تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

والغمام لا يكون كذلك إلا إذا كان مجتمعا ومتراكما. فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة ، كل قطعة منها تكون في غاية الكثافة والعظم ، فكل قطعة ظلة والجمع ظلل. والاستفهام هاهنا في معنى النفي أي ما ينتظرون إلا أن يأتيهم عذاب الله في ظلل من الغمام ، وفيه تفظيع شأن العذاب وتهويله لأن الغمام مظنة الرحمة ، وإذا نزل منه العذاب كان أشنع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يتوقع الخير؟ أو نزول الغمام علامة لظهور الأهوال في القيامة قال : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٥ ، ٢٦] واستعير لتتالي العذاب تتابع القطر وإتيان الملائكة ليقوموا بما أمروا به من تعذيب وتخريب ولا حاجة إلى التأويل لأن إتيانهم ممكن. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من أمر إهلاكهم وتدميرهم أو عما كانوا يوعدون به ، فلا تقال لهم عثرة ولا تصرف عنهم عقوبة ولا ينفع في دفع ما نزل بهم حيلة. والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر ، فوضع الماضي موضع المستقبل. إما للتنبيه في قرب العذاب أو الساعة «كل ما هو آت قريب» ، وإما لأن إخبار الله تعالى كالواقع المقطوع به. وقيل : الأمر المذكور هاهنا هو فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزله من الجنة والنار. وعن معاذ بن جبل وقضاء الأمر مصدر مرفوع عطفا على لفظي الله والملائكة. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وذلك أنه ملك في الدنيا عباده كثيرا من أمور خلقه ، أما إذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم بين العباد سواه وهذا كقولهم «رجع أمرنا إلى الأمير» إذا كان هو يختص بالنظر فيه. فعلى المكلف أن يدخل في السلم كما أمر ويحترز عن اتباع آثار الشيطان كما نهى. ثم إن الأمور ترجع إليه جل جلاله ، وهو تعالى يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة. فهذا معنى القراءتين في (تُرْجَعُ) وأيضا قراءة ضم التاء وفتح الجيم على مذهب العرب في قولهم «فلان معجب بنفسه» ويقول الرجل لغيره : إلى أين ذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. أو المراد أن العباد يردّون أمورهم إلى خالقهم ويعترفون برجوعها إليه. أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكافرون فبشهادة الحال (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرعد : ١٥].

التأويل : النفس الأمارة تظهر الأشياء المموهة والأقوال المزخرفة وترى أنها أولى الأولياء ، ولكنها أعدى الأعداء وتسعى في تخريب أرض القلب وإبطال حرث الصدق في طلب السعادة إهلاك نسل ما يتولد من الأخلاق الحميدة وتشمخ بأنفها عن قبول الحق

٥٨١

فحسبه جهنم الميعاد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) هذا شأن الأولياء باعوا أنفسهم خالصا لوجه الله لا لأجل الجنة (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي بجميع الأجزاء والأعضاء الظاهرة والباطنة. ودخول القلب في الإسلام يكون بدخول الإيمان في القلب ، ودخول الروح في الإسلام يكون بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الأحكام والأقضية لله ، ودخول السر في الإسلام بفنائه في الله وبقائه بالله ، وهذا مقام يضيق عن إعلانه نطاق النطق ولا يسع إظهاره ظروف الحروف.

وإن قميصا خيط من نسج تسعة

وعشرين حرفا من معانيه قاصر

الله ولي التوفيق وهو حسبي.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))

القراآت : (لِيَحْكُمَ) بضم الياء وفتح الكاف : يزيد. وكذلك في آل عمران والنور في موضعين. الباقون بفتح الياء وضم الكاف (يَقُولَ) برفع اللام : نافع. الباقون : بالنصب.

الوقوف : (بَيِّنَةٍ) ط لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع تقدير حذف أي فبدّلوا ومن يبدل إلخ (الْعِقابِ) ه (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) م لأن و «الذين» مبتدأ و «فوقهم» خبره. ولو وصل صار «فوقهم» ظرفا ليسخرون أو حالا لفاعل «يسخرون» وقبحه ظاهر. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ط (حِسابٍ) ه (وَمُنْذِرِينَ) ص لعطف المتفقتين (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ط (بَيْنَهُمْ) ج لعطف المختلفتين (بِإِذْنِهِ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (مِنْ قَبْلِكُمْ) ط للفصل بين الاستفهام والإخبار لأن قوله «ولما يأتكم» عطف على «أم حسبتم» تقديره أحسبتم ولم يأتكم. (مَتى نَصْرُ اللهِ) ط (قَرِيبٌ) ه.

