تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

تكفيره ولا نفاق. فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خاليا عما يشعر به ظاهره ، ومنه «النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها» فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج.

الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال الآخرون : المنافق أيضا كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه. قال عز من قائل : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وأيضا إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك. وأيضا الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي. وأيضا الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب. وأيضا المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صما بكما عميا وضرب لهم الأمثال الشنيعة.

الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة «الذين كفروا» كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي. حذفت الهمزة تخفيفا ، مع لام التعريف كاللازم. وقوله «إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا» قليل. ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان. سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن. وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء. «ومن» في «من يقول» موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) [الأحزاب : ٢٣] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف. وإن لم يكن مفيدا من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون «من» موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأسا. وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ)

١٦١

[التوبة : ٦١] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون «من» موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضا ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين. ومن البين أن مدلول قوله «وما هم بمؤمنين» معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعا ، والضمير العائد إلى «من» يكون موحدا تارة باعتبار اللفظ نحو (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الأنعام : ٢٥] ومجموعا أخرى باعتبار المعنى مثل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في «يقول» و «آمنا». وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره. وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم «عزير ابن الله» وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته. فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلا للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثا إلى خبث وكفرا إلى كفر. والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده. فإن قلت : كيف طابق قوله «وما هم بمؤمنين» قولهم «آمنا» والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الاسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا. ونظير الآية قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) [البقرة : ١٦٧]. ثم إن قوله «وما هم بمؤمنين» يحتمل أن يكون مقيدا وترك لدلالة التقييد في «آمنا». ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما.

البحث الثاني : في قوله (يُخادِعُونَ اللهَ) إلى (يَكْذِبُونَ).

اعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها

١٦٢

الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع. والأخدعان عرفان في العنق خفيان. وخدع الضب خدعا إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلا. والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية. فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :

تلك الفتاة التي علقتها عرضا

إن الحليم ذا الإسلام يختلب

لم يجز أن يخدعوا. قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله ـ حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون ـ صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم ـ حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار ـ صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم ـ حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقا لم يكن عارفا بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]. ويحتمل أن يكون من قولهم «أعجبني زيد وكرمه» فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص. ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] وقولهم «علمت زيدا فاضلا» الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيدا كان معلوما له قديما كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيدا. ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. «ويخادعون» بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفا كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل : يخادعون. وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم. والسؤال الذي يذكر هاهنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على

١٦٣

حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وقراءة من قرأ وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة : ٩] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرها يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضا تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب. وأن يراد «وما يخدعون» فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها ، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض. ومجازا بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي ، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين غلا وحنقا (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩] وناهيك بما كان من ابن أبي ، وقول سعد بن عبادة لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة ـ وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج ـ أي يجعلوه ملكا ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حينا ثم تركد ، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع. فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبنا وخورا. ومعنى زيادة الله إياهم مرضا أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفرا إلى كفرهم ، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] وهذا كما قال الحكيم : البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شرا. وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطا ازدادوا حسدا وبغضا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع ، ويحتمل أن يقال : الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله :

١٦٤

اصبر على مضض الحسو

د فإن صبرك قاتله

النار تأكل نفسها

إن لم تجد ما تأكله

فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة. والأليم الوجيع. ووصف العذاب به على طريقة قولهم «جد جده» والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد. والمراد بكذبهم قولهم «آمنا بالله وباليوم الآخر». وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته. وما يروى عن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم «إنها أختي» وثالثها قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] فالمراد التعريض «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» (١) ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفا للخبر ، والصدق نقيضه. وقراءة من قرأ «يكذبون» بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل «صدق» نحو : بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله :

قد بين الصبح لذي عينين

أو بمعنى الكثرة نحو «موتت البهائم» ، أو من قولهم «كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه» لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» (٢) وما في قوله «بما كانوا» مصدرية أي بكذبهم ، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم.

البحث الثالث : في قوله تعالى «وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض» إلى قوله «ولكن لا يشعرون»

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١١٦.

(٢) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ١٦. النسائي في كتاب الإيمان باب ١٣. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣١. أحمد في مسنده (٢ / ٣٢).

