تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

وجعلت لها بابين شرقيا وغربيا» (١) ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم ، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش. ولنعد إلى المقصود فنقول (يَرْفَعُ) حكاية حال ماضية ، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة ، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه ، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن ابراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث. وإنما لم يقل «قواعد البيت» ليكون الكلام مبنيا على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين ، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة ؛ الأول : قولهما (تَقَبَّلْ مِنَّا) وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه ، والأول ألذ عند العارفين من الثاني ، شبه الفعل من العبد بالهدية ، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول. وقيل : إن بين القبول والتقبل فرقا ، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل ، فاختير تقبل هضما وتواضعا واستقصارا. وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وإلا لم يكن في طلبه فائدة ، ويحتمل أن يقال : الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص ، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) يعني سماع إجابة العليم بنياتنا. النوع الثاني (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلا للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط. وقد يظن أن للعبد اختيارا فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب. وقوله (وَاجْعَلْنا) إما معطوف على (تَقَبَّلْ) وقوله (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا) اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) من للتبعيض كما في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤].

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحج باب ٤٢. مسلم في كتاب الحج حديث ٣٩٩. النسائي في كتاب الحج باب ١٢٥. الموطأ في كتاب الحج حديث ١٠٤. أحمد في مسنده (٦ / ١١٢ ، ٢٥٢).

٤٠١

والأمة الجماعة من الناس ، وقيل أراد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُسْلِمَةً) يحتمل هاهنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضا. وقيل : أسلم مطلقا يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي. طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهارا للشفقة. فالشفيق بسوء الظن مولع ، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بيانا لما أجمل هناك فيكونان واحدا. وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم. ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة. ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان (وَأَرِنا) إن كان منقولا عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه ، وإن كان منقولا عن رؤية البصر ـ وهو الأظهر ـ ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهرا. فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج. قال الحسن : إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال : نعم ، فسميت عرفات. فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات. وقيل : المراد العلم والرؤية معا لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وليس ببعيد ، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معا وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معا من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح. غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازا ، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح. فقد يسمى الذبح للتقرب نسكا والذبيحة نسيكة ، وليس لهذا التخصيص وجه فإن الذبح إنما يسمى نسكا لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد ، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» (١) بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه؟ (وَتُبْ عَلَيْنا) التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب المناسك باب ٢٢٠. أحمد في مسنده (٣ / ٣١٨).

٤٠٢

الأنبياء ، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم ، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويرا لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشددا في الانصراف عما لا يليق بهما. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة» (١) وأيضا لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وذلك لغاية شفقتهما عليهم. وباقي مباحث التوبة ، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) وفيه أمران : الأول : أن يبعث في تلك الأمة رسولا ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم ، والثاني : أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعا من ذريته كان رتبته أجل ، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته ، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم. وأما الرسول فهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : ١٦٤] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي» (٢) أما الدعوة فهذه ، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين. وهاهنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ولهذا الذكر مناسبات أخر منها : أن الخليل دعا لنفسه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] أي أبق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه. ومنها أن إبراهيم أبو الملة (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو الرحمة (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» (٣) يعني في الرأفة والرحمة ،

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث ٤١. أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦. الترمذي في تفسير سورة ٤٧ باب ١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٥.

(٢) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٦٢).

(٣) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ٤. النسائي في كتاب الطهارة باب ٣٥. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب ١٦. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠).

٤٠٣

فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية. ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] ومحمد منادي الدين (سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) [آل عمران : ١٩٣] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان ، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان. ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [هود : ٥٤] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ثم إن إبراهيم عليه‌السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) فهو الفرقان المتلو عليهم ، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره «أوتيت القرآن ومثله معه» وثانيتها «ويعلمهم الكتاب» أي معانيه وحقائقه ، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. وثالثتها قوله (وَالْحِكْمَةَ) أي ويعلمهم الحكمة. وقيل : هي الإصابة في القول والعمل جميعا ، فلا يسمى حكيما إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، ويناسبه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تخلقوا بأخلاق الله» وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له. وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي : هي سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئا خارجا عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول ، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى. وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم. وقيل : المراد بالكتاب الآيات المحكمات ، وبالحكمة المتشابهات. وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. ورابعتها (وَيُزَكِّيهِمْ) لأن الإرشاد يتم بأمرين : التحلية والتخلية. فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها ، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق. وقيل : يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وقيل : يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وعن ابن عباس : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يغلب (الْحَكِيمُ) العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح ، وإذا كان كذلك صح منه

