تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

ينصرف إلى قوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلة فضلا منا وإحسانا ، جعلناكم مختصين بالعدالة برا منا وامتنانا مع تساوي الخلق في العبودية. وقيل : قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا مثل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء ، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمة وسطا. الجوهري : يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف ، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم ، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط ، وإن لم يصلح فيه بين هو وسط بالتحريك. قال : والوسط من كل شيء أعدله ، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء ، وأمة وسطا أي عدولا قال زهير :

همو وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان. وقيل : الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات. قال في الكشاف : اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال : أعطني من سطاتهن ـ أراد من خيار الدنانير ـ ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب ، والأوساط محمية محوطة. وقيل : المراد بالوسط هاهنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنا وإلها ، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب ، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم. روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا ـ وهو أعلم ـ فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] قلت : والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعا ، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، ولذلك

٤٢١

تقبل شهادتهم على الأمم ، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم. وإنما سمي هذا الإخبار شهادة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا علمت مثل الشمس فاشهد». والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه ، وإما بأن يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها. قال ابن زيد : الأشهاد أربعة : الملائكة الحفظة (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] والنبيون (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] والجوارح (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور : ٢٤]. وقيل : إن هذه الشهادة في الدنيا ، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع ، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل (جَعَلْناكُمْ) بلفظ الماضي ، فلا أقل من حصولها في الحال. ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم ، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا. وإن قيل : لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة. قلنا : المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل ، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحد منهم محق في نفسه ، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين ، وهذا من خواص هذه الأمة ، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم ، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلّا بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيدا يزكيكم ويعلم بعدالتكم. وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط ، فبقيت صلة الشهادة في مركزها. والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص. وإنما لم يقل لكم شهيدا مع أن شهادته لهم لا عليهم ، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة : ٦] مع رعاية الطباق للأول. وإنما قيل «شهداء على الناس في الدنيا» لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال. قيل : الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وليس كذلك ، فلا بد من حملها على البعض. فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في (جَعَلْناكُمْ) للموجودين عند نزول الآية

٤٢٢

لأن خطاب من لم يوجد محال. فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ. سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط ، فيحتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم. وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره ، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولا عند الاجتماع؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما) [البقرة : ١٨٣] (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية ، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه ، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر. ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خيارا أو عدولا عند الاجتماع ، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة. (وَما جَعَلْنَا) يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم. (الَّتِي) صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي «جعل» أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقدا لاستقبالها كقولك «الشافعي على كذا» ثم هاهنا وجهان : أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود وامتحانا للذين اتّبعوه بمكة ، ثم حول إلى الكعبة اختبارا ثانيا أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولا إلا امتحانا للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة ، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا عارضا لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه. واللام في (لِنَعْلَمَ) ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل. فإن قيل : كيف؟ قال (لِنَعْلَمَ) ولم يزل عالما بذلك؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلد. وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجودا حاصلا وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء. ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير ، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوثه. وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانيا وكون كل زمان مكنوفا بزمانين : سابق ولا حق. فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت «سيعلم الله» وإذا نسبت إلى زمانه قلت «يعلم» وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت «قد علم» فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك ، وعلم الله واحد فافهم. أو لنميز

٤٢٣

التابع من الناكص كقوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧] فسمي التمييز علما لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم. وعن الفراء : أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله : أن جاهلا وعاقلا اجتمعا فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار. ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه ، معناه لنعلم أينا الجاهل. وهذا من كلام المصنف مثل (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] وقوله (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة. أو بسبب تحويلها من الناس ، من قال بالأول لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود. والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة ، عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا ، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه. وعن السدي : لما توجه إلى الكعبة اختلفوا ، قال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس. وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده. وقال المشركون : تحير في دينه. (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) هي «إن» المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين «إن» النافية ، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال. لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب «كان» أو «علم» ويبطل عمل «إن» في الظاهر ، وكذا في التقدير ، فلا يقدر ضمير الشأن كما يقدر في «أن» المفتوحة إذا خففت ، فقوله (لَكَبِيرَةً) خبر «كانت» واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة ، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في (ما وَلَّاهُمْ) أو الجعلة ، أو الردة ، أو التحويلة في (وَما جَعَلْنَا) ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير ، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله. الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولا ، ثم جعلهم منتفعين بها ثانيا ، وإلا فالدلالة عامة للكل (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) الخطاب للمؤمنين المعاصرين ، واللام لتأكيد النفي الداخل في «كان» ينتصب المضارع بعدها بتقدير «أن» أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان ، وأنكم لم تزلوا ولم