١٦٥

هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين. فقوله «وإذا قيل» إما معطوف على «كانوا يكذبون» أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا ، وإما على «يقول» أي ومن الناس من إذا قيل له. ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف ، وإسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و «آمنوا» ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح ، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل. أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو : زعموا مطية الكذب. والقائل لهم إما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح ، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم ، وإما بعض المؤمنين ، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين. والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعا به ، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى ، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها. وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب ، وحدثت المفاسد. وقيل : هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون ، أوهم ذلك ضعف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيصير سببا لطمع الكفار في المؤمنين ، فتهيج الفتن والحروب. وقيل : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين ، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم «إنما نحن مصلحون» كالمقابل له. فههنا احتمالات : أحدها : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، فزعموا أنهم مصلحون. وثانيها : إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) [النساء : ٦٢] وثالثها : أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد ، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت ، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره. «وألا» مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ) [القيامة : ٤٠] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي «أما» من مقدمات اليمين وطلائعها. قال :

أما والذي أبكى وأضحك والذي

أمات وأحيا والذي أمره الأمر

١٦٦

رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف ، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم ، فرد الله عليهم. وكان وروده بدون الواو هو المطابق ، ومن جهة ما في «ألا» وفي «أن» من التأكيد ، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله «لا يشعرون».

البحث الرابع : في قوله «وإذا قيل لهم آمنوا» الآية.

هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما : تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة ، والثاني : دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام. وبعبارة أخرى أمروهم أولا بالتخلية عما لا ينبغي ، وثانيا بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين. وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم ، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل.

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

وما في «كما» يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو زيد صديقي كما عمرو أخي. ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في (بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ٢٥ ، ١١٨] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتا كما أن إيمان هؤلاء ثابت ، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء ، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم. ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل. والاستفهام في «أنؤمن» في معنى الإنكار ، واللام في «السفهاء» مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك : إن زيدا قد سعى بك. فتقول : أو قد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم ، وأصله الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر إذا مالت به ، قال ذو الرمة :

جرين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مر الرياح النواسم

وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان ، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر

١٦٧

الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم كما قال قوم نوح (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) [هود : ٢٧] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتّ في أعضائهم. عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في أرض مخترف ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني بهن جبريل آنفا. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني. فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام. قالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا : شرنا وابن شرنا فانتقصوه. قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقرونا بالمؤكدات التي بيناها في قوله «ألا إنهم هم المفسدون» وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه ، وكذا من باع آخرته بدنياه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» (١). وأيضا من السفه معاداة المحمديين (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [الصف : ٨].

كالطود يحقر نطحة الأوعال

إنما فصلت هذه الآية «بلا يعلمون» والتي قبلها «بلا يشعرون» لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات ، وخصوصا عند العرب في جاهليتهم. وما كان قائما بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣١. أحمد في مسنده (٤ / ٢٤).

١٦٨

البحث الخامس : في قوله (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآيات.

هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم ، والفرق بين هذه الآية وبين قوله «ومن الناس من يقول آمنا» أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم. عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد علي عليه‌السلام فقال : مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ، فأثنوا عليه خيرا. فرجع المسلمون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بذلك فنزلت. ويقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه. وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى ، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية ، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك «خلا فلان بعرض فلان» عبث به ، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلانا أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي. وعن ابن عباس : إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود. وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون. إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم ، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين. وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض ، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية ، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين «ربنا إننا آمنا» وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد ، وإنما فقد العاطف بين قوله «إنا معكم» وبين قوله «إنما نحن مستهزءون» الأوّل معناه الثبات على الكفر ، والثاني ردّ للإسلام. لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع ، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء. أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو لأنه

١٦٩

استئناف كأنه قيل : ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع. ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء : أحدها قول الله «يستهزىء بهم» وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة ، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل : الله يستهزىء بهم. وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر ، أن الله عزوجل هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم. وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزىء بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فإن قيل : الاستهزاء جهالة (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزىء ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها ، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة ـ وأهل الجنة ينظرون إليهم ـ فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٣٤] فهذا هو الاستهزاء ، وإنما لم يقل الله مستهزىء ليكون طبقا لقوله «إنما نحن مستهزءون» لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتا بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ٢٦] (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤] وثانيها قوله «ويمدهم في طغيانهم» هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه ، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما. وإنما قلنا : إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف : ٢٠٢] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف ، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله. والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مددا. أو

١٧٠

بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضروريا فكيف يتبرأ من ذلك؟ «ويعمهون» في موضع الحال. والعمه كالعمى ، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي ، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها : قوله «أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى» أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :

أخذت بالجمة رأسا أزعرا

وبالثنايا الواضحات الدردرا

وبالطويل العمر عمرا جيدرا

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء. وفي المثل «ضل دريص نفقة» أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسنادا مجازيا لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازا إذا دلت الحال. ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازا أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :

ولما رأيت النسر عز ابن دأية

وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. «وما كانوا مهتدين» لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان : سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية.

١٧١

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

القراآت : «آذانهم» وبابه بالإمالة : نصير وأبو عمر. «بالكافرين» وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة : أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. «شاء الله» حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان.

