تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

إبل» (١) أي بسببها. فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم. وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضا في صور كما إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم حربيا أو معاهدا ، أو مسلم مسلما خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه. فإن قيل : لو وجب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك ، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) [الأعراف : ١٣٤] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق. وأيضا القصاص عبارة عن التسوية ، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل. قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم استيفاء. ويحتمل أن يكون خطابا مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص. وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع هاهنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود ، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله فلا يعترفا ، فكان أمر القتل أشنع ، وفيه حق الآدمي أكثر. وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل ، والتسوية في القتل صفة للقتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات. فالآية تفيد إيجاب القتل. ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي : إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل ، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته. وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته. روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يفعل به مثله. ولأنه لا يجوز أن يقال : كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، وحيث لم يستثن دخل. وأيضا الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف. وكما لو قتل صغيرا باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح. ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال ، والتخصيص أهون منه. وأيضا لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فلا يستفاد من الآية شيء البتة. وقال أبو حنيفة : المراد بالمماثلة تماثل

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب القسامة باب ٢٣. أبو داود في كتاب الديات باب ١٦ أحمد في مسنده (٢ / ١٧٨ ، ١٨٣) بلفظ «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل».

٤٨١

النفس ويتعين السيف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا قود إلا بالسيف» (١) واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله. أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. وقالت المعتزلة : إنما شرع ليكون لطفا. وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا : فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعيا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد ، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي ، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل.

قوله عز من قائل (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) الباء للبدّل نحو «بعت هذا بذاك» أي الحر مقتول بدل الحر. ثم فيه قولان : الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة ، أن لا يكون القصاص مشروعا إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين ، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر. فلو كان قتل حر بعبد مشروعا لكان ذلك الحر مقتولا بعير حر وهو يناقض الآية. ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعا وهو يناقض الآية ، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا : لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر. وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع ، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة ، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى ، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى أهل اليمن «أن الذكر يقتل الأنثى». القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة ، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر البتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام. لأن قوله (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) مانعا من ذلك تناقض. وأيضا قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) جملة مستقلة وقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر ، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات. ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المسلمون

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب ٢٥.

٤٨٢

تتكافأ دماؤهم» (١) وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا : الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك. وأيضا نقل عن علي رضي‌الله‌عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص. أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعا بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص ، بل لا بد من التراجع. فأيما حر قتل عبدا فقود به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبد حرا فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد. وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه ، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها. وإذا قتلت امرأة رجلا فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية ، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين ، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع.

قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك «سير بزيد بعض السير وطائفة من السير» ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة. فإن قيل : إن «عفا» يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال : عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال تعالى (عَفَا اللهُ عَنْكَ) [التوبة : ٢٣] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معا قيل «عفوت لفلان عما جنى» كما تقول «غفرت له ذنبه» وتجاوزت له عنه. فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته. فاستغنى عن ذكر الجناية. فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية. وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل «قل لصاحبك كذا» إذا كان بينهما أدنى تعلق. أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب ١٤٧. النسائي في كتاب القسامة باب ١٠. ابن ماجه في كتاب الديات باب ٣١. بلفظ «المؤمنون» بدل «المسلمون».

٤٨٣

صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم ، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر. وأيضا إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو إنما يليق عن المؤمن. ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمنا فلعله تعالى سماه مؤمنا بهذا التأويل ، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمنا. ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب. وأيضا لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحدا. ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل. وأيضا الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخا له. وأيضا يجوز أن يكون قد جعله أخا له في النسب كقوله تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) [هود : ٥٠] (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي فليكن اتباع ، أو فالأمر ، أو فحكمه اتباع. أو فعلية اتباع فقيل : على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة ، فإن كان معسرا فالنظرة وإن كان واجدا لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجدا بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات (وَ) إلى المعفو عنه (أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس ، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان (ذلِكَ) قيل : إشارة إلى الاتباع والأداء. وعن ابن عباس : وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو ، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيرا ، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا ، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجا إلى المال ، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغبا في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه. وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعا وهو الدية. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) نوع من العذاب الأليم في الآخرة. وعن قتادة : العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية» وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم. ولما كانت الآية

