تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

٣٤] بياء بعد الهمزة ، وكذلك في «يونس» (تِلْقاءِ نَفْسِي) [الآية : ١٥] ، وفي «النحل» (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) [الآية : ٩٠] ، وفي «طه» (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) [الآية : ١٣٠] ، وفي «حم عسق» (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١].

وكتب ما في القرآن من كل ذوات الواو بالألف مثل «دعا ، عفا ، وتلا» إلا (دَحاها) [النازعات : ٣٠] و (تَلاها) [الشمس : ٢] ، و (ضُحاها) [الشمس : ٦] ، و (سَجى) [الضحى : ٢] و (ما زَكى) [النور : ٢١] ، وذوات الياء يكتب بالياء مثل «هدى ، ورمى ، وقضى» إلا أحرفا هي : (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) [الزخرف : ٨] ، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرحمن : ٥٤] و (طَغَى الْماءُ) [الحاقة : ١١] ، و (أَقْصَا الْمَدِينَةِ) [القصص : ٢٠ ؛ ويس : ٢٠] ، و (أَحْيَا النَّاسَ) [المائدة : ٣٢]. وكل ياءين اجتمعتا في كلمة مثل «الدنيا» و «العليا» جعلت الأخيرة ألفا كراهة الجمع بين الياءين إلا في قوله تعالى «يحيي» و «أمات» و «أحيي» في بعض المصاحف. وكتب «الزكوة» و «الحيوة» و «منوة» و «مشكوة» و «بالغدوة» بالواو. وكتب «الصلاة» بالواو إلا في «الأنعام» (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الآية : ٩٢] (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) [الآية : ١٦٢] ، وفي «الأنفال» (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) [الآية : ٣٥] ، وفي أول «المؤمنين» (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [الآية : ٢] ، وفي «المعارج» (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [الآية : ٢٣] ، وفيها [سورة المعارج] (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الآية : ٣٤] ، وفي «أرأيت» (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥]. وكتب (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] ، (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف : ٣٢] ، و (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) [العلق : ١٥] ، بالألف والوقوف عليها بالألف. وكتب في «البقرة» (وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَ) [الآية : ١٥٠] بالياء ، وفي «المائدة» (وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ) [الآية : ٣] (وَاخْشَوْنِ وَلا) [الآية : ٤٤] بغير ياء.

وكتب في «يوسف» (وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ) [الآية : ١٠٨] بالياء ، وفي «آل عمران» (وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ) [الآية : ٢٠] بغير ياء. وكتب في «سبحان الذي» (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) [الآية : ١٠] بغير ياء وفي المنافقون (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) بالياء. وكتب في يوسف (ما نَبْغِي) [الآية : ٦٥] بالياء ، وفي «الكهف» (ما كُنَّا نَبْغِ) [الآية : ٦٤] بغير ياء ، وفي «هود» (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ) [الآية : ١٠٥] بغير ياء ، وفي «النحل» (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) [الآية : ١١١] بالياء ، وفي «الدخان» (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ) [الآية : ١٠] بالياء. وفي «الأنعام» (وَقَدْ هَدانِ) [الآية : ٨٠] بغير ياء ، و (إِنَّنِي هَدانِي) [الآية : ١٦١] بالياء ، وفي «الأعراف» (ثُمَّ كِيدُونِ) [الآية : ١٩٥] بغير ياء ، وفي «هود» (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) [الآية : ٥٥] بالياء. وفي «هود» (فَلا تَسْئَلْنِ) [الآية : ٤٦] بغير ياء ، وفي «الكهف» (فَلا تَسْئَلْنِي) [الآية : ٧٠] بالياء. وفي

٤١

«الكهف» (أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) [الآية : ٣٤] بغير ياء ، وفي «القصص» (أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) [الآية : ٢٢] بالياء. وفي «طه» (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [الآية : ٩٠] بالياء ، وفي «الزخرف» (وَاتَّبِعُونِ هذا) [الآية : ٦١] بغير ياء. وكذلك في «المؤمن» وفي «الأعراف» (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) [غافر : ٣٨ ؛ والأعراف : ١٧٨] بالياء ، وفي «سبحان الذي» وسورة الكهف (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) [الإسراء : ٩٧ ؛ والكهف : ١٧] بغير ياء. وفي «إبراهيم» (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) [الآية : ٣١] بالياء ، وفي «الزمر» (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ) [الآية : ١٧] بغير ياء.

وكتب «الذي» و «الذين» بلام واحدة ، و «اللذان» و «اللذين» بلامين. وكتب «جزاء» بغير واو ، و «هزوا» و «كفوا» بالواو. وكتب (بَيْنَ الْمَرْءِ) [البقرة : ١٥٢ ؛ والأنفال : ٢٤] ، و (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) [الحجر : ٤٤] ، و (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) [النمل : ٢٥] ، و (مِلْءُ الْأَرْضِ) [آل عمران : ٩١] ، ودف [النحل : ٥] بإسقاط الهمزة.

ومن غرائب الهجاء ونوادره ما كتب في «الفرقان» (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الآية : ٢١] بغير ألف ، وفي «سبأ» (وَالَّذِينَ سَعَوْا) [الآية : ٥] بغير ألف ، وفي «الحشر» (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) [الآية : ٩] بواوين من غير ألف ، وفي «المعصرات» (كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] بغير ألف ، وفي «القلم» (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [الآية : ٦] بياءين ، وفي «آل عمران» (أَفَإِنْ ماتَ) [الآية : ١٤٤] بالياء ، وفي «الأنبياء» (أَفَإِنْ مِتَ) [الآية : ٣٤] بغير ياء. وكتب (اثَّاقَلْتُمْ) [التوبة : ٣٨] ونحوه بالألف. وكتب (فَادَّارَأْتُمْ) [البقرة : ٧٢] ليس بين الدال والراء ، ولا بين الراء والتاء ، ألف في جميع المصاحف. وكتب في «الحاقة» لبيان الحركة (كِتابِيَهْ) [الآية : ١٩] و (حِسابِيَهْ) [الآيتان : ٢٠ و ٢٦] و (مالِيَهْ) [الآية : ٢٨] و (سُلْطانِيَهْ) [الآية : ٢٩] ، وفي «القارعة» (ما هِيَهْ) [الآية : ١٠] بإثبات الهاء. واختلف في (لَمْ يَتَسَنَّهْ) [البقرة : ٢٥٩] و (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] أن الهاء فيها لبيان الحركة أو لغير ذلك. وكتب في سورة النساء (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) [الآية : ٧٨] ، وفي «الكهف» (ما لِهذَا الْكِتابِ) [الآية : ٤٩] ، وفي «الفرقان» (ما لِهذَا الرَّسُولِ) [الآية : ٧] ، وفي «المعارج» (فَما لِالَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية : ٣٦] باللام مع «ما» مقطوعة عما بعدها.

