تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

التفسير : الحكم الثالث : بيان حرمة الخمر والميسر. قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات نزلت بمكة (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأمّ بعضهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون. فنزلت (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) [النساء : ٤٣] فقلّ من يشربها. ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد ابن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أعرابي بلحي بعير فشجه موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠] فقال عمر : انتهينا يا رب. والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا ، فلو منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فإن الفطام عن المألوف شديد ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج والرفق.

واختلف العلماء في مفهوم الخمر فقال الشافعي : كل شراب مسكر فهو خمر. وقال أبو حنيفة : الخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب. احتج الشافعي بما روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. وهذا دليل على أن الخمر عندهم كل ما خامر العقل أي خالطه. والتركيب يدل على الستر والتغطية ، ومنه خمار المرأة. وكذا ما روي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من العنب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البر خمرا وإن من الشعير خمرا» ، قال الخطابي : إنما جرى ذكر هذه الأشياء خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان ، وكل ما في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجر فحكمها حكم هذه الخمسة. كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها. وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» (١) فمراد الشارع أن كل

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث ٧٣. أبو داود في كتاب الأشربة باب ٥. الترمذي في كتاب الأشربة باب ١. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٩. أحمد في مسنده (٢ / ١٦ ، ٢٩).

٦٠١

مسكر فهو خمر لغة أو شرعا فيكون حقيقة لغوية أو شرعية كالصلاة ، ولئن منع ذلك فلا أقل من أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة وهو المراد. وعن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البتع ـ وهو شراب يتخذ من العسل ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شراب مسكر فهو حرام» (١) وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل مسكر ومفتر. قال : الخطابي : والمفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء. وأيضا الآيات الواردة في الخمر منها اثنتان بلفظ الخمر وغيرهما بلفظ المسكر مثل (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] وفيه دليل على أن المراد بالخمر هو المسكر. وكذا في قول عمر ومعاذ «الخمر مذهبة للعقل». فإنه يوجب أن كل ما كان مساويا للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمرا وإما أن يكون مساويا للخمر في علة التحريم. وأيضا قال تعالى (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة : ٩٠] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر فيعلم منه أن حرمة الخمر معللة بالإسكار. فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإما أن يلزم الحكم بالحرمة في كل مسكر. حجة أبي حنيفة قوله تعالى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧] منّ الله علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، والنبيذ سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحا لأن المنة لا تكون إلا بالمباح ، وأيضا ما روي في الصحيحين عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استسقى فقال رجل : يا رسول الله ، ألا أسقيك نبيذا؟ قال : بلى. فخرج يسعى فجاء بقدح فيه نبيذ فشرب. واعلم أن المسكر حرام جنسه قل أم كثر نيئا أو مطبوخا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (٢) وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» (٣) قال الخطابي : الفرق مكيال يسع ستة عشر رطلا. وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب. وعن ابن عباس أنه جاء رجل فسأله عن العصير فقال : اشربه ما كان طريا. قال : إني أطبخه وفي نفسي منه شيء. قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال : لا ، قال : إن النار لا تحل شيئا وقد حرم. وقال

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأشربة باب ٤. بلفظ «إذا لم يسكر فلا بأس به».

(٢) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب ٥. الترمذي في كتاب الأشربة باب ٣. النسائي في كتاب الأشربة باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ١٠. الدارمي في كتاب الأشربة باب ٨.

أحمد في مسنده (٢ / ٩١ ، ١٦٧).

(٣) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب ٥. الترمذي في كتاب الأشربة باب ٣. أحمد في مسنده (٦ / ٧١ ، ٧٢ ، ١٣١).

٦٠٢

أبو حنيفة : المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام لكن لا حد على شاربه إلا إذا سكر ، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا القدر المسكر فيحرم ويتعلق بشربه الحد. يروى أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله «أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكن واحدا». ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد فهو حرام ولكن لا حد فيه ما لم يسكر ، فإن طبخ فهو حلال إلا المقدار الذي يسكر فإن ذلك حرام ويحد به ، ولا يعتبر في النقيع ذهاب الثلثين. ونبيذ الحنطة والشعير والعسل وغيرها حلال نيئا كان أو مطبوخا ، ولا يحرم منه إلا القدر المسكر. وذكروا في حد السكران عبارات فعن الشافعي : أنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم. وقيل : الذي لا يفرق بين السماء والأرض وقيل : الذي يتمايل في مشيه ويهذي في كلامه. والأقرب أن الرجوع فيه إلى العادة. ثم إن قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فيحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع وحرمته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة بل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان واقعا عن الحل والحرمة أي يسألونك عما في تعاطيهما. وأما كيفية دلالة الآية على الحرمة فهي أنها مشتملة على أن في الخمر إثما والإثم حرام لقوله تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ومما يؤكد هذا أن السؤال كان واقعا عن مطلق الخمر وقد جعل الله تعالى الإثم لازما لهذه الماهية فيلزمها الإثم على جميع التقادير من الشرب وغير ذلك من وجوه الانتفاع والاستعمال. وصرح أيضا بأن الإثم الحاصل منها أكبر من النفع المتوهم فيها عاجلا ، وإنما لم يقنع كبار الصحابة بهذه الآية طلبا لما هو آكد في التحريم ثقة واطمئنانا كما التمس إبراهيم عليه‌السلام مشاهدة إحياء الموتى طلبا لمزيد الإيقان وركونا إلى سكون النفس بالعيان. فإن قيل : لما كان الإثم لازما لماهية الخمر من حيث هي ، فلم لم تكن محرمة في سائر الشرائع؟ قلت : كم من نقص في الأديان السالفة تممه شرع خاتم النبيين! وأيضا هذا لزوم شرعي ، ويمكن أن تختلف الشرائع بحسب اختلاف الأزمان ولا سيما إذا اعتبرت مصالح الإنسان. والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعليهما. يقال : يسرته أي قمرته مشتق من اليسار لأنه يسلب يساره. عن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله. أو من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير ما كدّ وتعب. وقال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه. فالجزور نفسه يسمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء والياسر الجازر. ثم يقال