٤٨٤

مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). قال المفسرون : القصاص إزالة الحياة ، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ، ويحتمل أن يقال : نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل ، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان بهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص. وقيل : القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب. وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز ، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم «قتل البعض أحياء للجميع» وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم «القتل أنفى للقتل». والترجيح مع ذلك للآية من وجوه : الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلما ليس أنفى للقتل قصاصا بل أدعى له. ولو خصص فقيل «القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما» طال. والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف. الثاني : أن القتل قصاصا لا ينفي القتل ظلما من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص. وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم. الثالث : أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة. فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى. الرابع : التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية. الخامس : أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة ، وفي كلامهم أربعة عشر. السادس : أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب ، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة. السابع : ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال ، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سببا لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير. الثامن : المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم. التاسع : اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة ، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم. العاشر : اشتمال الآية على اسمين وأداة ، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة. وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان ، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها ، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن. فتقدير كلامهم «القتل أنفى

٤٨٥

للقتل من كل شيء» فأين الوجازة (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه ، وواحده ذو بمعنى صاحب. وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) [الطلاق : ٤] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم. وزادوا في «أولي» واوا فرقا بينها وبين «إلى» وأجرى «أولو» عليه. واللب العقل ، ولب النخلة قلبها ، وخالص كل شيء لبه. خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته ، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة ، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص. عن الحسن والأصم : وقد بقي على الآية بحث ، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر ، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفا عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته ، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سببا يدور مسببه معه وجودا وعدما. وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سببا لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله ، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به. ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها. وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم.

التأويل : كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أي من كان متوجها إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلا به بالكلية ، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال ، ومن كان ناقصا في دعوى محبته لم يكن مستحقا لكمال محبته (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) من الأحباء والأصفياء (شَيْءٌ) من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه. فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان. (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فإن الكفر مرتعه وخيم (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) الدارين والتقاء برب الثقلين (يا أُولِي الْأَلْبابِ) الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*) شرك وجودكم.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى

٤٨٦

الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

القراآت : (خافَ) بالإمالة حيث كان : حمزة. (مُوصٍ) بالتشديد : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون : بالتخفيف من الإيصاء.

الوقوف : (خَيْراً) ج لأن قوله (الْوَصِيَّةُ) مفعول (كُتِبَ) وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما ، أو «الوصية» مبتدأ «وللوالدين» خبره ، ومفعول «كتب» محذوف أي كتب عليكم أن توصوا. ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف. (بِالْمَعْرُوفِ) ح لأن التقدير حق ذلك حقا أو كتب الوصية حقا. (الْمُتَّقِينَ) ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر (يُبَدِّلُونَهُ) ط عليم كذلك (عَلَيْهِ) ط (رَحِيمٌ) (ه).

التفسير : وهذا حكم آخر. قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) يقتضي الوجوب كما مر. والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزا عن الإيصاء والأكثرون قالوا : المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد : إنه وصل. وعن الأصم : المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا ، وزيف بأنه ترك للظاهر. ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) [البقرة : ٢٧٢] (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] (مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير هاهنا بعد اتفاقهم على أنه المال. فعن الزهري : أنه المال مطلقا قليلا كان أو كثيرا بدليل قوله (مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] فكذا الوصية ، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير. والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل «فلان ذو مال» يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير. وكما إذا قيل «فلان في نعمة من الله تعالى» فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) فائدة لندرة من يموت فاقدا أقل ما يتمول. ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى

٤٨٧

بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا. فمنهم من قال : إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل. فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة ، فيكون التعيين في كل صورة موكولا إلى الاجتهاد ، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب. ومنهم من قال : إنه مقدر. ثم اختلفوا فعن علي كرم الله وجهه : أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال : لا قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال. وعن عائشة أن رجلا قال لها : إني أريد أن أوصي. قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف. قالت : كم عيالك؟ قال أربعة. قالت : قال الله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وعن ابن عباس : أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي ، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وعن قتادة : ألف درهم. وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم. قال أبو البقاء : جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

وقال غيره : جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول «لك كذا إن فعلت» ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه. وقيل : المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو (عَلَيْكُمْ) وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب. والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد. وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد. وقيل : جميع القرابات. وقيل : غير الوارث. وقوله (بِالْمَعْرُوفِ) أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة. فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفا ، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا ، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفا. و (حَقًّا) مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهبا لهم وسيرة.

واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا. أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال : معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا

٤٨٨

ينقص من أنصبائهم ، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية. فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت ، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين ، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين. ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا في الآية. وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل ، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال ، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم. فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها. وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا : نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» (١) وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور. ومن أئمة الأمة من قال : هي منسوخة في حق من يرث ، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية. وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب. قالوا : الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث ، إما بآية المواريث أو بقوله «لا وصية لوارث» (٢) أو بإجماع الأمة. فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا. وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه» وفي رواية «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين» وفي رواية «ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده» (٣) لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب. وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا اختلفوا في موضعين : الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء. وقال الحسن البصري والأغنياء سواء. الثاني : عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٦. أبو داود في كتاب الوصايا باب ٦. الترمذي في كتاب الوصايا باب ٥. النسائي في كتاب الوصايا باب ٥. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب ٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ١. مسلم في كتاب الوصية حديث ١ أبو داود في كتاب الوصايا باب ١. الترمذي في كتاب الوصايا باب ٣. النسائي في كتاب الوصايا ١. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب ٢. الدارمي في كتاب الوصايا باب ١. الموطأ في كتاب الوصايا حديث ١.

٤٨٩

قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة ، وثلث الثلث لمن أوصى له. وعن طاوس : أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب (فَمَنْ بَدَّلَهُ) فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقا للشرع (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غير هما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه ، وقيل : المنهي عن التغيير هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه. فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلبا للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الضر والفقر ، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها. (فَإِنَّما إِثْمُهُ) ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه ، فإن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره. ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه ، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث ، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد. ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله (فَمَنْ خافَ) ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعا كما هو حسن عقلا ، وللخوف هاهنا تفسيران : أحدهما : الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت. وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثما أي تعمدا بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق. فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية ، لأن قوله (مِنْ مُوصٍ) يدل على سائر ملابساته. فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب ، أو أن أزيد فلانا مع أنه غير مستحق للزيادة ، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفا من جنف أو إثم لا قاطعا به ، وأيضا الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته ، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر؟ وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي ، وقد يعزى حينئذ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع. والتفسير الثاني إن (خافَ)

٤٩٠

بمعنى علم. وقد يستعمل الخوف والخشية مقام العلم ، لأن الخوف منشؤه ظن مخصوص ، وبين العلم والظن مشابهة من وجوه كثيرة ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر استعمالا شائعا من ذلك قولهم «أخاف أن ترسل السماء» يريدون التوقع. والظن الغالب الجاري مجرى العلم. فمعنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع. وفي الآية دليل على جواز الإصلاح بين المتنازعين إذا خاف المصلح إفضاء المنازعة إلى محذور شرعا. والغرض من قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) رفع الحرج حتى لا ينافي الوجوب. وفيه مع ذلك نكتة هي أن الإصلاح بين القوم يحتاج إلى الإكثار من القول وذلك قد يفضي إلى الإسهاب والتكلم ببعض ما لا ينبغي فبين تعالى أنه لا مؤاخذة على المصلح من هذا الجنس إذا كان غرضه الأصلي صحيحا ولهذا أتبعه قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأيضا كأنه قيل : أنا الذي أغفر الذنوب ثم أرحم المذنب ، فلأن أوصل رحمتي إليك أيها المصلح مع تحمل أعباء الإصلاح أولى. أو المراد أن الموصي الذي أقدم على الجنف أو الإثم متى أصلح خلل وصيته فإن الله يغفر له ويرحمه بفضله. وبهذا التأويل يجوز أن يرجع الضمير في قوله (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) إلى الموصي.

واعلم أن أكثر الأئمة وإن ذهبوا إلى أن وجوب الوصية منسوخ بآية المواريث إلا أنهم اتفقوا على أنها الآن جائزة في الثلث لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاد سعد ابن أبي وقاص فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : لا. قال : فبشطره؟ قال : لا قال : فبالثلث؟ قال : الثلث والثلث كثير. لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. فأفاد الحديث المنع من الزيادة واستحباب النقصان عن الثلث إن كانت الورثة فقراء. والوصية أوسع مجالا من الإرث ، فإذا أراد الوصية فالأفضل أن يقدم من لا يرث من أقاربه لأن الله أعطى الأقربين الميراث ويقدم منهم المحارم ثم يقدم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم بالولاء ثم بالجوار كما في الصدقات المنجزة. فإن أوصى للورثة بعضهم جاز لكن بالإجازة من سائر الورثة كما لو زاد على الثلث للأجنبي ، فإن الزائد يحتاج إلى إجازة الورثة.