واعلم أن هجاء المصحف كثير وقد ذكرنا منها ما هو أنفع للقارىء وأكثر فائدة. وأما الحركات كلها فقد راعيناها إلا ما شاء الله في كتابة متن القرآن من هذا الكتاب كما بلغنا عمن تقدمنا من السلف الصالحين والعلماء المتقين ورووا أنهم وجدوها في الإمام كذلك ، وستراها في مواضعها إن شاء الله. وإنما كتبت هذه الحروف بعضها خلاف بعض وفي الأصل واحدة ، لأن الكتابة بالوجهين كانت جائزة عندهم فكتبوا بعضها على وجه وبعضها

٤٢

على وجه آخر جمعا بين المذهبين ، على أنهم كتبوا أكثرها على الأصل. وكل ما كتب في المصحف على أصل لا يقاس عليه غيره من الكلام ، لأن القرآن يلزمه لكثرة الاستعمال ما لا يلزم غيره. واتباع المصحف في هجائه واجب ومن طعن في شيء من هجائه فهو كالطاعن في تلاوته لأنه بالهجاء يتلى ، والفائدة للقارىء في معرفته أن يكون على يقين أن الذي يقرأ هو القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خلل فيه من جهة من الجهات. وقال جماعة من الأئمة : إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتاب أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكاتب وحيه ، وعلم من هذا العلم بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يعلم غيره فما كتب شيئا من ذلك إلا العلة لطيفة وحكمة بليغة ، وإن قصر عنها رأينا. ألا ترى أنه لو كتب على صلواتهم وان صلواتك بالألف بعد الواو أو بالألف من غير واو لما دل ذلك إلا على جه واحد وقراءة واحدة؟ وكذلك (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) وكتب (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) بغير ألف قبل الفاء ولا بعدها ليدل على القراءتين والله تعالى أعلم.

٤٣

المقدمة الثامنة

في أقسام الوقف

الوقف قطع الكلمة اسما أو فعلا أو حرفا عما بعدها ولو فرضا ، وله عند أكثر الأئمة خمس مراتب : لازم ، ومطلق وجائز ، ومجوّز لوجه ، ومرخّص ضرورة.

فاللازم من الوقف ما لو وصل طرفاه غيّر المرام وشنّع الكلام ، كقوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] إذ لو وصل بقوله (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩] صارت الجملة صفة «للمؤمنين» ، فانتفى الخداع عنهم وتقرّر الإيمان خالصا عن الخداع ، كما تقول : ما هو بمؤمن مخادع. ومراد الله جلّ ذكره نفي الإيمان وإثبات الخداع. وفي نظائر ذلك كثرة يوصلك المرور بها إلى العثور عليها.

والمطلق ما يحسن الابتداء بما بعده ؛ كالاسم المبتدأ به ، نحو (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) [الشورى : ١٣] وكالفعل المستأنف مع السين ، نحو (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٤٢] (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٩] وبغير السين ، نحو (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥] إلى غير ذلك من النظائر.

والجائز ما يتجاذب فيه طرفا الوصل والوقف ، مثل (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [النساء : ٦٠] ، لأن واو العطف تقتضي الوصل ، وتقديم المفعول على الفعل يقطع النظم فإن التقدير : ويوقنون بالآخرة.

والمجوّز لوجه ، مثل (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [البقرة : ٨٦] لأن الفاء في قوله (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ) [البقرة : ٨٦] والتعقيب يتضمن معنى الجواب والجزاء ؛ وذلك يوجب الوصل. إلا أن نظم الفعل على الاستئناف يرى للفصل وجها.

والمرخّص ضرورة ، ما لا يستغني ما بعده عما قبله ، لكن يرخص الوقف ضرورة انقطاع النفس لطول الكلام ، ولا يلزمه الوصل بالعود ، لأن ما بعده جملة مفهومة ، كقوله (وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢] لأن قوله «وأنزل» لا يستغني عن سياق الكلام ؛ فإن فاعله

٤٤

ضمير يعود إلى الصريح المذكور قبله. غير أنها جملة مفهومة لكون الضمير مستكنّا ، وإن كان لا يبرز إلى النطق. وأما ما لا يجوز الوقف عليه ففي مواجبه ومواقعه كثرة. وسيتلى عليك مواقع الفصل والوصل في جميع القرآن مع علل ذلك مفصّلة إن شاء الله تعالى.

وبعضهم قسم مراتب الوقوف إلى ثلاث : التام ، والكافي ، والحسن. ولا مشاحة في الاصطلاحات بعد رعاية المعنى. وليكن علامة اللازم «م» وعلامة المطلق «ط» والجائز «ج» ، والمجوز «ز» والمرخص «ص» ، وما لا وقف عليه فعلامته «لا» وعلامة الآية دائرة صغيرة هكذا «ه». وإنما التزمنا إيراد هذه الوقوف لدقة مسلكها وبلوغها في الغموض إلى حيث قصروا البلاغة على معرفة الفصل والوصل ، إلا أن ذلك بحسب الصياغة وما نحن فيه بطرق الصناعة وكل منهما تابع لارتباط المعنى بالمعنى وانفصاله عنه بالكل أو بالبعض. وسيتلى عليك تفاصيلها وبالله التوفيق.

٤٥

المقدمة التاسعة

في تقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة

اللفظ إما أن يعتبر دلالته على تمام مسمّاه ، أو على جزء مسماه ، أو على لازمه الذهني. الأول : دلالة مطابقة كدلالة البيت على مجموع الحائط والسقف ، والثاني : دلالة تضمّن كدلالة البيت على السقف أو الحائط ؛ والثالث : دلالة الالتزام كدلالة السقف على الحائط. والدلالة الأولى وضعية صرفة ، والباقيتان بمشاركة من الوضع والعقل.

تقسيم آخر : اللفظ إما أن يقصد بجزء منه دلالة على جزء معناه ، وهو المركب ، كعبد الله غير علم ؛ أو لا يقصد ، وهو المفرد ، ويشمل ما لا جزء له أصلا ، مثل ق علما ، وما كان له جزء ولكن لا يدلّ على معنى أصلا ، نحو زيد ؛ وما كان له جزء دال على معنى لكن لا في ذلك المسمى ، نحو : أسد الله علما لشخص إنساني ، وما له جزء دالّ على معنى في ذلك المسمى لكنه لم يقصد ، مثل عبد الله علما له.