التفسير : أنه سبحانه لما أمر بالسلم ونهى عن مقابلها ثم قال : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) [البقرة : ٢٠٩] أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين

٥٨٢

للتهديد. ثم بين ذلك التهديد بقوله (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] ثم ثنى ذلك التهديد بقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠] الآية ثم ثلث التهديد بقوله (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد. وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة ، وإلا فكثرة الآيات التي أوتوها معلومة بإعلام الله تعالى. والمراد سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون كي يعتبروا ويتعظوا. و «كم» تحتمل الاستفهامية والخبرية ، و (مِنْ آيَةٍ) مميزها ، وقد فصل بين المميز وبينها بالفعل. فإن كانت استفهامية فالتقدير : سلهم عن عدد إيتائنا الآيات إياهم حتى يخبروك عن كميتها. وإن كانت خبرية فالمعنى : سلهم عن أنا كثيرا من الآيات آتيناهم. والآيات الواضحات إما معجزات موسى عليه‌السلام كفرق البحر وتظليل الغمام وتكليم الله إياه والعصا واليد ونحوها وهي تسع (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] وإما الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام فمنهم من أمن وأقر ومنهم من جحد وبدل (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) قيل : إنها الآيات والدلائل الدالة على صحة دين الإسلام وهي أجل أقسام النعم ، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. ثم إن قلنا : الآيات معجزات موسى فتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هدايتهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] وإن قلنا : الآية البينة هي ما في التوراة والإنجيل من الدلائل على صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبديلها تحريفها وإدخال الشبه فيها. وقيل : المراد بنعمة الله ما آتاهم من أسباب الصحة والأمن والكفاية ، فتبديلها أنهم لم يجعلوها واسطة الطاعة والقيام بما وعليهم من التكاليف ، بل استعملوها في غير ما أوتيت هي لأجله. وعلى هذا فقوله (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) معناه ظاهر ، وأما على القول الأول وهو أن المراد من النعمة لآيات فمعنى مجيئها التمكن من معرفتها أو عرفانها كقوله (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) [البقرة : ٧٥] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة. (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) قال الواحدي : الرابطة محذوفة أي له. والتحقيق أن ترك هذا الإضمار أولى فإنه إذا علم كونه تعالى موصوفا بهذا الوصف لزم من ذلك أنه يعاقب المبدل إن شاء ، ولكن لا يلزم من كونه شديد العقاب للمبدّل كونه متصفا بذلك وصفا ذاتيا. ثم قال الواحدي. والعقاب عذاب يعقب الجرم. ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كان التبديل سيرتهم فقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. والغرض تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من نعيم الآخرة ، والتذكير في زين إما لأن الحياة والإحياء واحد ،

٥٨٣

أو للفصل مع أن التأنيث ليس بحقيقي. عن ابن عباس أن الآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من كبار قريش. وقيل : رؤساء اليهود وعلمائهم. وعن مقاتل : نزلت في المنافقين. ولا مانع من نزولها في جميعهم لأن كلهم وهم في التنعم والراحة كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين والمهاجرين. ثم المزين من هو؟ فعن المعتزلة أنهم غواة الجن والإنس قبحوا أمر الآخرة في أعين الكفار وأوهموا أن لا صحة لها فلا تنغصوا عيشكم في الدنيا كقول من قال :

أتترك لذة الصهباء نقدا

بما وعدوك من لبن وخمر؟

قالوا : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فباطل. لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، وإذا كان المزين هو الله تعالى فلا بد أن يكون صادقا في ذلك الإخبار ، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا. وإن كان كافرا وإصابة الكافر كفر فهذا القول كفر ، وزيف بأن مزين الكفر لجميع الكفار لا بد أن يكون خارجا منهم. وقولهم : «المزين للشيء هو المخبر عن حسنه» مردود ، وإنما المزين من يجعل الشيء موصوفا بالأوصاف الحسنة. سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن الله تعالى يكون مخبرا عن حسنه من حيث إنه أخبر عما فيها من اللذات والراحات؟ وهذا إخبار عما ليس بكذب والتصديق به ليس بكفر. وقال أبو مسلم : الكفار زينوا لأنفسهم والعرب تقول : «أين يذهب بك» لا يريدون أن ذاهبا ذهب به ومنه قوله تعالى (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة : ٧٥] (أَنَّى يُصْرَفُونَ) [غافر : ٦٩]. ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا فالإنسان بالحقيقة هو الذي زين لنفسه. والتحقيق أن المزين هو الله تعالى كما صرح بذلك في قوله (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧] وكيف لا وانتهاء جميع الحوادث إليه أظهر في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب والحلاوة ، وركب في الطبائع حب الشهوات والميل إلى الطيبات ، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل مع إمكان رد النفس عنها ليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام ويتم غرض الابتلاء. أو نقول : المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ولم يمنعهم عن الإقبال عليها والحرص الشديد في طلبها. وقيل : إن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات وهو ضعيف ، لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار وتزيين المباحات لا يختص بالكفار. وإن قيل : المراد من تزيين المباح للكافر أنه دائم السرور به. وإن قلت : ذات يده لكونه معقود الهمة به لا عيش عنده إلا عيش الدنيا ، بخلاف

