تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

(وَنَقْصٍ) عطف على (بِشَيْءٍ) ويحتمل أن يعطف على الخوف بمعنى وشيء من نقص الأموال. والخطاب في (وَبَشِّرِ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يتأتى منه البشارة. قال الإمام الغزالي رحمه‌الله : الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم لنقصانها ، فليس لشهواتها عقل يعارضها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا ، ولا في الملائكة فليس لعقلهم شهوة تصرفهم عن الاشتغال بخدمة الكبير المتعال وتمنعهم عن الاستغراق في مطالعة حضرة ذي الجلال. وأما الإنسان فإنه في الصبا بمنزلة البهيمة ليس له إلا شهوة الغذاء ، ثم شهوة اللعب بعد حين ، ثم شهوة النكاح لكنه إذا بلغ انضم له مع الشهوة الباعثة على اللذات العاجلة عقل يدعوه إلى الإعراض عنها والإقبال على تحصيل السعادات الباقية ، فيقع بين داعيتي العقل والشهوة تضاد قصد العقل إياها هو المعنى بالصبر. وإنه ضربان : بدني فعلا كتعاطي الأعمال الشاقة ، أو انفعالا كالثبات على الآلام ، ونفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الطبع ، فإن كان حبسا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان احتمال مكروه ، فإن كان من مصيبة خص باسم الصبر ويضاده حالة هي الجزع وهي إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب ونحوها ، وإن كان في حال الغنى سمي ضبط النفس ، ويضاده حالة البطر. وإن كان في حال مبارزة الأقران سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى حلما ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من النوائب سمي سعة الصدر ويضاده الضجر وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى كتمان النفس ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا وضده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي قناعه ويضاده الشره. وليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك فإنه غير ممكن ، وإنما الصبر على المصيبة هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع. ولا بأس بظهور الدمع وتغير اللون فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكى على إبراهيم ابنه فقيل له في ذلك فقال : إنها رحمة ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم قال : العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. ثم الصبر عند الصدمة الأولى وإلا سمي سلوا وهو مما لا بد منه ولهذا قيل : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه. وقد وصف الله تعالى الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا وأضاف أكثر الخيرات إليه فقال (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [السجدة : ٢٧] (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [اعراف : ١٣٧] (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٦] (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] فما من طاعة إلا وأجرها مقدر إلا الصبر ،

٤٤١

ولأن الصوم من الصبر قال تعالى في الحديث القدسي «الصوم لي» فأضافه إلى نفسه ووعد الصابرين بأنه معهم فقال (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٤٦] وعلق النصرة بالصبر فقال (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [آل عمران : ١٢٥] وجمع للصابرين أمورا لم يجمعها لغيرهم (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الصبر نصف الإيمان» لأن الإيمان لا يتم إلا بترك ما لا ينبغي ، والإتيان بما ينبغي والاستمرار على كل منهما إنما يتأتى بالصبر. فكل الإيمان صبر إلا أن كل واحد منهما قد يكون مطابقا لمقتضى الشهوة فلا يحتاج فيه إلى الصبر ، فلهذا عاد إلى النصف. وقد جاء «الإيمان هو الصبر» وذلك كقوله «الحج عرفة» (١)وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر» وقال : «يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له أترضى أن نجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول نعم يا رب فيقول تعالى لقد أنعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفنّ لك الأجر فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين» ومن فضيلة الصبر أن قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» (٢) فإن المشبه به يجب أن يكون أقوى كما قال «شارب الخمر كعابد الوثن» (٣) وروي أن سليمان يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا لمكان ملكه ، وآخر أصحابي دخولا الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه. وفي الخبر : أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد. وأول من يدخله أهل البلاء إمامهم أيوب. ثم إن الله تعالى بيّن أن الإنسان كيف يكون صابرا وأنه متى يستحق البشارة فقال (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) هي من الصفات الغالية التي لا تكاد تستعمل موصوفاتها وتختص من بين ما يصيب الإنسان بحالة مكروهة كالنازلة والواقعة والملمة ، وإنما نكرت لتشمل كل مضرة تناله من قبل الأسباب السماوية والأرضية المنتهية إلى مسبب الأسباب بواسطة ظاهرة أو خفية (قالُوا : إِنَّا لِلَّهِ) إقرار بالعبودية (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) تفويض للأمر إليه كما يقال : إن الملك والدولة رجع إلى فلان لا يراد الانتقال بل القدرة وترك المنازعة (إِنَّا لِلَّهِ) اعتراف منا له بالملك (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار على

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب ٢٢. أبو داود في كتاب المناسك باب ٦٨. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٥٧. الدارمي في كتاب المناسك باب ٥٤ بلفظ «الحج عرفات».

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٥٥. الترمذي في كتاب القيامة باب ٤٣. الدارمي في كتاب الأطعمة باب ٤. أحمد ، في مسنده (٢ / ٢٨٣ ، ٢٨٩).

(٣) رواه ابن ماجه في كتاب الأشربة باب ٣.

٤٤٢

أنفسنا بالهلك (إِنَّا لِلَّهِ) إشارة إلى المبدأ (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) تصريح بالمعاد. (إِنَّا لِلَّهِ) إعلام بالفناء فيه (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إشعار بالبقاء به. (إِنَّا لِلَّهِ) إيمان بقضائه (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إيمان بقدره. واعلم أن الرضا بالقضاء إنما يحصل للعبد من الله تعالى بطريقين : الصرف أو الجذب أما الصرف فمتى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إليه جعله تعالى منشأ للآفات لينصرف وجه قلبه من عالم الحدوث إلى جانب القدس ، كما أن آدم لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة فبقي آدم مع ذكر الله. ولما استأنس يعقوب بيوسف أوقع الفراق بينهما فبقي يعقوب مع ذكر الحق. ولما طمع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس بغضا له فأخرجوه. وقد لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة ، فحينئذ يرجع العبد إلى الله. وقد يتوقع العبد من جانب خيرا فيعطيه الله تعالى ذلك بلا واسطة فيستحي العبد فيرجع إلى الله. وأما الجذب فجذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوبا لأن الحق غالب فتصير الربوبية غالبة على العبودية ، والحقيقة مستعلية على المجاز ، كالعبد الداخل على السلطان المهيب ينصرف فكره إليه ويشتغل بالكلية عمن سواه ويصير فانيا عن نفسه وعن حظوظها فيحصل له مرتبة الرضا بأقضية الحق سبحانه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه» وروي أنه طفىء سراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فقيل : أمصيبة هي؟ قال : نعم. كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة. وعن أم سلمة أن أبا سلمة حدثها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيفزع إلى ما أمر الله به» من قوله : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني منها وعوّضني خيرا منها ألا أجره الله عليها وعوضه خيرا منها» (١). قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت هذا الحديث وقلت : هذا القول فعوّضني الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن ابن عباس : أخبر الله تعالى أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند مصيبته كتب الله تعالى له ثلاث خصال : الصلاة من الله والرحمة وتحقيق سبيل الهدى. وعن عمر قال : نعم العدلان (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ونعم العلاوة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). قيل : الصلوات من الله الثناء والمدح والتعظيم ،

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب ١٨. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٨٣. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٥٥. أحمد في مسنده (٤ / ٢٧).