٤٠٤

إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب (وَمَنْ يَرْغَبُ) الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد. يقال : رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده. ومحل (مَنْ سَفِهَ) الرفع على البدل من الضمير في (يَرْغَبُ) وذلك أنه غير موجب مثل «هل جاءك أحد إلا زيد» وسفه إما متعد : ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث «الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس» لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة. وعن الحسن : إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها ، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن أبي عبيدة : أهلك نفسه وأوبقها. وقيل : أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو «زيد ظني مقيم» أي في ظني وقيل : نصب على التمييز نحو «غبن رأيه وألم رأسه» وهذا عند الكوفيين. فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة. وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم ، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم ، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص. فإن قيل : ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع ، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة ، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسخا لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضا راغبا عن ملة إبراهيم ، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلنا : المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط ، لكن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه‌السلام. والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور ، فلا يلزم أن يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم راغبا عنها لأنه أمر باتباعها (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون. فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت. ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) أي اخترناه للرسالة من دون الخليفة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق. ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل (اصْطَفَيْناهُ) في (إِذْ قالَ) أي

٤٠٥

اخترناه في ذلك الوقت ، ويجوز أن ينتصب بإضمار «اذكر» استشهادا على ما ذكر من حاله كأنه قيل له : اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ) من باب الالتفات ، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له ، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له أسلم ، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه. ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال ، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم «نطق الحال» قال تعالى (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] فجعل دلالة البرهان كلاما ، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان. وقيل : الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح ، وإن إبراهيم عليه‌السلام كان عارفا بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح. وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب ، وطريق عرفان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] والأول طريق حسن (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] لكن الطريق الثاني أحسن (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم يستطعه الأوائل

فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته ، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة. وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣١] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] تركيب الخلة (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] اسم الشدة (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [الشورى : ٢٦] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه‌السلام واسطة في الطريقة (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله ، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبيين

٤٠٦

وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، أول الفكر آخر العمل «أول ما خلق الله تعالى نوري ، أنا أول من ينشق عنه قبر ، آدم ومن دونه تحت لوائي ، أنا سيد المرسلين ولا فخر» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه‌السلام أبا الطريقة ، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة ، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعا للصلاة على محمد «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم» وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره. ولنعد إلى ما كنا فيه (وَوَصَّى) التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم. أوصيته بكذا ووصيته بمعنى ، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه. وأرض واصية متصلة النبات ، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية. والضمير في (بها) قيل : يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين ، ونحوه رجوع الضمير في قوله (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) [الزخرف : ٢٨] إلى قوله (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف : ٢٦] وقيل : الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحا في قوله (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي. وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها : أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد. ومنها أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين ، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك. ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر ، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة ، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه. وقرىء يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلا لكل منهما (يا بَنِيَ) أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به (فَلا تَمُوتُنَ) فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو «لا تصل إلا وأنت خاشع» لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته. والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه في قوة قوله لجار المسجد : لا تصل

٤٠٧

إلا في المسجد. فكان موتهم لا على حال الإسلام موتا لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم.

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) يحتمل أن تكون «أم» منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي ، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم : كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ويحتمل كون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه ، أتدعون على الأنبياء اليهودية (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) قيل : أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر ، لأن «أم» المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط ، فإن كان الحضور ثابتا لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها ، فالوجه أن يقال : المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان ، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) إلى آخره ، ويتجه على هذا التقدير أن تكون «أم» منقطعة كأنه استفهم أولا على سبيل الإنكار أي لم تدعون ، ثم استأنف استفهاما ثانيا لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكدا لذلك الإنكار (ما تَعْبُدُونَ) أي شيء تعبدون. و «ما» عام لأولي العلم وغيرهم ، «ومن» مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء «من» لما يعقل. و «من» خصص «ما» بغير أولي العقل قال : المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول «ما زيد» تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه‌السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضا على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله ، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك ، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قوما صالحين ، و (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لآبائك ، وقدم إسماعيل لأنه أسن ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عم الرجل صنو أبيه» أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. وأيضا أطلق اسم الأب على إبراهيم وهو جده فعن الشافعي أنه مجاز ولهذا قال : الإخوة والأخوات للأب والأم لا يسقطون بالجد ، وإليه ذهب مالك وأبو يوسف ومحمد وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد ، وقال