تقسيم آخر : اللفظ المفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما أربعة أقسام : الأول : اللفظ واحد والمدلول واحد. الثاني : مقابل ذلك أي اللفظ كثير والمعنى كثير. الثالث : اللفظ واحد والمعنى كثير. الرابع : عكسه المعنى واحد واللفظ كثير.

فالأول : إن اشترك في مفهومه كثيرون مجردا عن سبب من خارج فهو الكلي ، ويقال له اسم الجنس وهو أقسام ستة ، لأنه إما موجود أو معدوم. والموجود إما واحد أو كثير. والواحد إما أن يكون مثله ممكنا كالشمس ، أو غير ممكن كالإله. والكثير إما متناه كالكواكب ، أو غير متناه كالعدد. والمعدوم إما ممكن الوجود في الخارج كجبل من ذهب ، أو غير ممكن كشريك الإله. وعلى التقادير ، فإن تفاوت وقوعه على أفراده بأن يكون لبعضها أولى أو أوّل أو أشد ، كالوجود للخالق والمخلوق ؛ فإنّ وقوعه على الخالق أوّل وأولى وأشد ، وكالأبيض على الثلج والعاج ؛ فإن وقوعه على الثلج أشد. فاللفظ مشكك لأنه يشكك بالنسبة إلى السامع في أنه متواطىء نظرا إلى اشتراك الكل في أصل المعنى ، أو

٤٦

مشترك نظرا إلى اختلافها في ذلك. وإن لم يكن في وقوعه تفاوت فمتواطئ ، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فإنّ كلّها متوافقة في الإنسانية مستوية فيها. وإن لم يشترك في مفهومه كثيرون فهو الجزئي : علم إن استقلّ في الدلالة بحيث لا يحتاج إلى أمر ينضم إليه من قرينة التخاطب والتكلم وتقدم الذكر ولام العهد والإشارة ، مضمر ، إن احتاج إلى إحدى القرائن الثلاث الأول ، ومبهم إن احتاج إلى شيء من الباقيتين. والعلم إما اسم كإبراهيم وموسى وعيسى ، وإما أن يكون لقبا اشتهر المسمى به مدحا أو ذمّا كإسرائيل ، أو كنية ويختص بما في أوله الأب أو الأم أو البنت أو الابن نحو : أبي لهب ، وأم القرى ، وابنة عمران ، وابن مريم. وقد يكون العلم علما لجنس بأسره بحيث لا يكون بعض أفراده الخارجة أولى بذلك من بعض ، لكونه للحقيقة الذهنية ليس فيها معنى الاستغراق ولا الوحدة الخارجية. وإذا أطلق على فرد من أفراده الخارجية ، نحو هذا أسامة مقبلا ، فليس ذلك بالوضع بل لمطابقة الحقيقة الذهنية لكل فرد خارجي مطابقة كل كلي طبيعي لجزئياته. فهذه تمام أقسام القسم الأول ، وهو أن اللفظ واحد والمعنى واحد.

الثاني : من الأربعة متباينة ، كالإنسان والفرس.

الثالث : إن كان اللفظ حقيقة للمتعدد من مدلولاته بأن كان موضوعا للجميع فمشترك ، وإلا فمنقول إن نقل من الموضوع له إلى معنى آخر لعلاقة واشتهر فيه : عرفي إن كان الناقل هو العرف العام ، واصطلاحي إن كان العرف الخاص ، وشرعي إن كان الشرع. وإلا فبالنسبة إلى المنقول عنه حقيقة ، وبالنسبة إلى المنقول إليه مجاز إن انتقل من الملزوم إلى اللازم ، وكناية إن كان العكس ، وإن نقل لا لعلاقة فمرتجل.

الرابع : من الأقسام : مترادفة ، كالليث والأسد.

ولا يخفى أن القسمين الأولين والقسم الرابع ثلاثتها نصوص في معناها ؛ أما الأول فلاتحاد المعنى الموجب لعدم احتمال الغير وهو معنى النص. وأما المتكثر في اللفظ والمعنى ، فلأنه حينئذ يكون لكل معنى لفظ فيتحد المعنى فلا يحتمل اللفظ غير ذلك. وأما الرابع فلاشتراط الاتحاد في المعنى. وأما القسم الثالث ، وهو أن اللفظ واحد والمعنى كثير ، فينقسم إلى مجمل وظاهر ومؤوّل لأن اللفظ بالنسبة إلى تلك المعاني إن كان متساوي الدلالة فهو المجمل وبإزائه المبين ، وإن كانت متفاوتة فالراجح هو الظاهر والمرجوح هو المؤوّل.

فالأول كقول تعالى (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ، فإن دلالة القرء بالنسبة إلى الطهر والحيض على السواء.

٤٧

والثاني نحو (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [الأنعام : ٧٢] فإن الأمر كما يحتمل الوجوب يحتمل الندب ، والصلاة كما يحتمل ذات الأركان يحتمل الدعاء ، إلا أن الأمر بالنسبة إلى الوجوب راجح ، والصلاة بالنسبة إلى الهيآت المخصوصة راجحة.

والثالث نحو (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] فإن اليد تحتمل القدرة والجارحة لكنها بالنسبة إلى القدرة مرجوحة فالرجحان مشترك بين النص والظاهر ويسمى بالمحكم ، وعدم الرجحان مشترك بين المجمل والمؤوّل ويشملهما المتشابه. والنص يمتاز عن الظاهر بأنه لا يحتمل الغير ، والظاهر يحتمله احتمالا مرجوحا ، والمجمل يتميز بكونه غير مرجوح ، والمؤوّل مرجوح ، والتأويل اشتقاقه من آل يؤول أي رجح. وفي الاصطلاح ، كما تقرر ، حمل الظاهر على المحتمل المرجوح فيشمل التأويل الفاسد والتأويل الصحيح ؛ فإن أريد التأويل الصحيح فقط فقد زيد في الرسم بدليل يصيره راجحا أي بحسب ذلك الدليل وإن كان مرجوحا بحسب مفهوم اللفظ وضعا أو عرفا كما قلنا في اليد بمعنى القدرة.

