تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك. وقيل : أصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها إلى أخرى. وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله «يا نبيء الله» أي يا من خرج من مكة إلى المدينة. فأنكر عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهمزة. وقيل : النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض ، أي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرف على سائر الخلق «فعيل» بمعنى «مفعول» ، والجمع أنبياء. وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة (ذلِكَ بِما عَصَوْا) تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوبا سلفت منه فعاقبه عند آخرها «هذا بما عصيتني وخالفت أمري. هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي» ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو تكون الباء بمعنى «مع» أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي ، واعتدوا حدود الله في كل شيء. وقيل : هو اعتداؤهم في السبت. واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولا بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب. وقيل : الأول إشارة إلى متقدميهم ، والثاني إشارة إلى من كان في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأنه تعالى بيّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة. فإن قيل : لم قيل هاهنا (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) وفي «آل عمران» (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ٢١] منكرا؟ قلت : الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق» (١) فالحق المعرف إشارة إلى هذا ، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب ٦. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥ ، ١١ ، ١٤.أحمد في مسنده (١ / ٦١ ، ١٦٣).

٣٠١

الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

القراآت : (النَّصارى) بالإمالة : أو عمرو وحمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري ، والخراز عن هبيرة ، وكذلك كل راء بعدها ياء. وروى قتيبة بكسر الصاد والراء ، وكذلك قوله (سُكارى) و (أُسارى) و (يُوارِي) و (فَأُوارِيَ) كلها بإمالة ما قبل الألف (وَالصَّابِئِينَ) بغير همزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة.

الوقوف : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) (ز) لنوع عدول عن إثبات إلى نفي مع اتفاق الجملتين. و (يَحْزَنُونَ) (ه) (الطُّورَ) (ط) لأن التقدير : قلنا لكم خذوا (تَتَّقُونَ) (ه) (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) (ج) لأن «لولا» للابتداء وقد دخل الفاء فيه (الْخاسِرِينَ) (ه) (خاسِئِينَ) (ه) (ج) للآية والعطف بالفاء (لِلْمُتَّقِينَ) (ه).

التفسير : قد انجرّ الكلام في الآي المتقدمة إلى وعيد أهل الكتاب ومن يقفو آثارهم ، فقرن به ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب مع الترهيب فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا). واختلف المفسرون هاهنا لأن قوله في آخر الآية (مَنْ آمَنَ). يدل على أن المراد من قوله (آمَنُوا) شيء آخر ، كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦]. فعن ابن عباس : المراد أن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيسى عليه‌السلام مع البراءة من أباطيل اليهود والنصارى كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري. كأنه قيل : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذين كانوا على الدين الباطل لليهود ، والذين كانوا على الدين الباطل للنصارى ، كل من آمن بعد مبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلهم أجرهم. وعن سفيان الثوري : إن الذين آمنوا باللسان دون القلب وهم المنافقون ، والذين تهوّدوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية ، والنصارى ، والصابئين ، كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم كذا. وقيل : الذين آمنوا هم المؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي. وكأنه قيل : إن الذين آمنوا في الماضي ، واليهود والنصارى والصابئين ، كل من آمن منهم وثبت على ذلك في المستقبل واستمر. واشتقاق اليهود قيل من قولهم (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي تبنا

