تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

الصفات إلى عيان الذات ، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان. والولي ضد العدو ، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير. والواو في (وَما لَكُمْ) يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة ، ويحتمل أن تكون للعطف على (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) فيدخل تحت الاستفهام ، ويكون قوله (مِنْ دُونِ اللهِ) من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على (وَالْأَرْضِ).

(أَمْ تُرِيدُونَ) قيل : الخطاب للمسلمين لقوله (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين ، ولأن «أم» للعطف ولا معطوف ظاهرا. فالتقدير : وقولوا انظرنا واسمعوا ، فهل تفعلون هذا كما أمرتم (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم. وقيل : إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من قريش فقال : يا محمد ، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتابا من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمدا رسول الله فاتبعوه. فقال له بقية الرهط : فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون ، وعن مجاهد : أن قريشا سألت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا. فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا. وقيل : المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) حكاية عنهم ومحاجة معهم ، ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفرا بإيمان ، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلا عن كيفية السؤال ، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة. وهاهنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلبا للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفرا وإن كان ذلك طلبا لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام ، فهذا أيضا لا يكون كفرا فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفرا. فالتكفير إما لأنهم طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة ، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج. قلت : والأصوب في الآية أن يكون (أَمْ تُرِيدُونَ) معطوفا على (أَلَمْ تَعْلَمْ) على أنه خطاب لكل مكلف ، فيكون

٣٦١

في معنى الجمع. ثم «أم» إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره ، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير. أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالى ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر. ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه ، وعلى هذا لا يوقف على نصير. وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهاما ثانيا ، ويحتمل أن لا يكون قوله (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) حكما بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيها للمكلفين ، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الاعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل إلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها. وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره.

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

القراآت : قد سلفت.

الوقوف : (كُفَّاراً) (ج) لأن (حَسَداً) مصدر محذوف أي يحسدون حسدا ، أو حال أو مفعول له وهو أوجه والوصل أجوز (الْحَقُ) (ج) لعطف الجملتين المختلفتين (بِأَمْرِهِ) (ط) (قَدِيرٌ) (ه) (الزَّكاةَ) (ط) لأن ما للشرط والشرط مصدر (عِنْدَ اللهِ) (ط) (بَصِيرٌ) (ه) (أَوْ نَصارى) (ط) (أَمانِيُّهُمْ) (ط) (صادِقِينَ) (ه) (عِنْدَ رَبِّهِ) (ص) لعطف الجملتين المتفقتين (يَحْزَنُونَ) (ه) (النَّصارى عَلى شَيْءٍ) (ص) لا لعطف الجملتين

٣٦٢

المتفقتين (عَلى شَيْءٍ) (ص) لأن الواو للحال (الْكِتابَ) (ط) (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) (ج) لأن (فَاللهُ) مبتدأ مع فاء التعقيب (يَخْتَلِفُونَ) (ه).

التفسير : هذا نوع آخر من مكايد اليهود. روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا. فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد. قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عشت. فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت. و (كُفَّاراً) نصب على الحال ، أو مفعول ثان لـ «يردون» على أنه بمعنى «صير» والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وقال : «إن لنعم الله أعداء قيل : وما أولئك؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» وقال «ستة يدخلون النار قبل الحساب : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرستاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد» وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلا يغتبط بمكانه فقال : إن هذا لكريم على ربه ، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال : أحدثك من عمله ثلاثا : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعق والديه ، ولا يمشي بالنميمة ، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب ، وكان يومئذ على واسط فقال : إني أريد أن أعظك بشيء : إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة ، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا (اهْبِطا مِنْها) [طه : ١٢٣] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) [المائدة : ٢٧] وقال ابن الزبير : ما حسدت أحدا على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [آل عمران : ١٢٠] (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) [يوسف : ٨] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من