وإذا عرفت الأقسام الأربعة بأسرها فنقول : كلّ منها قد يكون مشتقا إن وجد له أصل يرجع إليه كالموجود والضارب بالإضافة إلى الوجود والضرب ؛ فإن معنى الاشتقاق أن تحدّ بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب ، فترد أحدهما إلى الآخر. وقد يكون غير مشتق إن فقد له أصل كالوجود والإنسان. وغير المشتق صفة إن دلّ على معنى قائم بالذات كالعلم والكتابة ، وغير صفة إن لم يدل كالجسم مثلا.

تنبيه : العلاقة المعتبرة في المجاز إنما تقع بحكم الاستقراء على نيف وعشرين وجها ؛ منها الاشتراك في صفة ظاهرة كالأسد على الرجل الشجاع لا على الأبخر لخفاء ذلك. وهذا معظم أنواع المجاز لأنه إطلاق اسم الملزوم على اللازم. وأكثر المجازات بل جميعها يرجع إلى ذلك. ومنها الاشتراك في الشكل كالإنسان للصورة المنقوشة. ومنها كونه آئلا إلى ذلك كالخمر للعصير ، أو كائنا عليه كالعبد على من أعتق. ومنها المجاورة مثل جرى الميزاب إذ الجاري في الحقيقة هو الماء لا الميزاب المجاور له. ومنها إطلاق اسم الحال على المحل مثل (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [آل عمران : ١٠٧] أي في الجنة لأنها محل الرحمة. ومنها عكسه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفضض الله فاك» أي أسنانك ، إذ الفم محل الأسنان. ومنها إطلاق اسم السبب على المسبب كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلّوا أرحامكم ولو بالسلام» أي صلوها فإنهم لما رأوا بعض الأشياء يتصل بالنداوة استعار صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلّ للوصل. ومنها عكس ذلك كقولهم للخمر إثم ، ليكون الإثم مسببا عنها. ومنها إطلاق الكل على الجزء ، نحو (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩] أي أناملهم. ومنها العكس نحو

٤٨

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي ذاته. ومنها اسم المطلق على المقيّد كقوله :

فيا ليت كل اثنين بينهما هوى

من الناس قبل اليوم يلتقيان

أي قبل يوم القيامة. ومنها العكس كقول شريح : أصبحت ونصف الخلق عليّ غضبان ، يريد المحكوم عليهم وظاهر أنهم ليسوا النصف سواء. ومنها اسم الخاص على العام كقوله سبحانه (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩] أي رفقاء له تعالى. ومنها العكس ، كقوله سبحانه حكاية عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٣] لأن الأنبياء قبله كانوا كذلك. ومنها كون المضاف محذوفا نحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ومنها كون المضاف إليه محذوفا كقوله : «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا». أي أنا ابن رجل جلا. ومنها إطلاق اسم آلة الشيء عليه مثل (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) [الشعراء : ٨٤] أي ذكرا حسنا ، لأن اللسان آلة الذكر. ومنها إطلاق اسم الشيء على بدله ، كما يقال : فلان أكل الدم ، أي ديته قال : «يأكلن كل ليلة إكافا». أي ثمن إكاف. ومنها إطلاق النكرة للعموم كقوله عز من قائل (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] أي كل نفس. ومنها إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر مثل (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] إذ جزاء السيئة حسنة ، ومنه قولهم : قاتله الله ما أحسن ما قال ، يريدون الدعاء له. ومنها إطلاق المعرّف باللام وإرادة واحد منكر كقوله تعالى (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) [النساء : ١٥٤] ، أي بابا من أبوابها وسيجيء. ومنها الحذف نحو (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، أي لئلا تضلوا. ومنها الزيادة نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

واعلم أن المجاز بالحقيقة فرع من فروع التشبيه ؛ لأنك إذا قلت : زيد أسد ، فكأنك قلت : زيد كالأسد في الجراءة ، فيستدعي مشبها ومشبها به ووجه شبه بينهما.

والمشبه والمشبه به قد يكونان حسيين كقولك : خدّه كالورد ؛ أو عقليين كالعلم إذا شبه بالحياة ؛ أو أحدهما محسوسا والآخر معقولا كالعطر إذا شبه بخلق كريم ، أو كالعدل إذا شبه بالقسطاس ، والخياليات كالشقيق إذا شبه بأعلام ياقوت منشرة ملزوزة في قرن ، والوهميات في قولك : نطقت الحال بشيء هو لها شبيه باللسان ، فإنه صورة وهمية محضة. وكذا الوجدانيات كاللذة والألم والشبع والجوع ملحقة بالعقليات.

ووجه التشبيه إما أن يكون أمرا واحدا أو لا ، وحينئذ إما أن لا يكون في حكم الواحد كما إذا شبهت إنسانا بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن وعلو الرتبة ، أو يكون. وذلك

٤٩

لكونه إما حقيقة ملتئمة من أوصاف ، كسقط النار إذا شبه بعين الديك في الهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكروي والمقدار المخصوص ، وإما أوصافا مقصودا من مجموعها هيئة واحدة كقوله :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فليس المراد تشبيه النقع بالليل ثم تشبيه السيوف بالكواكب ، إنما المراد تشبيه الهيئة الحاصلة من النقع الأسود والسيوف البيض حال كون السيوف متفرقات فيه ، بالهيئة الحاصلة من الليل المظلم والكواكب المشرقة في جوانب منه. ويسمى هذا تشبيه المركب بالمركب. ومتى كان وجه التشبيه وصفا غير حقيقي وكان منتزعا من عدة أمور خصّ باسم التمثيل كما في قوله عز من قائل : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) الآية [البقرة : ١٧] وسيجيء تفسيرها.

ثم إن التشبيه التمثيلي إذا فشا استعماله على سبيل الاستعارة لا غير سميّ مثلا ، كقولك لمن تردد في أمر : يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وذلك أن الاستعارة هي أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدّعيا دخول المشبه في جنس المشبه به ، دالّا على ذلك بإثباتك للمشبه ما يخصّ المشبه به ، كما تقول : في الحمام أسد ، وأنت تريد به الشجاع مدّعيا أنه من جنس الأسد ، فتثبت للشجاع ما يخصّ المشبه به وهو اسم جنسه ، أعني الأسد مع سدّ طريق التشبيه بإفراده في الذكر ، لأن التشبيه لا بد له من طرفين : مشبه ومشبه به. فإذا أفردت بالذكر أحدهما فكأنك قد سددت طريق التشبيه.

