تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

بل لا يحصل التحلل إلا بالنحر. فالتقدير : حتى يبلغ الهدي محله وينحر. وإنما جاز تذكير الهدي لأن كل ما يفرق بين واحده وبينه بالتاء وعدمه جاز تذكيره وتأنيثه. قال تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] وفي موضع آخر : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] والمحل اسم للزمان الذي يحصل فيه الحل ، ومنه محل الدين لوقت وجوب قضائه أو اسم للمكان. قال الشافعي : يجوز إراقة دم الإحصار في الحرم بل حيث حبس. وقال أبو حنيفة : لا يجوز ذلك إلا في الحرم يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار. حجة الشافعي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحصر بالحديبية فنحر هناك. وأجيب بأن محصره طرف الحديبية الذي هو أسفل مكة وهو من الحرم. وعن الزهري : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي : الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. ورد بقوله تعالى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] فإن هذه الآية صريحة في أنهم نحروا الهدي في غير الحرم. وأيضا قوله (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يتناول كل من كان محصرا سواء كان في الحل أو في الحرم. وقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ) يدل على وجوب النحر فيجب أن يكون المحصر قادرا على إراقة الدم حيث أحصر. وأيضا التحلل موقوف على النحر فلو توقف النحر على وصوله إلى الحرم لم يحصل التحلل في الحال وهذا يناقض ما هو المقصود من شرع الحكم وهو تخليص النفس من العدو في الحال. وأيضا لو كان الموصل إلى الحرم هو المحصر فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف؟ وإن كان غيره فقد لا يجد ذلك الغير فماذا يفعل؟ حجة أبي حنيفة أن المحل عبارة عن مكان الحل. وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدل على أنه غير بالغ في الحال إلى ذلك المكان. وأيضا هب أن لفظ المحل يشمل الزمان والمكان إلا أن قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٣٣] وقوله (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٩٥] يزيل احتمال الزمان والبيت نفسه لا يراق فيه الدماء ، فتعين أن يكون هو الحرم ، وأجيب بأن كل ما وجب على المحرم في ماله من فدية وجزاء وهدي لا يجزىء إلا في الحرم لمساكين أهله إلا إذا عطب الهدي فيذبح في طريقه ويخلى بينه وبين المساكين ، وإلا إذا أحصر فإنه ينحر هديه حيث حبس بالدلائل المذكورة. قالوا : الهدية لا تكون هدية إلا إذا بعثها إلى دار المهدي إليه ، فالهدي كذلك. وردّ بأن هذا تمسك بالاسم وهو محمول على الأفضل عند القدرة. والمحصر إذا كان عادما للهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ للشافعي فيه قولان : أحدهما لا بدل له ويكون الهدي في ذمته أبدا وبه قال أبو حنيفة لأنه تعالى أوجب له الهدي وما أثبت له بدلا ، وعلى هذا فماذا يفعل؟ فيه قولان : أصحهما أنه يتحلل في الحال كما لو صام بدله كيلا تعظم المشقة ، والآخر وإليه ميل أبي حنيفة أنه