التأويل : كتب على الأغنياء الوصية بالمال وعلى الأولياء الوصية بالحال ، والأغنياء يوصون في آخر أعمارهم بالثلث والأولياء يخرجون في مبادئ أحوالهم عن الكل. والمعنى إذا حضر قلب أحدكم مع الله وأمات نفسه عن الصفات الحيوانية ، فعليه أن يوصي للوالدين. وهما الروح العلوي والبدن السفلي ، فإن النفس تولدت من ازدواجهما ،

٤٩١

وللأقربين ـ وهم القلب ـ والسر بترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية والجسمانية بالمعروف من غير إسراف يفضي إلى الإتلاف معرضا عن الشهوات مجتنبا من الرسوم والعادات كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت لرفع العادات وترك الشهوات بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ومن مكارم الأخلاق أن يجعل المشارب مشربا واحدا والمذاهب مذهبا واحدا.

وكل له سؤل ودين ومذهب

ووصلكم سؤلي وديني هواكم

وأنتم من الدنيا مرادي وهمتي

مناي مناكم واختياري رضاكم

(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) من الشرك الخفي ولهذا لم يقل على المسلمين أو المؤمنين لأنهم أهل الظواهر والمتقون هم أهل البواطن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «التقوى هاهنا» (٢) وأشار إلى صدره. وأحكام الظواهر يحتمل النسخ وأحكام البواطن وهي الحكم والحقائق لا تحتمل النسخ. فحكم الوصية في حق المتقين غير منسوخ أبدا (فَمَنْ بَدَّلَهُ) فمن غير من الروح والقلب والسر والوصية الصادرة من نفسه الميتة (فَإِنَّما إِثْمُهُ) عليهم. وسبب هذا التوكيد أن السر والقلب والروح كلهم من العالم الروحاني ، وصفاتهم حميدة باقية فترك مشاربها والخروج عنها صعب جدا (فَمَنْ خافَ) تفرس (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) في ترك المشارب بأن يبالغ في المجاهدات لنيل المشاهدات (أَوْ إِثْماً) تجاوزا عن حد الشرع في رفع الطبع (فَأَصْلَحَ) بينهم بين الروح والبدن والقلب والسر ولكن بنظر شيخ كامل ومرب عارف ، فلا حرج على المصلح والله الموفق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي

__________________

(١)رواه مالك في الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث ٨. أحمد في مسنده (٢ / ٣٨١) بلفظ «بعثت لأتمم حسن الأخلاق».

(٢) رواه مسلم في كتاب البر حديث ٣٥. الترمذي في كتاب البر باب ١٨. أحمد في مسنده (٢ / ٢٧٧ ، ٣٦٠).

٤٩٢

قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

القراآت : (فِدْيَةٌ طَعامُ) مضافا مساكين بالجمع : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري (فِدْيَةٌ) بالتنوين (طَعامُ) بالرفع مضافا إلى مساكين بالجمع. الباقون : مثل هذا إلا أن (مِسْكِينٍ) مفرد مجرور (فَمَنْ تَطَوَّعَ) بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بلفظ الماضي من باب التفعل (الْقُرْآنُ) غير مهموز حيث كان : ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباسا فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) [طه : ١١٤] (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨] الباقون بالهمز (الْيُسْرَ) و (الْعُسْرَ) حيث كانا مثقلين : يزيد إلا قوله (فَالْجارِياتِ يُسْراً) [الذاريات : ٣] (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) من التكميل : أبو بكر وحماد وعباس ورويس. والباقون : من الإكمال. الداعي إذا دعاني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل. والباقون بغير ياء فيها في الحالين في (لَعَلَّهُمْ) بفتح الياء : ورش. الباقون : بالسكون.