فإذن الاستعارة نوع من المجاز لأن المستعار له ، وهو زيد مثلا في قولك : زيد أسد ، يبرز في معرض المستعار منه ، وهو الأسد ، نظرا إلى الدعوى. وهذا شأن العارية. وإنما جرأهم على الدعوى ما رأوا بينهما من الاشتراك في اللازم وهو الشجاعة. والاستعارة في نحو : عندي أسد ، إذا لم تعقب بصفات ملائمة أو تفريع كلام لا تكون مجردة ولا مرشحة لفقد موضوعي التجريد والترشيح. وإنما يلحقها التجريد والترشيح إذا عقبت بذلك. فمتى عقبت بصفات ملائمة للمستعار له سميت مجردة ، نحو : ساورت أسدا شاكي السلاح طويل القناة : وإذا عقبت بصفات ملائمة للمستعار منه سميت مرشحة ، نحو : ساورت أسدا وافي البراثن هصورا.

وقد بقي من الاصطلاحات قولهم : هذا عام أو خاص أو مطلق أو مقيد. فالعام : ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة. فقولنا «ما دل» ليشمل العموم باللفظ

٥٠

والمعنى جميعا ، فإن العموم من عوارض المعاني أيضا حقيقة ، كقولهم : عمّ المطر والخصب ، وكذلك المعنى الكلي كالإنسان لشموله الجزئيات التي تحته. وقولنا «على مسميات» ليخرج المسمى وليدخل في العام المعدوم والمستحيل ، إذ لو قلنا «على أشياء» لخرجا بناء على أنهما ليسا بشيء : وقولنا «باعتبار أمرا اشتركت تلك المسميات فيه» ليخرج نحو عشرة وغيرها من أسماء العدد النكرات ، فإنها وإن دلّت على مسميات هي آحادها لكن لا باعتبار أمر اشتركت هي فيه بل باعتبار وضع اسم العدد للمجموع. وكذا الكلام في كل ذي أجزاء حسية أو عقلية. وقولنا «مطلقا» ليخرج الرجال المعهودون فإنها بقرينة العهد ، و «ضربة» احتراز من نحو رجل فإنه وإن دلّ على مسميات باعتبار كون كل منها ذكرا من بني آدم مطلقا ، لكن لا دفعة بل على سبيل البدل. ولهذا يخرج نحو رجال.

إذا تأملت فهذا حدّ العام والخاص بخلافه ، وهو ما دلّ لا على مسميات إلى آخره. فمن صيغ العموم أسماء الشرط والاستفهام مثل «من وما» ، والموصلات نحو «الذي والتي» ، والجموع المعرّفة تعريف جنس كـ «الرجال والمسلمات» والجموع المضافة نحو «عبيدي أحرار» ، واسم الجنس المضاف أو المعرف تعريف الجنس مثل «غلامي والغلام» ، والنكرة في سياق النفي نحو ما في الدار أحد. والتخصيص قصر العام على بعض مسمياته. وقد يطلق التخصيص أيضا على قصر اللفظ على بعض ما يتناوله وإن لم يكن ذلك اللفظ عاما. كما يطلق عليه أيضا أنه عام لتعدّده وتكثره وإن لم يكن من صيغ العموم كعشرة والمسلمين للمعهودين ، وكضمائر الجمع. ولا يستقيم تخصيص إلا فيما يستقيم توكيده بكل لكونه ذا أجزاء يصح افتراقها حسّا أو حكما ، إلا النكرة مثل قوله تعالى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ونحو : جاءني رجال كرماء.

والمخصّص أحد أربعة أشياء : الأول الاستثناء بـ «إلّا» ونحوها. والثاني الشرط ، وهو ما يتوقّف تأثير المؤثر عليه لا وجوده كالإحصان ، فإنه يتوقف عليه اقتضاؤه الرجم لا وجود الزنا. والثالث الصفة ، مثل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] والرابع الغاية نحو (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] هذا هو التخصيص بالمتصل. وقد يخص بالمنفصل وذلك إما العقل كقوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦ والزمر : ٦٢] وإما الحس نحو : أوتيت من كل شيء. وإما الدليل السمعي كقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] خصصته الآية الأخرى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] و (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] خصصه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القاتل لا يرث».

٥١

والمطلق هو اللفظ الدال على الماهية ، من حيث هي هي. ويلزم منه تمكّن المأمور من الإتيان بفرد منها ، أي فرد كان ، لأنه لا يمكن الإتيان بالماهية إلا بالإتيان بفرد منها. وذلك إما في معرض الأمر مثل : أعتق رقبة ، أو مصدر الأمر كقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [النساء : ٩٢] أو الإخبار عن المستقبل مثل سأعتق رقبة. ولا يتصوّر الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي ، مثل رأيت رجلا ، ضرورة تعينه بإسناد الرؤية إليه.

والمقيّد بخلاف المطلق فهو لفظ دال على مدلول غير شائع في جنسه فيدخل فيه الدال على المتعين مطلقا ، نحو زيد وهذا الرجل وأنا وأنت ، والدال على الشائع لا في جنسه بل في أفراده كالعامّ فهو مقيد لغة لا اصطلاحا. ويطلق المقيد على ما أخرج من شياع بوجه بأن يذكر الدال على الماهية بوصف زائد عليها كـ (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] ، فإنها ، وإن كانت مطلقة في جنسها من حيث هي رقبة مؤمنة ، إلا أنها مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة ، فهي مطلقة من وجه ومقيدة من وجه. وتقييد المطلق شبيه بتخصيص العام. فيجوز التقييد بالمتصل ، استثناء كان أو صفة أو شرطا أو غاية أو بدل بعض ، وبالمنفصل ، عقلا كان أو نقلا كتابا وسنة.

وتقسيم آخر : التركيب المفيد ، أعني الكلام ، قسمان : أحدهما الذي يحتمل أن يقال لقائله صدقت أو كذبت من حيث ذات التركيب لا من أمر خارج عن ذات التركيب. ويقال له الخبر. وإذا بلغ رواة الخبر مبلغا أحال العقل تواطؤهم على الكذب فهو متواتر ، وإلا فخبر الواحد. والثاني ما لا يحتمل ذلك ، ويقال له الطلب. والأول عبارة عن الجمل الأربع : الاسمية والفعلية والشرطية والظرفية. والثاني نوعان : نوع لا يستدعي في مطلوبه إمكان الحصول وهو التمني. ونوع يستدعي في مطلوبه ذلك. ثم إن كان طلب فعل فأمر ، وإن كان طلب ترك فنهي. وإن كان طلب فهم فاستفهام. وإن كان طلب إقبال فنداء. فمتى امتنع إجراء هذه الأبواب على الأصل تولد منها ما ناسب المقام كالاستبطاء والإغراء والتعجب والتوبيخ ونحو ذلك.