٤٤٣

والرحمة النعم العاجلة والآجلة. وقيل : الصلاة الحنو والتعطف وضعت موضع الرأفة كقوله (رَأْفَةً وَرَحْمَةً لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة أيّ رحمة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب والفائزون بالكرامة والثواب ، أو هم المستمسكون بآدابه المستنون بما ألزم وأمر وفي الآية حكمان : فرض ونفل. فالفرض هو التسليم لأمر الله تعالى والرضا بقضائه والصبر على أداء فرائضه لا يصرفه عنها مصائب الدنيا ، والنفل قوله (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فإن في إظهاره فوائد منها : أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته. وأما الحكمة في تقديم تعريف الابتلاء فهي أن يوطنوا نفوسهم لهذه المصائب إذا وردت فتكون أبعد من الجزع. وأيضا إذا علموا أنه سيصل إليهم تلك المحن اشتد حزنهم فيكون ذلك الحزن تعجيلا للابتلاء فيستحقون بذلك مزيد الثواب. وأيضا إذا أخبروا بوقوع هذا الابتلاء ثم وقع كان ذلك إخبارا بالغيب فيكون معجزة. وأيضا فيه تنفير وتمييز له عن الموافق. كما أن الحكمة في نفس الابتلاء أيضا ذلك.

دعوى الإخاء على الإخاء كثيرة

بل في الشدائد تعرف الإخوان

إذا قلت أهدى الهجر إن خلل البلى

يقولون لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت كربي دائم قالت إنما

يعدّ محبا من يدوم له الكرب

وإن قلت ما أذنبت قالت مجيبة

حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢))

القراآت : من يطوع بتشديد الطاء والجزم : حمزة وعلي وخلف وزيد ورويس الباقون : بالتاء والتخفيف وفتح الآخر على المضي.

الوقوف : (شَعائِرِ اللهِ) ج للشرط مع فاء التعقيب (بِهِما) ط لأن التطوع خارج عن موجب كونهما من شعائر الله فكان استئناف حكم (عَلِيمٌ) ، (فِي الْكِتابِ) لا لأن «أولئك» خبر «إن» (اللَّاعِنُونَ) لا للاستثناء (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ج لاحتمال الواو للاستئناف والحال (الرَّحِيمُ) ه (أَجْمَعِينَ) لا لأن «خالدين» حال عامله معنى الفعل في اللعنة أي

٤٤٤

لعنهم الله حتى قرأ الحسن (وَالْمَلائِكَةِ) وما بعده بالرفع (فِيها) ج لأن ما بعده حال بعد حال واستئناف إخبار (يُنْظَرُونَ) ه.

التفسير : إن في تعليق الآية بما قبلها وجوها منها : أن السعي بين الصفا والمروة من شرائع إبراهيم عليه‌السلام كما مر في قصة هاجر ، فذكر عقيب تحويل القبلة الذي فيه إحياء شرع إبراهيم. ومنها أنه من آثار هاجر وإسماعيل ، وفيه تذكير لما جرى عليهما من البلوى وحسن عاقبتهما ، فناسب أن يردف آية الابتلاء ليعلم أن من صبر على البلوى نال الدرجة العليا في الدنيا والعقبى. ومنها أن أقسام التكاليف ثلاثة : أولها ما يهتدي العقل إلى حسنه كشكر المنعم وذكره وأشير إلى ذلك بقوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢] وثانيها ما ركز في العقول قبحه والنفور عنه كالآلام والفقر والمحن فإنه تعالى يتألم منه إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه وهي الابتلاء والامتحان فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصوابا وذلك قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) [البقرة : ١٥٥] الآية ، وثالثها ما ليس يهتدي العقل إلى حسنه ولا إلى قبحه بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة فيأتي به تعبدا محضا وهو أكثر أفعال الحج من السعي ورمي الجمار ونحوهما ، فذكرت طرق من هذا القسم عقيب القسمين الأولين تتميما للأحكام واستيفاء لجميع الأقسام. والصفا والمروة هكذا باللام علمان للجبلين المعروفين بمكة ـ زادها الله شرفا. والصفاة في اللغة صخرة ملساء وفي المثل «ما تندى صفاته» والجمع صفا مقصور وأصفاء وصفي على «فعول» وإذا نعتوا الصخرة قالوا «صفاة صفواء» وإذا ذكروا قالوا «صفا صفوان» قال تعالى (كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) [البقرة : ٢٦٤] وعن الأصمعي : المرو حجارة بيض براقة يقدح منها النار ، الواحدة مروة. والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة. وذلك أن السعي بين الجبلين من أعلام دين الله ، أو هما من متعبداته. وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولإبراهيم عليه‌السلام قبل ذلك كما مر قوله (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٣٨] وليس السعي عبادة تامة في نفسه وإنما يصير عبادة إذا كان بعضا من أبعاض الحج فلهذا قرن بقوله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) والحج لغة القصد. رجل محجوج أي مقصود وهو أيضا كثرة الاختلاف والتردد ، وحج فلان فلانا إذا أطال الاختلاف إليه. ثم غلب استعماله في القصد إلى مكة للنسك. والحاج يأتي البيت أولا ليعرفه ثم يعود إليه للطواف ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم يعود إليه لطواف الصدر. ومنه محجة الطريق لكثرة تردد الناس فيها. والاعتمار لغة الزيارة. فالمعتمر يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثم ينصرف كالزائر يزور ثم ينصرف.