٦٠٣

للقامر : ياسر لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور. وقال الواحدي : يسر الشيء أي وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح. وأما صفة الميسر على ما في الكشاف فهي : إنه كانت لهم عشرة أقداح ـ وهي الأزلام والأقلام ـ أساميها : الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها عشرة أجزاء. وقيل : ثمانية وعشرين. لا نصيب لثلاثة وهي المنيح والسفيح والوغد ، وللفذ سهم ، والتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة. يجعلونها في الربابة ـ وهي خريطة ـ ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها. فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم. قال العلماء : وفي حكم الميسر سائر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إياكم وهاتين الكعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم» (١) وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وروي أن عليا رضي‌الله‌عنه مر بقوم وهم يلعبون بالشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟. إلا أن الشافعي رخص في الشطرنج إذا خلا عن الرهان ، وكف اللسان عن الطغيان ، وحفظ الصلاة عن النسيان. فإن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال وهذا ليس كذلك. ويحكى اللعب به عن ابن الزبير وأبي هريرة وكثير من السلف. وأما السبق في النصل والخف والحافر فجائز بالاتفاق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» (٢) وذلك لما فيها من التأهب للجهاد ، والكلام في تفاصيلها وشروطها مذكور في كتب الفقه.

(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي إنهما من الكبائر. ومن قرأ بالثاء فمعنى الكثرة أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. أما في الخمر فلأنها عدوّ العقل الذي هو عقال الطبع وأشرف خصائص الإنسان ومقابل الأشرف يكون أخس الأشياء. حكى بعض الأدباء أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (١ / ٤٤٦) بلفظ «وهاتان الكعبتان ..».

(٢) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ٦٠. الترمذي في كتاب الجهاد باب ٢٢. النسائي في كتاب الخيل باب ١٤. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ٤٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٦ ، ٣٥٨).

٦٠٤

له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ، ومن خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر كان الميل إليها أتم ، وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي كالزنا وغيره ، وكفى بقوله (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [المائدة : ٩٠] وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الخمر أم الخبائث» (١) ذما لها وتقريرا لإثم شاربها. وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب الخمر عشرة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر حرام» (٢) «وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» (٣) وكذا الكلام في الميسر مع أن فيه أكل الأموال بالباطل. وأما المنافع المذكورة فهي أنهم كانوا يغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن يعدّ ذلك فضيلة ومكرمة ، وكان يكثر أرباحهم بذلك السبب قال أبو محجن : أقومها زقا يحق بذا كم يساق إلينا تجرها ونسوقها.

قال أبقراط : في الخمر عشر منافع. خمس جسمانية وخمس نفسانية. فالجسمانية أنها تجوّد الهضم وتدرّ البول وتحسن البشرة وتطيب النكهة وتزيد في الباه. والنفسانية أنها تسر النفس وتقرب الأمل وتشجع النفس وتحسن الخلق وتزيل البخل. ومن منافع الميسر التوسعة على ذوي الحاجات لأنهم كانوا يفرقونه على المساكين فيكتسبون به الثناء والمدح. ولا ريب أن منافع الخمر والميسر لكونها مظنونة عاجلة أقل من إثمهما لكونه متيقن. الحساب الدائم العذاب ، والعاقل لا يختار النفع القليل الزائل بعقاب أبدي لا نهاية له.

الحكم الرابع : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) وقد تقدم ذكر هذا السؤال وأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد هنا فأجيب بذكر الكمية. وذلك أن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق وينبهان على عظم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ ومعنى العفو ما تيسر وسهل مما يكون فاضلا عن الكفاية. ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعا إلى التيسير والتسهيل. ويقال للأرض السهلة : العفو. ومن

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الأشربة باب ٤٤.

(٢) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث ٧٣. أبو داود في كتاب الأشربة باب ٥. الترمذي في كتاب الأشربة باب ١. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٩. أحمد في مسنده (٢ / ١٦ ، ٢٩).

(٣) رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث ٧٢. أبو داود في كتاب الأشربة باب ٥. النسائي في كتاب الأشربة باب ٤٥. أحمد في مسنده (٢ / ١٧٨).

٦٠٥

قال إن العفو هو الزيادة ، فهو أن الغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله. وحاصل الأمر يرجع إلى التوسط في الإنفاق والنهي عن التبذير والتقتير. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف» (١) وللعلماء في هذا الإنفاق خلاف. فعن أبي مسلم : أنه يجوز أن يكون العفو هو الزكوات ، ذكرها هاهنا مجملة وتفصيلها في السنة ، وقيل : إنه تطوع ولو كان مفروضا لبين مقداره ولم يفوّض إلى رأي المكلف. وقيل : إن هذا كان قبل نزول آية الصدقات ، وكانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم وينفقون ما فضل ثم نسخ بالزكاة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي كما بين لكم وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا يبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون إليه. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فتأخذون بما هو أصلح لكم من سلوك سبيل العدالة للإنفاق وغيره ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا الأدنى على الأعلى. ويجوز أن يتعلق بـ «يبين» أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون.