تقسيم آخر : الحكم خطاب الله أو من أذن له الله متعلقا بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. أما التخيير فيراد به الإباحة. وأما الاقتضاء فإما اقتضاء فعل مع امتناع الترك وهو الوجوب ، أو مع جواز الترك وهو الندب ؛ وإما اقتضاء ترك مع امتناع الفعل ، وهو الحظر والتحريم ، أو مع جوازه وهو الكراهة ؛ وأما الوضع فيراد به ما جعله الشارع بوضعه دليلا على شيء كدلوك الشمس على وجوب الصلاة ، أو سببا لشيء كالزنا لوجوب الحد ، أو شرطا كالوضوء لصحة الصلاة.

٥٢

وأما الصحة والبطلان أو الحكم بهما فأمر عقلي لا حكم شرعي ، لأن صحة العبادات إما كون الفعل مسقطا للقضاء كالفقهاء ، وإما موافقة أمر الشرع كالمتكلمين. ولا شك أن العبادات إذا اشتملت على أركانها وشرائطها حكم العقل بصحتها بكل من التفسيرين سواء حكم الشارع بها أو لا. والصحة في المعاملات أيضا حكم عقلي لأنها فيها كون الشيء بحيث يترتّب عليه أثر. وإذا كان البيع مشتملا على الأسباب والشرائط وارتفاع الموانع حكم العقل بترتب أثره عليه سواء حكم الشرع بها أو لم يحكم. وقس البطلان والفساد على ما قلنا. وكل حكم ثبت على خلاف الدليل لعذر فهو رخصة ؛ كحلّ الميتة للمضطر ، والقصر والفطر للمسافر واجبا ومندوبا ومباحا وإلا فعزيمة.

وإذا عرفت ما ذكرنا من التقسمات لا يخفى عليك المقصود من إيرادها لأن معاني كتاب الله تعالى منها محكم ومتشابه ، ومنها مجمل ومبين ، ويندرج فيهما المنسوخ والناسخ باعتبار ، لأن النسخ بيان انتهاء أمد الحكم الشرعي ؛ ومنها عام وخاص ، ومنها مطلق ومقيد ؛ ومنها أمر ونهي ؛ ومنها ظاهر ومؤوّل ؛ ومنها حقيقة ومجاز ؛ ومنها تشبيه وتمثيل ؛ ومنها كناية وتصريح ؛ ومنها الكلي والجزئي ، ومنها الخبر والطلب بأقسامهما ؛ ومنها الأحكم بأصنافها. ولا ريب أن تصوّر هذه الاصطلاحات وتذكرها في علم التفسير أمر مهم والله أعلم.

٥٣

المقدمة العاشرة

في أن كلام الله تعالى قديم أولا

ذكر قوم من أئمة الأمة أن كلام الله تعالى قديم بعد أن عنوا بكلامه هذه الحروف المنتظمة المسموعة أما أن كلامه تعالى هو هذه الحروف فلقوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]. ومعلوم أن المسموع ليس إلا هذه الحروف. وأما أنها قديمة فلأن الكلام صفة الله تعالى ، ومن المحال قيام الحادث بالقديم. وأيضا كلّ حادث متغيّر والتغير على ذات الله تعالى وصفاته محال. وزعم قوم أن الكلام المؤلف من الحروف والأصوات يمتنع أن يكون قديما بالبديهة ؛ وكيف لا وإنها أصوات تحدث قارئها يئا بعد شيء فلو قلنا : إنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى ، وحالّة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد. وجمع قوم بين المذهبين فقالوا : للشيء وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في العبارة ، ووجود في الكتابة. فللقرآن وجود عيني وهو القائم بذات الله تعالى ، وأنه قديم لا محالة لا يتطرق إليه شيء من سمات النقص ؛ ووجود ذهني كالحافظ للقرآن ، ووجود في العبارة وهو على لسان القارئ ؛ ووجود كتابي وهو المثبت في المصاحف. ولا ريب أن القرآن من حيثيات هذه الوجودات حادث بل القرآن إنما يطلق على المحفوظ والمتلو والمكتوب بالمجاز من حيث إنها دالة على الكلام القائم بذات الله تعالى.

واعلم أنه لا برهان على أن كل صوت فإنه يقوم بجسم ولا على أن كلّ حرف فإنما يقدر عليه ذو جارحة بل لعلّ في ذلك الشاهد فقط. فالكلام للقديم كمال قديم نطق وسمع وبصر ولا آلة ولا جارحة كما أنّه إدراك وعلم من غير ما قوى وعضو ، ومن لم يدركه كما ينبغي لم يدرك إدراكه كما ينبغي فلا يلومنّ إلا نفسه. كلامه كتاب ، وكتابه صواب ، وقوله فصل ، وحكمه عدل ، ونوره ظهور ، ووجوده شهود ، وعيانه بيان ، والكفر بما سواه إيمان (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ و ٢٧].

٥٤

المقدمة الحادية عشرة

في كيفية استنباط المسائل الكثيرة

من الألفاظ القليلة

إذا شرعنا مثلا في تفسير قول القائل «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فههنا مباحث لفظية ومباحث معنوية.

أما اللفظية فمنها ما يتعلق بالقراءة ، ومنها ما يتعلق باللغة ، ومنها ما يتعلق بعلم الاشتقاق ، ومنها ما يتعلق بعلم الصرف ، ومنها ما يتعلق بالنحو ، ومنها ما يتعلق بعلم البديع أعني المحسنات اللفظية.

وأما المعنوية فمنها ما يتعلق بالمعاني ، ومنها ما يتعلق بالبيان ، ومنها ما يتعلق بالاستدلال ، ومنها ما يتعلق بأصول الدين ، ومنها ما يتعلق بأصول الفقه ، ومنها ما يتعلق بالفقه ، ومنها ما يتعلق بعلم الأحوال.