٤٤٥

والعمرة اسم من الاعتمار غلبت على النسك المعروف. والجناح الحرج والإثم من قولهم «جنح لكذا» أي مال إليه ، كأن صاحبه مال إلى الباطل. أو لأن الناس يميلون إلى صاحبه بالمطالبة ثم قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح. وظاهر الآية لا يدل على أحد الثلاثة بالتعيين فلهذا اختلف العلماء في أن السعي واجب أم لا ، متمسكين بدلائل أخر. فعن الشافعي أنه ركن ولا يقوم الدم مقامه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» وليس المراد منه العدو بل الجد والاجتهاد في ذلك المشي بحيث لا يفوت لقوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] ولما ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعى فيجب علينا اتباعه لقوله تعالى (وَاتَّبِعُوهُ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذوا عني مناسككم» (١) والأمر للوجوب. وعن أبي حنيفة أنه ليس بركن ولكنه واجب وعلى تاركه دم. وعن ابن الزبير وابن عباس وأنس : أنه تطوع وليس على تاركه شيء لأن رفع الحرج دليل الإباحة لقوله بعد ذلك (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أجاب الشافعي بما يروى أنه كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة وهما صنمان. كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية وأن يكون عليهم جناح في ذلك فرفع عنهم الجناح. فالإباحة تنصرف إلى وجود الصنمين حال السعي لا إلى نفس السعي كما لو كان على الثوب نجاسة يسيرة عند أبي حنيفة ، أو دم البراغيث عندنا ، فيقال : لا جناح عليك أن تصلي فيه. فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة ، ولهذا قال عروة لعائشة : أرى أنه ما على أحد من جناح أن يطوف بالصفا والمروة ، قالت : بئسما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت «لا جناح عليه أن يطوّف بهما» وأصل «يطوف» «يتطوف» فأدغم كمن قرأ «يطوع» بالتشديد وأصله «يتطوع» والتطوع ما ترغب من ذات نفسك من غير إيجاب عليك. ومن قال : إن السعي واجب فسر هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب. وعن الحسن : المراد منه جميع الطاعات. وهذا أولى لعموم اللفظ (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) ، أي مجازيهم على الطاعة سمي جزاء الطاعة شكرا تشبيها بجزاء النعمة ، وفيه تلطف العباد مثل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) [البقرة : ٢٤٥] كأنه يقول : إني وإن كنت غنيا عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع ما لو صح عليّ أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل. (عَلِيمٌ) بالسرائر

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب المناسك باب ٢٢٠. أحمد في مسنده (٣ / ٣١٨).

٤٤٦

فيوفي كل ذي حق حقه. وهو وعد ليناسب قرنية الشكر وإن كان أيضا يحتمل التحذير من الإخلال بوظائف الإخلاص في العبادة (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) كلام مستأنف يتناول كل من كتم شيئا من الدين. وقيل : هم أهل الكتاب. وقيل : اليهود خاصة لما روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من صفة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الأحكام فكتموا فنزلت ، والأول أولى لعموم اللفظ ، ولأن خصوص السبب لا يوجب خصوص الحكم ، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلا ريب أن كتمان الدين يناسب استحقاق اللعن من الله تعالى فيعم الحكم حسب عموم الوصف. ولا يخفى أنّ القرآن قبل صيرورته متواترا يمكن كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه بخبر الواحد يجري فيه الكتمان. وكذا القول فيما يحتاج إليه المكلف من الدلائل العقلية ، ولأن جماعة من الصحابة حملوه على العموم. عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) فحملت الآية على العموم. وعن أبي هريرة قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثا بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة وتلا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قال بعض المحققين : الكتمان ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره لأنه متى لم يكن كذلك لا يعد كتمانا. فلما كان ما أنزل الله من البينات والهدى من أشد ما يحتاج إليه في الدين ، وصف من علمه ولم يظهره بالكتمان كما يوصف أحدنا في أمور الدنيا بالكتمان إذا كانت مما تقوى الدواعي على إظهارها. وعلى هذا الوجه يمدح من يقدر على كتمان السر لأن الكتمان مما يشق على النفس. وفي الآية دليل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، والمراد بالبينات كل ما أنزله على الأنبياء كتابا ووحيا دون أدلة العقل. والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية ، لأن الهدى الدلالة فيعم الكل. وبعبارة أخرى الأول هو التنزيل ، والثاني ما يقتضيه التنزيل من الفوائد. ولقوله (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فيشمل كون خبر الواحد والإجماع والقياس حجة لأن الكتاب دل على هذه الأمور. وهذا الإظهار فرض على الكفاية لا على التعيين ، لأنه إذا أظهره البعض صار بحيث يتمكن كل أحد من الوصول إليه ولم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان لم يجب على الباقين إظهاره مرة أخرى. وقيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد منهيا عن الكتمان مأمور بالبيان ليكثر المخبرون فيتواتر الخبر؟ وأجيب بأن هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان ، إلا وهم فمن يجوز عليهم الكتمان ومن جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم. ومن الناس من يحتج بالآية على وجوب قبول خبر الواحد

٤٤٧

لأن وجوب الإظهار دل على وجوب العمل بالذي أظهر لاسيماوقد قالإِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) فحكم بوقوع البيان بخبرهم. واستدل بالآية أيضا على عدم جواز أخذ الأجرة على التعليم لأنها دلت على وجوب التعليم ولا أجرة على أداء الواجب. وقيل في الكتاب أي في التوراة والإنجيل من نعت الرسول ومن الأحكام. والمعنى أنا لخصناه بحيث لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس. وقيل : أراد بالمنزل الأول كتب الأولين وبالهدى القرآن (أُولئِكَ) تبعيد لهم عن درجة الاعتبار (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعدهم عن كل خير (وَيَلْعَنُهُمُ) يدعو عليهم باللعن (اللَّاعِنُونَ) الذين يتأتى منهم اللعن ويعتدّ بلعنهم من الملائكة وصالحي الثقلين. وقيل : يدخل فيهم دواب الأرض وهوامها فإنها تقول : منعنا القطر بشؤم معاصي بني آدم. واللاعنون دون اللاعنات تغليب للعقلاء : وإذا قيل : هم الهوام فقط فالتذكير لأنه تعالى وصفهم بصفات العقلاء مثل (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ) [فصلت : ٢١] وقيل : كل شيء سوى الثقلين بتقدير أنها لو كانت عاقلة كانت تلعنهم ، أو لأنها في الآخرة إذا أعيدت وجعلت من العقلاء فإنها تلعن من فعل ذلك في الدنيا ومات عليه. وقيل : إن أهل النار يلعنونهم أيضا لأنهم كتموهم الدين (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] وعن ابن مسعود : إذا تلاعن المتلاعنان وقعت اللعنة على المستحق ، فإن لم يكن مستحق رجعت على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله سبحانه. وعن ابن عباس : أن لهم لعنتين : لعنة الله ولعنة الخلائق. قال : وذلك إذا وضع الرجل في قبره فيسأل ما دينك ومن نبيك ومن ربك؟ فيقول : لا أدري. فيضرب ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع شيء صوته إلا لعنه ويقول له الملك : لا دريت ولا تليت (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء منهم ، وفيه من الرحمة ما فيه. وقد مر أن التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح لقبحه لا لغرض سواه ، فإن من ترك رد الوديعة ثم ندم لأن الناس لاموه أو لأن الحاكم رد شهادته لم يكن تائبا (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم (وَبَيَّنُوا) ما كتموه أو بينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به ويقتدى بهم غيرهم من المفسدين (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملا وأضع مكانه الثواب تفضلا بدلالة قوله (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا) عام في كل من كان كذلك. وقيل : مخصوص بهؤلاء الكاتمين. ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم ـ وهم من أصحاب الكبائر ـ مجازا