٣٠٢

ورجعنا. عن ابن عباس : وقيل نسبوا إلى يهودا أكبر ولد يعقوب. وقيل : إنهم يتهودون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة. واشتقاق النصارى قبل من ناصرة قرية كان ينزلها عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج. وقيل : لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضا. وقيل : لأن عيسى عليه‌السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله. واحد النصارى نصران ، ومؤنثه نصرانة : والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري ، والصابئين بالهمزة اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبوا إذا خرج من دينه إلى دين آخر. وكانت العرب يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صابئا لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر دينا على خلاف أديانهم. عن مجاهد والحسن : هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. وعن قتادة : قوم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات. وقيل : وهو الأقرب ـ إنهم قوم يعبدون الكواكب ثم فيهم قولان : الأوّل أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء. والثاني أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وفوّض التدبير إليها ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله سبحانه. وينسب هذا المذهب الى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه‌السلام ، فبين الله تعالى أن هذه الفرق الأربع إذا آمنوا بالله ويدخل فيه الإيمان بكل ما أوجبه كالإيمان برسله وآمنوا باليوم الآخر وبما وعد فيه ، فإن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند الله تعالى. ومحل (مَنْ آمَنَ) رفع على أنه مبتدأ خبره (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والجملة خبر «إن» ، أو نصب على أنه بدل من اسم «أن». والمعطوفات عليه. وخبر «أن» (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والفاء لتضمن من أو الذين معنى الشرط. قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين لأنهم أهل كتاب ، وعكس الترتيب في الحج لأن الصابئين مقدمة على النصارى بالزمان ، وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في التقدير ، لأن تقديره : والصابئون كذلك. وقوله سبحانه (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) مخاطبة فيها معاتبة لاشتمالها على تذكير النعم وتقدير المنعم. وللمفسرين في هذا الميثاق أقوال : أحدها : أنه ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته وعلى صدق أنبيائه ورسله وهو أقوى المواثيق والعهود ، لأنه لا يحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه من الوجوه وهو قول الأصم ، وثانيها ما روي عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن موسى عليه‌السلام لما رجع من عند ربه بالألواح ، قرأوا ما فيها من الأخبار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، أمر جبرائيل بقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فحينئذ قبلوا وأعطوا الميثاق. وعن ابن عباس : إن لله ميثاقين الأول ، حين أخرجهم من صلب آدم على أنفسهم ، والثاني أنه تعالى ألزم الناس متابعة الأنبياء. والمراد هاهنا هو هذا العهد. وإنما قال (مِيثاقَكُمْ) ولم يقل «مواثيقكم» للعلم بذلك

٣٠٣

كقوله (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي كل واحد منكم ، أو لأن الميثاق بشيء واحد أخذه من كل واحد منهم. ولو قال مواثيقكم لأشبه أن يكون لكل منهم ميثاق آخر. والواو في (وَرَفَعْنا) إما واو عطف إن جعل الميثاق مقدما على رفع الجبل كما في قول الأصم وابن عباس ، وإما واو الحال إن جعل مقارنا للرفع ، كأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم والطور. قيل : الجبل مطلقا. وعن ابن عباس : أنه جبل من جبال فلسطين. وقيل : جبل معهود ، والأقرب أنه الجبل الذي وقعت المناجاة عليه ، وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيدا منهم ، فإن القادر على أن يسكن الجبل في الهواء قادر على أن ينقله إليهم من المكان البعيد.

(خُذُوا) على إرادة القول أي وقلنا خذوا (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة غير متكاسلين ولا متثاقلين وقيل : بقوة ربانية (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ، وإنما لم يحمل على نفس الذكر لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله فكيف يجوز الأمر به؟ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا إرادة أن تتقوا (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) معطوف على محذوف أي فقبلتم والتزمتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به. ويمكن أن يقال أخذ الميثاق عبارة عن قبولهم فلا حاجة إلى تقدير (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد القبول والالتزام. قال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ، فحرفوا التوراة وتركوا العمل به وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم. ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلا. ونهارا يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في عسكره ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأونها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكتاب ، وجحودهم لحقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بإمهالكم وتأخير العذاب عنكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ، ولكنكم خرجتم من هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليكم بالإمهال حتى تبتم. فإن كلمة «لولا» تدل على امتناع الثاني لوجود الأول ، فامتنع الخسران لوجود فضل الله. ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ويكون قوله (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) رجوعا بالكلام إلى أوّله ، أي لولا لطف الله بكم برفع

٣٠٤

الجبل فوقكم لدمتم على ردكم للكتاب ، ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولطف بكم بذلك حتى تبتم.