٤٠٨

أبو حنيفة : إنه حقيقة وإنهم يسقطون بالجد وهو قول أبي بكر وابن عباس وعائشة والحسن وطاوس وعطاء. ثم التعليمية قالوا : لا طريق لنا إلى معرفة الله تعالى إلا بتعليم الرسول والإمام لأنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل العقل عليه بل قالوا : نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباؤك يعبدونه ، فدل على أن طريق المعرفة هو التعليم. وأجيب بمنع دلالة الآية على ذلك بل لعل المعرفة حلت لهم بالاستدلال إلا أنهم اختصروا الكلام فتركوا شرح صفات الله وبيان ذلك ، وأيضا إنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على مثل طريقتك من اليقين بالله والإخلاص له في عبادته. وأيضا لعل مرادهم نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك كقوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] (إِلهاً واحِداً) بدل من (إِلهَ آبائِكَ) مثل (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ١٥ ، ١٦] أو نصب على الاختصاص والمدح (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مذعنون أو مخلصون التوحيد ومحله النصب حالا من فاعل (نَعْبُدُ) أو من مفعوله لرجوع الضمير في (لَهُ) إليه ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على (نَعْبُدُ) أو جملة معترضة مؤكدة (تِلْكَ) إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون ، (خَلَتْ) مضت وانقرضت والغرض أنه لم يبق منهم أثر سوى ما عملوا ، ولهذا قيل (لَها ما كَسَبَتْ) أي ثوابه يريد أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه ، فإن أنتم فعلتم ذلك فزتم كما فازوا ، وإن أبيتم خسرتم أنتم دونهم (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم ، وفيه تكذيب لليهود حيث قالوا إنهم يعذبون أياما معدودة لكفر آبائهم باتخاذ العجل. وفي الآية وعيد شديد للأبناء إذا لم يعملوا بعمل الآباء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا» (١) «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (٢) ثم الآية تدل على أن للعبد كسبا ولكن الأئمة اختلفوا في تفسيره ، فالأشعري على أنه لا تأثير لقدرة العبد في مقدور أصلا ، لأنه لو كان موحدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيل فعله وليس كذلك ، ولما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك ، بل المقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله تعالى ، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب ، واعترض عليه بأن مقدور العبد إذا كان واقعا بخلق الله

__________________

(١) رواه النسائي في كتاب الوصايا باب ٦. البخاري في كتاب الوصايا باب ١١. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٢٣. أحمد في مسنده (١ / ٢٠٦).

(٢) رواه أبو داود في كتاب العلم باب ١. الترمذي في كتاب القرآن باب ١٠. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٢ ، ٤٠٧).

٤٠٩

تعالى ، فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف حينئذ به ، وإذا لم يخلقه فيه استحال أن يتصف به ، فأي معنى لكون العبد قادرا عليه؟ وأيضا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعا بقدرة الله فلا أثر للعبد فلا يكون مكتسبا له وإن وقع بالقدرتين معا فلا تكون قدرة الله تعالى مستقلة ، والمفروض بالخلاف ، فبقي أن يكون بقدرة العبد ، وعن القاضي : أن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل صفة طاعة أو صفة معصية ، فهذه الصفة تقع بقدرة العبد. وضعف بأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز ، فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فعين المنهي عنه قد خلقه الله فيه وهذا تكليف ما لا يطاق ، وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب. وزعم الأستاذ أبو إسحق الإسفرايني أن ذات الفعل تقع بالقدرتين ، وزيف بأن قدرة الله مستقلة بالتأثير. ومنهم من زعم أن القدرة الحادثة مع الداعي توجب الفعل ، فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود ، والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به ، وإلى هذا ذهب إمام الحرمين وهو مناسب لقول الفلاسفة. وزعم جمهور المعتزلة أن القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا هو الفعل والكسب. فهذا تقرير المذاهب ، وقول الأشعري أقرب إلى الأدب ، وقول إمام الحرمين أقرب إلى التحقيق لأن نسبة الأثر إلى المؤثر القريب لا تنافي كون ذلك المؤثر منسوبا إلى أثر آخر بعيد ، ثم إلى أبعد إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب وفاعل الكل ومبدأ المبادئ وإليك الاختيار بعقلك دون هواك.