الحكم الخامس : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] عزلوا أموالهم عن أموالهم فنزلت. وعنه عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ) [النساء : ١٠] نطلق من كان عنده مال اليتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، وجعل يحبس له ما يفضل من طعامه حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) وهو كلام جامع لمصالح اليتيم والولي. أما لليتيم فلأنه يتضمن صلاح نفسه بالتقويم والتأديب ، وصلاح ماله بالتبقية والتثمير لئلا تأكله النفقة عليه والزكاة منه. وأما الولي فلأن إحراز الثواب خير له من التحرز عن مال اليتيم حتى تختل مصالحه وتفسد معيشته ، وقيل : الخبر عائد إلى الولي يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا ، وقيل : عائد إلى اليتيم أي مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن أمورهم ، والأصوب هو القول الأول ، فإن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة فينبغي أن يكون نظر المتكفل لأمور اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب الزكاة باب ٢١. بلفظ «خير الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى».

٦٠٦

لنفسه ولليتيم في ماله ونفسه. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم في الإسلام ، والمخالطة جمع يتعذر فيه التمييز. قيل : المراد وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز كما يفعله المرء بمال ولده ومع إخوانه في الدين ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة. وقيل : المراد بهذه المخالطة أخذ مقدار أجرة المثل في ذلك العمل ، وسنشرح المذاهب في ذلك إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إلى تفسير قوله تعالى (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] وقيل : المراد أن يخالطوا أموال اليتامى بأموالهم وأنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي وحمل بعضهم المخالطة على المصاهرة واختاره أبو مسلم ، لأن هذا خلط اليتيم نفسه والشركة خلط لماله. وأيضا الشركة داخلة في قوله (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) والخلط من جهة النكاح وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب. وأيضا إنه تعالى قال بعد هذه الآية (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) فكان المعنى إن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان في الإسلام لتتأكد الألفة بالمناكحة ، فإن كان اليتيم من المشركين فلا تفعلوا ذلك (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ) لأمورهم (مِنَ الْمُصْلِحِ) لها ، أو يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح فيجازيه على حسب غرضه ومقصده ، فأحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح ، وفيه تهديد عظيم فكأنه قال : أنا المتكفل بالحقيقة لأمر اليتيم ، وأنا المطالب لوليه إن قصر. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لحملكم على العنت وهو المشقة بأن ضيق عليكم طريق المخالطة معهم. وعن ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها ، أو يزوجها من ابن له كيلا يخرج مالها من يده. وقد يستدل بالآية على أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يقدر عليه وعلى أنه تعالى قادر على خلاف العدل لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول «ولو شاء لأعنت» ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم ولكنه (حَكِيمٌ) لا يكلف إلا ما يتسع فيه طاقتهم.

الحكم السادس : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) أكثر المفسرين على أن هذه الآية ابتداء شرع وحكم آخر في بيان ما يحل ويحرم. وعن أبي مسلم : أنه متعلق بقصة اليتامى ترغيبا في مخالطتهنّ دون مخالطة المشركات. عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي ـ وكان حليفا لبني هاشم ـ إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان

٦٠٧

يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق. فأتته وقالت : ألا نخلو؟ فقال : ويحك إن الإسلام حال بيننا. فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأمره فنزلت هذه الآية. ثم العلماء اختلفوا في الآية في موضعين : الأوّل في لفظ النكاح فقال أكثر أصحاب الشافعي : إنه حقيقة في العقد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (١) ولا شك أن المتوقف على الولي والشاهد هو العقد لا الوطء. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا «ولدت من نكاح لا من سفاح» ولقوله تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) [النور : ٣٢] وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء لقوله تعالى (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] والنكاح الذي ينتهي إليه الحرمة ليس هو العقد بل هو الوطء بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون» ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم. يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينيه. والضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال اللفظ فيهما جميعا. قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم «نكح المرأة» فقال : فرقت العرب بالاستعمال فرقا لطيفا. فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه تزوّجها وعقد عليها. وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته. لم يريدوا غير المجامعة. إلا أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد أي لا تعقدوا على المشركات.

الثاني لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب أم لا؟ قال الأكثرون : نعم لقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله سبحانه (عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣١] ولقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فلو كان كفر اليهود والنصارى غير الشرك لاحتمل أن يغفر الله لهم وذلك باطل بالاتفاق. وأيضا النصارى قائلون بالتثليث وليس ذلك في الصفات ، فإن أكثر المسلمين أيضا يثبتون لله تعالى صفات قديمة ، فإذن هو في الذات وهذا شرك محض. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّر أميرا وقال : إذا لقيت عدوّا من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. سمى من يقبل الجزية وعقد الذمة بالمشرك. وقال أبو بكر الأصم : كل من جحد رسالته فهو مشرك من حيث إن تلك المعجزات التي

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٣٦. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٩. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٤. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ١٥. الدارمي في كتاب النكاح باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ٢٥٠).

(٢) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب ٧ ، ٣٧.

٦٠٨

ظهرت على يده كانت خارجة عن حدّ البشر ، وهم أنكروها وأضافوها إلى الجن والشياطين ، فقد أثبتوا شريكا لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر. واعترض عليه بأن اليهودي حيث لا يسلم أن ما ظهر على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو من جنس ما لا يقدر العباد عليه ، لم يلزم أن يكون مشركا بسبب إضافة ذلك إلى غير الله. والجواب أنه لا اعتبار بإقراره ، وإنما الاعتبار بالدليل ، فإذا ثبت بالدليل أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن أضاف ذلك إلى غير الله كان مشركا كما لو أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب. احتج المخالف بأنه تعالى فصل بين أهل الكتاب والمشركين في الذكر حيث قال (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١] والعطف يقتضي التغاير. وأجيب بأن كفر الوثني أغلظ وهذا القدر يكفي في العطف ، أو لعله خص أوّلا ثم عمم. هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] أن أكثر عبدة الأوثان مقرون بأن إله العالم واحد ، وأنه ليس له في الإلاهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير ، فظهر أن وقوع اسم المشرك عليهم ليس بحسب اللغة بل بالشرع كالصلاة والزكاة. وإذا كان كذلك فلا يبعد بل يجب اندراج كل كافر تحت هذا الاسم ، لا سيما وقد تواتر النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يسم كل من كان كافرا بأنه مشرك.