قوله عز من قائل (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) اللام للابتداء ، ولا تكاد تدخل الماضي بدون قد لأنها ولتأكيد مضمون الجملة الاسمية نحو : لزيد قائم ، أو لتأكيد المضارع نحو : ليضرب زيد. لكن قد تقرب الماضي من الحال فيصير الماضي كالمضارع مع تناسب معنى «قد». ومعنى «اللام» في التحقيق ، وعند الكوفيين يقدر القسم قبله. عن ابن عباس : إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه‌السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام ، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أوب في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة ، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد. فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد استنت الأبناء سنة الآباء واتخذوا الأموال ، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت فنهوهم فلم ينتهوا وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيرا. فقيل لهم : لا تغتروا بذلك فربما ينزل بكم العذاب والهلاك. فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا ثلاثة أيام ثم ماتوا. قال بعضهم : وفي الكلام حذف أي ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا ليكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك. والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت والاعتداء فيه ، إما نفس الاصطياد لأنهم أمروا فيه بالتجرد للعبادة فجاوزوا ما حد لهم واشتغلوا بالصيد ، وإما الاصطياد مع استحلاله. وقوله (كُونُوا) المراد منه سرعة الإيجاد وإظهار القدرة وإن لم يكن هناك قول (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] (قِرَدَةً خاسِئِينَ) خبر «إن» أي كونوا جامعين بين القردة ، والخسوء وهو الصغار والطرد. عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥] ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه : كن حمارا. واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنسانا ، وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قردا. وأيضا لو جوزنا ذلك لم نأمن في كل ما نراه قردا وكلبا أنه كان إنسانا عاقلا وذلك شك في المشاهدات. وأجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك ، إما جسماني سار في جميع البدن ، أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ ، أو

٣٠٥

مجرد كما يقوله الفلاسفة. وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل ، والفهم باق فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية ، فيتألمون بذلك ويتعذبون ، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله ، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا ، الكل جائز عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا (فَجَعَلْناها) أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة (نَكالاً) عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية. والنكول عن اليمين الامتناع عنها. ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون ، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم ، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده ، هكذا قال بعضهم ، والأولى عندي أن يقال : جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة ، ولأجل ذنوب تأخرت عنها ، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها. ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري ، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئا ، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة ، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى ، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أو ليعظ المتقون بعضهم بعضا. وقيل : للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ

٣٠٦

نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

القراآت : (يَأْمُرُكُمْ) بالاختلاس : أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء. (هُزُواً) ساكنة الزاء مهموزة ، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل. وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط ، وقرأ حفض غير الخراز مثقلا غير مهموز ، الباقون : مثقلا مهموزا (جِئْتَ) وبابه بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت (فَادَّارَأْتُمْ) بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ، عما يعملون بالياء التحتانية : ابن كثير.

الوقوف : (بَقَرَةً) (ط) (هُزُواً) (ط) (الْجاهِلِينَ) (ه) نصف الجزء (ما هِيَ) (ط) (وَلا بِكْرٌ) (ط) لأن التقدير هي عوان (بَيْنَ ذلِكَ) (ط) على تقدير قد تبين لكم (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) (ه) (ما لَوْنُها) (ط) (صَفْراءُ) (لا) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة (النَّاظِرِينَ) (ه) (ما هِيَ) (لا) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال (عَلَيْنا) (ط) (لَمُهْتَدُونَ) (ه) (الْحَرْثَ) (ج) لأن قوله (مُسَلَّمَةٌ) صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة (لا شِيَةَ فِيها) (ط) (جِئْتَ بِالْحَقِ) (ط) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها (فَذَبَحُوها) (ط) (يَفْعَلُونَ) (ه) (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) (ط) (تَكْتُمُونَ) (ه) ج للآية والفاء بعدها (بِبَعْضِها) (ط) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى تَعْقِلُونَ) (ه) (قَسْوَةً) (ط) (الْأَنْهارُ) (ط) (الْماءُ) (ط) (خَشْيَةِ اللهِ) (ط) لتفصيل دلائل القدرة (تَعْمَلُونَ) (ه).

التفسير : عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبا له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه‌السلام ، فاجتهد موسى في تعرف القاتل. فلما لم يظهر قالوا له : سل لنا ربك حتى يبينه ، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة. فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم. وذلك أنه كان في بني إسرائيل

٣٠٧

شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، وكان برا بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها ، وأمر موسى عليه‌السلام أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حيا وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه ، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا : أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخرا ، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق ، وبدليل المطابقة لما ذبح. والمانعون قالوا : معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة ، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة ، وبدليل أن ابن عباس قال : لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، وبدليل التعنيف في قوله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال. وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح ، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد ، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام. ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايرا فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت ، وثانيا أن تكون لا فارضا ولا بكرا بل عوانا ، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. ثم اختلف القائلون بهذا المذهب. منهم من قال في التكليف الواقع أخيرا يجب أن يكون مستوفيا كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضا ولا بكرا وصفراء فاقعا لونها. ومنهم من يقول : إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفا بعد تكليف ، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال. وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف ، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختبارا ، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب. ويدل أيضا على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه‌السلام ، ويدل أيضا على أن الزيادة في الخطاب نسخ له.

(أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) استفهام بطريقة الإنكار ، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءا بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء. كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن

٣٠٨

موسى عليه‌السلام أمرهم بذبح البقرة ، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حيا ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء. ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة. واختلف العلماء هاهنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا ، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه‌السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه‌السلام في الوحي ، وذلك أيضا كفر. وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة ، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء (مِنَ الْجاهِلِينَ) إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك : أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى ، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد. وقيل : نفس الهزء قد يسمى جهلا ، فإن الجهل ضد الحلم ، كما أنه ضد العلم. ثم إن قيل : إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم ، لأن المأمور به لما كان مجملا حسن الاستفسار والاستعلام. أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوها أحدها : أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة ، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص ، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى ، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى ، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال ، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. فإن قيل : السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة ، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقا للسؤال. قلنا : من البين أن مقصودهم من قولهم «ما البقرة» ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم ، وإنما وقع السؤال عن المشخصات. فالظاهر يقتضي أن يقال : أي بقرة هي؟ فإن مطلب «أي» السؤال عن الصفات الذاتية والخواص. فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من

٣٠٩

حيث هو شخص حقيقة أيضا قد يطلب تصورها ، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها ، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون بـ «من» إذا كان طلبا للعوارض ، وهاهنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام «من».

الفارض المسنة ، وقد فرضت فروضا فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها. والبكر الفتية ، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان. والعوان النصف قال :

نواعم بين أبكار وعون.

وقد غونت وقال :

فإن أتوك وقالوا إنها نصف

فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا

وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد. وإنما جاز دخول «بين» على لفظة «ذلك» مع أنه لا يدخل إلا على متعدد ، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلى ما ذكر من الفارض والبكر. وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام (ما تُؤْمَرُونَ) مثل : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به. بمعنى ما تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون. والفقوع أشد ما يكون من الصفرة. يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك ، وأحمر قانىء ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع. والفرق بين قولك «صفراء فاقعة» و «صفراء فاقع لونها» أن في الثاني تأكيدا ليس في الأول ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده ، وجنونه مجنون. وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع. وعن علي عليه‌السلام : من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) وعن الحسن البصري : صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد ، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى (جِمالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات : ٣٣] (إِنَّ الْبَقَرَ

٣١٠

تَشابَهَ عَلَيْنا) لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبدا» وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله ، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه ، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها ، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها ، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث. «لا» الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد ، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية. والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة ، ودابة ذلول بينة الذل «فعول» بمعنى «فاعل» ، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. تقول : رجل صبور وامرأة صبور (مُسَلَّمَةٌ) سلمها الله تعالى من العيوب مطلقا ، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس ، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان. وعلى هذا يكون (لا شِيَةَ فِيها) كالبيان. والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر «وشاة» إذا خلط بلونه لونا آخر ، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو «عدة» و «زنة» (الْآنَ) اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة ، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي (جِئْتَ بِالْحَقِ) أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف (فَذَبَحُوها) والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر. والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل. والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمريء لكن عنق الإبل طويل ، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق. ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) استبطاء لهم ، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم. وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها. وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه ، أو ينفي كل واحد منكم القتل

٣١١

عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضا عن البراءة ويتهمه. وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل ، ويحتمل أن يرجع الضمير في «فيها» إلى القتلة المعلومة من قتلتم (وَاللهُ مُخْرِجٌ) مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل. وقد حكي ما كان مستقبلا في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨] فلهذا صح عمل اسم الفاعل. وهذه الجملة معترضة ، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص ، لأن هذا يتناول كل المكتومات. وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد ، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلا ، وأن ما يسرّه العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره ، ويعضده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن عبدا لو أطاع الله من وراء سبعين حجابا لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس» وكذلك المعصية والضمير في (اضْرِبُوهُ) عائد إلى النفس ، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان ، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة (قَتَلْتُمْ) أو (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها ، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عجبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة من بين الكتفين ، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا ، وهاهنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى. روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دما وقال : قتلني فلان وفلان ـ وهما ابنا عمه ـ ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك ، ويؤيده قوله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس للقاتل من الميراث شيء» (١) والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي. ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقا كالعادل إذا قتل الباغي ، أو غير مستحق عمدا كان أو خطأ. وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه. وقال مالك : لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله. ومحل (كَذلِكَ) نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء. وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة ، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين. وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير «فقلنا» بعد تقدير «فضربوه فحيي» (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) دلائله على أنه قادر على كل شيء. فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية ، ودلالتها على صدق موسى عليه‌السلام

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب ١٤.

