تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

الصفات ، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيدا وتعظيما.

الثالثة الأيمان إفعال من الأمن. يقال : أمنته وآمنته غيري. ثم يقال : أمنه إذا صدقه. وحقيقته أمنه التكذيب. والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به. قال في التفسير الكبير : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال : الأول : قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم الأفعال القلوب واللسان والجوارح ، لكن المعتزلة قالوا : الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما إذا ذكر مطلقا فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق. ثم اختلفوا فبعضهم ـ كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار ـ قالوا : الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الافعال أو الاعتقادات. وبعضهم ـ كأبي علي وأبي هاشم ـ إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وبعضهم ـ كأبي علي وأبي هاشم ـ إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه لوعيد. والخوارج قالوا : الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الافعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا. فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر ، وأهل الحديث ذكروا وجهين : الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة. وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار. الثاني : أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه ، وإن ترك نافلة لم ينتقض. ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. (القول الثاني) : قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معا. ثم اختلفوا على مذاهب : الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم اختلفوا في موضعين : أحدهما في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من قال : هي الاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو علما صادرا عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال

١٤١

بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف ، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو بذاته أو مرئيا وغير مرئي لا يكون داخلا في مسمى الإيمان. والمذهب الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي ، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس. المذهب الثالث : كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب. (القول الثالث) : قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، فمن هؤلاء من قال : الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان ، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان. وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنهم من قال : الإيمان مجرد التصديق بالقلب. (القول الرابع). قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، ثم منهم من قال : شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب. ومنهم من قال : لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضا بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية ، ثم قال الإمام رحمه‌الله تعالى : عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الاعتقاد فههنا قيود : الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين ، فلو صار منقولا إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك. وأيضا الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقا ، فغير المعدى أيضا يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] وأيضا قرن الإيمان بالعمل الصالح ، ولو كان العمل داخلا في الإيمان لزم التكرار. وأيضا قرن الإيمان بالمعاصي (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٣] (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة. قال ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد ، ومع ذلك يدخل في الخطاب. ثم قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] وهذه الأخوة ليست إلا

١٤٢

أخوة الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ثم قال : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٧٨] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن. القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ١٠٨]. القيد الثالث : ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمنا. القيد الرابع : لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعتقها فإنها مؤمنة» بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله؟ قالت : في السماء. ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل ، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمنا ، وكان الامتناع عن النطق جاريا مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ، وبهذا حكم الغزالي رضي‌الله‌عنه قلت ـ وبالله التوفيق ـ : التحقيق في المقام أن للإيمان وجودا في الأعيان ووجودا في الأذهان ووجودا في العبارة. ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل ، وباقي الوجودات فرع وتابع. فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] كلما ارتفع حجاب ازداد نورا فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم‌السلام ولا سيما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالا أو تفصيلا على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور ، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [التحريم : ٨] (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه ، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا «لا إله إلا الله محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به ، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه ، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره ، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات ، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلا عليهما ، وتفويض أمر الباطن

١٤٣

إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (١). الرابعة : يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به ، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الرعد : ٩ ؛ المؤمنون : ٩٢ ؛ التغابن : ١٨] والعرب تسمي المطمئن من الأرض غيبا ، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه ، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب ، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك. ويجوز أن يكون بالغيب حالا ، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [الأنبياء : ٤٩] (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف : ٥٢] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن. وورد في الخبر (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥] «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما» (٢) الخامسة : معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة أشياء : إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه ، وإما الدوام عليها والمحافظة (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المعارج : ٢٣ ، ٢٤] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها. قال الأسدي : أقامت غزالة سوق الضراب. لأهل العراقين حولا قميطا. غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي ، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة. والضراب القتال ، والعراقان الكوفة والبصرة ، وقميطا أي كاملا لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم : قام في الأمر

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢ ـ ٣٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ١٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٣.

(٢) رواه أبو داود في كتاب المهدي باب ١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٣٤. أحمد في مسنده (١ / ٩٩) (٣ / ٢٨).