الوقوف : (تَتَّقُونَ) لا لأن «أياما» ظرف «الصيام» أو الاتقاء (مَعْدُوداتٍ) ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع (أُخَرَ) ط لأن خبر الجار منتظر وهو «فدية» فلا تعلق له بما قبله (مِسْكِينٍ) ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل (خَيْرٌ لَهُ) ط لأن التقدير والصوم خير لكم. (تَعْلَمُونَ) ه (وَالْفُرْقانِ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (فَلْيَصُمْهُ) ط للابتداء بشرط آخر (أُخَرَ) ط (الْعُسْرَ) ز قد يجوز (تَشْكُرُونَ) ه (قَرِيبٌ) ط لأن قوله «أجيب مستأنف» (دَعانِ) ص للفاء (يَرْشُدُونَ) ه (لَهُنَ) ط (عَنْكُمْ) ج لعطف الجملتين المختلفتين (لَكُمْ) ص لذلك (إِلَى اللَّيْلِ) ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن (فِي الْمَساجِدِ) ط لأن «تلك» مبتدأ (فَلا تَقْرَبُوها) ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بيانا كبيان ما تقدم (يَتَّقُونَ) ه.

٤٩٣

التفسير : هذا حكم آخر. والصيام مصدر صام كالقيام والعياذ. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء. قال الخليل : الصوم قيام بلا عمل. وصام الفرس صوما أي قام على غير اعتلاف. وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وإنه في الشرع عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة تسمى المفطرات كالأكل والشرب والوقاع في زمان مخصوص هو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس. ولا بد في صحته من النية وأن يقع في غير يومي العيد بالاتفاق ، وفي غير أيام التشريق عند الأكثرين. ويوافقه الجديد من قول الشافعي «ومن غير يوم الشك بلا ورد ونذر وقضاء وكفارة». ولا بد للصائم من الإسلام والنقاء عن الحيض والنفاس ، ومن العقل كل اليوم ، ومن انتفاء الإغماء في جزء من اليوم. وقوله سبحانه (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علي كرم الله وجهه : أوّلهم آدم يعني أن الصوم عبادة أصلية قديمة ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم لم يفرضها عليكم وحدكم. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها لقدمها ، أو المعاصي لأن في الصوم ظلفا للنفس عن المناهي ومواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في سلك أهل التقوى فإن الصوم شعارهم. وقيل : معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام وهو رمضان ، كتب على النصارى فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده. وقيل : كان يقع في البرد الشديد والحر الشديد فشق عليهم فجعلوه بين الشتاء والربيع وزادوا عشرين كفارة. ومعنى معدودات مؤقتات بعدد معلوم أو قلائل مثل (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] وأصله أن المال القليل يعدّ عدّا ، والكثير يحثى حثيا كأنه قال : إني رحمتكم فلم أفرض عليكم صيام الدهر كله ولا أكثره ولكن أياما معدودة قليلة ، وعلى هذا يحتمل أن يكون وجه الشبه بين الفرضين مجرد تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان. ثم إن الأئمة اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان. فعن عطاء : ثلاثة أيام من كل شهر. وعن قتادة : هي مع صوم عاشوراء. ثم اختلفوا أيضا فقيل : كان تطوّعا ثم فرض وقيل بل كان واجبا. واتفقوا أنه نسخ بصوم رمضان واستدلوا على قولهم إنها غير صوم رمضان بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن صوم رمضان نسخ كل صوم» فدل على أن صوما آخر كان واجبا. وأيضا ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية وفي التي تتلوها ، فلو اتحد الصومان كان تكريرا محضا. وأيضا ذكر في هذه الآية التخيير بين الصوم والفدية وصوم رمضان واجب على التعيين فيختلفان. والثاني : وهو اختيار أبي مسلم والحسن وأكثر المحققين أنها شهر رمضان أجمل أولا ذكر الصيام ، ثم بينه بعض البيان بقوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ثم كمل البيان بقوله