٤٢٤

ترتابوا ، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن. وقال ابن زيد : ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم ، أي لثوابها. أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه ، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة. وعن ابن عباس : لما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فنزلت. وإنما خوطبوا تغليبا للأحياء مثل (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] والمراد أهل ملتهم. وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم ، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعا ، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته ، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ. وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادرا عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب. وقيل : بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم ، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا. يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن : ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) ثم قال : وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الجوهري : الرأفة أشد الرحمة. رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورافة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما. ورئفت به بالكسر رأفا والصفة رؤوف ورؤف على «فعول» و «فعل» وقيل : الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة ، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة ، وقيل : الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور : ٢]. والرحمة اسم جامع خصص أولا ثم عمم. والمراد أن الرؤوف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة ، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هدى من هدى لأنه بالناس رؤف رحيم ، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر. قوله عز من قائل (قَدْ نَرى) معناه كثرة الرؤية هاهنا وإن كان في الأصل للتقليل قال :

قد أترك القرن مصفرا أنامله

كأن أثوابه مجت بفرصاد

كما أن «رب» في الأصل للتقليل ، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله «فإن تمس مهجور الفناء فربما». أقام به بعد الوفود وفود. ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء

٤٢٥

الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئا من العلم. (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. عن ابن عباس أنه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود الى غيرها فقد كرهتها. فقال له جبريل عليه‌السلام : أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك. فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت. وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون : إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه ، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذن الله فيه. وقيل : إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء ، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة. وعن الحسن : أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها ـ ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكعبة ـ فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل : منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة ، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم. وقيل : بل وعد بذلك. وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة ، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه. واختلف في صلاته بمكة فقيل : كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر ـ وهو الأكثر ـ أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال. وقيل : بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. واختلفوا أيضا في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيرا في توجهه إليه وإلى غيره. فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيرا لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥] الآية. ولما روي أن قوما قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس ، فلما قدموا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فلم ينكر عليهم. وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضا لقوله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فدل على أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة. ومعنى «فلنولينك» فلنعطينك

٤٢٦

ولنمكننك من استقبالها من قولهم «وليته كذا» جعلته واليا له ، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس. ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته. وعن الأصم : كل جهة وجهك الله إليها يجب أن تكون رضا لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه. وقيل : ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق. (فَوَلِّ وَجْهَكَ) أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط. وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص. وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب ، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة ، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول. عن ابن عباس : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي الموطأ : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين. واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام. ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال : البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك. وقال آخرون : القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد قال : لما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه ، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال : هذه القبلة. وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر ، فاستداروا إلى الكعبة. وقال آخرون : القبلة هي المسجد الحرام كله.

واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريبا كان أو بعيدا لظاهر قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه القبلة» مشيرا به إلى العين ، ولأن تعظيم الكعبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ مبلغ التواتر. وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعا. ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط. وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي ، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما للبعيد ، ولأن في ذكر المسجد

٤٢٧

الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية ، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ ، ثم لم ينكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين ، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن ، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجبا ، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد ، وإصابة العين للبعيد غير بعيد ، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط ، والغرض أن يكون المصلي ساجدا على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور. وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية ، وذكرها هاهنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها.

ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي : إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار ، أو هوائية وهي الرياح ، أو سماوية وهي النجوم. أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه ، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين ، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد ، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلا أكثر من ذلك ، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع. وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه. وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق ، ووقت الصبح مشرق الشمس ، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها. وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له «الجدي» فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك. فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر ، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه. ومعرفة دلائل القبلة فرض

٤٢٨

على العين أم فرض على الكفاية؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها.

قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة ، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعا. واحتمل أيضا أن يكون الخطاب مختصا بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعا في جميع بقاع الأرض.

واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة ، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال ، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية.

الركن الأول الحالة : وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير المجالس ما استقبل به القبلة» والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف ، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف ، وفي السفر راكبا أو ماشيا متوجها إلى طريقه لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به. ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا عن أبي حنيفة. وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لاحران بها وإلا فلا ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه. وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه ، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف ، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض. وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل.