٣٦٣

النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد : ٢١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا وأنفقه في سبيل الله ، ورجل آتاه الله علما فهو يعمل به ويعلم الناس» (١) وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة ، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم ، وقد تكون مباحة. وللحسد مراتب أربع : الأولى ، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث. الثانية : أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له ، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض. الثالثة : أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها ، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما. الرابعة : أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه. وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا ، والمندوب إليه إن كان في الدين ، والثالثة منها مذموم وغير مذموم ، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) [النساء : ٣٢] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم. وأسباب الحسد سبعة : أولها العداوة والبغضاء ، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠]. وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل ، وثانيها التعزز فإن واحدا من أمثاله إذا نال منصبا عاليا فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك ، أراد زوال ذلك المنصب عنه. وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته. وثالثها : أن يكون في طبعه أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] كالاستحقار لهم والأنفة منهم. ورابعها : التعجب (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٦٣] وخامسها : الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد ، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين ، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة. وسادسها : حب الرياسة كمن يريد أن يكون

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢٤.

٣٦٤

عديم النظير في فن من الفنون ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته ، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه. ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى ، ومن طمع في المحال خاب وخسر. وسابعها : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل : البخيل من بخل بمال غيره. وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه ، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية ، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين. وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين ، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧] وأما علاج الحسد فأمران : العلم والعمل. أما العلم ففيه مقامان : إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد. وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان ، وعذاب أليم ، وحزن مقيم ، ومورث للوسواس ، ومكدر للحواس. ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك. وقد ينتفع في دنياه أيضا من جهة أنك عدوه ، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن بقضي بك إلى الدنف والتلف.

اصبر على مضض الحسو

دفإن صبرك قاتله

النار تأكل نفسها

إن لم تجد ما تأكله

وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصا من الله تعالى بمزيد الفضائل.

لا مات أعداؤك بل خلدوا

حتى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسودا على نعمة

فإنما الكامل من يحسد

والحاسد مذموم بين الخلق ، ملعون عند الخالق ، مشكور عند إبليس وأصدقائه ، مدحور عند الخالق وأوليائه ، فهل هو إلا كمن رمى حجرا إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه فيعود ثانيا فيرميه أشد من الأول

٣٦٥

فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ، فيعود ثالثا فيرجع على رأسه فيشدخه ، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى. وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوبا محبا له ، (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعا والله الموفق. واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟ وإنما الداخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه ، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق ، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهاب أموالكم واستمرار الخوف عليكم ، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه. الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة.

قوله (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) إما أن يتعلق بـ (وَدَّ) أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق ، وإما أن يتعلق بـ (حَسَداً) أي منبعثا من أصل نفوسهم (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائما بل (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة ، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين ، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية ، وتحمل الذل والصغار. والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعا فليس كقوله (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] بل يحل محل قوله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه عنكم. عن الباقر عليه‌السلام : إنه لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] وقلده سيفا فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر. فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ قلنا : إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والاستعانة بسائر أصحابه ، فأمروا أن لا

٣٦٦

يهيجوا قتالا وفتنة. وأيضا القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] وأيضا جعل الصابر إلى القوة قويا ليظهره على الدين كله. وقيل : المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد ، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة. وكذا لو قيل : المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذ لا لهم بضرب الجزية عليهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح ، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع ، فعمم بعد ما خص تنبيها على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات ، ولا بد من إضمار أي تحدوا ثوابه ، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في (وَقالُوا) لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى ، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] والهود جمع هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق ، والبازل الذي خرج نابه ، ووحد اسم «كان» حملا على لفظ «من» وجمع خبره حملا على المعنى ومثله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ١١٢] (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعا في البطلان مثل هذه وهي قولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية ، وودادتهم أن يردوهم كفارا أمنية ، وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم ، وقوله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) متصل بقوله (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) و (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) اعتراض على هذا. وهات الشيء اسم فعل معناه أعط ، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات ، هاتيا ، هاتوا ، هاتي ، هاتين ، وقيل : الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة ، وأصله آت من الإيتاء. برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم ، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفيا أو إثباتا لا بد له من برهان وإلا فدعواه باطلة.

