أخبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه القصة مع كونه أميا ، تبين أن ذلك من الوحي.

بقي هاهنا بحث وهو أن المعتزلة استدلوا بالآية على امتناع رؤية الله تعالى لأنها لو كانت أمرا جائز الوقوع لم تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم حين التمسوا النقل من قوت إلى قوت في قولهم (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١]. وأجيب بأن امتناع رؤيته في الدنيا لا يستلزم امتناع رؤيته في الآخرة الذي هو محل النزاع ، فعل رؤيته تقتضي زوال التكليف عن العبد والدنيا مقام التكليف ، وأيضا اقتراح دليل زائد على صدق المدعي بعد ثبوته تعنت. وأيضا لا يمتنع أن الله تعالى علم أن فيه مفسدة كما علم في إنزال الكتاب من السماء (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] فلهذا جاز الاستنكار لأن مطالبة الرؤية جهرة مطالعة الذات غفلة ، وفيه من سوء الأدب وترك الحرمة ما لا يستحسنه قضية العزة والحشمة.

قوله تعالى (وَظَلَّلْنا) أي جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه كما سيجيء في المائدة ، سخر الله لهم السحاب فيسير بسيرهم يظلهم من الشمس والظل ضوء ثان ، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه ، وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله كما كان لآدم قبل الزلة ، وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لكل إنسان صاع لا أزيد ، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني ، فيذبح الرجل منها ما يكفيه لا أزيد. مجاهد : المن صمغ حلو. وهب : هو الخبز السميذ. الزجاج : هو ما منّ الله تعالى به عليهم ، وهذا كما يروى مرفوعا «الكمأة من المن وفيها شفاء للعين» وقيل : السلوى العسل. وقيل : طائر أحمر (كُلُوا) على إرادة القول أي وقلنا لهم كلوا (مِنْ طَيِّباتِ) من حلالات (ما رَزَقْناكُمْ) وهذا للإباحة. (وَما ظَلَمُونا) يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم فجعلوا موضع الشكر كفرا ، وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن وبال الظلم عائد عليهم لا إلى غيرهم ولا إلى الله تعالى. وإنما قال هاهنا وفي الأعراف والتوبة والروم بزيادة لفظة «كانوا» لأنها إخبار عن قوم ماتوا وانقرضوا بخلاف قوله في آل عمران (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧] لأنه مثل ، والله أعلم.

٢٩٢

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

القراآت : يغفر لكم بضم الياء التحتانية وفتح الفاء : أبو جعفر ونافع وجبلة. تغفر لكم بضم التاء الفوقانية وفتح الفاء : ابن عامر وأبو زيد عن المفضل. الباقون تغفر بالنون وكسر الفاء يغفر لكم مدغما كل القرآن : أبو عمرو. (خَطاياكُمْ) وبابه بالإمالة : علي (قَوْلاً غَيْرَ) بالإخفاء : يزيد وأبو نشيط عن قالون ، وكذلك يخفيان النون والتنوين عند الخاء والغين سواء وسط الكلمة أو أولها.

الوقوف : (خَطاياكُمْ) (ط) (الْمُحْسِنِينَ) (ه) (يَفْسُقُونَ) (ه).

التفسير : القرية مجتمع الناس من قرأت الماء في الحوض أي جمعت. وبهذا الاعتبار كثيرا ما تطلق القرية على البلدة ، والجمع القرى على غير قياس. وإنما قياسه من المعتل اللام «فعال» نحو : ركوة وركاء ، وظبية وظباء ، والنسبة إليها قروي. وهو على القياس عند يونس حيث قال : ظبوي في النسبة إلى ظبية ، وعلى خلاف القياس عند الخليل وسيبويه حيث يقولان : ظبي على مثال الصحيح. والقرية بيت المقدس ، وقيل : أريحا من قرى الشام. أمروا بدخولها بعد التيه. والباب باب القرية ، وقيل : باب القبة التي كانوا يصلون إليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب تواضعا وشكرا لله تعالى. وقيل : السجود أن ينحنوا ويتطامنوا داخلين ليكون دخولهم بإخبات وخشوع. وقيل : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ودخلوا متزحفين على أوراكهم من الزحف وهو المشي على الأوراك. و (حِطَّةٌ) فعلة من الحط كالجلسة خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة ، أو أمرك وأصله النصب معناه : اللهم حط عنا ذنوبنا حطة ، فرفعت لإفادة الثبوت كقوله :