الركن الثاني القبلة : للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافا لأحمد ومالك في الفريضة. قيل لنا إنه صلى متوجها إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج ، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء. ويجوز أن يستقبل الباب أيضا إن كان مردودا ، وإن كان مفتوحا فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا. ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى

٤٢٩

ذراع تقريبا كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص. وإن انهدمت الكعبة ـ حاشاها ـ وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت. ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة ، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافا لأبي حنيفة. وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه ، والإمام يقف خلف المقام استحبابا ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية. ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته. يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطا موازية لقاعدته. وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبدا. ومحراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعا فيسوّي سائر المحاريب عليه. وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين. وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين ، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر ، وأما في محراب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا. ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر. ويقال : إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج : تياسروا يا أهل مرو.

الركن الثالث المستقبل : إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر ، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضا كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبرا يؤخذ به ، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلا يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد ، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين. ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحا وذلك ظاهر ، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها. ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون. فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن

٤٣٠

قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية ، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد هاهنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت ، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقتضي. وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام ، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أن كان المجتهد مسلما عدلا عارفا بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد. فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما ، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده ، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين. فإن قلد قضى ، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى. ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقينا أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة ، عمل بمقتضى الثاني. وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح ، وإن ظن لم يقض. وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني. فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل ، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان. وعن السدي : أنهم اليهود خاصة ، والكتاب التوراة ، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها ، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام ، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام. وأيضا أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو حق ، فهذا التحويل حق. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين ، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قيل : هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ ، وقيل : هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه ، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى. ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى. قالوا : الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية. وأجيب بأنه لا

٤٣١

يلزم من تخصيصهما تخصيصها. قالوا : أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير. وردّ بأن المقلد أيضا قد يصر. قالوا : الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبع قبلته. ووجه بأن المراد من قوله (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] وسلب الاجتماع لا ينافى اتباع البعض (بِكُلِّ آيَةٍ) بكل برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في (وَلَئِنْ) لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عنادا ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك. ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية. وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق ، ولا النصارى إلى المغرب ، بحيث تتعطل إحدى القبلتين ، لا أن اليهودي لا يصير نصرانيا أو بالعكس فإن ذلك قد وقع. أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقا أو مبطلا (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلا بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة (إِنَّكَ إِذاً) أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح ، وفيه لطف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير ، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعا منه في إسلامهم ومعاضدتهم ، فنهى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية. كقوله (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)

٤٣٢

[الإسراء : ٧٤] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم علماؤهم بدليل (يَعْرِفُونَهُ) أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. «وما» مصدرية أو كافة ، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون. عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنا أعلم به مني يا بني. قال : لم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت ، فقبل عمر رأسه. وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه ، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام ، ولا يصح أن يقال : المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبيا وهم لا ينكرون ذلك ، وإنما ينكرون كونه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم. وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر. وقيل : الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله (أَبْناءَهُمْ) ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه. قال تعالى (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ، «ومن ربك» خبر بعد خبر أو حال. وأن يكون مبتدأ خبره «من ربك». ثم في اللام يكون وجهان : العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو إلى الحق الذي في قوله (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك. وقد يجوز أن ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ). (وَلِكُلٍ) التنوين فيه عوض عن المضاف إليه ، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا «ولدة» في جمع الوليد الصبي ، وإنما لا تجمع مع الهاء في

٤٣٣

المصادر ، وقوله (هُوَ) إما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله. وثاني مفعولي (مُوَلِّيها) محذوف أي هو موليها وجهه ، أو الله موليها إياه. ثم اختلف في التفسير فقيل : المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم (فَاسْتَبِقُوا) أنتم (الْخَيْراتِ) الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم ، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين. (أَيْنَما تَكُونُوا) من جهات الأرض (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك. وقيل : إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة. فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم. وقيل : ولكل قوم منكم يا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت (أَيْنَما تَكُونُوا) من الجهات المختلفة (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة. ولقراءة ابن عامر مولاها معنيان : أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه. وقيل : ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك أنت الكعبة ، بل قبلة جسدك هي ، وقبلة روحك أنا ، وقبلتي أنت «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي». ثم إن الشافعي استدل بقوله (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) على أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وعند أبي حنيفة : التأخير أفضل إحرازا لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة ، ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» (١) وقال ابن مسعود : ما رأيت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤا» (٢) وأن المراد بالإسفار

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب ٣. النسائي في كتاب المواقيت باب ٢٧. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٢١. أحمد في مسنده ٥ / ٤٢٩.

(٢) رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٣ ، أحمد في مسنده ١ / ١٠٥.

٤٣٤

والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه ، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل. (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ومن أي بلد خرجت يا محمد (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به (لَلْحَقُ) الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه (مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين. واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات ، وللعلماء في سبب التكرير أقوال :

أولها : أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام ، والثانية على أن يكون غائبا عنه ولكن يكون في البلد ، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض ، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم.