التفريع إن قيل : المشركات تشمل الحربيات والكتابيات جميعا فالآية منسوخة أو مخصصة بقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] لأن سورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ شيء منها قط وهو قول ابن عباس والأوزاعي. لا يقال : لعل المراد من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب لأن قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) [المائدة : ٥] يشمل من آمن منهنّ فيبقى قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥] ضائعا ولإجماع الصحابة على جواز نكاح الكتابيات نقل أن حذيفة تزوّج بيهودية أو نصرانية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها. فكتب إليه : أتزعم أنها حرام؟ فقال : لا ، ولكني أخاف. وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا» وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في المجوس : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزا لكان هذا الاستثناء خاليا عن الفائدة. وإن قيل : إن المشركات تختص بالحربيات ، فالآية ثابتة وباقية على عمومها. ومن الناس من زعم أن هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التزوج بالمشركات. روي هذا عن الحسن وزيف بأن رفع مباح الأصل ليس

٦٠٩

بنسخ لأن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكونا حكمين شرعيين إلا أن يقال : إن تجويز نكاح المشركة قبل نزول الآية كان ثابتا من قبل الشرع. قوله (حَتَّى يُؤْمِنَ) اتفق الكل على أن المراد منه الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، ولكن لا يدل هذا على أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار فقط لما مر في تفسير قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] أنه لا بد في الإيمان الحقيقي من التصديق القلبي ، إلا أنه اكتفي هاهنا بالإقرار اللساني لأنه هو أمارة الإيمان بالنسبة إلينا ، فلا اطلاع لنا على صميم القلب ، والسرير موكولة إلى علام الخفيات. فإن وافق سره العلن كان مؤمنا حقا وإلا كان منافقا جدا (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) هذه اللام في إفادة التوكيد تشبه لام القسم. والمراد بالأمة وكذا بالعبد في قوله (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) أمة الله وعبده لأن الناس كلهم عبيدا لله وإماؤه أي ولا مرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) للمبالغة والجواب محذوف أي ولو كانت المشركة تعجبكم بمالها وجمالها ونسبها ، فالمؤمنة خير منها لأن الإيمان يتعلق بالدين والمال ، والجمال والنسب يتعلق بالدنيا ، ورعاية الدين أولى من رعاية الدنيا إن لم يتيسر الجمع بينهما. وقد تحصل المحبة والتآلف عند التوافق في الدين فتكمل منافع الدنيا أيضا من حسن الصحبة والعشرة وحفظ الغيب وضبط الأموال والأولاد ، وأما عند اختلاف الدين فتنعكس هذه القضايا. وقد يرى أضداد ما توقع منها ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» (١) وقد ظن بعضهم أن المراد بالأمة ضد الحرة فقال : التقدير : ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة. ولهذا ذهب بعض آخر إلى أن في الآية دلالة على أن القادر على طول الحرة يجوز له التزوّج بالأمة على ما هو مذهب أبي حنيفة ، لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون لا محالة واجدا لطول الحرة المسلمة ، لأنه بسبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح ، فيلزم قطعا أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) لا خلاف هاهنا في أن المراد به الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر على اختلاف أقسام الكفر (أُولئِكَ) المشركات والمشركون (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى ما يؤدي إليها ، فإن الزوجية مظنة الألفة والمحبة في الظاهر ، وقد تحمل المودة على الاتفاق في الدين

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ١٥. أبو داود في كتاب النكاح باب ٢. النسائي في كتاب النكاح باب ١٣. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٦. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤. الموطأ في كتاب النكاح حديث ٢١. أحمد في مسنده (٢ / ٤٢٨).

٦١٠

فلعل المؤمن يوافق الكافر ، والاحتراز عن مظنة الارتداد أهم من الطموح إلى إسلام المشرك. فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال. وقيل : المراد أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والجهاد ، وفي ترك الجهاد استحقاق النار والعذاب. وغرض هذا القائل أن يجعل هذا فرقا بين الذمية وغيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على ترك الجهاد. وقيل : إن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار فهذا هو الدعوة إلى النار. (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) حيث أمر بالتزوج بالمسلمة حتى يكون الولد مسلما من أهل الجنة ، أو المراد أن أولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة المغفرة وما يؤدي إليهما ، فهم الذين تحب موالاتهم ومصاهرتهم وأن يؤثروا على غيرهم (بِإِذْنِهِ) بتوفيق الله وتيسيره للعمل الذي يستحق به الجنة والغفران وقرى الحسن (وَالْمَغْفِرَةِ) بالرفع على الابتداء أي المغفرة كائنة بتيسيره (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) معناه واضح. وقد عرفت فيما مر أن التذكر محاولة استرجاع الصورة المحفوظة ، فكان الآيات تليه على ما هو مركوز في العقول من حقيقة دين الإسلام (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم : ٣٠].