التأويل : من قوله (وَإِذِ ابْتَلى) البلاء للولاء كاللهب للذهب فأصدقهم ولاء أشدهم بلاء (وَإِذِ ابْتَلى) الخليل بكلمات هي أحكام النبوة الخصال العشر في جسده ولوازم الرسالة الصبر عند صدمات المكروهات وفقدان المألوفات. وموجبات الخلة التبري عما سوى الخليل (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨] وعداوة غير الخليل (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] ورفع الوسائط حيث قال له جبريل في الهواء هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا والتسليم أسلمت لرب العالمين ، والرضا بما أمر به عند ذبح الولد (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣] بخلاف ما قال نوح (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] فلا جرم زيد له في الاصطفاء وشرف بكرامة الإمامة والاقتداء به (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) [البقرة : ١٢٥] بيت القلب كما جاء «أن الله تعالى أوحى إلى داود فرغ لي بيتا أسكن فيه فقال : وكيف يا رب؟ فقال : فرغ لي قلبك» أي جعلنا القلب الإنساني مثابة للناس ترجعون إليه

٤١٠

يا طلابي وزواري كما ترجعون إلى الكعبة في الصورة ، ومأمنا للسالك من تصرفات الشيطان ومكايده حين بلغ منزل القلب ، لأن القلب خزانة الحق محروسة من دخول الشيطان. وإنما جولان لص الشيطان في ميادين الصدور كقوله (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] (وَاتَّخِذُوا) [البقرة : ١٢٥] عند الوصول إلى كعبة القلب (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٢٥] وهو الخلة قبلة توجهكم ليكون قصدكم إلي لا إلى غيري كما قال إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) [البقرة : ١٢٥] في الميثاق (أَنْ طَهِّرا) القلب من أدناس تعلقات الكونين وأوضار ملاحظة الأغيار (لِلطَّائِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] وهي واردات الأحوال (وَالْعاكِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] وهي الملكات والمقامات (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥] وهي صفات القلب المطهرة من الإرادة والصدق والإخلاص والتواضع والخوف والرجاء والتسليم والرضا والتوكل. وجملة هذه الصفات العبودية (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) [البقرة : ١٢٦] الآية لما أهبط آدم الروح إلى الأرض الجسد وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حظيرة القدس استوحش ، فأنزل الله تعالى ياقوتة القلب من جنة حظيرة القدس له بابان شرقي إلى حظيرة رب العالمين تطلع منها شوارق الألطاف ، وباب غربي إلى عالم الجسد وفيه قناديل العقل ، وأنزل حجر الذرة المخاطبة بخطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] منورا بنور جواب (بَلى) قد ألقم كتاب العهد يوم الميثاق وهو يمين الله في أرضه ، فلما كان طوفان آفات الصفات البشرية من الطفولية إلى البلوغ ، وفار تنور الشهوات رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابعة يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع ، وخبىء حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس ، فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببناء بيت القلب وعمارته من خمس أجبل أركان الإسلام وقد اهتدى إلى موضع بيت القلب بدلالة بيت السكينة (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ٤] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة يجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام ويناولها إبراهيم الروح وهو يبني إلى أن بلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى إن لك عندي وديعة فخذها. فخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه ، وكان أبيض فلما لمسته حيض اللذات الدنيوية ومشركو الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسودّ ، فلما فرغا من رفع قواعد بيت القلب سألا ربهما الاستسلام لأحكامه الظاهرة الشرعية والباطنة التي جف القلم بها في الأزل ، وكذا لذريتهما المتولدات من الصفات الروحانية والنفسانية وأن يبعث فيهم رسولا منهم لا من الخارج ، فمن لم يكن له في القلب رسول وارد من الحق وهو السر لم يسمع كلام الرسول لخارجي. ثم إن إبراهيم الروح يوصي لمتولداته من القلب وصفاته والسر وصفاته

٤١١

والنفس وصفاتها والقوى البشرية والحواس الخمس والأعضاء والجوارح كلها ملته. وفي الآيات إشارة إلى أنه تعالى إذا تجلى لروح عبد مخلص متضرع إليه محب له ، ظهرت آثار أنوار تجليه على قلبه وسره ونفسه وقواه وحواسه وجميع أعضائه ويخضعون له بكليتهم فيعبدون إلها أحدا لا متفرقا من الهوى والدنيا والآخرة والله ولي التوفيق.

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

القراآت : (أَمْ تَقُولُونَ) بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر والحماد والمفضل ، الباقون : بياء الغيبة.