١٤٤

خلاف تقاعد عنه ، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام ـ وبالركوع والسجود والتسبيح (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣] (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء. السادسة : الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختمها التسليم فرضا كانت أو نفلا ، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأعرابي أفلح والله إن صدق بعد قول الأعرابي «والله لا أزيد على هذه ولا أنقص» أي على الصلوات المفروضة. واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى :

وقابلها الريح في دنها

وصلى على دنها وارتسم

أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم «صليت العصا بالنار» إذا لينتها وقومتها قال :

فلا تعجل بأمرك واستدمه

فما صلي عصاك كمستديم

والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار. وإما من قولهم «صلى الفرس» إذا جاء مصليا أي ملازما للسابق ، لأن رأسه عند صلاه ، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله ، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه. والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال : صليت صلاة ولا يقال تصلية. قال في الكشاف : الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى. وكتبها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، ولا يخفى ما فيه من التعسف. السابعة : الرزق لغة هو ما ينتفع به ، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره ، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيدا آخر وهو أن لا يكون ممنوعا عن الانتفاع به ، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقا. قال في الكشاف : إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقا منه. وأدخل «من» التبعيضية صيانة لهم وكفا عن الإسراف والتبذير المنهي عنه ، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به ، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق ، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة إلى الأدب أقرب ، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه. الثامنة : أنفق الشيء وأنفده أخوان ، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب ، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها ، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته ، ومن الإنفاق في الجهاد. ويمكن أن يتناول

١٤٥

كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [المنافقون : ١٠] والمراد به الصدقة لقوله (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠].

البحث السادس : في قوله تعالى و «الذين يؤمنون» الآية. وفيه مسائل :

الأولى : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله ، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقودا بعضه ببعض ومربوطا آتيه بماضيه ، وأيقنوا بالآخرة إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك. فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمنا بموسى وعيسى عليهما‌السلام أو لم يكن. ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيبا لأمثالهم في الدين ، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون ، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

يا لهف زيابة للحارث ال

صابح فالغانم فالآئب

الثانية : قال في التفسير الكبير : المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاما لله تعالى فنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل. وقول الأمير لا يفارق داته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه. قال : فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفا ولا صوتا عندكم؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله له سمعا لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه ، ويجوز أن يخلق أصواتا مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علما ضروريا بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام. وأقول : إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسألة.

الثالثة : الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب ، لأن الفلاح منوط

١٤٦

بذلك. فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علما وعملا ، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [التوبة : ١٢٢] الآية. وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة ، لكنها إن عرفنا شيئا من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل.

الرابعة : الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب ، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالا بعد أن كان صاحبه شاكا فيه ، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود. وفي تقديم الآخرة وبناء «يوقنون» على «هم» تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء ، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط ، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجبا ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجبا ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجبا ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجبا من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة».

البحث السابع : في قوله تعالى «أولئك على هدى من ربهم» الآية وفيه مسائل :

الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها نوى الابتداء «بالذين يؤمنون بالغيب» على سبيل الاستئناف و «أولئك على هدى» الجملة خبره ، كأنه لما قيل «هدى للمتقين» فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو : قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ، وتارة بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. وثانيها : أن يجعل «الذين» و «الذين» تابعا للمتقين ، ويقع الاستئناف على «أولئك» كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل : أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا. وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء ، و «أولئك»

١٤٧

خبره ، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة ، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع ، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت. وأيضا إنه يجعل الموصولين تابعا والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركنا من الكلام.

الثانية : الاستعلاء في قوله «على هدى» مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم «هو على الحق وفلان على الباطل» وقد يصرح بذلك فيقال : جعل الغواية مركبا ، وامتطى الحق ، واقتعد غارب الهوى. ومعنى «هدى من ربهم» أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل ، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه. ونكر «هدى» ليفيد ضربا من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه. قال الهذلي :

فلا وأبي الطير المربة بالضحى

على خالد لقد وقعت على لحم

أي لحم وأي لحم. وأربّ بالمكان إذا أقام به ، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضا لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم ، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟

الثالثة : في تكرير «أولئك» تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد.

الرابعة : «هم» فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. ويحتمل أن يكون «هم» مبتدأ و «المفلحون» خبره ، والجملة خبر «أولئك».