من ادعى شيئا بلا شاهد

لا بد أن تبطل دعواه

٣٦٧

(بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وقوله (مَنْ أَسْلَمَ) إلى آخره جملة شرطية مستأنفة ، ويجوز أن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعلا لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله (فَلَهُ أَجْرُهُ) كلاما معطوفا على يدخلها (مَنْ أَسْلَمَ) وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهانا وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى ، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه. وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات ، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه‌السلام (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] ويؤكد ذلك قوله (لِلَّهِ) أي خالصا له لا يشوبه شرك فلا يكون عابدا مع الله غيره ولا معلقا رجاءه بغيره ، وزاد التأكيد بقوله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي حال كونه محسنا في عمله ، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية ، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات ، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر «من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة» وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان التطيب معصية ، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة ، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب. والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب ، روي أن رجلا في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاما لقسمته بين الناس. فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له : إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت

٣٦٨

به. وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته «نويت أن أدرس لله أو أتجر لله» هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ «نويت أن أعشق» وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل ، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك.

«وللناس فيما يعشقون مذاهب»

فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك ، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات «أكثر أهل الجنة البله» ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة ، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر ، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصا لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى. روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم أخبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة. ومعنى (عَلى شَيْءٍ) أي شيء يصح ويعتد به ، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب «أقل من لا شيء» عن ابن عباس : والله صدقوا. قلت : وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمنا برسوله وبكل ما أنزله (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به ، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضا (كَذلِكَ) الكاف للتشبيه و (كَذلِكَ) إشارة إلى المذكور أي قولا مثل الذي سمعت به (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) و (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة. والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولا عن التشهي والعصبية مثلهم (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين اليهود والنصارى يوم القيامة. عن الحسن : يكذبهم جميعا ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين ، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب ، أو يريهم من يدخل الجنة عيانا ويدخل النار عيانا أعاذنا الله تعالى منها.

٣٦٩

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

القراآت : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ) بلا واو العطف : ابن عامر اتباعا لمصاحف أهل الشام (كُنْ فَيَكُونُ) بالنصب كل القرآن : ابن عامر إلا قوله (كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُ) في آل عمران ، و (كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) في الأنعام. وافقه الكسائي في النحل ويس.

الوقوف : (خَرابِها) (ط) للفصل بين الاستفهام والخبر (خائِفِينَ) ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر (عَظِيمٌ) (ه) (وَجْهُ اللهِ) (ط) (عَلِيمٌ) (ه) (وَإِذا لا) تعجيلا للتنزيه (سُبْحانَهُ) (ط) (وَالْأَرْضِ) (ط) لأن ما بعده مبتدأ (قانِتُونَ) (ه) (وَالْأَرْضِ) (ط) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط (فَيَكُونُ) (ه) (آيَةٌ) (ط) (قُلُوبُهُمْ) (ط) لأن قد لتوكيد الاستئناف (يُوقِنُونَ) (ه).

التفسير : عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة ، ولم يزل خرابا حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم. وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى. ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان. وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة ألجئوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام. وقيل : المراد منع المشركين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين. هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فعقب ذلك بسائر قبائحهم و «من» استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع و (أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعوليه لأنك تقول : منعته كذا أو بدل من (مَساجِدَ) أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولا له.

٣٧٠

وهذا حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم ، ولا بأس أن يجيء الحكم عاما وإن كان السبب خاصا كما تقول لمن آذى صالحا واحدا من أظلم ممن آذى الصالحين؟ ومثله (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١] والمنزول فيه الأخنس بن شريق. وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضا لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل : إن قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ) الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وكذا الزنا وقتل النفس قلت : أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن ، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه ، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه. وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركا فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه ، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله ، لأن من اعتقد أن له معبودا عرف وجوب عبادته له عقلا أو شرعا ، والعبادة تستدعي متعبدا لا محالة. فتخريب المتعبد ينبىء عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود ، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلما وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق ، والمنافق كافر أسوأ حالا من الكافر الأصلي بالاتفاق (أُولئِكَ) المانعون (ما كانَ لَهُمْ) أي ما ينبغي لهم (أَنْ يَدْخُلُوها) في حال من الأحوال (إِلَّا خائِفِينَ) على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وقيل : هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا. وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر : ألا لا يحجن بعد العام مشرك. وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين. وقيل : يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة. وقيل : اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] فمن هنا قال مالك : لا يجوز للكافر دخول المساجد. وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه ، للتصريح بذلك في قوله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨]. وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد. وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية (خِزْيٌ) ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق أهل الذمة

٣٧١

وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب ، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر. وقيل : الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية ، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد :

(الأولى) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] بلام الاختصاص (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨] (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور : ٣٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها» (١) وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب ، والسوق يشغل عنه ، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان.