٥٨٤

المؤمن فإن تمتعه من طيبات الدنيا وبهجتها وإن كثر ماله وجاهه مكدر بالخوف والوجل من الحساب في الآخرة. قلنا : تزيين المباح في نظر الكافر بحيث يفضي به إلى الاشتغال عن الآخرة مستقبح. أيضا فالكلام فيه كالكلام في تزيين المحظور فيبقى الإشكال بحاله ولا مخلص إلا بإسناد الكل إليه تعالى بعد تذكر ما سلف لنا مرارا في حقيقة الجبر والقدر. ولما أخبر الله تعالى عنهم بأنه زين لهم الحياة العاجلة أخبر عنهم بعد ذلك بفعل يديمونه فقال : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) كابن مسعود وعمار وصهيب وغيرهم يقولون : هؤلاء المساكين تركوا طيبات الدنيا وتحملوا المتاعب لطلب الآخرة. ولا يخفى أنه لو بطل حديث المعاد لكان لهذه السخرية وجه ، لكنه لو ثبت القول بالمعاد وصح كانت السخرية منقلبة عليهم لأنهم أعرضوا عن الملك الأبدي والنعيم المقيم بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة فلهذا قال سبحانه (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أما بالمكان فلأنهم في عليين وهم في سجين ، وأما بالرتبة والشرف فلأنهم في معارج الأنس وهم في هاوية الهوان. ويحتمل أن يراد أنهم فوقهم بالحجة لأن حجج الكفار وشبههم كان تؤثر بوسوسة الشيطان ، وبمجرد استبعاد أمر المعاد وحجج المتقين يوم القيامة تستند إلى العيان وبمدد الرحمن (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [الأعراف : ٤٤] أو يراد أن سخرية المؤمنين بالكافرين يوم القيامة لكونها حقة وباقية فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لكونها باطلة ومنقضية. وفي قوله (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) دون أن يقول آمنوا كما قال : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بعث على التقوى وأن كرامة المؤمن منوطة بها. (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير تقدير. وذلك أن الكفار كانوا يستدلون بحصول الزخارف الدنيوية لهم على أنهم على الحق وبحرمان فقراء المؤمنين عنها على أنهم على الباطل ، فرد الله تعالى عليهم قولهم بأن ذلك متعلق بمحض المشيئة ، وقد يستتبع غاية هي الاستدراج في حق الكافر والابتلاء في حق المؤمن ، أو يرزق من يشاء من مؤمن وكافر بغير حساب يكون لأحد عليه ولا مطالبة ولا سؤال سائل ، فالأمر أمره والحكم حكمه ولا يسأل عما يفعل. أو من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل «إذا جاءه ما لم يكن قد قدره ما كان هذا في حسابي» والمعنى أن الكفار وإن كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين فلعل الله تعالى يرزق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا ، ولقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، ويسر لهم الفتوح حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر ، أو المراد أن ما يرزق العبد في الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب ، وما يرزق العبد في الآخرة من النعيم المقيم فبغير عذاب وبغير حساب. ويحتمل أن يخص الرزق في الآية بالمؤمنين في الآخرة ، وعلى هذا يكون معنى (بِغَيْرِ

٥٨٥

حِسابٍ) أي رزقا واسعا وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله (يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) [غافر : ٤٠] أو يقال : إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء :١٧٣] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك ، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا. فعلى هذا لا يتطرق الحساب البتة إلى الثواب. أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته ، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. أو معنى بغير حساب بغير استحقاق ، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان. أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم «فلان ينفق بالحساب» إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية. أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه.

قوله سبحانه (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآية. فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان ، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان. ثم الأمة كواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال :

الأول : أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها : قوله تعالى (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وهذا يدل على أن النبيين عليهم‌السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلا ، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى. ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسدا وبغيا. وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق. ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، فلعل الناس إشارة إليهم. ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر ، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب. كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فالصواب له بالذات والخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضا. فالأولى أن يقال : كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه وبمجسانه» (١).

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٠. مسلم في كتاب القدر حديث ٢٢ ، ٢٣. أحمد في مسنده (٢ / ٣١٥ ، ٣٤٦).

٥٨٦

القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك ، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم. ولو قيل : إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود ، فالأصل عدم الإضمار ، والقراءة الشاذة لا يعتد بها. ومتى كان الناس متفقين على الكفر؟ قالوا : من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه‌السلام. كانوا كفارا بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم‌السلام كما يقال : دار الكفر وإن كان فيها مسلمون.

القول الثالث : عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث. واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم ، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع ، فلا تكون الاستفادة من العقل ، ثم سأل القاضي نفسه فقال : أو ليس أول الناس آدم وأنه كان نبيا مبعوثا؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولا ، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده. ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية.

القول الرابع : التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين.

القول الخامس : أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه‌السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها. وهذا القول يوافق قول من قال : إن الخطاب في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) لأهل الكتب. فيراد بالناس إذن ناس معهودون. ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين ، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض. أو الأول لكونه مقصود الغذاء ، والثاني كتناول الدواء. والأول لكونه مقصودا بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض. الصفة الثالثة : قوله (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) وفي قوله «معهم» والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل ، طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن ، معجزا كان أو غير معجز. قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين،ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب؟

٥٨٧

وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق. وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقا للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب. قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين ، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله (لِيَحْكُمَ) أي الكتاب لأنه أقرب. ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزا كما لا محذور في كونه هدى وشفاء. واللام للجنس ، أو أريد مع كل واحد كتابه. وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب. وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحق (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات. وقيل : الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف ، كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله ، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف. وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول. وقال كثير من المفسرين : المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى. واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضا ، وإما تحريفهم أو تبديلهم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة ، ولو حصل الإعراض كان سببه بغيا بينهم وحسدا وظلما لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف ، و (مِنَ الْحَقِ) بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف. واللام بمعنى «إلى» أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] أي إلى ما قالوه (بِإِذْنِهِ) قال الزجاج : بعلمه. وقيل : بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية. وقيل : في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الحق الموصل إلى كمال الدارين ، أو هو طلب الجنة. ولما كان ذلك الحق أو الطلب لا