الوقوف : (تَهْتَدُوا) (ط) (الْمُشْرِكِينَ) (ه) و (مِنْ رَبِّهِمْ) (ج) لطول الكلام والاستئناف والأصح أنه حال أي آمنا غير مفرقين (مِنْهُمْ) (ج) لاحتمال الابتداء والحال أوجه (مُسْلِمُونَ) (ه) (اهْتَدَوْا) (ج) لابتداء شرط آخر مع العطف (شِقاقٍ) ج للابتداء بسين الوعيد مع دخول الفاء (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) (ج) لاحتمال الواو الابتداء والحال (الْعَلِيمُ) (ط) لأن الجملة الناصبة لقوله (صِبْغَةَ اللهِ) محذوفة يدل عليها قوله (آمَنَّا بِاللهِ) وقوله (فَإِنْ آمَنُوا) شرط معترض (صِبْغَةَ اللهِ) (ج) لابتداء الاستفهام مع أن الواو للحال (صِبْغَةَ) (ج) على جعل الواو للابتداء أو للحال أو للعطف على آمنا (عابِدُونَ) (ه) (وَرَبُّكُمْ) (ج) لأن الواو يصلح أن يكون عطفا على الحال الأولى ويصلح أن يكون مستأنفا (أَعْمالُكُمْ) (ج) (مُخْلِصُونَ) (ط) لمن قرأ أم يقولون بياء الغيبة ، ومن قرأ بالتاء لم يقف لكون «أم» معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنا أَوْ نَصارى) (ط) (أَمِ اللهُ) (ط) (مِنَ اللهِ) (ط) (تَعْمَلُونَ) (ه) (قَدْ خَلَتْ) (ج) (ما كَسَبْتُمْ) (ج) (يَعْمَلُونَ).

٤١٢

التفسير : إنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة صحة دين الإسلام ، ذكر أنواعا من شبه الطاعنين منها : أن اليهود قالوا (كُونُوا هُوداً) تهتدوا ، والنصارى قالوا كذلك ، لما علم من التعادي بين الفريقين كما بين كل منهما وبين المسلمين وقد مر مثل هذا في قوله تعالى (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فأجابهم الله بقوله (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي نكون أهل ملته مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي أهلها ، أو بل نتبع ملة إبراهيم وقرىء بالرفع أي ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن أهل ملته ، وحنيفا حال من المضاف إليه كقولك «رأيت وجه هند قائمة» وذلك أن المضاف إليه متضمن للحرف فيقتضي متعلقا هو الفعل أو شبهه ، وحينئذ يشتمل على فاعل ومفعول. فالحال عن المضاف إليه ترجع في التحقيق إلى الحال عن أحدهما وعند الكوفيين نصب على القطع أراد ملة إبراهيم الحنيف ، فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منها فانتصب ، والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق ، وتحنف إذا مال وحاصل الجواب أن المعوّل في الدين إن كان النظر والاستدلال فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان التقليد فالمتفق أولى من المختلف. وقد اتفق الكل على صحة دين إبراهيم فاتباعه أولى وهذا جواب إلزامي ، ثم لما كان من المحتمل أن يزعم اليهود والنصارى أنهم على دين إبراهيم أزيحت علتهم بقوله (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لكون النصارى قائلين بالتثليث واليهود بالتشبيه ، وأيضا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، فليسوا من ملة إبراهيم التي هي محض التوحيد وخالص الإسلام في شيء (قُولُوا) خطاب للمؤمنين ، ويجوز أن يكون للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل ، وكذلك قوله (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يجوز أن يكون أمرا لهم أي اتبعوا ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته ، وهذا جواب آخر برهاني ، وذلك أن طريق معرفة نبوة الأنبياء ظهور المعجز على أيديهم ، ولما ظهر المعجز على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب الاعتراف بنبوته والإيمان به وبما أنزل عليه كما اعترفوا بنبوة إبراهيم وموسى وعيسى ، فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وعن الحسن أن قوله (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) خطاب للنبي وقوله (قُولُوا) خطاب لأمته والظاهر العموم وإنما قدم الإيمان بالله لأن معرفة النبي والكتاب متوفقة على معرفته وفيه إبطال ما ذهب إليه التعليمية والمقلدة من أن طريق معرفة الله الكتاب والسنة ، قال الخليل : الأسباط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب. وقيل : السبط الحافد ، وكان الحسن والحسين سبطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهم حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر ، عدّد بعض الأنبياء لتقدمهم وشرفهم ثم عمم لتعذر التفصيل. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض

٤١٣

كأهل الكتاب. ومعنى الإيمان بجميعهم أن كلا منهم حق في زمانه أو لا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] وأحد في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) إذعانا وإخلاصا فلا جرم لا نخص بالقبول بعض عبيده المؤيدين بالمعجزات خلاف من كان إسلامه تقليدا أو هوى. ولما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة كل من قامت الدلالة على نبوته من غير مناقضة ، رغبهم في مثل هذا الإيمان ، وهاهنا سؤال وهو أن دين الإسلام وهو الحق واحد فما معنى المثل في قوله (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ)؟ والجواب أن قوله (فَإِنْ آمَنُوا) بكلمة الشك دليل على أن الأمر مبني على الفرض ، والتقدير أي فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم ومساويا له في الصحة والسداد (فَقَدِ اهْتَدَوْا) لكن لا دين صحيحا سوى هذا لسلامته عن التناقض بخلاف غيره فلا اهتداء إلا بهذا ، ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه «هذا هو الرأي الصواب فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به» وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ، ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وقيل : الباء للاستعانة لا للإلصاق والتمثيل بين التصديقين أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم. وقيل : المثل صلة ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به وقيل : معناه إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا هم بمثل ذلك في التوراة فقد اهتدوا لأنهم يتوسلون به إلى معرفة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الآية دليل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وهي الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عن وجوهها ، والاهتداء قبولها والعمل بها ليفوزوا بالسعادة العظمى. وإن تولوا عما قيل لهم ولم ينصفوا فما هم إلا في شقاق خلاف وعداوة وهو مأخوذ من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه ، أو من الشق لأنه فارق الجماعة وشق عصاهم ، أو من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه ، وفي وصف القوم بذلك دليل على معاداتهم الرسول وإضمارهم له كل سوء وتربصهم به الإيقاع في المحن ، فلا جرم آمنه الله تعالى والمؤمنين من كيدهم وقال (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) وناهيك به من كاف كافل. ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين وذلك أن فيها معنى التوكيد لوقوعها في مقابلة «لن» قال سيبويه : لن أفعل نفى سأفعل ، ولقد أنجز وعده عما قريب بقتل قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم ، وهذا إخبار بالغيب وكم من مثله في القرآن وكل ذلك مما يتأكد به إعجاز التنزيل العزيز وحصوله بطريق الوحي الصراح (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يسمع دعاءك ويعلم نيتك في أعلاء كلمة الحق وإعلانها فهو

٤١٤

يستجيب لك لا محالة ، ووعيد لأعدائه أي هو منهم بمرأى ومسمع يعلم ما يسرون من الحسد والحقد والغل فيكافئهم على ذلك (صِبْغَةَ اللهِ) مصدر مؤكد منتصب عن قوله (آمَنَّا بِاللهِ) مثل وعد الله قاله سيبويه وقيل : بدل من (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أو نصب على الإغراء أي عليكم صبغة الله ، وفيما فك لنظم الكلام وإخراج له عن الالتئام. والصبغة فعلة من صبغ للحالة التي يقع عليها الصبغ كالجلسة. والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفس. وأصله أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه بالمعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه يصير الواحد منهم نصرانيا حقا ، فأمر المسلمون أن يقولوا لهم آمنا وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم ، وذلك على طريق المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار اغرس كما يغرس فلان تريد رجلا يصطنع الكرام ، ونظيره قوله (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وقيل : اللفظة من قولهم «فلان يصبغ فلانا في الشر» أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازما للثوب. وقيل : سمي الدين صبغة لظهور هيئته عند صاحبه. (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩] «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» وقيل : وصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله ليبين أن المباينة بينه وبين غيره ظاهرة جلية يدركها كل ذي حس سليم كما يدرك الألوان. وقيل : صبغة الله فطرته. أقول : وذلك أن آثار النقص الإمكاني لازمة للإنسان لزوم الصبغ للثوب ، فيمكنه أن يتدرج منها إلى وجود الصانع والإيمان به. وقيل : صبغة الله الختان. وقيل : حجة الله. وقيل : سنة الله.

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) معنى الاستفهام الإنكار وصبغة تمييز أي لا صبغة أحسن من الإيمان بالله والدين الذي شرع لكم ليطهركم به من أوضار الكفر وأوزار الشرك. (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) عبارة عن كمال الإيمان كما تقدم مرارا. (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أما المحاجة فهي إما قولهم نحن أحق بأن تكون النبوة فينا لأنا أهل الكتاب والعرب عبدة أوثان ، وإما قولهم (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) وأما الخطاب فإما لأهل الكتاب وإما لمشركي العرب حيث قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وإما للكل والمعنى ، أتجادلون في شأن الله أو في دينه وهو ربنا وربكم وللرب أن يفعل بمربوبه ما يعلم فيه مصلحته ويعرفه أهلا له ، عبيده كلهم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فكما أن لكم أعمالا ترجون نيل الكرامة بها فنحن كذلك ، فالعمل هو الأساس وبه الاعتبار ولكن (نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موحدون لا نقصد بالعبادة أحدا سواه ، فلا يبعد أن يؤهل أهل إخلاصه بمزيد