٤٤٨

تغليظا ، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره. والمراد بالناس اللاعنين من يعتد بلعنه وهم المؤمنون أجمعون ، وقيل : يوم القيامة يلعن بعض الكفار بعضا فيعم المؤمن والكافر. وقيل : لعن الجاهل والظالم مقرر في العقول حتى إن الظالم قد يلعن نفسه إذا تأمل في حاله. وقيل : وقوع اللعن محمول على استحقاق اللعن ، على من مات كافرا وإن زال التكليف عنه بالموت على أن الكافر إذا جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة منه ، وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح إذا مات صاحبه أو جن لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث الحال. وفي الآية دليل على أن الأمور بخواتيمها ، وأنه إذا كفر ومات لا على الكفر لم يكن ملعونا ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط (خالِدِينَ فِيها) في اللعنة. وقيل : في النار. وأضمرت وإن لم يجر لها ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لمكانها. والأول أولى لتقدم ذكره لفظا ، ولأن اللعنة تشمل النار وزيادة ، ولأنها تصح في الحال والمآل جميعا بخلاف النار فإنها في الاستقبال. فمن فسر «الذين كفروا» بالكاتمين وجوّز الخلاص على صاحب الكبيرة فسر الخلود بالمكث الطويل وقد سلف مثل ذلك (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) بل يتشابه في الأوقات باقيا على المبلغ الذي أتيح له حسب ما استحقه (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) إذا استنظروا من الإنظار الإمهال ، أو لا ينظرون ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة أعاذنا الله تعالى من تلك الحالة بعميم فضله وجسيم طوله.

التأويل : الصفا للسر ، والمروة للروح ، والسالك بينهما يسعى. ففي صفا السر يقطع التعلقات عن الكونين وهو التعظيم لأمر الله ، وفي مروة الروح يوصل الخير إلى أهله وعياله ونفسه لمراقبة أحوال الباطن ومزاولة أعمال الظاهر وهو الشفقة على خلق الله ، ومعنى سبع مرات أن تصل بركات سعيه إلى سبعة آرابه في الظاهر وإلى سبعة أطواره في الباطن وإلى سبعة أقاليم العالم لقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٣٩ ، ٤٠]. ومن كمال رأفته بأهل محبته أن جعل آثار أقدامهم أشرف الأمكنة ، وساعات أيامهم أعز الأزمنة. فإلى تلك المعاهد والأطلال تشد الرحال ، وتلك المشاهد والآثار تعظم وتزار.

أهوى هواها لمن قد كان ساكنها

وليس في الدار لي هم ولا وطر

حسبي الله ونعم الوكيل.

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ

٤٤٩

فِيهامِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِبَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(١٦٤))

القراآت : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بالمد وكذلك جميع التهليل. روى الهاشمي عن ابن كثير لورود الأثر في هذه الكلمة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال لا إله إلا الله ومدها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وروى أبو الفرج عن قتيبة «إلا» هو بالإمالة حيث كان. الريح مفردا : حمزة وعلي وخلف. الباقون : الرياح مجموعا.

الوقوف : (واحِدٌ) ج نظرا إلى أن ما بعده وصف آخر. وإلى الاختلاف بالنفي والإثبات (الرَّحِيمُ) ه (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ص ضرورة طول الآية وإلا فاسم «إن» (لَآياتٍ) والجار وما يتصل به معترض ، والأولى الوصل والرجوع. (يَعْقِلُونَ) ه.

التفسير : الواحد قد يكون اسما وذلك في العدد واحد ، اثنان ، ثلاثة. وقد يكون صفة كقولك «شخص واحد» ومعناه أنه لا ينقسم من جهة ما قيل : له إنه واحد. فالإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم من حيث هو إنسان ، لأن الإنسان الواحد يستحيل أن ينقسم إلى إنسانين ، بل قد ينقسم إلى الأبعاض والأجزاء وذلك من جهة أخرى. ثم زعم قوم أن الواحدية صفة زائدة على الذات لأن الجوهر قد يشارك العرض في كونه واحدا لا يشاركه في كونه جوهرا فقط ، ولأنه يصح تعقل الجوهر مع الذهول عن كونه واحدا ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، ولأن قولنا «الجوهر واحد» ليس يجري مجرى قولنا «الجوهر جوهر» ولأن مقابل الجوهر العرض ، ومقابل الواحد هو الكثير. ثم المفهوم من كونه واحدا أمر ثبوتي لأنه لو كان سلبيا لكان سلبا للكثرة. فإن كانت الكثرة سلبية وسلب السلب ثبوت فالوحدة ثبوتية وهو المطلوب ، وإن كانت الكثرة ثبوتية ولا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات فإن كانت الوحدة سلبية حصل من الأمور المعدومة أمر موجود وهو محال ، فثبت أن الوحدة صفة زائدة ثبوتية. ثم إنه لا يمكن أن يقال : إنه لا تحقق لها إلا في الذهن لأنا نعلم بالضرورة أن الشيء المحكوم عليه بأنه واحد قد كان واحدا في نفسه قبل أن يوجد في ذهننا واعتبارنا فثبت أن كون الشيء واحدا صفة ثبوتية زائدة على ذاته قائمة بتلك الذات. والجواب أن كون الشيء واحدا في ذاته معناه كونه بحيث يصح أن يدرك الذهن منه معنى الوحدة ، وهذه الحيثية لا تتوقف على حصول الذهن في الخارج. ثم إن الوحدة لو كانت صفة زائدة على الذات كانت الوحدات متساوية في ماهية الوحدة ومتباينة بتعيناتها ، فيكون للوحدة وحدة أخرى وهلم جرا وذلك محال ، ثم إن شيئا من الموجودات لا ينفك عن الوحدة حتى العدد ، فإن العشرة الواحدة يعرض لها الوحدة من حيث هي عشرة واحدة. فإن قلت : عشر ثان فالعشرتان مرة واحدة قد عرضت لها الوحدة من هذه