٤٩٤

(شَهْرُ رَمَضانَ) وهذا ترتيب في غاية الحسن من غير زيادة ولا نقصان. وأجيب عن استدلالهم الأول بأنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يراد به نسخ كل صوم وجب الشرائع المتقدمة. سلمنا أن المراد به صوم ثبت في شرعه ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخا لصيام وجب بغير هذه الآية. وعن الثاني أن صوم رمضان كان واجبا مخيرا ، وفي الآية الثانية جعل واجبا على التعيين ، فأعيد حكم المريض والمسافر ليعلم أن حالهما ثانيا في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولا. وعن الثالث أن الاختلاف مسلم لكن في التخيير والتعيين ، أما في نفس الصوم فلا. وهاهنا سؤال وهو أن قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) كيف كان ناسخا للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ؟ والجواب أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول ، بل المقدم في التلاوة يمكن أن يكون ناسخا والمتأخر منسوخا كآية الاعتداد بالحول. وهكذا نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير. قال القفال : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، فبين أولا أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمم السالفة ، فإن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم بين ثانيا وجه الحكمة في إيجاب الصوم وحصول التقوى. ثم بين ثالثا أنه مختص بأيام قلائل لا بكلها ولا بأكثرها. ثم بين رابعا أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن ليعلم شرفه فتوطن النفس له. ثم ذكر خامسا إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى زمن الرفاهية والصحة وهي هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث يصدر عنها الأفعال كلها سليمة والمرض زوالها. واختلف الأئمة في المرض والسفر المبيحين للإفطار على أقوال : أحدها أن أيّ مريض كان ، وأيّ مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلا للفظ المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين. يروى أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع أصبعه. وعن داود : الرخصة حاصلة في كل سفر ولو كان فرسخا. وثانيها أنه المرض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد وكذا السفر وهو قول الأصم. وحاصله تنزيل اللفظ على أكمل أحواله. وثالثها وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء أنه الذي يؤدي إلى ضرر في النفس أو زيادة في العلة إذ لا فرق في العقل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام اشتد حماه ، والأرمد يخاف أن يشتد وجع عينه. قالوا : وكيف يمكن أن يقال : كل مرض مرخص مع علمنا بأن في الأمراض ما ينفعه الصوم؟ فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته تأثيرا يعتد به والتأثير اليسير لا عبرة به. والمرض المرخص لا يفرق فيه بين أن يعرف كونه كذلك بنفسه أو

٤٩٥

يخبره بذلك طبيب حاذق بشرط كونه مسلما بالغا عدلا. وأصل السفر من الكشف لأنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم. وعن الأزهري : سمي مسافرا لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء. قال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم. وعند الشافعي مقدر بستة عشر فرسخا ولا يحسب منه مسافة الإياب. كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة. وإلى هذه ذهب مالك وأحمد وإسحق ، وذلك أن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله بخلاف ما إذا تكرر في يومين فحينئذ يناسب الرخصة ، ولما روى الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» قال أهل اللغة : كل بريد أربعة فراسخ. وروى الشافعي أيضا أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة؟ فقال : لا فقال : إلى مرّ الظهران؟ فقال : لا. ولكن اقصر إلى جدّة وعسفان والطائف. قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. وقال أبو حنيفة والثوري : رخصة السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل ، أربعة وعشرين فرسخا قياسا على المسح. والإجماع على الرخصة في هذا المدة والخلاف فيما دون ذلك فيبقى المختلف فيه على أصل وجوب الصوم. وأجيب بأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يمسح المقيم يوما وليلة» (١) لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة يصير مقيما. وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والمسافر ثلاثة أيام» (٢) لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام. وأيضا الترجيح للإفطار لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصر الصلاة «هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (٣) وإنما قيل (أَوْ عَلى سَفَرٍ) دون أن يقول مسافرا كما قال (مَرِيضاً) لأن السفر يتعلق بقصده واختياره حتى لو عزم على الإقامة في منزل من المنازل لم يبق على قصد السفر ، فلا يصح الإفطار وإن كان مسافرا وهذا بخلاف المرض فإنه صفة قائمة به إن حصلت حصلت وإلا فلا.

وعدّة فعلة من العدّ بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون ، وعدة المرأة من هذا. وإنما قيل (فَعِدَّةٌ) على التنكير ولم يقل «فعدتها» أي فعدة الأيام المعدودات للعلم بأنه لا يؤثر عدد على عددها وأنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد ظاهرا ، فأغنى ذلك عن

__________________

(١ ، ٢) رواه النسائي في كتاب الطهارة باب ٩٨. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ٨٦.

(٣) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث ٤. أبو داود في كتاب السفر باب ١. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب ٢٠. النسائي في كتاب الخوف باب ١. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٧٣.