وثانيها : أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر ، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل ، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيدا ، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) كما أن قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة.

وثالثها : أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبا لهواه حيث قال (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي ، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك ، وفي الثالثة بيان الغرض.

ورابعها : أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة ، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعارا بأنها لا تصير منسوخة البتة.

وخامسها : الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها ، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث.

وسادسها : هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير.

وسابعها : قلت : الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ثم على تكليف عام له ولأمته (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ

٤٣٥

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) والآية الثانية (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٤٩] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير. وأيضا اقتصر هاهنا على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام ـ حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وأيضا قدم على الآية قوله (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : ٣٢] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته ، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باق بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

قوله (لِئَلَّا يَكُونَ) أي ولوا لأجل هذا الغرض. وقال الزجاج : يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة. والناس قيل للعموم ، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وقيل : هم العرب قالوا : إنه يقول أنا على دين إبراهيم ، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة ، أو سماها حجة تهكما أو طباقا أو بناء على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة. وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشورى : ١٦] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة ، وعلى هذا فالاستثناء متصل. والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء ، أو بعض العرب القائلون بأن محمدا عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية. وقيل : الاستثناء منقطع. وقيل : «إلا» بمعنى الواو وأنشد شعر :

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

يعني والفرقدان. وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سبب (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم ، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع

٤٣٦

الرجاء والخوف عمن سواه. قوله (وَلِأُتِمَ) قيل : معطوف على (لِئَلَّا) أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين : إحداهما انقطاع حجتهم ، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم. وقيل : متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. وقيل : معطوف على علة مقدرة كأنه قال : واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها ، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة ، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق وعن علي عليه‌السلام : تمام النعمة الموت على الإسلام. وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» (١) (كَما أَرْسَلْنا) «ما» مصدرية أو كافة. ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده. وعلى الأول قيل : معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع ، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨] كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته حيث قال (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) [البقرة : ١٢٩] وقيل : معناه كذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا ، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارة أخرى. وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع ، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولا وأخيرا وبداية ونهاية. وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. وكون القرآن متلوا من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة. ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم. وفي قوله (يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة ، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) تكليف بأمرين : الذكر والشكر. وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله (وَلا تَكْفُرُونِ) عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به. ولو قطع على طريقة قوله :

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الدعاء باب ٩٣. أحمد في مسنده (٥ / ٢٣١ ، ٢٣٥).

٤٣٧

«أقول له ارحل لا تقيمن عندنا» لأوهم أن المقصود بالذات هو الثاني والأول في حكم المنحى. ويحتمل من حيث العربية أن تكون «لا» نافية والنون ليست للوقاية ، ومحل الجملة النصب على الحال أي اشكروا لي غير جاحدين لنعمتي. وأما الذكر فباللسان وهو أن يحمده ويسبحه ويمجده ويقرأ كتابه ، أو بالقلب وهو أن يتفكر في الدلائل على ذاته وصفاته ، وفي الأجوبة عن شبه الطاعنين فيها وفي الدلائل على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ليعمل بمقتضاها ، ثم يتفكر في أسرار المخلوقات متوصلا من كل ذرة إلى موجدها ، أو بالجوارح وهو أن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها فارغة عن الأشغال المنهي عنها. وبهذا الوجه سمى الصلاة ذكرا (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يحمل على ما له تعلق بالثواب وإظهار الرضا واستحقاق المنزلة والإكرام فالحاصل اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي ، اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء ، اذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية ، اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، اذكروني بالعبودية أذكركم بالربوبية ، اذكروني بالفناء أذكركم بالبقاء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

القراآت : (إِنَّا لِلَّهِ) بالإمالة فيهما : قتيبة ونصير. وإنما جازت مع امتناعها في الحروف لكثرة استعمال كلمة الاسترجاع.

الوقوف : (وَالصَّلاةِ) ط (الصَّابِرِينَ) لا (أَمْواتٌ) ط (لا تَشْعُرُونَ) ه (وَالثَّمَراتِ) ط (الصَّابِرِينَ) لا لأن صفتهم (مُصِيبَةٌ) لا لأن «قالوا» جواب «إذا» (راجِعُونَ) ط لأن «أولئك» مبتدأ على الأصح ومن ابتداء بالذين فخبره «أولئك» مع ما يتلوه ووقف على الصابرين ولم يقف على (راجِعُونَ الْمُهْتَدُونَ) ه.