٤٥٠

الجهة ، فلا شيء من الموجودات ينفك عن الوحدة. ولكن الوحدة تغاير الوجود لأن الموجود ينقسم إلى الواحد ، والكثير والمنقسم إلى شيئين : مغاير لما به الانقسام. والواحد الحق سبحانه وتعالى واحد باعتبارين : أحدهما أن ذاته ليست مركبة من أمور كثيرة بل ولا من أمرين أيضا وإليه الإشارة بقوله (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) والخطاب للممكنات بأسرهم. والتذكير لتغليب ذوي العقول الذكور ، وثانيهما أنه ليس في الوجود ما يشاركه في كونه واجب وفي كونه مبدأ لجميع الممكنات وهو المراد بقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ويمكن أن يقال : القرينتان تدلان على نفي الشريك إلا أن الأولى منهما تدل على إثبات وحدته في الإلهية بالمطابقة. ويلزم منه نفي الشريك كقولك «هو سيد واحد» تريد الوحدة في السيادة ، فيلزم نفي أن يكون غيره سيدا. والقرينة الثانية تدل على نفي الشريك بالمطابقة. ثم على إثبات المعبودية بالحق فمعناه لا إله في الوجود إلا هو. وفيه نكتة شريفة وهي أن إثبات الحق وقع في كلتا القرينتين بالمطابقة ليعلم أنه المقصد الأسنى والغاية القصوى. وتحقيقه أن العارف له رجوع وعروج ، وذلك أنه قد يفنى في عالم اللاهوت ويبقى ببقاء الحي الذي لا يموت ، ويطالع عالم الشهود فيلزمه حينئذ نفي ما سوى الحق. وإذا رجع إلى عالم الناسوت ضرورة وجب عليه نفي كل من سواه حتى يعرج إلى المقصود. فهذا سر عكس الترتيب في القرينتين ، ولأن الأولى مرتبة الصديقين السابقين فلا جرم وقع التكليف بالترتيب الأخير «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». ثم البرهان العقلي على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه لا يجمعه أجزاء مقدارية كما للأجسام ، ولا يحصره أجزاء معنوية كما في البسائط النوعية ، ولا أجزاء اعتبارية كما في البسائط الجنسية ، هو أن كل مركب فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه ، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجب الوجود لذاته. وأيضا فكل ممكن فإن وجوده زائد على ماهيته في العقل والاعتبار فإنه يمكن تصور الممكن من حيث إنه ممكن مع الشك في وجوده الخارجي. ولكن لا يمكن تعقل الواجب من حيث إنه واجب مع الشك في وجوده ، ولا نعني بكون الوجود زائدا على الماهية وغير زائد إلا هذا. وأما أنه تعالى وحده لا شريك له فلأن وجوب الوجود يقتضي أن لا يكون الواجب لذاته مفتقرا في شيء إلى شيء أصلا ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان في غاية الكمال ونهاية الجلال والجمال ، ولا ريب أن من كمالات الجميل كونه عديم النظير. ومن تحقق معنى وجوب الوجود بنور الباطن وصفاء الضمير لم يشك في وجوده تعالى ولا في أن واجب الوجود من جميع جهاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، وواحد بجميع اعتباراته حتى عن جمل الوحدة عليه وعن تصور ذاته. وهاهنا

٤٥١

حالة عجيبة ، فإن العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة ، فإذا ترك الوحدة فقد وصل إلى الوحدة. فاعرف هذه الأسرار لتتخلص عن ظلمات شبهات الأشرار وتفوز بمقامات الأبرار وتستغرق في بحار عالم الأنوار بعون الملك الجبار وشروق أنوار الواحد القهار. ولك أن تقول : إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له. أما أنه واحد في ذاته فلأنه لو شاركه غيره في حقيقته لزم تركبه مما به الاشتراك وما به الامتياز ، وكل مركب مفتقر ، وكل مفتقر ممكن. وأما أنه واحد في صفاته فلأن صفات غيره من غيره وصفاته من نفسه ، ولأن صفات غيره زمانية دون صفاته ولأن صفات غيره متناهية وصفاته غير متناهية كعلمه مثلا ، فإن له معلومات غير متناهية بل له في كل معلوم علوم غير متناهية بحسب أحياز ذلك المعلوم وأوقاته وسائر أحواله ، ولأن موصوفية ذاته بالصفات ليست بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذات محلا لها ، ولا بمعنى أن ذاته تستكمل بها لأن ذاته كالمبدأ لتلك الصفات ولن يستكمل المبدأ بما عن المبدأ بل ذاته مستكملة بذاته. ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال ، وقد يفضي التقرير هاهنا إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به ، وتلك أنه لا خبر عند العقول من صفاته كما أنه لا خبر عندها من ذاته ، فإنا لا نعرف من علمه إلا أنه الآمر الذي لأجله ظهر الأحكام والإتقان في المخلوقات ، كما أنا لا نعلم من ذاته إلا أنه مبدأ جميع الممكنات. من طبع على قلبه مني بالخذلان ، ومن كشف له الغطاء صار حيران فلا إحاطة للقطرة بكرة الماء ، ولا ظهور لضوء السهى عند حلول الشمس.

كبد السماء أشتاقه فإذا بدا

أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة

وصيانة لجماله

فالموت في إدباره

والعيش في إقباله

وأصدّ عنه إذا بدا

وأروم طيف خياله

وأما أنه واحد في أفعاله فلأن ما سواه ممكن الوجود لذاته ، وبقدر البون بين الواجب للذات والممكن للذات يوجد التفاوت بين فعليهما إن فرض للمكن فعل من نفسه (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم : ٤٠] ثم إنه تعالى خص الموضع بذكر الرحمن الرحيم ، لأن الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فعقبهما بذكر الصفتين ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية وإشعارا بأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. ذكر علماء المعاني في إيجاز هذه الآية أن في

٤٥٢

ترجيح وقوع أيّ ممكن كان على «لا وقوعه» لآيات للعقلاء. إلا أن الكلام لما كان مع الإنس أو الجن فحسب بل مع الثقلين ، ولا مع قرن دون قرن بل مع القرون كلهم إلى انقراض الدنيا وفيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من لا يحصي من طوائف الغواة ، لم يكن مقام أدعى لترك الإيجاز إلى الإطناب من هذا. عن عطاء قال : نزل بالمدينة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فقالت كفار قريش بمكة ـ ولهم حينئذ حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ـ : كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخرها وعن سعيد بن مسروق : لما نزلت (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) تعجب المشركون وقالوا : إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية فنزلت. وزعم بعض الناس أن الخلق هو المخلوق وهو الذي يدل على الصانع. والتحقيق أنه غيره لأن الخلق التقدير ، وتقدير المخلوقات غير نفس المخلوقات ، ولو كان عينها والخالقية صفة لله تعالى لزم اتصافه تعالى بالقاذورات ، والشياطين. ولأنه يصح تعليل حدوث الحادث بخلق الله تعالى فلا يصح تعليل حدوثه بنفس ذلك الحادث ، ولأنه يصح أن يقال : خلق السواد وخلق البياض ومفهوم الخلق فيهما واحد ، ومفهوم السواد غير مفهوم البياض ، ولاتفاق المعتبرين من النحاة على أن العالم في قول «خلق الله العالم» مفعول به لا مفعول مطلق. ثم لا نزاع في الاستدلال على الخالق بالمخلوق ، لكن لا من جهة عينه بل من جهة خلق الله إياه ، وهذه الجهة التي صيرته آية.

وقد عدد الله تعالى في هذه الآية ثماني آيات :

الأولى : خلق السموات وقد تكلمنا في عددها وترتيبها في تفسير قوله تعالى (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] وقد زعم أهل الهيئة لما شاهدوا من كل واحد من السيارات السبع حركات مختلفة كالبطء والسرعة بعد التوسط في الحركة والوقوف والرجوع بعد الاستقامة وهي الحركة على توالي البروج وعندهم مقدمتان كليتان إحداهما أن السماويات لا يتطرق إليها إلا الاختلاف الوضعي.