الوقوف : «نارا» (لا) لأن جواب «لما» منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها. «لا يبصرون» (ه) «لا يرجعون» (ه) للعطف بأو وهو للتخيير ، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل. ومن جعل «أو» بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية. وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب. «وبرق» (ج) لأن قوله «يجعلون» يحتمل أن يكون خبر المحذوف ، أي هم يجعلون ، أو حالا عامله معنى التشبيه في الكاف ، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب. «الموت» (ط) «بالكافرين» (ه) «أبصارهم» (ط) لأن كلما استئناف. «فيه» (لا) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول «قاموا» (ط) و «أبصارهم» (ط) «قدير» (ه).

التفسير : لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميما للبيان. ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين ، والغائب كأنه شاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد. ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) [الحشر : ٢١] وفشت في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع» «مثل الجليس الصالح كمثل الداري» وأمثال العرب أكثر من أن تحصى ، حتى صنف فيها كتب مشهورة. والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير ، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل. ولا يخلو من غرابة ، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير. وأما هاهنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن ، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضربا من الهدى بحسب الفطرة ، ولما

١٧٢

نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلا ، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد نارا في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب. والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] وحذف النون لاستطالته بصلته ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا ، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعا في قوله «بنورهم وتركهم» لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ، (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ) [الجمعة : ٥] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطرابا والإضاءة فرط الإنارة (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية ، مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن «ما» مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة ، و «حوله» نصب على الظرف ، وتأليفه للدوران والإطافة ، والعام حول لأنه يدور. وجواب «لما ذهب الله بنورهم» فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظرا إلى المعنى ، كما أن الضمير في «حوله» راجع إليه من حيث اللفظ. وقيل : الأولى أن يقال : جوابه محذوف مثل (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار. ثم إن سائلا كأنه يسأل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفردا ، ويمكن أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم. ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد ، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله. ثم إما أن تكون نارا مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار ، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها ، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء ، وللباطل صولة ، ثم تضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت. ونار العرفج مثل لثروة كل طماح (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤] وإما نارا حقيقية أو قدها الغواة

١٧٣

ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم. وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق «فلما أضاءت» لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأسا وطمسه أصلا ، فإن الضوء شدة النور وزيادته ، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس. والفرق بين «أذهبه» و «ذهب به» أن معنى «أذهبه» أزاله وجعله ذاهبا ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه. وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه. وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، وإذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :

«فتركته جزر السباع ينشنه»

ومنه قوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، وقيل : عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم «ما ظلمك أن تفعل كذا» أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية. وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان ، وفي قوله «لا يبصرون» دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغا يبهت معها الواصفون. وكذا في إسقاط مفعول «لا يبصرون» وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعد أصلا. ومحل «لا يبصرون» إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئا ، وإما نصب مفعولا ثانيا ، أو حالا من هم مثل (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار. عن سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به. وكان انتظارهم له كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون ، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) ، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم. وإنما قلنا : إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة ، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ. ومعنى «لا يرجعون» لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلا عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدءوا منه كيف يرجعون.

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

١٧٤

(١) ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق ، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق ، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة ، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه. ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلا آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف ، وإيضاحا غب إيضاح ، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع. فيكون تقدير الكلام «مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب» على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعا نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين. والتمثيلان جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب. ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال ، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ، ولذلك أخرج تدرجا من الأهون إلى الأغلظ ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا : أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به. ألا ترى إلى قوله تعالى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ) [يونس : ٢٤] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب لأن الضمير في «يجعلون» لا بد له من راجع هذا هو التحقيق. وقد يقال : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضروريا ليصبح تشبيه المنافقين بهم ، ويكون المعنى «مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا» ويكون ذكر المشبهات مطويا على سنن الاستعارة. والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب : صيب أيضا. وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول. والسماء هذه المظلة ، والفائدة في ذكره ، والصيب لا يكون إلا من السماء ، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء. وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على «فيعل» والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقا ، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها

__________________

(١) قوله ومثله حال مريد إلخ كذا في الأصل ولعل في العبارة سقطا أو تحريفا وحرر كتبه مصححه.

١٧٥

وخالطتها ، حصل من اختلاطها موجودات شتى. فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئا بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية. أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكبا يقذف به ، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد. وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جدا فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع ، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابا والقاطر مطرا. ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعا ، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحابا وهذا هو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب ، فنزل وكان ثلجا ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل ، فنزل وكان صقيعا وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيها بالثلج ، وربما جمد البخار بعد ما استحال قطرات ماء فكان بردا. وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب ، وفي الربيع وهو داخل السحاب ، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحابا فاستحال مطرا. وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة ، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحابا فبرد فتغلغل فيه الدخان طلبا للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد ، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد ، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة نارا تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد. وإن كان قويا شديدا غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعا فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال. فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى. ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : ارتفع «ظلمات» بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف. والصيب إن كان سحابا فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وإن كان مطرا فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل. ثم إن كان الصيب سحابا فكونه مكانا للرعد والبرق ظاهر ، وإن كان مطرا فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك ، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري :

١٧٦

يا عارضا متلفعا ببروده

يختال بين بروقه ورعوده

وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل ، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل : وإرعاد وإبراق. ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. وجاز رجوع الضمير في «يجعلون» إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور. قال حسان

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق. والبريص نهر من أنهارها. ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر. ولا محل لقوله «يجعلون» لكونه مستأنفا كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم. ثم سئل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فأجيب «يكاد البرق يخطف أبصارهم» وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] والمراد إلى الرسغ. وليس بعض الأصابع ـ كالمسبحة مثلا بجعلها في الأذن ـ أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله «من الصواعق» أي من أجل الصواعق نحو : سقاه من العيمة. وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ، ثم طفئت. ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته. فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية ، أو مصدرا كالعافية والكاذبة.«وحذر الموت» مفعول له كقوله :

وأغفر عوراء الكريم ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

والموت فساد بنية الحيوان. وقيل : عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس. وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، والجملة معترضة لا محل لها. «يكاد» من أفعال المقاربة. كاد يفعل كذا يكاد كودا ومكادا

١٧٧

ومكادة وضعت لمقاربة الشيء ، فعل أو لم يفعل. فمجرده ينبىء عن نفي الفعل ، ومقرونه بالجحد ينبىء عن وقوع الفعل. وخبر كاد فعل مضارع بغير «أن» وهو هاهنا «يخطف» والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة «كلما أضاء لهم» استئناف ثالث كأنه قيل : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكا أخذوه والمفعول محذوف ، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو. «وأظلم» إما لازم وهو الظاهر ، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه ، ومعنى «قاموا» وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد. وإنما قيل مع الإضاءة «كلما» ومع الإظلام «إذا» لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي الضوء البرق فأعماهم. ومفعول «شاء» محذوف ، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ، وهذا الحذف في «شاء» و «أراد» كثير لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله :

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وقال عز من قائل (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) [الأنبياء : ١٧] وكلمة «لو» تفيد انتفاء الثاني لانتفاء الأول. وقد تجيء للمبالغة كقوله «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» والمراد أن عدم العصيان ثابت على كل حال لأنه على تقدير عدم الخوف ثابت ، فعلى تقدير الخوف أولى. والشيء أعم العام كما أن الله أخص الخاص ، يجري على الجوهر والعرض والقديم والحادث بل على المعدوم والمحال. وهذا العام مخصوص بدليل العقل ، فمن الأشياء ما لا تعلق به للقادر كالمستحيل والواجب وجوده لذاته ، وأما الممكن فإبقاؤه على العدم وكذا إيجاده وإبقاؤه على وجوده ، لأن جميع ذلك بقدرة القادر فلا يستغنى آنا من الآنات ولحظة من اللحظات عن تأثير القادر فيه. وقدرة كل قادر على مقدار قوته واستطاعته ، ونقضيها العجز. فلا قادر بالحق إلا هو سبحانه وتعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

القراآت : «خلقكم» مدغما : أبو عمرو وكذلك كل ما كان قبلها متحرك. وازاد

١٧٨

عباس كل ما كان قبلها ساكن مثل (ما خَلْقُكُمْ أَوْ صَدِيقِكُمْ) و (بِوَرِقِكُمْ) و (مِيثاقَكُمْ) وأشباه ذلك. قال ابن مجاهد : يدغمها بإظهار صوت القاف. وقال غيره ـ وهو ابن مهران ـ لا يظهر ذلك وكل صواب.

الوقوف : «تتقون» (ه) لأن «الذي» صفة الرب تعالى. «بناء» (ص) لعطف الجملتين المتفقتين «لكم» (ج) لانقطاع النظم مع فاء التعيب. «تعلمون» (ه).

التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلا وآجلا ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقا وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطا. ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولا ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة. وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قربا وحضورا. وأيضا الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلا بد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا. وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه «يا أيها الناس» فهو مكي و «يا أيها الذين آمنوا» فهو مدني فقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها. «ويا» حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية. وهاهنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦] (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢] و «يا» وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديرا لكونه ساهيا أو غافلا أو نائما ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضما واستقصارا كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله. مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» وقد ينادي القريب. (٣) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جدا نحو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٨٣] (يا عِبادِيَ)

١٧٩

[الزمر : ٥٣] (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الأحزاب : ٤٥] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها. وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح. وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه أي من الإضافة. ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده «بكل» و «أجمعون» في مثل قوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [ص : ٧٣] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة. وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا.

والمراد من قوله «اعبدوا» صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفا بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبدا ذليلا ماثلا بين يدي مولاه ، طائعا له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبدا فلا بد أن يطلب لنفسه سيدا ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلا (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] وإلا لم تصح نسبة عبوديته. عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل؟ قال : ما تطعمني. قال : ما تشرب؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع. ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله «ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم» واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد : ٣٨] (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] وأما

١٨٠