٣١٢

آية ، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية ، ودلالتها على حشر الأموات آية ، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة. ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراءات ، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات. وفي قوله (كَذلِكَ) دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في (ذلِكَ الْكِتابُ) (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تعملون على قضية عقولكم ، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك. فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا : الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه‌السلام إنما أحياه بضرب من السحر ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه ، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج ، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد ، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم ، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به ، فتيّ السن حسن اللون بريئا من العيوب ثمينا نفيسا «أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» فإن قيل : هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا : لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولا ، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانيا ، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في (بِبَعْضِها) إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى.

قوله (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) الآية. خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى ، أو للذين هم في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعد ذلك الإحياء ، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات. ومعنى «ثم» استبعاد القسوة من بعد ما يوجب اللين والرقة. وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة ، أو هي أشد قسوة من الحجارة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة ، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة. فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلا. وإنما قيل : أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة ، لكونه أدل على فرط القسوة ، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة

٣١٣

وقلوبهم أشد قسوة منها ، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو : زيد كريم وعمر أكرم. وكلمة «أو» هاهنا ليست للشك ، فعلام الغيوب لا يشك في شيء ، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقا ، ولو جمعت بينهما جاز. ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير ، وإن منها للذي ينشق انشقاقا طولا أو عرضا فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها ، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض. ثم إن كان ظاهر الأرض رخوا نفشت وانفصلت ، وإن كان صلبا حجريا اجتمعت وصارت مياها ، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهارا أو عيونا. وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل. ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم «يذكر» في «يتذكر» (لَما يَهْبِطُ) للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله ، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر ، وقيل : أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد ، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥].

التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.

اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي وحياتي في مماتي ومماتي في حياتي مت بالإرادة تحيا بالطبيعة. وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة (ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) نفس تصلح للذبح بسيف الصدق (لا فارِضٌ) في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد (وَلا بِكْرٌ) في سن شرخ الشباب يستهويه سكره (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) لقوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥]. (بَقَرَةٌ صَفْراءُ) إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات (فاقِعٌ لَوْنُها) يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين. (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها (وَلا تَسْقِي)

٣١٤

حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق ، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق (مُسَلَّمَةٌ) من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه. (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) يعني القلب (فَادَّارَأْتُمْ) فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣] (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) مراتب القلوب في القسوة مختلفة ، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود ، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء ، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية ، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم. والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم ، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم ، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه. فإراءة الآيات للخواص (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٧٣] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال : واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها. والله أعلم.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ

٣١٥

فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

القراآت : (إِلَّا أَمانِيَ) حيث كان خفيفا : يزيد إلا قوله (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) فإن أربعتهن بالإسكان عنده (بِأَيْدِيهِمْ) بضم الهاء : يعقوب ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة خطيئاته بالجمع : أبو جعفر ونافع.

الوقوف : (يَعْلَمُونَ) (ه) (آمَنَّا) (ج) والوصل أجوز لبيان حالتيهما المتناقضتين وهو المقصود (عِنْدَ رَبِّكُمْ) (ط) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (ه) (يُعْلِنُونَ) (ه) (يَظُنُّونَ) (ج) (قَلِيلاً) (ط) (يَكْسِبُونَ) (ه) (مَعْدُودَةً) (ط) (ما لا تَعْلَمُونَ) (ه) (النَّارُ) (ج) لأن الجملة مبتدأ وخبر بعد خبر. (خالِدُونَ) (ه) (الْجَنَّةِ) (ج) (خالِدُونَ) (ه).