٥٨٨

يتأتى إلا باحتمال شدائد التكليف وأعباء الإرشاد والتعليم قال سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ) على طريقة الالتفات التي هي أبلغ تشجيعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المخالفين من أهل الكتاب والمشركين ، فإن من كان نظره أعلى في مراتب قرب المولى فبلاؤه أقوى وهو بالابتلاء أولى. قال في الكشاف : «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. وقال القفال رضي‌الله‌عنه : تقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه حين صبروا على استهزاء قومهم أفتسلكون سبيلهم أم تحسبون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) من غير سلوك سبيلهم (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) فيه معنى التوقع. وفيه دليل على أن الإيتاء متوقع منتظر. عن ابن عباس : لما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين ، وأظهرت اليهود العداوة له فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم (أَمْ حَسِبْتُمْ) وقال قتادة والسدي : نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والخوف وكان كما قال سبحانه (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] وقيل : نزلت في حرب أحد لما قال عبد الله ابن أبي لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى متى تقتلون أنفسكم وتنصرون الباطل؟ لو كان محمد نبيا ما سلط الله عليكم الأسر والقتل. والمعنى أم حسبتم أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة بمجرد الإيمان بي والتصديق لرسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر والفاقة ومكابدة الضر والبؤس في المعيشة ومقاساة الأهوال في جهاد العدو كما نال ذلك من قبلكم من المؤمنين؟ و (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) حالهم التي هي مثل في الشدة و (مَسَّتْهُمُ) بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلا قال : كيف كان ذلك المثل؟ فقيل : مستهم (الْبَأْساءُ) وهي عبارة عن تضييق جهات الخير والمنفعة عليه (وَالضَّرَّاءُ) وهي إشارة إلى انفتاح أبواب الشر والآفة إليه (وَزُلْزِلُوا) حركوا وأزعجوا بأنواع البلايا والرزايا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة وهي من زل الشيء عن مكانه ، والتضعيف في اللفظ للتضعيف في المعنى. وقيل : معناه خوّفوا وليس ببعيد ، لأن الخائف لا يستقر بل يضطرب لقلقه ولهذا لا يقال ذلك إلا في الخوف المقيم المقعد. ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك شيئا هو الغاية في الدلالة على كمال الضر والبؤس والمحنة فقال : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك غاية في الشدة لا مطمح وراءها. من قرأ «يقول» بالنصب فعلى إضمار أن ، ومعنى الاستقبال بالنظر إلى ما قبل «حتى» وإن لم يكن مستقبلا عند الإخبار. ومن رفع فعلى الحال الماضية المحكية كقولهم «شربت

٥٨٩

الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه» (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) أي فقيل لهم ذلك إجابة إلى طلبتهم ، فكونوا أنتم معاشر المؤمنين كذلك في تحمل الأذى والمتاعب في طلب الحق ، فإن نصر الله قريب لأنه آت وكل ما هو آت قريب ، والحاصل أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينالهم من المشركين والمنافقين أذى كثير ، ولما أذن لهم في القتال نالهم من الجراح وذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فعزاهم تعالى في ذلك ، وبيّن أن حال من قبلهم في طلب الدين كان ذلك ، والمصيبة إذا عمت طابت. وذكر الله تعالى من قصة إبراهيم عليه‌السلام وإلقائه في النار ، ومن أمر أيوب عليه‌السلام وما ابتلاه به ، ومن أمر سائر الأنبياء في مصابرتهم على أنواع المكاره ما صار ذلك سلوة للمؤمنين. روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا. فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون. وهاهنا سؤال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد : مت نصر الله؟ والجواب أن كونه رسولا لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له ذلك الوقت قال : ـ عند ضيق قلبه ـ متى نصر الله؟ حتى إنه إذا علم قرب الوقت زال همه وطاب وقته ، ولهذا أجيب بأن نصر الله قريب لا بأن نصر الله كائن. وهذا الجواب يحتمل أن يكون من الله ، ويحتمل أن يكون قولا لقوم منهم إذا رجعوا إلى أنفسهم وعلموا أن الله لا يخلف الميعاد. وقيل : إنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولا ثم ذكروا كلامين : أحدهما متى نصر الله ، والثاني ألا إن نصر الله قريب. فهذا الثاني قول الرسول ، والأول قول المؤمنين كقوله (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] والمعنى لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله بالنهار. ثم في الآية دليل على أن كل من لحقه شدة يجب أن يعلم أنه سيظفر بزوالها لأنه إما أن يتخلص عنها وإما أن يموت ، وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه وذلك من أعظم النصرة. اللهم انصرنا من عندك فإنك نعم المولى ونعم النصير.