التفسير : أنه تعالى لما أوجب بقوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي) جميع الطاعات ورغب بقوله (وَلا تَكْفُرُونِ) عن جميع المنهيات فإن الشكر بالحقيقة صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه إلى ما أعطاه لأجله ، ندب إلى الاستعانة على تلك

٤٣٨

الوظائف بالصبر والصلاة. فالصبر قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى ، والصلاة إذا اشتملت على مواجب الخشوع والتذلل للمعبود والتدبر لآيات الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، انجر ذلك إلى أداء حقوق سائر الطاعات والاجتناب عن جميع الفواحش والمنكرات (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والتأييد ومزيد التوفيق والتسديد (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦] وقيل : الصبر الصوم. وقيل : الجهاد بدليل قوله (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) أي هم أموات بل هم أحياء. وعلى الوجه الأول كأنه قيل : استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني وسلوك سبيلي ، فإن احتجتم في ذلك إلى مجاهدة عدوّي بأموالكم وأنفسكم فتلفت فإن قتلاكم أحياء عندي ، من قتله محبته فديته رؤيته. ثم إن أكثر المفسرين على أنهم أحياء في الحال ، فمن الجائز أن يجمع الله تعالى من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة فيرى معظم جسد الشهيد ميتا فلا يحس بحياته وإليه الإشارة بقوله (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ومما يؤيد هذا القول الآيات الدالة على إثبات عذاب القبر (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] والفاء للتعقيب وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفرة النيران» (١). ولم يزل أرباب القلوب يزورون قبور الشهداء ويعظمونها. وقيل : المعنى لا تسموهم بالأموات وقولوا لهم الشهداء الأحياء. أو المراد : قولوا لهم أحياء في الدين وإنهم على هدى ونور من ربهم لا كما يزعم المشركون أنهم ليسوا من الدين في شيء أو لا تقولوا مثل ما يقول منكرو البعث إنهم لا ينشرون وقد ضيعوا أعمارهم ، ولكنهم سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة. وعلى هذه الوجوه لا يبقى لتخصيص الشهداء بكونهم أحياء فائدة وكذا لقوله مع المؤمنين ولكن لا تشعرون. وقيل : إن الثواب وكذا العقاب للروح لا للقالب ، لأنه مدرك للجزئيات أيضا فلا يمتنع أن يتألم ويلتذ. ثم إنه سبحانه يرد الروح إلى البدن في القيامة الكبرى حتى يضم الأحوال الجسمانية إلى الإدراكات الروحانية. عن ابن عباس أن الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من ثمر الجنة» (٢) أي تأكل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٣٦. بدون لفظ «أو حفرة من حفر النار».

(٢) رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ١٣. الدارمي في كتاب الجهاد باب ١٨. أحمد في مسنده (٦ / ٣٨٦) بدون لفظ «حواصل».

٤٣٩

وتثبتون على ما أنتم عليه من أداء حقوق الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه ، أم تنقلبون على أعقابكم وتظهرون الجزع على استرداد ما يدكم فيه يد المستعير؟ أمر أولا بالشكر على إكمال الشرائع ، ثم بالصبر على التكاليف الدينية ، ثم حض على التثبت عند طروق النوائب وبروق المصائب ، ومعنى (بِشَيْءٍ) بيان من هذه الأشياء وأيضا لو قال «بأشياء» لأوهم أن من كل واحد من الخوف وغيره ضروبا وليس بمراد. وفيه أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل هو بالنسبة إليه ، وفيه أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. واعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فإذا خطر ببالك وهو قد مضى سمي ذكرا وتذكرا ، وإن كان في الحال سمي ذوقا ووجدا لأنها حالة تجدها من نفسك ، وإن تعلق بالاستقبال وغلب خطوره على قلبك سمي انتظارا وتوقعا ، فإن كان المنتظر مكروها حصل منه ألم في القلب يسمى خوفا وإشفاقا ، وإن كان محبوبا سمي ذلك ارتياحا والارتياح رجاء. وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت. عن عطاء والربيع بن أنس : أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة وقد حصل لهم عند مكاشفة العرب خوف شديد بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١] وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي إلى المدينة لقلة أموالهم حتى إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يشد الحجر على بطنه. وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ذات يوم فالتقى مع أبي بكر فقال : ما أخرجك؟ قال : الجوع. قال : أخرجني ما أخرجك وكانوا ينفقون أموالهم في الاستعداد للجهاد ثم يقتلون. فهناك يحصل النقص في المال والنفس ، وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى قوله (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) [التوبة : ١٢٠] وقد يكون النقص في النفس بموت الإخوان والأخدان. وإما نقص الثمرات فقد يكون بالجدوب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد. وعن الشافعي : الخوف خوف الله ، والجوع صيام شهر رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم. فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون : نعم. فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجع فيقول الله : «ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» (١)

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب ٣٦.

٤٤٠