٤٩٦

التعريف بالإضافة. والمعنى فعليه صوم عدّة. وقرىء بالنصب أي فليصم عدّة. وأخر جمع أخرى تأنيث آخر ، وإنه غير مصروف للصفة والعدل من أخر من كذا. واعلم أن قوما من علماء الصحابة ذهبوا إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر حتى قالا : لو صام في السفر قضى في الحضر. واختاره داود بن علي الأصفهاني وهو مذهب الإمامية لأن قوله تعالى (فَعِدَّةٌ) أي فعليه عدّة مشعر بالوجوب عليه. ولأن قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ينبىء عن إرادته الإفطار ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس من البر الصيام في السفر» (١) وفي الرواية بدل لام التعريف ميم التعريف. وقوله «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» (٢) وذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام لما يجيء من قوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ولما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هل أصوم في السفر فقال : صم إن شئت وأفطر إن شئت. قالوا وفي الآية إضمار التقدير : فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ) [البقرة : ١٩٦] أي فحلق فعليه فدية. ثم اختلف هؤلاء فعن الشافعي وأبو حنيفة ومالك والثوري وأبي يوسف ومحمد : أن الصوم أفضل. وقالت طائفة : الأفضل الفطر وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحق. وقيل : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. واختلف أيضا في القضاء فعامة العلماء على التخيير. وعن أبي عبيدة بن الجراح : أن الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق. وعن علي كرم الله وجهه وابن عمر والشعبي وغيرهم : أنه يقضي كما فات متتابعا ويؤيده قراءة أبي (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) متتابعات قوله سبحانه (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) فيه ثلاثة أقوال :

الأول : وهو قول أكثر المفسرين : أن المعنى وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم لكونهم مقيمين صحيحين إن أفطروا فدية هي طعام مسكين. والفدية في معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشيء وأنه هاهنا عند أهل العراق ـ ومنهم أبو حنيفة ـ نصف صاع من بر أو صاع من غيره. وعند أهل الحجاز ـ ومنهم الشافعي ـ مدّ من

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٣٦. مسلم في كتاب الصوم حديث ٩٢ أبو داود في كتاب الصوم باب ٤٣. الترمذي في كتاب الصوم باب ١٨. النسائي في كتاب الصيام باب ٤٦. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ١١.

(٢) رواه النسائي في كتاب الصيام باب ٥٣.

٤٩٧

غالب قوت البلد لكل يوم ويصرف إلى الفقير والمسكين. قالوا : كان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. عن سلمة بن الأكوع : لما نزلت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من أراد أن يفطر يفطر ويفتدي حتى نزلت (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فنسختها. من قرأ بإضافة الفدية إلى طعام فالإضافة فيه كهي في قولك «خاتم حديد» ومن قرأ «مساكين» على الجمع فلأن الذين يطيقونه جمع فكل واحد منهم يلزمه طعام مسكين لكل يوم. والاعتبار بمدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مائة وثلاثة وسبعون درهما وثلث الدرهم.

الثاني : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض. وذلك أن المريض والمسافر منهما من لا يطيق أصلا وإليه الإشارة بقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومنهما من يطيق الصوم مع الكلفة وهو المراد بقوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قالوا : هذا أولى ليلزم النسخ أقل ، فإن نسخ التخيير بين الصوم والفدية عن المريض المطيق أقل من نسخ التخيير عنه وعن الصحيح المقيم.

الثالث : أنه نزل في الشيخ الهرم. عن السدي : وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ويؤيده القراءة الشاذة يطوّقونه تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة أي يكلفونه ، أو يقلدونه. والتركيب يستعمل فيمن يقدر على شيء مع ضرب من المشقة والكلفة وبعضهم أضاف إلى الشيخ الهرم الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وولديهما. واتفقوا على أن الشيخ إذا أفطر فعليه الفدية ، وأما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فقال الشافعي : عليهما القضاء والفدية لحق الوقت. وقال أبو حنيفة : لا يجب إلا القضاء كيلا يلزم الجمع بين البدلين. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بأن يطعم مسكينين أو أكثر أو يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب ، أو صام مع الفدية عن الزهري. (فَهُوَ) أي التطوع (خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم متاعب الصيام (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضا عند من يرى أن الصوم لهما أفضل (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن الصوم أشق عليكم وأن أجركم على قدر نصبكم ، أو تعلمون بالله فتخشونه فتمتثلون أمره (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] أو تعلمون ما في الصوم من الفوائد الدنيوية والأخروية. عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يقول الله عزوجل الصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان حين يفطر وحين يلقى ربه. والذي

٤٩٨

نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» (١) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم» (٢) وعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (٣) وعنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا» (٤) وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (٥) وفضيلة الصوم ومنافعه أكثر من أن تحصى ولو لم يكن فيه إلا التشبه بالملائكة والارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالروحانيات المجرّدة لكفى به فضلا ومنقبة. هذا صوم الشريعة ، فأما صوم الطريقة فالإمساك عما حرم الله عزوجل والإفطار بما أباح وأحل ، وصوم الحقيقة الإمساك عن الأكوان والإفطار بمشاهدة الرحمن.