التأويل : إنه تعالى إذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريد آياته وكراماته ، فإن اغتر بأحواله تعجب بكماله فيضل على حظوظ النفس ويبدل نعمة الله

٥٩٠

بموافقتها ورضاها فإن الله شديد العقاب بأن يغير أحواله ويسلب عنه كماله. (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) على الحق وعلى الفطرة يوم الميثاق (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) الذي جف به القلم للسعادة أو الشقاوة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار» (وَمَا اخْتَلَفَ) كل فريق إلا وقد أوتوا السعادة أو الشقاوة في حكم الله وقضائه ، ولكن ما حصلت السعادة والشقاوة للفريقين إلا من بعد البينات وهي معاملاتهم فبها يتبين السعيد من الشقي وبالعكس ، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع المآب.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

الوقوف : (يُنْفِقُونَ) ط (السَّبِيلِ) ط للابتداء بالشرط (عَلِيمٌ) ه (كُرْهٌ لَكُمْ) ج (خَيْرٌ لَكُمْ) ج لتفصيل الأحوال (شَرٌّ لَكُمْ) ط (لا تَعْلَمُونَ) ه (قِتالٍ فِيهِ) ط (كَبِيرٌ) ط على أن قوله «وصدّ» مبتدأ وما بعده معطوف عليه ، وقوله «أكبر عند الله» خبره ، وقد يقال : «وصد» عطف على «كبير» أي القتال فيه كبير ، وسبب صد عن سبيل الله وكفر بالله تعالى وبنعمة المسجد الحرام ، أو صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام فيوقف هاهنا ، ويجعل «وإخراج أهله» مبتدأ. وقيل : «وصد» عطف الوقف على «سبيل الله». و «كفر به» مبتدأ. والوجه هو الأول لانتظام المعنى أي القتال منا وإن كان كبيرا ولكن الصد والكفر والإخراج التي كانت منكم (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ط (اسْتَطاعُوا) ط (وَالْآخِرَةِ) ج لأن الجملتين وإن اتفقنا فتكرار «أولئك» ينبه على الابتداء مبالغة في تعظيم الأمر (النَّارِ) ج (خالِدُونَ) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) لا لأن ما بعده خبر «إن» (رَحْمَةِ اللهِ) ط (رَحِيمٌ) ه. المستقبل على المستقبل. (يَتَذَكَّرُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما بالغ في وجوب الإعراض عن العاجل والإقبال على الآجل بكل ما يمكن من الدخول في السلم وبذل المهج والأموال والصبر على مواجب التكاليف والدعاء إلى الدين القويم انتظارا لنصرة الله ، شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه

٥٩١

الآية إلى قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] جريا على سننه المرضى من خلط بيان التوحيد وذكر النصيحة والوعظ ببيان الأحكام ، ليكون كل منهما مؤكدا للآخر. الحكم الأول : بيان مصرف الإنفاق (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) عن ابن عباس : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لي دينارا فقال : أنفقه على نفسك. فقال : إن لي دينارين. فقال : أنفقهما على أهلك. فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك. فقال : إن لي أربعة قال : أنفقها على والديك. قال : إن لي خمسة قال : أنفقها على قرابتك. قال : إن لي ستة. قال : أنفقها في سبيل الله وهو أخسها أي أقلها ثوابا. وعنه في رواية أبي صالح أنها نزلت في عمرو بن الجموح وهو الذي قتل يوم أحد وكان شيخا كبيرا هرما وعنده ملك عظيم فقال : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ أما بحث «ماذا» فقد تقدم في قوله (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [المدثر : ٣١] وأما أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم فكيف طابق قوله في الجواب (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية. فالوجه فيه أنه حصل في الآية ما يكون جوابا عن السؤال ، وضم إليه زيادة بها يكمل المقصود. وذلك أن قوله (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) تضمن بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا إذا صرفت إلى جهة الاستحقاق. وقال القفال : السؤال وإن كان واردا بلفظ «ما» إلا أن المقصود هو الكيفية. فمن المعلوم لهم أن الذي أمروا بإنفاقه مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وحينئذ يكون الجواب مطابقا للسؤال كما طابق قوله (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) [البقرة : ٧١] سؤالهم عن البقرة ما هي ، حيث كان من المعلوم أن البقرة بهيمة شأنها كذا وكذا ، فتوجه الطلب إلى تعيين الصفة لا الماهية. وقيل : إنهم لما سألوا هذا السؤال أجيبوا بأن السؤال فاسد ، أنفق أي شيء كان ولكن بشرط كونه مالا حلالا ومصروفا إلى مصبه ، كما لو سأل شخص صحيح المزاج طبيبا حاذقا أي طعام آكل؟ والطبيب يعلم أنه لا يضره أكل الطعام أي طعام كان ، فيقول له : كل في اليوم مرتين أي كل ما شئت. لكن بهذا الشرط ، فكذا هاهنا المعنى لينفق أي شيء أراد ، لكن بشرط وهو أن يراعي الترتيب في الإنفاق فيقدم الوالدين لأنهما كالسبب لوجوده وقد ربياه صغيرا ، ثم الأقربين لأن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، الترجيح لا بدّ له من مرحج والقرابة تصلح للترجيح لأنه أعرف بحاله. والإطلاع على غنى الغني مما يحمل المرء على الإنفاق. وأيضا لو لم يعطه قريبه احتاج إلى الرجوع إلى غيره وذلك عار وشنار. وأيضا قريب المرء كجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، ثم اليتامى لعدم قدرتهم على الاكتساب

٥٩٢

لصغرهم ، ثم المساكين الذين هم غير اليتامى ، وأبناء السبيل لأنهم بسبب الاشتراك في دار الإقامة من أنفسهم ، ثم أبناء السبيل المنقطعون عن بلدهم ومالهم ما يتبلغون به إلى أوطانهم ، (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) من إنفاق شيء من مال بناء على أن الخير هو المال أو من كل ما يتعلق بالبر والطاعة طلبا لجزيل الثواب وهربا من أليم العقاب. (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم أحسن الجزاء. عن السدي : أن الآية منسوخة بفرض الزكاة. وقال المحققون : ويروى عن الحسن أنها ثابتة ، فقد يكون الإنفاق على الفروع والأصول واجبا ، ويحتمل أن يكون المراد : من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة تطوعا فليراع هذا الترتيب.