الخامسة : المفلح الفائز بالبغية ، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر. وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو : فلق ، وفلذ ، ومنه

١٤٨

سمي الزارع فلاحا. ومعنى التعريف في «المفلحون» إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيدا هو هو. فانظر كيف كرر الله عزوجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة ، فإن في ذكره إيذانا بأن ما يرد عقيبه. فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل ، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين. قد ورد في الخبر «يحشر الناس يوم القيامة» ثم يقول الله عزوجل لهم : «طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم ، إني رفعت نسبا وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم : لا بل فلان ابن فلان ، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون» فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين ، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس ، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

القراآت : «أأنذرتهم» بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. وروى الحلواني عن هشام «آءنذرتهم» بهمزتين بينهما مدة ، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية. والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة. «وعلى أبصارهم» ممالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة ، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو. كذلك قوله عزوجل (بِقِنْطارٍ) و (بِالْأَسْحارِ) و (كَالْفَخَّارِ) و (الْغارِ) و (مِنْ أَنْصارٍ) و (أَشْعارِها) وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام ، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية. «غشاوة» بالفصل. وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه. وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة

١٤٩

النون والتنوين في الواو في جميع القرآن. «عظيم» بالإشمام في الوقف ، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة : حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا.

الوقوف : «لا يؤمنون» (ه) «على سمعهم» (ط) لأن الواو للاستئناف. «غشاوة» (ز) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظما فالأولى بيان وصف موجود ، والثانية إثبات عذاب موعود. «عظيم» (ه)

التفسير : وفيه مسائل :

الأولى : فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو. وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه ، وقولهم : «إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : «إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر لقيامه. وقد يضاف إليه القسم أيضا نحو «والله إن عبد الله لقائم. قال أبو نواس :

عليك باليأس من الناس

إن غنى نفسك في اليأس

حسن موقع «إن» لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك «إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء» وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] وكذلك قول نوح (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) [الشعراء : ١١٧].

الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه. وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ، ١٤] لتباين الجملتين هاهنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعا له في المعنى ، فحكمه حكم الأول. وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و «أولئك» خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات «هدى للمتقين» لارتباط بينهما من حيث المعنى.

الثالثة : التعريف في «الذين» إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولا كل من صمم على كفره

١٥٠

تصميما لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم.

الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم. وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه. قال في التفسير الكبير : «كفروا» إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدما على ذلك الإخبار. فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير. قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) [آل عمران : ١٥١] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب. ومن هذا يعلم أن قوله (سَنُلْقِي) ليس كونه مستقبلا بالنظر إلى الأزل مقصودا بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم.

الخامسة : «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : ٦٤] (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ١٠] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر «إن» و «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه. ويحتمل أن يكون «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء ، و «سواء» خبر مقدم ، والجملة خبر «إن». وإنما صح وقوع الفعل مخبرا عنه مع أنه أبدا خبر نظرا إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن «أن» مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة. و «أم» لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه : هذا مثل قولهم «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء في الداخل عليهما «الهمزة» و «أم» استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين. والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان :

١٥١

أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب. وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجوا منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير. أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغا يصح أن يستفهم عنه لكونه خاليا عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل «الإنذار وعدمه مستويان عليهم» يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله «لا يؤمنون» إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض.

السادسة : الختم والكتم أخوان ، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة. والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧]. وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠]. كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤]. وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٧ ، ٨] وبالروح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت ، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا. ولعل هذا في الشاهد فقط ، وأما البصر فقال ابن سينا : هي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام

١٥٢

ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية. وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار. وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعا. والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب ، ولكل من العين والقلب نور. أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق ، فهو نور جزئي ومدركه جزئي ، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر ، وهو نور كلي ومدركه كلي. وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور ، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه. ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه ، أو يدركه أصغر مما هو عليه. ولا يلزم من قولنا «إن للبصر نورا يقع في المرئي» أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياسا على أنوار الكواكب والسرج ، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات ، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم. وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كاف بحسب المقام. ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] ولهذا يوقف على «سمعهم» دون «قلوبهم». وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع ، وإنما وحد السمع لوجوه منها : أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا. فإن زمانكم زمن خميص. إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطنا ، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه. ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل ، ولهذا جمع الأذن في قوله (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥]. ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم ، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [النحل : ٤٨] (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧].

السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة. فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى ، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم ، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر. ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر ، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق ، بخلاف فاقد البصر. ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور ، ومتعلق الأسماع الريح. والبصر يرى من بعيد دون السمع ، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع. وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في

١٥٣

الرؤية وفي المثل «ليس وراء العيان بيان». وفي العين جمال الوجه دون السمع. والحق أن من فقد حسا فقد فقد علما وهو المتوقف على ذلك الحس. ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد ، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع. فكل من الحواس في موضعه ضروري ، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل ، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه.

الثامنة : الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون ، والإنذار وعدمه عليهم سيان. والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية ، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل. وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون : كيف ينشىء فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته. فتأولوا الآية على أنها جارية مجرى قولهم «فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه» يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئا ولا تفقه كقولهم «سال به الوادي» إذا هلك ، و «طارت به العنقاء» إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر. إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم «بنى الأمير المدينة» أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال : لا ، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة. وسئل عن أهل الجبر فقال : لا ، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد. وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد

١٥٤

على الفعل فأيّ فائدة فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول : لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح ، وهذا يقتضي الجبر. ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية ، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال. قلت ـ وبالله تعالى التوفيق ـ : عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لو حظت المبادئ ورتبت المقدمات ، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادرا على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل. فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشر ، والنفع والضر ، وسائر المتقابلات ، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته. والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل : ٩] (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] كثيرة. وكذا الأحاديث «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (١) «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (٢) «احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى» (٣) الحديث. فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل ، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف. أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول : لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح ، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك. بل الوجه أن يقال : إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك. ولا سيما ملك الملوك ، كذلك ، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، ومن منع ذلك كابر وعاند. ولا بد لكل من الوصفين من مظهر ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر ، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها ، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها. وهاهنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر ،

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣ ـ ٥ ، ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ٦ ـ ٨. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠.

(٢) رواه مسلم في كتاب القدر حديث ١٨. الموطأ في كتاب القدر حديث ٤. أحمد في مسنده (٢ / ١١٠).

(٣) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٣١. مسلم في كتاب القدر حديث ١٣. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦ ، ١٧. الترمذي في كتاب القدر باب ٢. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠.

١٥٥

فلو لا القهر لم يتحقق اللطف ، ولو لا النار لم تثبت الجنة ، كما أنه لو لا الألم لم تتبين اللذة ، ولو لا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري. ولله در القائل : «وبضدها تتبين الأشياء». فخلق الله تعالى للجنة خلقا يعملون بعمل أهل الجنة ، وللنار خلقا يعملون بعمل أهل النار. ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله. وهاهنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] الآية : وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد» (١) الحديث. وإذا تؤمل فيما قلت ، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى ، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح ، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين. وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيرا قريبا وبعضهم كناسا بعيدا لأن كلا منهما من ضرورات المملكة ، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به ، مع أن كلا منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته ، تعالى ، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح. وأما قوله «أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب» ففي غاية السخافة ، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فكيف يبقى للمعترض أن يقول : لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سببا وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلا لم جعل الشمس سببا لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقول : فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سببا وواسطة لاهتدائهم (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح. وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٥] غاية ذلك إلزام الحجة

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٢٨. مسلم في كتاب القدر حديث ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠.

١٥٦

وإقامة البينة عليهم ظاهرا (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [القصص : ٤٧] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء. وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضا لغاية نقصانهم كما أن الأكمه ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه ، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار. وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلا فأقول : لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي ، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى ، فكأنه لا اختيار له. والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية ، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل ، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذرا من التطويل. ومن لم يستضىء بمصباح لا يستفيد بإصباح (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤].

التاسعة : العذاب مثل النكال ؛ بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول : نكل عنه. ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده. ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعا. تقول : رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره. ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه.

العاشرة : اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار. وقال بعضهم : لا يحسن ، وفسروا قوله «ولهم عذاب عظيم» وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك ، لكن كرمه يوجب عليه العفو. وذكروا أيضا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم : التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به ، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب ، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة. وكقولهم : علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان ، فتكليفه أمرا متى لم يفعل ترتب عليه العذاب ، وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع كان قبيحا ، فلم يبق إلا أن يقال : لم يوجد هذا التكليف ، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب.