صمت عن غيره فلما تجلى

كأن بي شاغل عن الإفطار

وتشوّقت مدة ثم لما

زارني جلّ عن مدى الأنظار

قوله عز من قائل (شَهْرُ رَمَضانَ) الشهر مأخوذ من الشهرة. عن مجاهد : رمضان اسم الله تعالى. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله» وعلى هذا شهر رمضان أي شهر الله.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ٣٥. مسلم في كتاب الصيام حديث ١٦٤. الترمذي في كتاب الصوم باب ٥٥. النسائي في كتاب الصوم باب ٤١ ، ٤٢. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ١. الدارمي في كتاب الصوم باب ٥٠. أحمد في مسنده (١ / ٤٤٦) ، (٢ / ٢٦٦ ، ٣٩٣).

(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٤. مسلم في كتاب الصيام حديث ١٦٦.

(٣) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٢٨ ، ليلة القدر باب ١ ، الصوم باب ٦. مسلم في كتاب الصيام حديث ٢٠٣. أبو داود في كتاب رمضان باب ١. الترمذي في كتاب الصوم باب ١.

النسائي في كتاب الصيام باب ٣٩. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٧٣. الدارمي في كتاب الصوم باب ٤٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٢ ، ٢٤١) ، (٣ / ٥٥ ، ٣٠٨).

(٤) رواه الترمذي في كتاب الصوم باب ٨٢. الدارمي في كتاب الصوم باب ١٣. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٤٥. أحمد في مسنده (٤ / ١١٤ ، ١١٦).

(٥) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ١٠. مسلم في كتاب النكاح حديث ١ ، ٣. أبو داود في كتاب النكاح باب ١. النسائي في كتاب الصيام باب ٤٣. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٢. أحمد في مسنده (١ / ٣٧٨ ، ٤٢٤).

٤٩٩

والأكثرون على أنه اسم علم للشهر كرجب وشعبان ومنع الصرف للعلمية والألف والنون. ثم اختلف في اشتقاقه فعن الخليل : أنه من الرمض بتسكين الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف ويطهر وجه الأرض عن الغبار ، سمي الشهر بذلك لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار. وقيل : من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس والأرض رمضاء. وفي الكشاف : الرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء ، سمي بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، أو لأن الذنوب ترمض فيه أي تحترق. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباده» وكأن هذا من قولهم «رمضت النصل» جعلته بين حجرين أملسين ثم دققته ليرق. وعن الأزهري : أنهم كانوا يرمضون أسلحتهم فيه ليقضوا منها أوطارهم في شوّال قبل دخول الأشهر الحرم. وقيل : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك. وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ، وإضافة الشهر إليه إضافة العام إلى الخاص ، ولو لم يتلفظ بالشهر جاز كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صام رمضان إيمانا» (١) الحديث. لأن التسمية وقعت برمضان فقط. وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه بدل من الصيام في قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان. وعلى هذين الوجهين يكون الموصول مع صلته صفة لشهر رمضان. قال أبو علي : وهذا أولى ليكون أيضا في الأمر بصوم الشهر وإلا كان خبرا عن إنزال القرآن فيه. وقرىء بالنصب على صوموا شهر رمضان أو على الإبدال من (أَيَّاماً) أو على مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) وفي هذا الوجه نظر من قبل الفصل بين (أَنْ تَصُومُوا) ومعموله بالخبر. وفائدة وصف الشهر بإنزال القرآن فيه التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه. وذلك أنه لما خص بأعظم آيات الربوبية ناسب أن يخص بأشق سمات العبودية فبقدر هضم النفس يترقى العبد في مدارج الأنس ويصل إلى معارج القدس وتنخرق له الحجب الناسوتية ويطلع على الحكم اللاهوتية ويفهم معاني القرآن ويتبدل له العلم بالعيان وكان حينئذ من العجائب ما كان. وفي إنزال القرآن في رمضان أقوال. فعن سفيان بن عيينة أنزل في فضله القرآن كما تقول أنزل في علي عليه‌السلام كذا. وقال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن كما تقول : أنزل الله في الزكاة كذا أي في إيجابها ، وأنزل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٢٨ ، كتاب الصوم باب ٦ مسلم في كتاب المسافرين حديث ١٧٥. أبو داود في كتاب رمضان باب ١. الترمذي في كتاب الصوم باب ١.

٥٠٠