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مأذون له في القتال مدة إقامته بمكة ، فلما هاجر أذن في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله تعالى الجهاد. قال بعض العلماء : إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على الكل فرض عين لا كفاية. أما الوجوب فمستفاد من لفظ الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله (كُتِبَ) وأما العموم فلأن قوله (عَلَيْكُمُ) لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد كما في قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب. وعن ابن عمر وعطاء أن قوله (كُتِبَ) يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة ، وقوله (عَلَيْكُمُ) يقتضي تخصيص هذا الكتاب بالموجودين في ذلك الوقت. والعموم في (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) مستفاد من دليل منفصل هو الإجماع. وذلك الدليل معقود هاهنا بل الإجماع منعقد على أنه من فروض الكفاية إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل. (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ليس المراد أن المؤمنين ساخطون لأوامر الله تعالى فإن ذلك ينافي الإسلام ، وإنما المراد كون القتال شاقا على النفس وهكذا شأن سائر التكاليف ، وكيف لا والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة وأنها في القتال أكثر لأن الحياة أعظم ما يميل إليه الطباع فبذلها ليس بهين؟

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

وأيضا كراهتهم للقتال قبل أن فرض لما فيه من الخوف من كثرة الأعداء وإنارة نوائر الفتن ، فبيّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه للمصالح التي نذكرها. والكره الكراهة وضع المصدر موضع الوصف مبالغة ، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول» كالخبز بمعنى المخبوز أي هو مكروه لكم. وقرىء بالفتح بمعنى المضموم كالضعف والضعف ، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدة

٥٩٣

كراهتهم له أو مشتقة عليهم كقوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وقال بعضهم : الكره بالضم ما كرهته مما لم تكره عليه ، وإذا كان بالإكراه فبالفتح. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال وهو سبب للمنافع الجليلة في الاستقبال وبالضد ، ولهذا حسن شرب الدواء المر في الحال لتوقع حصول الصحة في الاستقبال ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتحصيل الربح في المال ، وكذا تحمل المتاعب في طلب العلم للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والعقبى.

 العلم أوله مر مذاقته

لكنّ آخره أحلى من العسل

وهاهنا كذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المفاسد والمضار أدناها تسلط الكفار واستيلاؤهم على ديار المسلمين ، وربما يؤدي إلى أن استباحوا بيضة الإسلام واستناخوا بحريمهم واستأصلوهم عن آخرهم. وأما منافع الجهاد فمنها الظفر بالغنائم ، ومنها الفرح العظيم بالاستيلاء على العدو. وأما ما يتعلق بالدين فالثبات عليه والثواب في الآخرة. وترغيب الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله ، وتوطين النفس للفراق عن دار البلاء والانقطاع عن عالم الحس قال الخليل : «عسى» من الله واجب في القرآن. قال : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) [المائدة : ٥٢] وقد وجد (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) [يوسف : ٨٣] وقد حصل. والتحقيق أن معنى الرجاء فيه يعود إلى المكلف وإن كان المرجو حاله معلوما لله تعالى كما بينا في «لعل» (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وذلك أن علمه تعالى فعلي يعلم الأسباب وما يترتب عليها ، والحوادث وما نشأت هي منها ، يحيط علمه بالمبادىء والغايات (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣] وعلمكم انفعالي فلعلكم تعكسون التصورات فتظنون المبادئ غايات وبالعكس ، والمصالح مفاسد وبالضد. وفيه ترغيب عظيم في أداء وظائف التكاليف. وتخويف شديد عن تبعة العصيان والمرود ، فإن الإنسان إذا تصور قصور نفسه وكمال علم الله تعالى علم أنه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيره وصلاحه ، فيلزم نفسه امتثاله وإن كرهه طبعه فكأنه تعالى يقول : يا أيها العبد ، علمي أكمل من علمك فكن مشتغلا بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك وهواك. فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠]

الحكم الثاني في قوله سبحانه (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) أكثر المفسرين على أن هؤلاء السائلين هم المسلمون حيث اختلج في صدورهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدا بغير

٥٩٤

الشهر الحرام ، والمسجد الحرام ، فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يحل لهم القتال في هذا الزمان وهذا المكان أم لا؟ ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن جحش ـ وهو ابن عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمة المدينة ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري ، وعكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السلمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله ، وخالد بن بكير. وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال : سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين. فإذا نزلت منزلتين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ، ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك. فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل على بطن نخلة فترصد بها عير قريش ، لعلك أن تأتينا منه بخبر» فلما نظر عبد الله في الكتاب قال : سمع وطاعة. ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه قد نهاني أن أستكره أحدا منكم. حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع قد أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فاستأذنا أن يتخلفا في طلب بعيرهما فأذن لهما فتخلفا في طلبه. ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة ـ بين مكة والطائف ـ فبينما هم كذلك مرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف ، فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله المخزوميان. فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منك فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا : قوم عمار. فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادى وهي رجب. فتشاور القوم فيهم وقالوا : لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم. فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم ، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين. واستأسر الحكم وعثمان فكان أول أسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفل فأعجزهم. واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة. فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ويذعر فيه الناس لمعايشهم. سفك فيه الدماء وأخذ فيه الحرائب وعيّر بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر

٥٩٥

الحرام ، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إن قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس ، وقسم الباقي بين أصحاب السرية فكان أول غنيمة في الإسلام. وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما قتلناهما بهما. فلما قدما فأداهما. فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله الله ، وطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية. وقيل : إن هذا السؤال كان من الكفار ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حرام استحلوا قتاله فيه فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) خفض على أنه بدل الاشتمال من الشهر. وفي قراءة ابن مسعود عن قتال فيه بتكرير العامل. وقرأ عكرمة قتل فيه قل قتال فيه كبير أي عظيم مستنكر كما يسمى الذنب العظيم كبيرة. وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ لكونه موصوفا بالظرف. فإن قيل : كيف نكّر القتال في قوله تعالى (قُلْ قِتالٌ) ومن حق النكرة إذا تكررت أن يكون المذكور ثانيا معرفا مشارا به إلى الأول وإلا كان الثاني مغايرا للأول؟ قلنا : لأن المراد بالقتال الأول الذي سألوا عنه القتال الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش. فلو جيء بالثاني معرفا لزم أن يكون ذلك من الكبائر ، مع أن الغرض منه كان نصرة الإسلام وإعلاء كلمته ، فاختير التنكير ليكون تنبيها على أن القتال المنهي عنه هو الذي فيه تقوية الكفر وهدم قواعد الدين لا الذي سألوا عنه. ثم الجمهور اتفقوا على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ، وهل بقي ذلك الحكم أو نسخ؟ عن ابن جريج أنه قال : حلف لي بالله عطاء أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا على سبيل الدفع. وروى جابر قال : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى. وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم. قال أبو عبيد : والناس بالثغور اليوم جميعا على هذا القول ، يرون الغزو مباحا في الأشهر الحرم كلها ، ولم أر أحدا من علماء الشام والعراق ينكره عليهم. وكذلك أحسب قول أهل الحجاز والحجة في إباحته. قوله تعالى (فَاقْتُلُوا

٥٩٦

الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ويمكن أن يقال أن قوله (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) نكرة في حين الإثبات فيتناول فردا واحدا لا كل الأفراد ، فلا يلزم منه تحريم القتال في الشهر الحرام مطلقا ، فلا حاجة فيه إلى تقدير النسخ والله أعلم.

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال في الأشهر الحرم فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنه ظن أنه في جمادى الآخرة؟ واعلم أن قوله (وَصَدٌّ) قد مر وجوه إعرابه في الوقوف. أما قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فقيل : إنه معطوف على الهاء في «به» عند من يجوز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، كقراءة حمزة (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] بالخفض. والكفر بالمسجد الحرام منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به وقيل : إنه معطوف على سبيل الله أي صد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام. واعترض بأنه يلزم الفصل بين صلة المصدر الذي هو الصد ، وبين المصدر بالأجنبي الذي هو قوله (وَكُفْرٌ بِهِ) وأجيب بأن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل وبأن التقديم لفرط العناية مثل (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] وكان حق الكلام «ولم يكن أحد كفوا له». وقيل : والمسجد الحرام عطف على الشهر الحرام أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام وهذا قول الفراء وأبي مسلم. وقيل : الواو في «والمسجد الحرام» للقسم. والصد عن سبيل الله هو المنع عن الإيمان بالله وبمحمد أو عن الهجرة. وقيل : منعهم المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت وزيف بأن الآية نزلت قبل غزوة بدر كما مر في قصة ابن جحش. وعام الحديبية كانت بعد غزوة بدر. وأجيب بأن معلوم الله كالواقع. والمراد بإخراج أهله ، إخراج المسلمين من مكة. وإنما جعلهم أهلا له إذ كانوا هم القائمين بحقوق المسجد ولهذا قال عز من قائل (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) [الفتح : ٢٦] وإنما كانت هذه الأمور أكبر لأن كل واحد منها كفر والكفر أعظم من القتال. وأيضا إنها أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو قتال عبد الله بن جحش ، ولم يكن قاطعا بأنه وقع في الشهر الحرام. وأما الكفار فيعلمون بأن هذه الأمور تصدر عنهم في الشهر الحرام (وَالْفِتْنَةُ) أي الشرك ، أو إلقاء الشبهات في قلوب المؤمنين ، أو التعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار. (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لأن الفتنة تفضي إلى القتل في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فيصح أن الفتنة أكبر من القتل ، فضلا عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي. يروى أنه لما نزلت الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة «إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام» (وَلا يَزالُونَ

٥٩٧

يُقاتِلُونَكُمْ) إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) كي يرودكم عنه كقولك «أسلمت حتى أدخل الجنة» بمعنى كي أدخل. ويجوز أن يكون بمعنى «إلى» كقوله (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] وقوله (إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به «إن ظفرت بي فلا تبق عليّ» (وَمَنْ يَرْتَدِدْ) ومن يرجع (مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) باق على الردة (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ويحرم الميراث ، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكما ، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه ، وكسبّ نبي من الأنبياء. وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات. وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب. ويشترط في صحة الردة التكليف ، فلا تصح ردة الصبي والمجنون. وهاهنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة. فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه ، والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه. لأن من كان مؤمنا ثم ارتد ـ والعياذ بالله ـ فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي. فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال ، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضا محال ، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر ، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع. وأيضا شرط طريان الطارئ زوال السابق. فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور. وبحث فروعي : وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي : لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفا على الشرط (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقا (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئا يضرها فتعظم بطونها فتهلك. وفي الحديث «وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» (١) سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٣٧. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١٢١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٨. أحمد في مسنده (٣ / ٧ ، ٢١).