الثانية : أن حركة الكوكب في الفلك ليست كحركة السمك في الماء ولكنه يدور بإدارة الفلك إياه ، أن كل واحد من أفلاك السيارات ينقسم إلى أفلاك أخر يتضمنها فلكه الكلي الذي مركزه مركز العالم ، ومراكزها تخالف مركزه في الأغلب. ثم إن كان مع المخالفة في المركز محيطا بالأرض يخص باسم الخارج المركز ويبقى بعد توهم انفصاله من الفلك الكلي جسمان تعليميان متبادلا وضع الغلظ والرقة يسميان المتممين ، وإن لم

٤٥٣

يكن محيطا بالأرض سمي بالتدوير ، ويكون الكوكب مركوزا فيه كالفص في الخاتم. ويلزم له من مجموع الحركات المركبة من تلك الأفلاك حركة مختلفة في النظر ، وإن كان كل منهما متشابها في نفس الأمر ، ويعني بالتشابه هاهنا أن يقطع المتحرك من المحيط في أزمنة متساوية قسيا متساوية ، أو يحدث عند المركز زوايا متساوية وبالاختلاف نقيض ذلك. فللقمر من تلك الأفلاك أربعة : اثنان متوافقان في المركز وخارج وتدوير. وللعطارد أربعة : أحدها يوافق مركزه مركز العالم وخارجان وتدوير. وللزهرة ثلاثة : وللشمس اثنان : موافق وخارج. ولكل من الثلاثة العلوية كما للزهرة. ومقادير حركات هذه الأفلاك بسيطة موضوعة في الزيجات ، وأما المختلفة فالشمس تقطع جميع الفلك في سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا كسرا ، والقمر في ثمانية وعشرين يوما ، وكل من عطارد والزهرة كالشمس وزحل في ثلاثين سنة ، والمريخ في سنتين ، والمشتري في اثنتي عشرة سنة جميع ذلك بالتقريب. وإذا تقرر ذلك على الإجمال فنقول في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال : إن اختصاص مقادير كل واحد من الأفلاك بمقدار معين مع اشتراكها في الطبيعة الفلكية ، تدل على مخصص مدبر مختار خبير قهار. وكذا تخصص كل منها بحيز معين ، وكذا تعيين نقطتين من سطح الفلك للقطبية مع تساوي جميع النقط المفروضة عليه في صلوح ذلك ، وكذا حصول الكواكب أو التدوير في جانب معين من الفلك ، وكذا تفصيل الأفلاك الكلية إلى الخوارج المراكز وإبقاء المتممات على أقدار معينة في الرقة والغلظ ، وكذا تعيين كل من الأجرام بحركة معينة. السيارات كما قلنا آنفا والثوابت بحيث تتم دورا في ستة وثلاثين ألف سنة على ما في المجسطي ، أو في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة عند المتأخرين ، والفلك الأعظم في يوم بليلة. وكذا تعيين جهات الحركات شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا ، وكذا تعيين مبادئ الحركات وتخصيصها بزمان دون زمان ، فإن الأفلاك سواء قلنا أن ذواتها حادثة أو يقال إنها أزلية ، لا بد أن يكون لحركاتها أول فإن الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وكون الحركة أزلية ينافي المسبوقية بالغير. فالابتداء بالحركة بعد أن لم تكن يقتضي الافتقار إلى فاعل مختار يكون الكل تحت قهره وتسخيره ، وكذا تخصيص كل من الكواكب بعظم آخر وبلون آخر وبلون آخر كصفرة عطارد وبياض الزهرة كمودة زحل ودريّة المشتري وحمرة المريخ وظلمة القمر في ذاته بحيث إذا حال حائل بين الناظر وبين الشمس ـ وذلك في الاجتماع المرئي ـ كسفه. وكذا اختلاف تأثيراتها في هذا العالم بإذن خالقها. وبالجملة فإن هذا الترتيب العجيب والنسق الأنيق في تركيب هذه الأفلاك وائتلاف حركتها وارتباط أجرامها واختلاف أوضاعها المستتبعة لاتصالاتها وانصرافاتها ، أترى أنها مبنية على حكمة وبقدرة قدير خبير أم هي

٤٥٤

واقعة عبثا وجزافا؟ هيهات فإن من جوّز في بناء رفيع وقصر مشيد أن التراب والماء انضم أحدهما إلى الآخر ثم تولد منهما اللبنات ثم تركبت تلك اللبنات وتولدت من تركيبها القصر ثم تزين بنفسه بالنقوش الغريبة والرسوم اللطيفة ، قضى العقل له بالجنون وسجل عليه بسخافة الرأي بل يعد من زمرة الأنعام من جملة الأنام. الآية الثانية خلق الأرض : ومن تأمل في شكلها من الاستدارة وفي حيزها من كونها واقعة في مركز العالم حتى انبعث منها بوقوع الشمس عليها مخروط ظلي في مقابلة الشمس متى وقع القمر فيه انخسف ، ومن انكشاف بعضها عن كرة الماء لمكان الاستقرار عليها ، وفي اختلاف أوضاع بقاعها بالنسبة إلى السماء حتى اختلف مرور الشمس وسائر الكواكب بسمت رؤوس قطان البلدان وتباينت الفصول والأمزجة والأخلاق وتغايرت الطوالع والمطالع بحسب تغاير الآفاق ، ومن سائر أعراضها ومنافعها التي تقرر طرف منها في تفسير قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] علم افتقارها إلى مدبر قدير وعليم خبير واحد في ملكه يفعل ما يشاء كما يشاء من غير منازع ومعاند.

الثالثة : اختلاف الليل والنهار : أما النهار فإنه عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأفق. وفي عرف الشرع : زيادة ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع جرم الشمس. وأما الليل ، فعبارة عن مدة خفاء الشمس تحت الأفق ، أو بنقصان الزيادة المذكورة ، وذلك لأن الشمس إذا غابت ارتفع رأس مخروط ظل الأرض إلى فوق فوقع الإبصار داخله إلى أن يظهر الضلع المستنير منه من جانب الأفق الشرقي فيكون أول الفجر الكاذب إن كان الضوء مرتفعا عن الأفق بعد ، وأول الفجر الصادق إذا قرب من الأفق جدا وانبسط النور حتى إذا غاب رأس المخروط تحت الأفق طلع مركز جرم الشمس في مقابله فظهر أن الليل والنهار كيف يختلفان أي يتعاقبان مجيئا وذهابا كقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] أو يختلفان ظلاما وضياء أو طولا وقصرا لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ضرورة كون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة. أو كيف يختلفان في الأمكنة فإن نهار كل بقعة تقابلها ضرورة كروية الأرض. أو كيف يختلفان باختلاف البلدان فإن البلد كلما ازداد عرضا عن خط الاستواء ـ وهو الموضع المحاذي لمنطقة الفلك الأعظم المسماة معدل النهار ـ ازداد نهاره في الصيف طولا وفي الشتاء قصرا وبالعكس في الليل وقد يرتقي طول النهار بحسب تزايد ارتفاع القطب إلى حيث يصير اليوم بليلته نهارا كله وبإزائه الليل ، ثم إلى أكثر من ذلك إلى حيث يكون نصف السنة نهارا ونصفها الآخر ليلا وذلك إذا صار قطب الفلك الأعظم محاذيا لسمت الرأس ولا عمارة هناك ، ولا حيث يزيد النهار الأطول على يوم بليلته لشدة البرد اللازم من قبل انخفاض الشمس. وكون الليل والنهار