(الثانية) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد «دياركم تكتب آثاركم» (٣).

(الثالثة) في تزيين المساجد. عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس : بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى. التشييد رفع البناء وتطويله ، والزخرفة التزيين والتمويه. وأمر عمر ببناء مسجد فقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.

(الرابعة) في تحية المسجد. عن أبي قتادة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» (٤) وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٨٨. أحمد في مسنده (٤ / ٨١).

(٢) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث ٢٨٢. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٩٧. أحمد في مسنده (٣ / ٣٩) (٤ / ١٥٧).

(٣) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ٣٦ باب ١.

(٤) رواه مالك في الموطأ في كتاب السفر حديث ٥٧. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٨٨. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١١٤. أحمد في مسنده (٥ / ٢٩٥ ، ٣٠٢).

٣٧٢

الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق. وقيل : يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي.

(الخامسة) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه. روت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبيها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.

(السادسة) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول : اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث» (١).

(السابعة) في كراهية البيع والشراء فيه ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه ، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة ، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضا. عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا» (٢) وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد ، وقال معاذ بن جبل : إن المساجد طهرت من خمس : من أن تقام فيها الحدود ، أو يقبض فيها الخراج ، أو ينطق فيها بالأشعار ، أو ينشد فيها الضالة ، أو تتخذ سوقا. ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأسا لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد ، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجا من المسجد.

(الثامنة) النوم في المسجد. عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى. وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٣٠ ، ٣٦. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٢٠. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٢٢. الموطأ في كتاب السفر حديث ٥١ ، ٥٤. أحمد في مسنده (٢ / ٣١٢).

(٢) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث ٧٩. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٢١. ابن ماجه في كتاب المساجد باب ١١. أحمد في مسنده (٢ / ٣٤٩ ، ٤٢٠).

٣٧٣

وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه وقال : «إنها ضجعة يبغضها الله».

(التاسعة) في كراهة البزاق في المسجد. عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها» (١) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يتاجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله (٢) فيدفنه».

(العاشرة) عن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزل مسجدنا» (٣) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس» (٤).

(الحادية عشرة) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله.

قوله عز من قائل (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٣٧. مسلم في كتاب المساجد حديث ٥٥ ـ ٥٧. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٢٢. الترمذي في كتاب الجمعة باب ٤٩.

(٢) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٣٣ ـ ٣٨. مسلم في كتاب الزهد حديث ٧٤. النسائي في كتاب المساجد باب ٣١. الموطأ في كتاب القبلة حديث ٤. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢ ، ٦٦).

(٣) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٦٠. أبو داود في كتاب الأطعمة باب ٤٠. الترمذي في كتاب الأطعمة باب ١. النسائي في كتاب المساجد باب ١٦ ، ١٧.

(٤) رواه مسلم في كتاب المساجد حديث ٧٢. أحمد في مسنده (٣ / ٢٧٤).

٣٧٤

مقدمة لما أراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت ردا عليهم. وثالثها قول أبي مسلم : إن كلا من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة. وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء. وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية عذرا لنا في خطئنا. وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة. وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعا يومىء برأسه نحو المدينة. فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة. فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة. وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضا فقيل : الخطاب في (تُوَلُّوا) للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم. عن قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم» فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) [آل عمران : ١٩٩] الآية. فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي. فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] وعن الحسن ومجاهد

٣٧٥

والضحاك : لما نزلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا» (١) وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأيا فهو مصيب. ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها. ويقال : ولى هاربا أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و (فَثَمَ) إشارة إلى المكان خاصة. وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجها وأيضا سماه واسعا ، والسعة من نعوت الأجسام. والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذيا للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذيا للغربي ، فلا بد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل «بيت الله» «وناقة الله» لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩] أو المراد فثم مرضاة الله مثل (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الدهر : ٩] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئا فشيئا كالمتوجه إلى شخص ذاهبا إليه شيئا فشيئا. وكيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسما أو جسمانيا وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدما بالذات والعلية والشرف؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم.