٥٩٨

ولا شك أن المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال وإعدام المعدوم محال. فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المعنى أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق. إما بشرط الوازنة كما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة كما هو مذهب أبي علي. وقال المنكرون للإحباط : المراد بالإحباط الوارد في كتاب الله تعالى هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لا يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق ثوابا ، فمعنى حبط عمله أنه أتى بعمل ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرة عظيمة ، أو المراد أنه تبين أن أعماله السابقة لم تكن معتدا بها شرعا. وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا ابن الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم لم يكن لهم أخر فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا وصار بسبب هذا القتال مجاهدا. وقيل : إنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) وبين أن تركه سبب للوعيد ، أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد. ومعنى هاجروا فارقوا أوطانهم وعشائرهم من الهجر الذي هو ضد الوصل. والهجر الكلام القبيح لأنه مما ينبغي أن يهجر. وجاز أن يكون المراد أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين وهو أيضا هجرهم بهذا السبب فكان ذلك مهاجرة. والمجاهدة من الجهد بالفتح الذي هو المشقة ، أو من الجهد بالضم الطاقة لأنه يبذل الجهد في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، ويجوز أن يكون معناها ضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) يحتمل أن يكون الرجاء بمعنى القطع واليقين ولكن في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وكيفيته وفي وقته. ويحتمل أن يراد المنافع التي يتوقعونها ، فإن عبد الله بن جحش ما كان قاطعا بالثواب في عمله بل كان يظن ظنا ، وإنما جعل الوعد معلقا بالرجاء ليعلم أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب ، وإنما ذلك بفضله ورحمته كما هو مذهبنا. ولو وجب أيضا صح لأنه متعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك. وأيضا المذكور هاهنا هو الإيمان والهجرة والجهاد. ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال والتوفيق فيها مرجو من الله. وأيضا المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع هذه الخصال مستقصرين أنفسهم في نصرة دين الله ، فيقدمون عليه راجين رحمته خائفين عقابه (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون : ٦٠].

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يحقق لهم رجاءهم إن شاء بعميم فضله وجسيم طوله. عن

٥٩٩

قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وإنه من رجا طلب ومن خاف هرب. وقال شاه الكرماني : علامة الرجاء حسن الطاعة. وقيل : الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال. وقيل : قرب القلب من ملاطفة الرب. روي عن لقمان أنه قال لابنه : خف الله تعالى خوفا لا تأمن فيه مكره ، وأرجه رجاء أشد من خوفك. قال : فكيف أستطيع ذلك وإنما لي قلب واحد؟ قال : أما علمت أن المؤمن كذي قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟ وهذا لأنهما من حكم الإيمان وهما للمؤمن كالجناحين للطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم في طيرانه. ومن هنا قيل : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

القراآت : إثم كثير بالثاء المثلثة : حمزة وعلي. الباقون : بالباء. (قُلِ الْعَفْوَ) بالرفع أبو عمرو. الباقون : بالنصب. (لَأَعْنَتَكُمْ) بغير همز : روى أبو ربيعة عن أصحابه. وعن حمزة وجهان في الوقف ترك الهمزة لبيان المذهب ، والهمز ليدل على أصل الكلمة.

الوقوف : (وَالْمَيْسِرِ) ط (لِلنَّاسِ) ز قد يجوز مع اتفاق الجملتين تنبيها على أن بيان الثانية أهم من الأولى (مِنْ نَفْعِهِما) ط (يُنْفِقُونَ) ط (الْعَفْوَ) ط (تَتَفَكَّرُونَ) لا لتعلق الجار. (وَالْآخِرَةِ) ط (الْيَتامى) ط (خَيْرٌ) ط (فَإِخْوانُكُمْ) ط (الْمُصْلِحِ) ط (لَأَعْنَتَكُمْ) ط (حَكِيمٌ) ه (يُؤْمِنَ) ط لأجل لام الابتداء بعده (أَعْجَبَتْكُمْ) ج لوقوع العارض وإن اتفقت الجملتان (يُؤْمِنُوا) ط (أَعْجَبَكُمْ) ط (إِلَى النَّارِ) ج والوصل أجوز لأن مقصود الكلام بيان تفاوت الدعوتين مع اتفاق الجملتين ، ومن وقف أراد الفصل بين ذكر الحق والباطل (بِإِذْنِهِ) ج لأن جملة «والله يدعو» تقابل الجملة الأولى فلم يكن قوله «ويبين آياته» من تمامها إذ ليس في الجملة الأولى ذكر بيان ، ومن وصل فلعطف المستقبل على المستقبل (يَتَذَكَّرُونَ) (ه).

٦٠٠