التفسير : لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم ، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنه قيل : إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم ، فكيف تطمعون أيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم؟ كقوله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) طائفة من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) وهو ما يتلونه من التوراة (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) كما حرفوا صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية الرجم. وقيل : هم قوم من الذين حضروا الميقات ، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا ، وان شئتم فلا تفعلوا فلا بأس (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم مفترون كذابون. والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل : كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عنادا أو لضرب من الأغراض الدنيوية (وَإِذا لَقُوا) أي اليهود قال منافقوهم : آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا. (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) الذين لم ينافقوا (إِلى بَعْضٍ) الذين نافقوا (قالُوا) عاتبين عليهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم «قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه ، أو قال المنافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدثونهم

٣١٦

إنكارا عليهم أن يفتحوا عليهم شيئا في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه. جعلوا محاجتهم به وقولهم «هو في كتابكم هكذا» محاجة عند الله. ألا تراك تقول : هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد؟ وعن الحسن : ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه. وقال الأصم : يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم ، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة. وقيل : ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة ، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه : أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي ، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك ، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب. وقيل : لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال : فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي. وهذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) جميع (ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء ، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علما وكتابة (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) التوراة (إِلَّا أَمانِيَ) وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر. تقول : منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه ، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل : الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد. يقال : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا. وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب. وقيل : إلا ما يقرأون من قولهم «تمنيت الكتاب قرأته» قال الشاعر يرثي عثمان :

تمنى كتاب الله أوّل ليلة

وآخرها لا في حمام المقادر

والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلا كأنه قيل : لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه. ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل ، وعلى الأول يكون استثناء منقطعا. ومن قرأ (أَمانِيَ)

٣١٧

بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) كالمحقق لما تقدمه من قوله (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة ، ثم الفرقة المنافقين منهم ، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق ، ثم العوام المقلدة ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكنا من العلم ولا سيما في أصول الدين ، الويل كلمة يقولها كل مكروب ، وعن ابن عباس : أنه العذاب الأليم. وعن الثوري : صديد أهل الجحيم. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» (١). وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم ، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره. ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) المحرف (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك. حكى عنهم أمرين : كتبة الكتاب وإسناده إلى الله. فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء بـ «ثم» وقوله (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تنبيه على شقاوتهم ، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله ، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما معدودة قليلة ، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل البتة ، ولا دليل له سمعيا فلا يجزم به عاقل. والأيام المعدودة قالوا : أربعون يوما هي أيام عبادة العجل. وعن مجاهد قالوا : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما لأن يوما عند الله ألف سنة. وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين. والعهد هاهنا يجري مجرى الوعد والخبر ، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر. و (أَتَّخَذْتُمْ) استفهام بطريق الإنكار ، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي. (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص. فإن قيل : هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة ، لكنه في الوعيد كرم ولطف. قلنا : الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل ، ولعل للكرم

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ٢١ باب ١. أحمد في مسنده (٣ / ٧٥).

٣١٨

طريقا آخر سوى هذا فتأمل. و «أم» إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٨] ، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى «بل أتقولون» كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالا ثانيا. فالاستفهام الأول لتقرير النفي ، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات. وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي. ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد ، كان وجوب العمل معلوما فكان القول به قولا بالمعلوم (بَلى) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله تعالى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) عن ابن عباس : وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة ، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياما معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد. قلت : وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح ، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس ، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياما معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية ، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب. ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي ، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد ، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية ، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية ، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار. وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالدا مخلدا في النار ، في ويل طويل وزفير وعويل ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهي من الصفات الغالبة. وقوله (سَيِّئَةً) يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت ، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة. ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف ، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر

٣١٩

المحاط به. والكبيرة تستر الطاعات ، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم. والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة ، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة. واعلم أن في المسألة خلافا لأهل القبلة. منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبدا ـ وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج ـ وإما منقطعا ـ وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر. والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية ، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة ، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبدا ، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين. أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤] وقوله (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الإنفطار : ١٤] وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] ومن الحديث «من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة. ومن قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» وعن أبي سعيد الخدري قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار» وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى. وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو : كل من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل. ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل ، ولاحتمال المخصصات. القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكبائر احتجوا بنحو قوله تعالى (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [النحل : ٢٧] (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٥ ، ١٦] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة : ٣] الآية. حكم بالفلاح على كل من آمن. وعورض بعمومات الوعيد. أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض ، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه ، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف ،

٣٢٠