٤١٥

الكرامة من عنده. (أَمْ تَقُولُونَ) من قرأ بتاء الخطاب احتمل أن تكون «أم» منقطعة بمعنى استئناف استفهام آخر أي بل أتقولون والهمزة للإنكار كما في (أَتُحَاجُّونَنا) واحتمل أن تكون متصلة بمعنى أي الأمرين تأتون المحاجة في حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء إنكارا عليهم واستجهالا لهم بما كان منهم. وعن الزجاج : بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا ، أبالتوحيد فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون؟ ومن قرأ بياء الغيبة فلا تكون إلا منقطعة لانقطاع الاستفهام الأول بسبب الالتفات. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) بل الله أعلم وخبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل والقرآن بأن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ، وكيف لا وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ ولأنهم مقرون بأن الله أعلم ، وقد أخبر بنقيض ما ادعوه فإن قالوا ذلك عن ظن فقد بان لهم خطؤه ، وإن قالوا ذلك عن جحود وعناد فما أجهلهم وأشقاهم ، فإذن فائدة الكلام إما التنبيه وإما التجهيل. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) قوله (مِنَ اللهِ) إما أن يتعلق بأظلم والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هودا أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لأن الظلم من الأعدل أشنع ، وإما أن يتعلق بكتم أي لا أحد أظلم ممن عنده شهادة ، ثم إنه لم يقمها عند الله وكتمها وأخفاها منه وإما أن يتعلق بشهادة كقولك «عندي شهادة من فلان» ومثله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) والمعنى ليس أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده جاءته من الله ، وفيه إشارة إلى أن المؤمنين لم يكتموا ما عندهم من الحق وشهدوا لإبراهيم بالحنيفية ، وتعريض بأن أهل الكتاب قد كتموا شهادات الله فأنكروا نبوة محمد وحنيفية إبراهيم وغير ذلك من تحريفاتهم. (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) كلام جامع لكل وعيد لهم ولأضرابهم ، ولو أن أحدا كان عليه رقيب من قبل ملك مجازي لكان دائم الحذر والوجل ، فكيف بالرقيب القريب الذي يعلم أسراره وبعد عليه أنفاسه وأفكاره ثم هو يقدر على أن يدخله جنته أو ناره؟ (تِلْكَ أُمَّةٌ) إشارة إلى إبراهيم وبنيه. كما مر ، وإنما أعيدت الآية هاهنا لغرض آخر وهو زجرهم عن الاشتغال بوصف ما عليه الأمم السالفة من الدين فإن أديانهم لا تنفع إلا إياهم لاندراس آثارها وانطماس أنوارها ، وأما الآن فالدين هو الإسلام الثابت بالدليل القاطع والبرهان البين فيجب اتباع المعلوم واقتفاؤه وإلقاء المظنون وإلغاؤه ، ولا يسأل المتأخر عن المتقدم ولا المحسن عن المسيء وكل بعمله مجزي.

تم الجزء الأول ، ويليه الجزء الثاني أوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) ...

٤١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثاني من أجزاء القرآن الكريم

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

القراآت : (مَنْ يَشاءُ إِلى) بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون يشاء ولى بقلب الثانية واوا. وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة يشاو إلى بقلب الأولى واوا (لَرَؤُفٌ) مهموزا مشبعا : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل والبرجمي. وقرأ يزيد بتليين الهمزة والإشباع. الباقون : (لَرَؤُفٌ) على وزن «الرعف» (.. يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ) بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف وعاصم وأبو

٤١٧

عمرو ويعقوب ، الباقون : بالتاء مولاها بالألف : ابن عامر والباقون : بالباء وكسر اللام (يَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ) بياء المغايبة : أبو عمرو. الباقون : بالتاء ليلا مدغمة غير مهموزة عن ورش ، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ويعقوب مدغما مهموزا. الباقون : مظهرا مهموزا ، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار. (فَاذْكُرُونِي) بفتح الياء : ابن كثير.