التأويل : إن خمر الظاهر كما يتخذ من أجناس مختلفة كالعنب والتمر والعسل والحنطة والشعير وغيرها ، فكذلك خمر الباطن من أجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وأمثالها. وهذه تسكر النفوس والعقول الإنسانية التي هي مناط التكليف فلهذا حرمت في عالم التكليف ، وأما ما يسكر القلوب والأرواح والأسرار فهو شراب الواردات في أقداح المشاهدات من ساقي تجلي الصفات إذا دارت الكؤوس انخمدت شهوات النفوس ، فتسكر القلوب بالمواجيد عن المواعيد ، والأرواح بالشهود عن الوجود ، والأسرار بمطالعة الجمال من ملاحظة الكمال ، وهذا شراب حلال لأنه فوق عالم التكليف ، وإنه يمزج الكثيف باللطيف فيه (مَنافِعُ لِلنَّاسِ) وملاذ لأهل القرب والاستئناس.

فصحوك من لفظي هو الوصل كله

وسكرك من لحظي يبيح لك الشربا

فما مل ساقيها وما مل شارب

عقار لحاظ كأسه يسكر اللبا

قوم أسكرهم وجود الشراب وقوم أسكرهم شهود الساقي.

فأسكر القوم دور كأس

وكان سكري من المدير

الكأس والشراب والساقي والمسقي هاهنا واحد كما قيل :

٦١١

رق الزجاج وراقت الخمر

فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر.

وإثم الإعراض عن كؤوس الوصال في النهاية أكبر من نفع الطلب ألف سنة في البداية. أما الميسر فإثمه كبير عند الأخيار وإنه بعيد عن خصال الأبرار ، ولكن نفعه عدم الالتفات إلى الكونين ، وبذل نفوس العالمين في فردانية نقش الكعبتين. (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لأن إثمهما للعوام ونفعهما للخواص ، والعوام أكثر من الخواص. وبعبارة أخرى الإثم في الخمر الظاهر والميسر الظاهر ، والنفع في الخمر الباطن والميسر الباطن ، وأهل الظاهر أكثر من أهل الباطن والله أعلم.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

القراآت : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتشديد والأصل «يتطهرن» فأدغم التاء في الطاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. الباقون (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف من الطهارة. (أَنَّى) بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف. وقرأ العباس بالإمالة اللطيفة كل القرآن. الباقون بالتفخيم (لا يُؤاخِذُكُمُ) وبابه وكل همزة تحركت وتحرك ما قبلها مثل (يُؤَخِّرَ) و (يَؤُدُهُ) وأشباه ذلك بغير همز : يزيد وورش والشموني وحمزة في الوقف.

الوقوف : (عَنِ الْمَحِيضِ) ط (أَذىً) ط لأن لكونه أذى تأثيرا بليغا في وجوب الاعتزال (فِي الْمَحِيضِ) لا للعطف. (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ج لأن «إذا» متضمنة الشرط للفاء في جوابه مع فاء التعقيب فيها (أَمَرَكُمُ اللهُ) ط (الْمُتَطَهِّرِينَ) ه (حَرْثٌ لَكُمْ) ص لأن الفاء كالجزاء أي إذا كن حرثا فأتوهن وإلا فقد اختلف الجملتان (شِئْتُمْ) ز قد يجوز لوقوع العارض. (لِأَنْفُسِكُمْ) ط (مُلاقُوهُ) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (بَيْنَ النَّاسِ) ط (عَلِيمٌ) ه (قُلُوبُكُمْ) ط (حَلِيمٌ) ه (عَلِيمٌ) ه (عَزَمُوا) ه.

التفسير : الحكم السابع : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) قيل : إنه تعالى جمع في هذا الموضع بين ستة أسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو والباقية بالواو. والسبب أن سؤالهم

٦١٢

عن تلك الحوادث وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف ، لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الوقائع الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع لذلك كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن كذا وعن كذا. روي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، وكان أهل الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ، ولم يساكنوها في بيت. فقال ناس من الأعراب يا رسول الله ، البرد شديد والثياب قليلة. فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت ، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فنزلت الآية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت» يعني أن المراد من قوله تعالى (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ) فاعتزلوا مجامعتهن. واتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمان الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة وتحت الركبة ، واختلفوا فيما دون السرة وفوق الركبة. فالشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف قالوا : يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار بناء على أن المحيض مصدر كالمجيء والمبيت ، والتقدير : فاعتزلوا تمتع النساء في زمان الحيض. ترك العمل بالآية فيما فوق السرة وتحت الركبة للإجماع فبقي الباقي على الحرمة. وعن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها ، وقيل : ما سوى الفرج حلال ، لأن المراد بالمحيض موضع الحيض فالمعنى فاعتزلوا موضع الحيض من النساء ، نعم المحيض الأول مصدر فيصلح عود الضمير إليه في قوله (قُلْ هُوَ أَذىً) أي الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة وكراهة على أنه يحتمل أن يكون بمعنى المكان والتقدير هو ذو أذى ، وإنما قدم قوله (هُوَ أَذىً) لترتب الحكم وهو وجوب الاعتزال عليه. وذلك أن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، حتى لو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة. فذلك الدم جار مجرى البول والغائط فكان أذى وقذرا. ولا يرد عليه دم الاستحاضة حيث لا يوجب الاعتزال ، لأن ذاك دم صالح يسيل من عرق يتفجر في عنق الرحم ، ويؤيده ما روي في الصحيحين عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة؟ فقال : لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. ومعنى العرق أنه علة حدثت بها من تصدع العروق. وأصل الحيض في اللغة السيل. يقال : حاض السيل وفاض. قال الأزهري : منه قيل الحوض لأن الماء يحيض إليه