٤٥٥

في أنفسهما آيتين على وجود الصانع ووحدانيته ظاهر ، وكذا من جهة ارتباطهما بحركة النير الأعظم ، وكذا من جهة انتظام أحوال العباد بهما بسبب طلب المعاش في الأيام والنوم والراحة في الليالي. ومن الغرائب تعاون المتنافيين على أمر واحد هو إصلاح معاش الحيوان ، وأن إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولا عند النفخة الأولى ، ويقظتهم عند طلوع الفجر تضاهي عود الحياة إليهم في النفخة الثانية ، وانشقاق ظلمة الليل بظهور الفجر المستطيل فيه من أعجب الأشياء كأنه جدول ماء صاف يسيل فيما بين بحر كدر بحيث لا يمتزجان. وكل هذه الأمور دلائل على وجود مبدع عظيم الشأن غني عن الزمان والمكان مبرأ عن سمات الحدوث والإمكان.

الرابعة : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي متلبسة بالذي ينفعهم مما يحمل فيها ، أو بنفع الناس. والفلك بالضم والسكون السفينة ، واحد وجمع. فضمة الواحد ضمة برد وضمة الجمع ضمة أسد ، وتأنيث صفته هاهنا أن يكون لتضمين معنى السفينة ، ويحتمل أن يكون لمعنى الجمعية أي المراكب التي تجري ، والتركيب يدل على الاستدارة والدوران ومنه «الفلك جسم كروي يحيط به سطحان متوازيان مركزهما واحد» «وفلكة المغزل» «وفلك ثدي الجارية استدار». والبحر خلاف البر. قيل : سمي بذلك لاتساعه وتعمقه ومنه «تبحر في العلم والمال» ويسمى الفرس الواسع الجري بحرا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فرس أبي طلحة : إن وجدناه لبحرا وقيل : من الشق بحرت أذن الناقة شققتها. ومنه البحيرة. هذا وقد سلف في تفسير قوله عز من قائل (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢]. أن الماء محيط بأكثر جوانب القدر المعمور من الأرض فذلك هو البحر المحيط. وقد دخل من ذلك الماء من جانب الجنوب متصلا بالمحيط الشرقي ومنقطعا عن الغربي إلى وسط العمارة أربعة خلجان : أولها إذا ابتدئ من الغرب الخليج البربري لكونه حدود بربر من أرض الحبشة طوله من الجنوب إلى الشمال مائة وستون فرسخا ، وعرضه خمسة وثلاثون فرسخا. وعلى ضلعه الغربي بلاد كفار الحبشة وبعض الزنج ، وعلى الشرقي بلاد مسلمي الحبشة. وثانيها الخليج الأحمر ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخا ، وعرضه بقرب منتهاه ستون فرسخا ، وبين طرفه وفسطاط مصر الذي على شرقي النيل مسيرة ثلاثة أيام على البر ، وعلى ضلعه الغربي بلاد الزنج من البربر وبعض بلاد الحبشة ، وعلى ضلعه الشرقي سواحل عليها فرضة مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوافل مصر والحبشة إلى الحجاز ، ثم سواحل اليمن ، ثم عدن على الزاوية الشرقية منه. وثالثها خليج فارس ، طوله من الجنوب إلى الشمال أربعمائة وستون فرسخا ، وعرضه

٤٥٦

قريب مائة وثمانين ، وعلى سواحل ضلعه الغربي اليمن وبلاد عمان ولهذا ينسب البحر هناك إليها. وجملة ولاية العرب وأحيائهم من الحجاز واليمن والطائف وغيرها وبواديهم بين الضلع الغربي من هذا البحر والشرقي من الخليج الأحمر ، فلهذا تسمى العمارة الواقعة بينهما جزيرة العرب وفيها مكة زاد الله شرفها. وعلى سواحل ضلعه الشرقي بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران ثم سواحل السند. ورابعها الخليج الأخضر مثلث الشكل آخذ من الجنوب إلى الشمال. ضلعه الشرقي من بلاد فارس ثم هرموز ثم مكران يتصل بالمحيط الشرقي. وضلعه الغربي خمسمائة فرسخ تقريبا. وعلى سواحل هذا الضلع ولايات القتا والصين ولهذا يسمى بحر الصين ، ومن زاويته الشرقية من بحر فارس يسمى بحر الهند لكون بعض ولاياتهم على سواحله ، وأيضا قد دخل إلى العمارة من جانب الغرب خليج عظيم يمر من جانب الجنوب على كثير من بلاد المغرب ويحاذي أرض السودان وينتهي إلى بلاد مصر والشام ، ومن جانب الشمال على بلاد أندلس والجلانقة والصقالبة إلى بلاد الروم والشام ، ويتشعب منه شعبة من شمال أرض الصقالبة إلى أرض مسلمي بلغار يسمى بحر ورتك. طوله المعلوم مائة فرسخ ، وعرضه ثلاثة وثلاثون. وإذا جاوز تلك النواحي امتدّ نحو المشرق عما وراء جبال غير مسلوكة وأرض غير مسكونة ، ويتشعب منه أيضا شعبة تسمى بحر طرابزون. فهذه هي البحار المتصلة بالمحيط. أما غير المتصلة فأعظمها بحر طبرستان وجيلان وباب الأبواب والخرز والبكون ، لكون هذه الولايات على سواحله مستطيل الشكل آخذ من المشرق إلى المغرب بأكثر من مائتين وخمسين فرسخا ، ومن الجنوب إلى الشمال تقريب من مائتين. ومن عجائب البحار الحيوانات المختلفة الأعظام والأنواع والأصناف ، ومنها الجزائر الواقعة فيها. فقد يقال في بحر الهند من الجزائر العامرة وغير العامرة ألف وثلاثمائة وسبعون ، منها جزيرة عظيمة في أقصى البحر تقابل أرض الهند في ناحية المشرق. وعند بلاد الصين تسمى جزيرة سرنديب دورها ثلاثة آلاف ميل ، فيها جبال عظيمة وأنهار كثيرة ومنها يخرج الياقوت الأحمر. وحول هذه الجزيرة تسع عشرة جزيرة عامرة فيها مدائن وقرى كثيرة ، ومن جزائر هذا البحر جزيرة «كلة» التي يجلب منها الرصاص القلعي ، وجزيرة «سريرة» التي يجلب منها الكافور. وغرائب البحر كثيرة ولهذا قيل : حدث عن البحر ولا حرج وسئل بعض العقلاء ما رأيت من عجائب البحر؟ قال : سلامتي منه. والسفينة مما ألهم الله تعالى تركيبها ثم أجراها بقدرته على وجه الماء ، فلو لا رقة الماء وخفة مادة السفينة ثم عجيب صنعتها لما تم جريها ، ولولا الرياح المعينة على تحركها لما تكامل النفع بها ، ولولا اعتدال الريح لما سلمت من تلاطم الأمواج ، ولولا تقوية قلوب راكبيها لما صبروا على شدائد ركوبها ، ولولا أنه تعالى خص

٤٥٧

كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار ، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح ، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه. وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة.