الوقوف : (عَلَيْها) ط (الْمَغْرِبُ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (شَهِيداً) ط (عَقِبَيْهِ) ط (هَدَى اللهُ) ط (إِيمانَكُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (فِي السَّماءِ) ج لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر (تَرْضاها) ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود (الْحَرامِ) ط (شَطْرَهُ) ط (مِنْ رَبِّهِمْ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (قِبْلَتَكَ) ج (قِبْلَتَهُمْ) ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود (قِبْلَةَ بَعْضٍ) ط (مِنَ الْعِلْمِ) لا لأن «ان» جواب معنى القسم في «لئن» ، فلو فصل كان (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) مطلقا وفي الإطلاق حظر (الظَّالِمِينَ) ه م لانه لو وصل صار «الذين» صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه (أَبْناءَهُمْ) ط (يَعْلَمُونَ) ه (الْمُمْتَرِينَ) ه (الْخَيْراتِ) ط (جَمِيعاً) ط (قَدِيرٌ) ه (الْحَرامِ) (ط) (مِنْ رَبِّكَ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (الْحَرامِ) ط لأن «حيث» متضمن الشرط (شَطْرَهُ) لا لتعلق لام في (حُجَّةٌ) ط قبل تحرزا عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل ه في العربية أوضح ، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة (تَهْتَدُونَ) إذا علق (كَما أَرْسَلْنا) بما قبله ووقف على (تَعْلَمُونَ) وإن علق بما بعده وقف على (تَهْتَدُونَ) دون (تَعْلَمُونَ تَعْلَمُونَ) ه (وَلا تَكْفُرُونِ) ه.

التفسير : هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعنا في الإسلام. قالوا : النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خاليا عن القيد كفى فعله مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخا مقيدا. وإن كان مقيدا بالدوام فكذلك ، وإن كان مقيدا بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلا وبداء ، وإن كان عالما بلا دوامه كان تجهيلا ، وكل هذه من الحكيم قبيح. ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله. قال القفال : لفظ (سَيَقُولُ) وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ. كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى ، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا

٤١٨

الكلام أنهم سيذكرونه ، وفيه فوائد منها : أنه إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له. ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم ، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيها شرعا ، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم. عن ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم في القبلة ، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ. وعن البراء بن عازب والحسن الأصم : أنهم مشركو العرب قالوا : أبى إلّا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولا كان أولى به. وقيل : هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلا فيه ، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي ، فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا (ما وَلَّاهُمْ) ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء (عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) القبلة بيت المقدس ، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين ، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في «كانوا» إلى «السفهاء» أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلّا قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق؟ فكأنهم قالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي بلادهما ، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكا وملكا ، ثم أكد ذلك بقوله (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها. وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء ، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد ، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق ، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوها مناسبة ، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام ، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلا معينا ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية ، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة. فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك ، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه ، والركوع والسجود جاريان مجرى

٤١٩

الخدمة. وأيضا الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات ، ولا يتأتى ذلك إلّا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلا لجهة واحدة على التعيين. وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى. وأيضا إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣]. وتوجه كل مصل إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق. وأيضا كأنه تعالى يقول : يا مؤمن أنت عبد ، والكعبة بيتي ، والصلاة خدمتي ، وقلبك عرشي ، والجنة دار كرامتي ، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ ، أبوئك دار كرامتي. وأيضا اليهود استقبلوا مغرب الأنوار (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤]. والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة ، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دار الفلك الدوّار. وأيضا المغرب قبلة موسى ، والمشرق قبلة عيسى ، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد ، وخير الأمور أوسطها ؛ وأيضا الكعبة سرة الأرض ووسطها ، وأمة محمد وسط (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً). والوسط بالوسط أولى (الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) [النور : ٢٦]. وأيضا العرش قبلة الحملة ، والكرسي قبلة البررة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة المؤمنين ، والحق قبلة المتحيرين (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) والعرش مخلوق من النور ، والكرسي من الدر ، والبيت المعمور من الياقوت ، والكعبة من جبال خمسة : سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء. كأنه قال : إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوبا فأتيت الكعبة حاجا أو معتمرا أو توجهت مصليا الصلوات الخمس غفرتها لك. وأيضا لما كان بناء هذا البيت سببا لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضا اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين. فأزيل تشويشهم ، وأيضا الكعبة منشأ محمد ، فتعظيمها يقتضي تعظيمه ، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه ، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله. فهذه هي الوجوه المناسبة ، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) وقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) الكاف للتشبيه ، وفي اسم الإشارة وجوه. فقيل : راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم ، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطا. وقيل : عائد إلى قوله (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) [البقرة : ١٣٠]. أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم. وقيل :

٤٢٠