شكا إليّ جملي طول السرى

يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى

الأصل صبرا أي أصبر صبرا. كان القوم أمروا أن يدخلوا الباب على وجه الخضوع ، وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع

٢٩٣

الجوارح والاستغفار باللسان ، وذلك أن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لا لأن التوبة لا تتم إلا به إذا الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام ، بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذا من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق ، فإنه يلزمه أن يعرّف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول التهمة عنه في الثبات على الباطل ، وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ويحسنوا الظن به. وعن أبي مسلم الأصفهاني : أن معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. وأصل الغفر الستر والتغطية. ومعنى القراآت في (نَغْفِرْ لَكُمْ) واحد ، لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت ، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله. والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث. والخطء الذنب قال تعالى (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [الإسراء : ٣١] تقول منه خطىء يخطأ خطأ وخطأة على فعلة. والاسم الخطيئة على «فعلية» وجمعها خطايا وأصله خطايء بياء ثم همز ، أبدلت الهمزة ألفا فانفتحت الياء لأجلها.

(وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) المفعول الثاني محذوف للعلم به ولمكان الفاصلة أي سنزيدهم إحسانا أو ثوابا أو سعة ، وذلك أن المراد من المحسنين إما من هو محسن بالطاعة في هذا التكليف ، وإما من هو محسن بطاعات أخرى في سائر التكاليف. وعلى الأول فالزيادة الموجودة إما منفعة دنيوية ، فالمعنى أن المحسن بهذه الطاعة نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وإما منفعة دينية أي المحسن بهذا نزيده على غفران الذنوب ثوابا جزيلا. وعلى الثاني فالمعنى أنّا نجعل دخولكم الباب سجدا وقولكم (حِطَّةٌ) مؤثرا في غفران الذنوب ، ثم إن أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى زدناكم ثوابا. ويحتمل أن يكون المراد أنهم صنفان : فمن مخطئ تصير الكلمة سببا لغفرانه ، ومن محسن تصير سببا لزيادة ثوابه قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال أبو البقاء : التقدير فبدلوا بالذي قيل لهم قولا غير الذي قيل لهم. يتعدى إلى مفعولين : واحد بنفسه والآخر بالباء. والذي مع الباء يكون هو المتروك ، والذي بغير باء هو الموجود. ويجوز أن يكون «بدل» بمعنى «قال» ، لأن تبديل القول يكون بقول. والمعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله. وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ معين وهو لفظ حطة فجاءوا بلفظ آخر ، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل بمعنى ما أمروا به لم يأخذوا به ، كما لو قالوا مكان حطة نستغفرك ونتوب إليك ، أو اللهم اعف عنا ونحو ذلك. وقيل :

٢٩٤

قالوا مكان حطة حنطة. وقيل : قالوا بالنبطية والنبط قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين حطا سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم ، وعدولا عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا : حبة في شعرة» (١) وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ووضع المظهر موضع المضمر ، زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم ، وهو أن وضعوا غير ما أمروا به مكان ما أمروا به. والرجز العذاب. عن ابن عباس : مات بالفجأة منهم أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة. وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفا. وقيل : سبعون ألفا. ومعنى (مِنَ السَّماءِ) يحتمل أن يكون شيئا نازلا من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعا لشأن العذاب. والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل. ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمرا إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة «كانوا» تنبىء عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار. فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا. وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها. وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم. فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك. ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولا بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا.

(أسئلة) لم قال في «البقرة» (وَإِذْ قُلْنَا) وفي «الأعراف» (وَإِذْ قِيلَ) لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) وفي «الأعراف»

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب التفسير حديث ١.