٦١٣

أي يسيل. والواو والياء من حيز واحد. وقد ورد في الحديث لدم الحيض صفات منها السواد ويراد به أنه يعلوه حمرة متراكبة فيضرب من ذلك إلى السواد ، ومنها الثخانة ، ومنها المحتدم وهو المحرق من شدة حرارته ، ومنها أنه ذو دفعات أي يخرج برفق ولا يسيل سيلا ، ومنها أن له رائحة كريهة ، ومنها أنه بحراني وهو الشديد الحمرة. وقيل : ما يحصل فيه كدورة تشبيها له بماء البحر. فمن الناس من قال : إن كان الدم موصوفا بهذه الصفات فهو الحيض وإلا فلا ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف ، وزوالها إنما كان بعارض الحيض. فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف الواجبة على ما كانت. ومنهم من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسرا ومشقة ، فالشارع قدر وقتا مضبوطا متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض ، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء. أما السن المحتمل للحيض فأصح الوجوه أنها تسع سنين فإن رأت الصبية دما قبل استكمال التسع فهو دم فساد. قال الشافعي : وأعجل من سمعت من النساء يحضن نساء تهامة يحضن لتسع سنين. وقيل : إن أول وقت الإمكان يدخل بالطعن في السنة التاسعة. وقيل : بمضي ستة أشهر من السنة التاسعة. والاعتبار على الوجوه بالسنين القمرية تقريبا على الأظهر لا تحديدا ، حتى لو كان بين رؤية الدم وبين استكمال التسع على الوجه الأصح ما لا يسع حيضا وطهرا ، كان ذلك الدم حيضا وإلا فلا ، وأقل مدة الحيض عند الشافعي يوم وليلة ، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام ، وعن مالك لا حد لأقله. وأما أكثر الحيض فهو خمسة عشر يوما وليلة لقول علي رضي‌الله‌عنه وكرم الله وجهه : ما زاد على خمسة عشر فهو استحاضة. وعن عطاء : رأيت من تحيض يوما ومن تحيض خمسة عشر يوما. وأما الطهر فأكثره لا حد له. فقد لا ترى المرأة الدم في عمرها إلا مرة واحدة ، وأقله خمسة عشر يوما ، وقال أحمد أقله ثلاثة عشر. وقال مالك : ما أعلم بين الحيضتين وقتا يعتمد عليه لنا الرجوع إلى الوجود ، وقد ثبت ذلك من عادات النساء ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي» (١) أشعر ذلك بأقل الطهر وأكثر الحيض. وغالب عادات النساء في الحيض ست أو سبع ، وفي الطهر باقي الشهر. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحمنة بنت جحش : «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء ويطهرن». ومعنى : «في علم الله» ، أي مما

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٣٢. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٩ أحمد في مسنده (٢ / ٦٨) بلفظ «.. .. وتمكث الليالي ما تصلي».

٦١٤

علمك الله من عادتك أو من غالب عادات النساء. ويحرم في الحيض عشرة أشياء : الصلاة والصوم والاعتكاف والمكث في المسجد والطواف ومس المصحف وقراءة القرآن والسجود والغشيان بنص القرآن والطلاق في حق بعضهن ثم إن أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل مجامعتها إلا بعد أن تغتسل عن الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري. والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها حتى تغتسل ويمضي عليها وقت صلاة ، وإن رأته عشرة أيام جاز له أن يقربها قبل الاغتسال. حجة الشافعي أن القراءة المتواترة حجة بالإجماع فإذا حصلت قراءتان متواترتان وجب الجمع بينهما ما أمكن. فمن قرأ «يطهرن» بالتخفيف فانتهاء الحرمة عنده انقطاع الدم ، ومن قرأ «يطهرن» بالتثقيل فالنهاية تطهرها بالماء ، والجمع بين الأمرين ممكن بأن يكون النهاية حصول الشيئين. ومعنى قوله (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) أي لا تجامعوهن وهذا كالتأكيد لقوله (فَاعْتَزِلُوا) ويحتمل أن يكون ذلك نهيا عن المباشرة في موضع الدم وهذا نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع. وأيضا قوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) تعليق للإتيان على التطهر بكلمة «إذا» ، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهر. والمراد بالتطهر الاغتسال ؛ لأن هذا الحكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يحصل في كل بدنها لا في بعض من أبعاض بدنها. وعن عطاء وطاوس هو أن تغسل الموضع وتتوضأ. وقال بعضهم : غسل الموضع. ثم القائلون بوجوب الاغتسال أجمعوا على أن التيمم يقوم مقامه عند إعواز الماء (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي من المأتي الذي أمركم به وحلله لكم وهو القبل. عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة. وقال الأصم والزجاج : فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات. وعن محمد ابن الحنيفة : فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى أن يبدر عنهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك بمجامعة الحائض والطاهرة قبل الغسل وإتيان الدبر (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن تلك الفواحش. فالتائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه لأن الذنب كأنه نجاسة روحانية حكمية (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] أو يحب التوابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب ، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار والأوزار. الحكم الثامن (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) وإنه جار مجرى البيان والتوضيح لقوله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فينبغي أن يؤتى المأتي الذي هو مكان الحرث ، وعن جابر رضي