أما القراءة فكما مر. وأما اللغة فإذا قلنا العوذ كذا ، واسم الله معناه كذا والشيطان كذا ، والرجيم كذا ، والباء ومن واللام معانيها هاهنا كذا ، فكل واحد منها مسألة. وأما الاشتقاق فإن اعتبرنا الاشتقاق الكبير وقلنا : إن التراكيب الستة الممكنة من ع وذ هل هي مستعملة أو مهملة؟ وكذا كل من تراكيب ال ش ط ن ، أو ش ي ط ، ومن تراكيب ر ج م ، وإذا كانت مستعملة ، فأصل المعنى في كل من المستعملات كيف يعتبر فيحصل مسائل كثيرة ، وإن اعتبرنا الاشتقاق الصغير فهل للعوذ معنى آخر غير الالتجاء وإن كان فما له الاشتراك بينهما أي شيء هو؟ فيحصل مسائل.

وأما الصرف فكأن نقول : «أعوذ» فعل مضارع متكلم وأصله أعوذ مثل أطلب ، نقلت الضمة من الواو إلى ما قبلها تخفيفا. والله أصله الإله كالناس أصله الإناس فعال بمعنى مفعول ، نقلت الكسرة من الهمزة إلى اللام وحذفت الهمزة للتخفيف فاجتمعت لامان فأسكنت الأولى وأدغمت في الثانية. وقالوا : يا الله ، في النداء خاصة بالقطع لأنها كالعوض من المحذوفة ، فكأنك قلت : يا إله. وقيل : أصله لاه ، ألحقوا بها الألف واللام وأنشدوا :

٥٥

كحلفة من أبي رياح

يسمعها لاهه الكبار

ولو عدّ هذه المسألة من اللغة جاز ، لأنها غير قياس. والشيطان فعلان أو فيعال ، والرجيم فعيل بمعنى مفعول ، وكلاهما للمبالغة. فهذه مسائل.

وأما النحو فـ «أعوذ» فعل فاعله ضمير المتكلم المستتر وهو أنا ، والمجموع جملة فعلية. وبالله متعلق به. وكذا من الشيطان الرجيم ، نحو سرت من البصرة إلى الكوفة. والرجيم صفة للشيطان معرف مثله ، وشيطان منصرف لأنه اسم جنس لا علم. فهذه مسائل.

وأما البديع فأن نقول : إنما اختير الرجيم دون اللعين أو المرجوم مثلا ليوافق الفاصلة الأخرى وهو الرحيم إذا ابتدأ القارئ بعد الاستعاذة بالبسملة ، وهو الأكثر ، مع أن أول القرآن أيضا البسملة واعتبار الاستعاذة هاهنا أولى ليكون تجنيسا خطيا وترصيعا.

وأما المعاني فأن نقول : إنما اختير المضارع على الماضي ليدل على الاستمرار والدوام. أي : شأني أني أعوذ ، كقولك : يشرب الخطيب. وإنما لم يقل : أنا أعوذ وأنا عائذ ، وإن كانت الجملة الاسمية تدل على الثبات ، لأن المراد أني على تجدد هذا القول مني لحظة فلحظة ثابت مستمر ، لا أن عوذي مستمر. ويمكن أن يقال : المراد أني أعوذ في حال القراءة لقوله تعالى (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨] فتعين إيراد لفظ المضارع لأنه مشترك بين الحال والاستقبال. وإنما لم يقل «بالله أعوذ» ليفيد الحصر ، كما يقال في «بسم الله أبتدىء» لأن الاستعاذة هاهنا أهم امتثالا للأمر ، ولأنه لا يعوذ إلا بالانقطاع عن الغير والتبري عن سوى الحق جل ذكره ، فلا حاجة إلى التخصيص ولأنه موافق لما ورد في القرآن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨]. وإنما اختير اسم «الله» لأنه كالعلم والمقام مقام إحضار له في ذهن السامع بعينه ليكون أدلّ على انقطاعه عما سواه. وإنما ذكر «الشيطان» معرفا باللام الجنسي ليدل على هذه الحقيقة التي هي مادة كل شر ، ويشمل كل فرد منها ضرورة وجود الحقيقة في أي فرد يفرض. ولو أريد العهد أيضا جاز كما مر. ولو نكرت بأن قلت : «من شيطان رجيم» لم يفد العموم وإن قلت : «من كل شيطان» لأطلت ، والمقام مقام اختصار. وإنما وصف بـ «الرجيم» لأن المقام مقام تأكيد وذم ، ولا ذم أبلغ من البعد عن حضرة من هو منشأ كل كمال ومصدر كل خير.

وأما البيان ، فإن قوله «أعوذ» معناه ألتصق. ولا ريب أن الالتصاق بالله محال لأن ذلك من شأن الأجسام. والمراد : ألتصق برحمة الله وفضله. فهو إذن مجاز لغوي. وفي نفس الالتصاق أيضا بعد تقدير الرحمة تجوّز بعيد على ما لا يخفى. ولو أريد بالشيطان شيطان الإنس أيضا ويثبت كون اللفظ موضوعا لشيطان الجن فقد كان استعارة. وإذا قدّرنا

٥٦

الاستعاذة من شر الشيطان ، كما مر ، كان مجازا بالنقصان أيضا.

وأما ما يتعلق بالاستدلال فإما من جهة التصوّر وإما من جهة التصديق. أما الأول فنحو كيفية اقتناص التصوّرات الواقعة في التركيب من مفهوم العوذ ومفهوم اسم الله ومفهوم الشيطان ومفهوم الرجيم وأن كلّا منها كيف يعرّف بالحدّ أو الرسم ؛ فإن عرف بالحد فكيف يرتب جنسه وفصله؟ وإن عرّف بالرسم فكيف يركب لوازمه؟ وأما معرفة الجنس والفصل واللوازم أنفسها لكل منها فمن الأمور العامة. وأما الثاني فإن قولنا : «أعوذ» لفظه خبر ومعناه إما دعاء أي اللهم أعذني ، وإما إنشاء نحو بعت واشتريت. وإذا كان كذلك فلا يتطرق إليه احتمال الصدق والكذب فلا يحتاج إلى البرهان على أحدهما. واستعمال الخبر في معنى الطلب من مسائل علم المعاني أيضا.

وأما ما يتعلق بأصول الدين فأن تعلم ذات الله تعالى وصفاته من أنه قادر مختار عليم إلى غير ذلك من الصفات التي بها يتمكن المستعاذ به من دفع المضار والشرور عن المستعيذ بحيث لا يمنعه مانع ولا يغلبه منازع ، وتصور الشيطان ولوازمه وكيفية وسوسته بنحو مما سبق في المقدمة الثانية.