قوله (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعا فقد مر ذكرهم في قوله (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وفي قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التيمم باب ١. مسلم في كتاب المساجد حديث ٣ ، ٤ ، ٥. أبو داود في كتاب الصلاة باب ٢٤. الترمذي في كتاب المواقيت باب ١١٩. النسائي في كتاب الغسل باب ٢٦. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٩٠.

٣٧٦

كما مر. والضمير يصلح للعود إليهم ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك وتبعيد (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وإبداعا وصنعا ، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح. والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد ، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته؟ اللهم إلا في مطلق الوجود ، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما. وقد يتخذ الولد للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة ، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعا به ولأجله وقيل : عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار ، فأجاب : أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين. وقوله (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ) يعم المكلف وغيره ، فعدل إلى تفسير آخر قائلا المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث ، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء. وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في (قانِتُونَ) للتغليب ، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية ، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل. يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه. فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله؟ فقال علي : إن كان عيسى إلها فالإله كيف يعبد غيره؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت (بَدِيعُ) خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عم أولا لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجدا للمملوك ، ثم خص ثانيا فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه. وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أصل التركيب من «ق ض ى» يدل على القطع. قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل هاهنا ، ومعنى قضى أمرا أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال :

٣٧٧

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

ثم من قرأ (فَيَكُونُ) بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطا لنفسه. قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئا مغايرا لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئا آخر مغايرا له. فقول القائل «اذهب تذهب أو فتذهب» معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع «كان» التامة جوابا لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جوابا له من حيث المعنى. فإن قلت : إن قوله (فَيَكُونُ) لما كان من تتمة المقول. فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو «اذهب فتذهب» قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله (أَمْراً) وفي قوله (لَهُ) ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيرا لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك. وهاهنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة «كن» منه لوجوه : الأول أن قوله (كُنْ) إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما ، لأن النون لكونه مسبوقا بالكاف يكون محدثا لا محالة ، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان مقدر يكون محدثا أيضا ، ولأن «إذا» للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله «كن» مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله «كن» بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضا ، ولا جائز أن يكون «كن» محدثا وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على «كن» (الثاني) إما أن يخاطب المخلوق بـ «كن» قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه. (الثالث) المخلوق قد يكون جمادا وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة. (الرابع) إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله (كُنْ) فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى (كُنْ) ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه بـ (كُنْ) فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة بـ (كُنْ) ولا نزاع في اللفظ. (الخامس) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه

٣٧٨

الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا. (السادس) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلابد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا ، عن أبي الهزيل. وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم. وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يعني الجهلة من المشركين. وقيل : من أهل الكتاب أيضا. ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به. فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد ، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة. ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطرق المؤدية إلى المطلوب ، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من مكذبي الرسل (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله (أَتَواصَوْا بِهِ) [الذاريات : ٥٣] فكما أن قوم موسى كانوا أبدا في التعنت واقتراح الأباطيل (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] فكذلك هؤلاء المشركون (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) [النساء : ١٥٣] (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ) يفقهون فـ (يُوقِنُونَ) أنها آيات. فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقاشق الفصحاء عن آخرهم ، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأيضا لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها ، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضا ، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف ، وكإيجابها استئصالهم بالكلية إذا

٣٧٩

استمروا على التكذيب ، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة ، وأيضا كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق العادة فلا تبقى آيات ، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال ، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم.

التأويل : مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر ، النفس والقلب والروح ، والسر والخفي ـ وهو سر السر ـ وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد. فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات ، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة. وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات ، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات ، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ) أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) من ذل الحجاب (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ) الحرمان من جوار الله. (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها ، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى ، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة ، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء ، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء. وتلاشي العبدية في كعبة العندية ، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ، رفعت القبلة وما بقي إلا الله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ) يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه (عَلِيمٌ) بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ

٣٨٠