٦١٥

الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس : جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هلكت. قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت رحلي الليلة. قال : فلم يرد عليّ شيئا. فأوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية. وتحويل الرحل قيل : ظاهره الكناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد. وقيل : إنه الإتيان في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها. وعنه كانت الأنصار تنكر أن يأتي الرجل المرأة مجبية أي في قبلها من دبرها وكانوا أخذوا ذلك من اليهود وكانت قريش تفعل ذلك ولما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أي مقبلات ومدبرات ومستكفيات بعد أن يتقى الدبر والحيضة ، وذلك أن قوله (حَرْثٌ لَكُمْ) أي مزرع ومنبت للولد وهذا على سبيل التشبيه. ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات ، وإنما وحد الحرث لأنه مصدر أقيم مقام المضاف أي هن مواضع حرث فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، بعد أن يكون المأتي واحدا وهو موضع الحرث أعني القبل دون الدبر ، هذا ما عليه أكثر العلماء ويؤيده قوله عز من قائل (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا) جعل ثبوت الأذى علة للاعتزال ولا معنى للأذى ، إلا ما يتأذى الإنسان منه بنتن وتلوث وتنفر طبع ، والأذى في الدبر حاصل أبدا فالاعتزال عنه أولى بالوجوب. فمعنى (أَنَّى شِئْتُمْ) كيف شئتم من قبلها قائمة أو باركة أو مضطجعة. وقيل : «أنى» بمعنى «متى» أي فأتوا حرثكم أي وقت شئتم من أوقات الحل يعني إذا لم تكن أجنبية أو محرمة أو صائمة أو حائضا. وعن ابن عباس : المعنى إن شاء عزل وإن شاء لم يعزل. وقيل : متى شئتم من ليل أو نهار والأصح الأول وعن مالك والشيعة تجويز إتيان النساء في أدبارهن ويحكى أن نافعا نقل عن ابن عمر مثل ذلك واحتجوا بأن الحرث اسم المرأة لا الموضع المعين وبأن قوله (أَنَّى شِئْتُمْ) معناه من أين شئتم كقوله (أَنَّى لَكِ هذا) [مريم : ٣٧] أي من أين. وكلمة «أين» تدل على تعدد الأمكنة فيلزم أن يكون المأتي بها متعددا. وبقوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] ترك العمل بعمومه في حق الذكور لدلالة الإجماع فوجب أن يبقى معمولا به في حق الإناث. ولا يخفى ضعف هذه الحجج ولو سلم مساواتها دلائل الحرمة في القوة فالاجتناب أحوط ، وكيف لا وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ملعون من أتى امرأة في دبرها» ولو لم يكن فيه إلا فوات غرض التوالد والتناسل الذي به بقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف أنواع الكائنات لكفى به منقصة وذما ، وإذا كان لزنا لكونه مزيلا

٦١٦

للنسب محرما ، وكذا الخمر لكونها رافعة للعقل ، والقتل لكونه مفنيا للشخص ، فلأن يحرم هذا الفعل لكونه متضمنا لفناء النوع أولى كاللواط وإتيان البهيمة والاستمناء ولهذا عقبه بقوله (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة كقول الرجل لغيره «قدم لنفسك عملا صالحا» وذلك أن الآية اشتملت على الإذن في أحد الموضعين والمنع عن الموضع الآخر فكأنه قيل : لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وإنما يجب أن تكونوا في ربقة الإخلاص وتقديم الطاعة ، ثم إنه أكد ذلك بقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) ثم زاد التأكيد بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا تحسن إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن مشتهي. فقوله (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) تحريض على فعل الطاعات ويندرج فيه ابتغاء لولد والتسمية عند الوقاع وغير ذلك من بآداب الخلوة ، وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) زجر عن المحظورات والمنكرات ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) تذكير ليوم البعث والحساب الذي لولاه لضاع فعل الطاعات وترك المنهيات وما أحسن هذا الترتيب! ثم قال (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) كيلا يخلو الوعيد من الوعد. ولم يذكر المبشر به وهو الثواب والكرامة ونحوهما إما لأنه كالمعلوم من نحو قوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧] ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) [البقرة : ٢٥] وإما لأن الغرض نفس البشارة مثل «فلان يعطى».

الحكم التاسع : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) وهو نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف ، فإن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة أي معرضا له قال : فلا تجعلوني عرضة للوائم. وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم : ١٠] ، والحكمة فيه أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك فلا يؤمن إقدامه على الأيمان الكاذبة. وأيضا كلما كان الإنسان أكثر تعظيما لله كان أكمل في العبودية ، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يبتذله ويستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. وقوله (أَنْ تَبَرُّوا) علة النهي اي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصّلحوا بين الناس لأن الخلاف مجترئ على الله غير معظم له فلا يكون برا متقيا ، فإذا ترك الحلف لاعتقاده أن الله أعظم وأجل من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا اعتقد الناس في صدق لهجته وبعده من الأغراض الفاسدة فعدوه برا متخذا من الإخلال بواجب حق الله فيدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. ومعنى آخر وهو أن تكون العرضة «فعلة» بمعنى «مفعول» كالقبضة والغرفة فيكون اسما للشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانع الناس من السلوك ، ومنه «عرض العود على الإناء» وتقول