وأما ما يتعلق بأصول الفقه فأن يعرف أن الاستعاذة الواردة في الكتابة والسنة واجبة أم لا بل مندوبة ، وإن كانت واجبة فتتكرر بتكرر القراءة أم لا ، وإنها تقتضي الفور أو تحتمل التراخي. وأما ما يتعلق بالفقه فإنها تستحب في الصلاة أم لا ، وإن استحبّت فتجوز في المكتوبة أم لا ، وإن جازت ففي كل ركعة أم في الأولى وحدها ، ويسرّ بها أم يجهر؟

وأما ما يتعلق بعلم الأحوال فكالنكت التي ذيلنا بها المقدمة الثانية وأنها لا تكاد تنحصر. فهكذا يجب أن تستنبط المسائل من كل كلام يراد تفسيره من غير أن يتخطى في شيء من ذلك إلى ما ليس من العلم ، كأن تقول في كل قراءة الاستعاذة ، والقراآت المشهورة سبع هي كذا وكذا ، ورواة كل قراءة من هم وما منشأ كل قراءة؟ وفي اللغة أن واضعها من هو؟ وكيف نشأت اللغات؟ وما معنى الاشتقاق؟ وما فائدته؟ وفي الصرف أنه معرفة أحوال الكلم التي ليست بإعراب. ومن جملة الأحوال صيغة المضارع وما معناها ، وما حد الفعل والكلمة؟ إلى غير ذلك من قواعد الصرف بل ما فوق ذلك من مباحث الحرف والصوت بل مقولة الكيف. وفي النحو أن التركيب مشتمل على الاسم والفعل والحرف ، والاسم معرب منصرف وغير منصرف ، ومبني ، وما سبب الإعراب والبناء والصرف ومنع الصرف ، وأنواع الإعراب كم هي؟ وكل منها يختص بأي شيء من الفاعل والمفعول

٥٧

والمضاف إليه ولم يختص بكل صنف ما يختص ، وأصناف الفعل كم هي؟ وأصناف الحرف كم هي ، ولا سيما حروف الجر ، وما معنى كل منها؟ إلى غير ذلك.

وبالجملة فمن كل علم يؤخذ نكت مخصوصة بهذه المادة يلزمنا إيرادها فقط إذ لو تعدّينا إلى ما فوق ذلك من القواعد والقوانين لزم إيراد كل العلوم أو أكثرها في تفسير كلام واحد ، وإنه محال شنيع إذ يلزم تداخل العلوم واضطراب القوانين. وأيضا لو فسر «الشيطان الرجيم» بما يلزمه من أنواع الضلالات والجهالات والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة في الملة الإسلامية وغيرها ، أو فسر بما هو مباين عنه كأنواع الآفات وأصناف المخافات حتى يلزم تكثير المسائل ، لم يخل عن التعسف والإعنات. ومن ارتكب شيئا من ذلك فقد نطق بالخلف وزاغ عن الجادة وانحرف عن سواء السبيل. نعم لو أورد طرف من الاصطلاحات أو المسائل على سبيل التصوير من غير إشارة إلى مآخذها الأصلية ودلائلها الكلية إلا نادرا ، جاز ما لم يتجاوز حد الضرورة ومقدار الواجب ، كما أشرنا إليها في المقدمات. وقد بقي مما يمكن أن يعد من المقدمات ذكر ابتداء الوحي وكيفية نزول القرآن شيئا بعد شيء ، وبيان كيفية إعجاز القرآن. ونحن قد رأينا الأليق بها إيرادها في مواضعها إذا أفضت النوبة إليها.

فلنشرع الآن في المقصود وهو التفسير المسمى بغرائب القرآن ورغائب الفرقان والله المستعان وعليه التكلان.

٥٨

سورة فاتحة الكتاب مكية ويقال مدنية وهي سبع آيات إلا أن المكي

والكوفي عدّا التسمية آية دون أنعمت عليهم ومذهب المدني والبصري

والشامي بالعكس وكلماتها خمس وعشرون وحروفها مائة وثلاثة وعشرون.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

القراآت : «مالك» : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف ، والباقون ملك : الرحيم ملك مدغما : أبو عمرو ، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل (قالَ لَهُمْ) [البقرة : ٢٤٩] أو مخرج واحد مثل (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ) [النساء : ١٠٢] أو قريبي المخرج مثل (خَلْقُكُمْ) [لقمان : ٢٨] و (لَقَدْ جاءَكُمْ) [البقرة : ٩٢] سواء كان الحرف المدغم ساكنا مثل (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة : ٢٦١] ويسمى بالإدغام الصغير ، أو متحركا فأسكن للإدغام مثل (قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ١١] و (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفا نحو (أُحِلَّ لَكُمْ) [البقرة : ١٨٧] و (مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٤٨] أو منقوصا مثل (وَما كُنْتَ تَرْجُوا) [القصص : ٨٦] و (كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحا قبله ساكن مثل (الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا) [النحل : ١٤] و (الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) [النحل : ٨] إلا في مواضع أربعة (كادَ يَزِيغُ) [التوبة : ١١٧] و (قالَ رَبِ) [المؤمنون : ٢٦] في كل القرآن و (الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] و (بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو (أَفَأَنْتَ تَهْدِي) [يونس : ٤٣] (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ) [الزخرف : ٤٠] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين. «الصراط» بإشمام الراء هاهنا وفي جميع

٥٩

القرآن : حمزة. وعن يعقوب بالسين في كل القرآن ، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن ، والباقون بالصاد. «عليهم» : وإليهم ولديهم بضم الهاءات كل القرآن : حمزة وسهل ويعقوب. ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش ، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ) [يس : ١٠].

الوقوف : العالمين (لا) لاتصال الصفة بالموصوف. الرحيم (لا) لذلك. الدين (ط) للعدول عن الغائب إلى المخاطب. نستعين (ط) لابتداء الدعاء. المستقيم (لا) لاتصال البدل بالمبدل. أنعمت عليهم (لا) لاتصال البدل أو الصفة. الضالين (ه).

التفسير : روي عن جندب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في كتاب الله عزوجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» (١) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (٢) فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمر آخر ، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي‌الله‌عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه. وليس كل ما قالوه سمعوه ، كيف وقد دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (٣) فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين :

أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك ، ولكن يلبس على خصمه. وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلا من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير باب ١. مسلم في كتاب المنافقين حديث ٤٠. الدارمي في المقدمة باب ٢٠. أحمد في مسنده (٥ / ١١٥).

(٢) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الفاتحة.

(٣) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ١٠. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ١٣٨. أحمد في مسنده / ٢٦٦ ، ٣١٤).

٦٠