الخامسة : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء. وأما تنكير (مِنْ ماءٍ) فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئا كماجاء في الحديث «ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت» (١) ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سببا للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين.

فوقت الربيع في الأزمان

كسن الصبا في الأسنان.

وموت الأرض من ترشيح الاستعارة ، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة ، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه. فلا دواء عليه.

السادسة : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) وإنه معطوف على (أَنْزَلَ) فيدخل تحت حكم الصلة ، ويصح عود الضمير (فِيها) إلى الأرض لأن قوله (فَأَحْيا) عطف على (أَنْزَلَ) فاتصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد. فكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على (فَأَحْيا) أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠]. واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي ، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ٤٥. أحمد في مسنده (٢ / ٣٤٢).

٤٥٨

فرد حكيم. يحكى أن شخصا قال بحضرة عمر : إني أتعجب من أمر الشطرنج ورقعته صغيرة ولو لعب الإنسان به ألف مرة لم يتفق مرتان فقال عمر : هاهنا ما هو أعجب منه ، وهو أن مقدار الوجه شبر في شبر ، ثم إن مواضع الأعضاء التي فيها من الحاجبين والعينين والأنف والفم لا يتغير البتة ومع ذلك لا ترى شخصين أبدا يشتبهان في الصورة. فما أعظم تلك القدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرقعة الصغيرة هذه الاختلافات التي لا حد لها ، ولولا هذا الاختلاف لاشتبه الناس بعضهم ببعض وانقطع نظم معايشهم وحوائجهم. ومن تأمل كتب التشريح وقرأ كتاب الحيوان وتتبع عجائب المخلوقات وقف من تراكيبها وخواصها على ما يقضي منه العجب ويفضي إلى الاعتراف بوحدانية الرب.

السابعة : تصريف الله تعالى الرياح مع دقتها ولطافتها وفي ذلك نفع عظيم لانتفاع الحيوان بتنشق الهواء البارد ، وبجريان السفن بهبوب الرياح ، ومن قبل تلقيح الأشجار وسوق السحاب إلى حيث يرسله الله تعالى ، ومن جهة تصحيح الأهوية الوبائية إلى غير ذلك من المنافع. والمراد بتصريفها تقليبها في جهات العالم على حسب المصالح شمالا وجنوبا وشرقا وغربا أي صبا ودبورا على كيفيات متخالفة حارّة وباردة وعاصفة ورخاء. ومن قرأ الريح بالموحدة فليس فيها دلالة على العذاب في هذا المقام ، والذي جاء في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا هبت الريح قال : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. فلا يدل إلا على أن مواضع الرحمة بالجمع أدل كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] وقال (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] وقد تختص اللفظة في القرآن بشيء فتكون أمارة له. فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله (وَما يُدْرِيكَ) مبهم غير معين قال (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] وما كان من لفظ «أدراك» فإنه مفسر (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ٣] (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) [القارعة : ١٠].

الثامنة : السحاب المسخر بين السماء والأرض سمي سحابا لانسحابه في الهواء. ومعنى التسخير التذليل. وذلك أن طبع الماء ثقيل يقتضي النزول فكان بقاؤه في جو الهواء على خلاف طبعه بقاسر ومخسر. وأيضا لو دام لعظم ضرره من حيث إنه يستر ضوء الشمس ويكثر الأنداء والأمطار ويتعذر التردد في الحوائج ، ولو انقطع لعظم ضرره لاستلزامه الجدب والإمحال ، فكان تقديره بالمقدار المعلوم والإتيان به في وقت الحاجة ودفعه عند زوالها بمدبر ومسخر لا محالة. وفي نفس السحاب من عظمه وتراكمه وارتفاعه وانخفاضه وانبساطه وتخلخله وسده الأفق في لحظة وانقشاعه في أخرى واشتماله على

٤٥٩

الرعد والبرق والسحمة والتطبيق إلى غير ذلك من العجائب دلالات واضحة على كمال حكمة موجده ومقدّره. وأما قوله تعالى (لَآياتٍ) فيحتمل أن يكون راجعا إلى الكل أي مجموع هذه الأشياء الثمانية آيات ، ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد فإن كل واحد منها يدل على مدلولات كثيرة كما فصلنا. وأيضا فكل واحدة منها من حيث إنها موجودة فدل على وجود موجدها ، وكونه قادرا ومن حيث إنها وقعت على وجه الإحكام والإتقان تدل على علم الصانع ، ومن حيث حدوثها واختصاصها بوقت دون وقت تدل على إرادته واختياره ، ومن حيث إنها وجدت على الاتساق والانتظام دلت على وحدانية الله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]. وأما قوله تعالى (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه والاستدلال به. وفي الآية من الفوائد أن التقليد مذموم فيما إلى تحقيقه سبيل. وفيها أن جميع المعارف ليست ضرورية وإلا لم يحتج إلى النظر في شيء منها ، وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات ، لأنها جامعة بين كونها نعما على المكلفين ، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها حسبي الله ونعم الوكيل.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

القراآت : ولو ترى بتاء الخطاب : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون : بالياء (إِذْ يَرَوْنَ) بضم الياء من الإراءة : ابن عامر (أَنَّ الْقُوَّةَ وَأَنَّ اللهَ) بكسر الألف فيهما : يزيد وسهل ويعقوب (إِذْ تَبَرَّأَ) بإدغام الذال في التاء وكذا ما أشبهه : هشام وسهل وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف. (يُرِيهِمُ اللهُ) بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويعقوب بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم (بِخارِجِينَ) بالإمالة : عباس وقتيبة لجوار من النار.

الوقوف : (كَحُبِّ اللهِ) ط (حُبًّا لِلَّهِ) ط (الْعَذابَ) لا وكذلك و (جَمِيعاً) لا من قرأ «أن» و «إن» بالكسر فيهما (شَدِيدُ الْعَذابِ) ه (الْأَسْبابُ) ه (تَبَرَّؤُا مِنَّا) ط (عَلَيْهِمْ) ط (مِنَ النَّارِ) ه.

٤٦٠