٦١٧

«فلان عرضة دون الخير». وذلك أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة لرحم أو إصلاح أو إحسان أو عبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني. فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أي حاجزا لما حلفتم عليه. وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» (١) أي على شيء مما يحلف عليه. فيكون قوله (أَنْ تَبَرُّوا) عطف بيان (لِأَيْمانِكُمْ) أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى أو الإصلاح بين الناس ، وعلى هذا فاللام في (لِأَيْمانِكُمْ) إما أن تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخا وحاجزا ، وإما أن تتعلق بـ (عُرْضَةً) لما فيها من معنى الاعتراض بمعنى لا تجعلوا شيئا يعترض البر. ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق (أَنْ تَبَرُّوا) بالعرضة أي لا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا (وَاللهُ سَمِيعٌ) إن حلفتم به (عَلِيمٌ) بنياتكم إن تركتم الحلف إجلالا لذكره ، واليمين في الأصل عبارة عن القوة فسمي الحلف بذلك لأن المقصود بها تقوية جانب البر على جانب الحنث. اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولهذا قيل : لما لا يعتد به ولا يخطر من أولاد الإبل في الدية «لغو» وهو في الأصل مصدر لغا يلغو. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا» (٢) واختلف الفقهاء في اللغو من اليمين فذهب الشافعي ـ وهو قول عائشة والشعبي وعكرمة ـ أنه قول العرب «لا والله» و «بلى والله» مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. فلو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لا ننكر ذلك ولعله قال : لا والله ألف مرة. ومذهب أبي حنيفة وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة والسدي ومكحول ـ أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن. وفائدة الخلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل «لا والله» و «بلى والله» ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك. حجة الشافعي أن الآية تدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ، لكن المراد من قوله (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) هو الذي يقصده الإنسان على سبيل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب ١ ، ٨٣ وكتاب الكفارات باب ١٠. مسلم في كتاب الأيمان حديث ١٩. أبو داود في كتاب الأيمان باب ١٢ ، ١٤. الترمذي في النذور باب ٥. النسائي في كتاب الأيمان باب ١٥ ، ١٦. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ٧.

(٢) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب ٢٠٣. النسائي في كتاب الجمعة باب ٢٢. أحمد في مسنده (٢ / ٤٧٤).

٦١٨

الجد ويربط به قلبه فيكون اللغو ما تعوّده الناس في الكلام «لا والله» و «بلى والله» فأما إذا حلف على شيء أنه كان حاصلا جدا ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين المتصل تصديق قوله وربط قلبه بذلك فلم يكن لغوا البتة ، وأيضا إنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية النهي عن كثرة الحلف فذكر عقيب ذلك حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام على سبيل القصد إلى الحلف ، وبيّن أنه لا مؤاخذة عليهم ولا كفارة لأن إيجاب الكفارة والمؤاخذة عليهم يفضي إما إلى أن يمنعوا عن الكلام أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين ، فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرنا هو المناسب ويؤده ما روت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لغو اليمين قول الرجل بين كلامه لا والله وبلى والله» وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله ثم أخطأ فقال الذي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب. وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة. وقال أبو حنيفة : اليمين معنى لا يلحقه الفسخ فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق. وأيضا إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه» أوجب الكفارة على الحانث مطلقا من غير فصل بين المجد والهازل. وقيل : إن يمين اللغو هو الحلف على ترك طاعة أو فعل معصية ، فبين الله تعالى أنه لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية وعن الضحاك أن اللغو هي اليمين المكفرة كأنه قيل : لا يؤاخذكم الله بإثم الحلف إذا كفرتم. وقيل : هي ما يقع سهوا ، والمراد بما كسبت قلوبكم هو العمد ، واختاره القاضي أبو بكر. ثم إن الشافعي قال : معنى لا يؤاخذكم لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه ، ولكن يلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده. وقال أبو حنيفة : معناه لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن ، ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد أي الكذب في اليمين ، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس. وقال مالك في الموطأ : أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة. قال : والذي يحلف على شيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا أو يعتذر لمخلوق أو يقتطع به مالا فهذا لا أعلم أن يكون فيه كفارة ، وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح الذي له فعله ثم يفعله ، أو أن يفعله ثم لا يفعله مثل : أن حلف ألا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيع بذلك ، أو يحلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. (فَإِنَّ اللهَ

٦١٩

غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم وأخر عقوبتكم بما كسبت قلوبكم لعلكم تتفكرون أو تتوبون عنها.

الحكم العاشر : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يقال في اللغة : آلى يؤلي إيلاء وائتلى ائتلاء وتألى تأليا. والإلية والقسم واليمين والحلف كلها واحد. وفي الحديث القدسي «آليت أن أفعل» (١) خلاف المقدرين والإيلاء في الشرع هو الحلف على الامتناع من وطء لزوجة مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر. وكان الإيلاء طلاقا في الجاهلية فغيّر الشرع حكمه. قال سعيد بن المسيب. كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها وكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات بعل ، والغرض منه مضارة المرأة. ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك أيضا فأزال الله تعالى ذلك وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل. فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها. ثم المتعارف أن يقال : آليت على كذا وإنما عدي هاهنا بمن لأنه أريد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر كما يقال : «لي منك كذا» أو ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم أو يعتزلون مولين أو مقسمين. والتربص التلبث والانتظار وإضافته إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله «بينهما يوم» أي مسيرة في يوم (فَإِنْ فاؤُ) فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب الضرار بالإيلاء وهو الغالب ، وإن كان من الجائز كونه على رضا منهن إشفاقا منهن على الولد من القتل أو لغير ذلك من الأسباب (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) بان عقدوا القلب على حل رابطة النكاح (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة التي هي مثل التوبة. واعلم أن الإيلاء له أركان أربعة. الحالف والمحلوف به والمحلوف عليه ومدة هي ظرف المحلوف عليه.

الركن الأول : الحالف وهو كل زوج يتصور منه الوقاع وكان تصرفه معتبرا في الشرع ، فيصح إيلاء الذمي لعموم قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق ، وأيضا لا فرق عندنا بين الحر والرقيق في الحد. وعند أبي حنيفة يتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل كما قالا في الطلاق لنا أن التخصيص خلاف الظاهر ، ولأن تقدير هذه المدة إن كان لأجل

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٢. بلفظ «فآليت أن أقولها لك».

٦٢٠