٢٩٥

لم يبق الإبهام. ولم قال هاهنا (ادْخُلُوا) وهناك (اسْكُنُوا)؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، «والبقرة» مقدمة في الذكر على «الأعراف». ولم قال في «البقرة» (فَكُلُوا) وفي «الأعراف» (وَكُلُوا) بالواو؟ لما بينا في قوله (وَكُلا مِنْها رَغَداً). ولم قال في «البقرة» (خَطاياكُمْ) وفي «الأعراف» (خَطِيئاتِكُمْ)؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول هاهنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجبا. ولمثل هذا الجواب ذكر هاهنا (رَغَداً) ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في «الأعراف» ، ولم قال هاهنا (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وفي «الأعراف» بالعكس؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب. واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب. واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) فقدم كيفية الدخول. ولم قال في «البقرة» (وَسَنَزِيدُ) وفي «الأعراف» (سَنَزِيدُ)؟ لأنه في «الأعراف» ذكر أمرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة. ثم ذكر جزاءين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيد توزيع الجزاءين على الشرطين. وفي «البقرة» وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضا الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله (وَإِذْ قُلْنَا) وبين قوله (وَسَنَزِيدُ) بخلاف «الأعراف» لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافا للكلام. وما الفائدة في زيادة كلمة (مِنْهُمْ) في الأعراف؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقا لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في اخر القصة مثل ذلك. لم قال في «البقرة» (فَأَنْزَلْنا) وفي «الأعراف» (فَأَرْسَلْنا) لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة. وقيل : لأن لفظ الإرسال في «الأعراف» أكثر فروعي التناسب. لم قال في «البقرة» (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) وفي «الأعراف» (يَظْلِمُونَ) لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقا اكتفى بذلك البيان في «الأعراف». وأيضا إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم.

٢٩٦

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

القراآت : عامة القراء (اثْنَتا عَشْرَةَ) بسكون الشين للتخفيف (عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) بضم الهاء والميم : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، وكذلك كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة ، وافق سهل إذا كانت قبل الياء فتحة فقط. وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم. (النَّبِيِّينَ) وبابه بالهمزة : نافع إلا في موضعين في الأحزاب (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) [الأحزاب : ٥] و (بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٣] إلا فروي إسماعيل وقالون عنه بغير همزة.

الوقوف : (الْحَجَرَ) (ط) الحق المحذوف أي فضرب فانفجرت (عَيْناً) (ط) (مَشْرَبَهُمْ) (ط) (مُفْسِدِينَ) (ه) (وَبَصَلِها) (ط) (هُوَ خَيْرٌ) (ط) (سَأَلْتُمْ) (ط) لأن قوله (وَضُرِبَتْ) ابتداء إخبارعما يؤل إليه حالهم (مِنَ اللهِ) (ط) (بِغَيْرِ الْحَقِ) (ط) (يَعْتَدُونَ) (ه).

التفسير : جمهور المفسرين سوى أبي مسلم ، على أن هذا الاستسقاء كان في التيه ، عطشوا فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر ، أما العصا فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار. وقيل : كانت من الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة. وأما الحجر فاللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا. وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ورماه بنو إسرائيل بالأدرة ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول الله تعالى : ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته. وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له

٢٩٧

الحجر. وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة. ثم إنهم قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحمل حجرا في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه ، وأما الصنف والشكل فقيل : كان من رخام وكان ذراعا في ذراع. وقيل : مثل رأس الإنسان. وقيل : له أربعة أوجه كما مر ، وهذا إذا لم يعتبر الفوقاني ومقابله. وأما الضرب فقيل : كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله تعالى إليه : لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون. والفاء في قوله (فَانْفَجَرَتْ) فاء فصيحة كما سبق في (فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٥٤] وفي هذا الحذف دلالة على أن موسى لم يتوقف عن اتباع الأمر ، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به. والانفجار والانبجاس واحد ومعناه خروج الماء بسعة وكثرة. وأصل الفجر الشق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بمخالفتهم. وقيل : الانبجاس خروج الماء قليلا ، ووجه بأن الفجر في الأصل هو الشق ، والبجس الشق الضيق فلا يتناقضان كما لا يتناقض المطلق والمقيد والعام والخاص ، أو لعله انبجس أوّلا ثم انفجر ثانيا وكذا العيون تظهر الماء قليلا ثم يكثر لدوام خروجه ، أو لعل حاجتهم تشتد تارة فينفجر وتضعف أخرى فينبجس.

(قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) أي كل سبط (مَشْرَبَهُمْ) كأنه أمر كل سبط أن لا يشرب إلا من جدول معين حسما لمادة التشاجر ، فإن العادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين. وهذا أيضا من تمام النعمة عليهم ، وإنما فقد العاطف لأن قوله (قَدْ عَلِمَ) بيان وتفصيل لما أجمل في قوله (اثْنَتا عَشْرَةَ) كأنه قيل : هذا المجموع مشاع بينهم أو مقسوم فقيل قد علم (كُلُوا) على إرادة القول أي وقلنا أي قال لهم موسى كلوا من المن والسلوى الذي رزقناكم بلا تعب ولا نصب ، واشربوا من هذا الماء. وقيل : إن الأغذية لا تنبت إلا بالماء ، فلما أعطاهم الماء فكأنما أعطاهم المأكول والمشروب. والعثو أشد الفساد ، و (مُفْسِدِينَ) قيل : نصب على الحال المؤكدة وهو ضعيف ، فإن من شرطها أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية. وقيل : حال منتقلة ومعناه النهي عن التمادي في حالة الإفساد ، إما مطلقا أو مقيدا بأنه إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع. ويرد على هذا القول أن الإفساد منهي عنه مطلقا ، وهذا التفسير يقتضي أن يكون المنهي عنه هو التمادي في الإفساد لا نفس الإفساد. والصحيح أن يقال : إن المنصوبات في نحو قوله عز من قائل (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] وفي نحو قولهم

٢٩٨

«تعال جائيا وقم قائما» من الصفات القائمة مقام المصدر نحو «أقاعدا وقد سار الركب» بقي في الآية بحث ، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير؟ والجواب أما على القول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة ، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم. وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض ، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له ، ومثل هذا ما رواه أنس أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم. قال قتادة قلت لأنس : كم كنتم؟ قال : ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. بل معجزة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة ، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ، قال أهل الإشارة : الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه ، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله. ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عينا من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله ، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة ، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه.

قوله سبحانه (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى) الآية. زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية ، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصا إذا كان نعمة وعفوا وصفوا ، ولا سيما إذا كان المسئول أدون وأحقر. ولهذا أنكره موسى عليهم (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ). وقال الآخرون : إنه غير معصية لأن قوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا) عند إنزال المن والسلوى ، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب. ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفا. ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد. وأيضا المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم ، فيصح أن يكون التبديل مطلوبا للعقلاء ، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا ، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك ، اللهم إلا أن يكون من قبيل (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى ، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها. قيل : لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا.

٢٩٩

ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والترفه ، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه. ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر. والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة. والقثاء الخيار ، والفوم الثوم ، ويدل عليه قراءة عبد الله وثومها وهو بالعدس والبصل أوفق. وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية ، ويقال : هو الحنطة. ومنه قولهم «فوّموا لنا» أي اختبزوا. قال الفراء : هي لغة قديمة (الَّذِي هُوَ أَدْنى) أي أقرب منزلة وأدون مقدارا كقولهم في ضده «هو بعيد المحل وبعيد الهمة» يعنون الرفعة والعلو (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انحدروا إليه من التيه. يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج. وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخا في ثمانية. ومصر إما مصر فرعون ، والتنوين فيه في القراآت المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط ، وفيهما العلمية والعجمية. وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم : ادخلوا بلدا أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء. ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالا ثم تفصيلا ، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيرا للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به. فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية. وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحيا نازلا من السماء على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا حالهم في الدنيا ، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) من قولك «باء فلان بفلان» إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه (ذلِكَ) الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب ، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن ، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها ، وقتلهم الأنبياء ، وقد قتلت اليهود ـ لعنوا ـ شعيبا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل. فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقا لشبهة عنت له ، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا. ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة ، أو كرر للتأكيد نحو (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون : ١١٧] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان. والنبيء بالهمزة «فعيل» بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى. قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم

٣٠٠