١٥٧

وكقولهم : إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية ، فيقبح أن يعاقب عليها. وكقولهم : إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه. أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا مصير إلى إنكاره ، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح. وأقول : قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى ، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسنا. ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه ، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها. وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجانا وبعضها للحشوش جدرانا ، أو وقوع بعض من الحديد سيفا يتقلده الناس وبعضه نعلا يطؤها الأفراس ، حيث يرى كلا منهما في مصالح الوجود ضروريا؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان ، والملزوم لا ينفك من اللازم. وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة ، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا ، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها. فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة. ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض : اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال : إني أشرب الآن ، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد : افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلا ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات ، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٥]. صدق الله العظيم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا

١٥٨

خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

القراآت : و «من الناس» ممالة. قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسورا. «من يقول» مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت : حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري. «بمؤمنين» غير مهموز : أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء. «وما يخادعون» : أبو عمرو وابن كثير ونافع. «فزادهم الله» وبابه مما كان ماضيا بالإمالة : حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم هاهنا بالإمالة فقط. «يكذبون» خفيفا : عاصم وحمزة وعلي وخلف. قيل (وَغِيضَ وَجِيءَ) بالإشمام : علي وهشام ورويس. «السفهاء ألا» بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. «السفهاء ولا» بقلب الثانية واوا : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. «السفهاء وألا» بقلب الأولى واوا. روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل (شُهَداءَ إِذْ وَجاءَ إِخْوَةُ) وأشباه ذلك. «مستهزءون» بترك الهمزة في الحالين : يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها ، وعن حمزة في الوقف وجهان : الحذف والتليين شبه الياء والواو. «طغيانهم» حيث كان بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو. «بالهدى» وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة : حمزة وعلي وخلف. وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة وفيها وذلك طبعهم وعادتهم.

الوقوف : «بمؤمنين» (م) لما مر في المقدمة الثامنة : «آمنوا» (ج) لعطف الجملتين المتفقين مع ابتداء النفي. «يشعرون» (ط) للآية وانقطاع النظم والمعنى ، فإن تعلق الجار بما بعده. «مرض» (لا) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيدا لما في قلوبهم. «مرضا» (ج) لعطف الجملتين المختلفتين. «يكذبون» (ه) في «الأرض» (لا) لأن «قالوا» جواب «إذا» وعامله. «مصلحون» (ه) «لا يشعرون» (ه) «كما آمن السفهاء» (ط) للابتداء بكلمة التنبيه ، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم «لا يعلمون» (ه) «آمنا» (ج) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود «شياطينهم» (لا) لأن «قالوا» جواب «إذا» «معكم» (لا) تحرزا عن قول ما لا يقوله مسلم ، وإن جاز الابتداء بإنما. «مستهزءون» (ه) «يعمهون» (ه) «بالهدى» (ص) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم «مهتدين» (ه).

١٥٩

التفسير : وفيه مباحث :

المبحث الأول : في قوله تعالى «ومن الناس من يقول» الآية. وفيه مسائل :

الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين. فأقول : أحوال القلب أربع : الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك. وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت. كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسما فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعا لها في الذكر. (النوع الأول) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختيارا فصاحبه مؤمن حقا بالاتفاق ، أو اضطرارا فهو منافق ، لأنه لو لا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار. وإن انضم إليه الإنكار اضطرارا فهو مسلم لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] أو اختيارا فهو كافر معاند. وإن انضم إليه السكوت اضطرارا فمسلم حقا لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذورا أو اختيارا فمسلم أيضا عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان». (النوع الثاني) : الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختيارا فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه. أو اضطرارا فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول. وإن وجد معه الإنكار اختيارا فلا شك في كفره ، أو اضطرارا فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد. وإن وجد معه السكوت اضطرارا فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو اختيارا فكافر معاند. (النوع الثالث) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطرارا نفاق ، وكذا اختيارا لأنه أظهر خلاف ما أضمر. ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت. (النوع الرابع) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختيارا ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا. وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطراريا فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحا. والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجا عن مهلة النظر وجب

١٦٠