٥٤١

يقيم على إحرامه حتى يجده. والقول الثاني أن له بدلا وهذا أصح وبه قال أحمد قياسا على سائر الدماء الواجبة على المحرم ، وعلى هذا فما ذلك البدل؟ الأصح الطعام لأن قيمة الهدي أقرب إليه من الصيام ، وإذا لم يرد النص إلا بالهدي فالرجوع إلى الأقرب أولى. ثم الصيام عن كل مدّ يوما. وفي قول صوم المتمتع عشرة أيام. وقيل : صوم الأذى ثلاثة أيام. وبالجملة فالآية دلت على أن المحصرين لا ينبغي لهم أن يحلوا فيحلقوا رؤوسهم إلا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يناجوا الرسول إلا بعد تقديم الصدقة ومعنى (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حتى تنحروا هديكم حيث حبستم ، أو حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه أي الحرم. ولكن الأفضل في الحج منى وفي العمرة المروة. ولا بد من نية التحلل عند الذبح لأن الذبح قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره ، فلا بد من قصد صارف فإن كان مصدودا عن البيت دون أطراف الحرم فهل له أن يذبح في الحل؟ أصح الوجهين عند الشافعي أن له ذلك ، وإذا أحصر فتحلل نظر إن كان نسكه تطوعا فلا قضاء عليه وبه قال مالك وأحمد لأن المصدودين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا ألفا وأربعمائة ، والذين اعتمروا معه في عمرة القضاء كانوا نفرا يسيرا ولم يأمر الباقين بالقضاء ، وقال أبو حنيفة : عليه القضاء. وإن لم يكن نسكه تطوعا نظر إن لم يكن مستقرا عليه كحجة الإسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الإمكان وكالنذر والقضاء فهو باق في ذمته كما لو شرع في صلاة ولم يتمها تبقى في ذمته ، ومهما أحصر بمرض ونحوه. وقد صححناه بالآية فحكم الهدي ما مر في الإحصار بالعدوّ وإن صححناه بأن كان قد شرط التحلل به إذا مرض فهل يلزمه الهدي للتحلل؟ فإن كان قد شرط التحلل بالهدي فنعم ، وإن كان قد شرط التحلل بلا هدي فلا وكذا إن أطلق على الأظهر لمكان الشرط.

قوله عز من قائل : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) قيل : إنه مختص بالمحصر. وذلك أنه قبل بلوغ الهدي محله ربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر فالله تعالى أذن له في إزالة ذلك المؤذي بشرط بذل الفدية. والأكثرون على أنه كلام مستأنف في كل محرم لحقه مرض في بدنه فاحتاج إلى علاج أو أذى في رأسه فاضطر إلى الحلق. والنسك العبادة وقرىء بالتخفيف ، وقيل : جمع نسيكة وهي الذبيحة. قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل : للمتعبد «ناسك» لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. ثم قيل للذبيحة نسك لأنها من أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله ، واتفقوا في النسك على أن أقله شاة كما في الأضاحي ، وأما

٥٤٢

الصيام والإطعام فليس في الآية ما يدل على كميتهما وكيفيتهما وبماذا يحصل بيانه؟ فيه قولان : أحدهما وعليه أكثر الفقهاء. ومنهم الشافعي وأبو حنيفة أن بيانه في حديث كعب بن عجرة قال : حملت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقلت : لا. قال صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك. فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة وثانيهما عن ابن عباس والحسن الصيام كصيام المتمتع عشرة أيام والإطعام مثل ذلك في القدر. قال العلماء المرض قد يحوج إلى اللباس أو إلى الطيب أو إلى الدهن وفي كل منها نوع استمتاع فألحقوا فدية نحو هذه المحظورات بفدية الحلق لاشتراك الجميع في الترفه. والحاصل أنه يدخل فيه كل محظورات الإحرام سوى الجماع ففيه بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه ثم طعام بقيمة البدنة ثم صيام بعدد الأمداد كما يجيء في قوله تعالى (فَلا رَفَثَ) [البقرة : ١٩٧] وسوى الصيد ففيه الجزاء على ما يجيء تفصيله في المائدة. وفي هذه الآية أيضا إضماران أي فحلق فعليه فدية (فَإِذا أَمِنْتُمْ) إن كان معناه الأمن بعد الخوف قبل التحلل فجواب الشرط وهو فامضوا محذوف. وإن كان معناه إذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة فقوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ) الشرط مع الجزاء جواب الشرط الأول ولا وقف على (أَمِنْتُمْ) ومعنى التمتع التلذذ. وأصله الطول حبل مانع أي طويل. وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به. وقد عرفت معنى التمتع بالعمرة إلى الحج وهو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشىء منها الحج فيحج من عامه ذلك. والتمتع بهذا الوجه صحيح لا كراهة فيه. وما يروى أن عمر خطب وقال : متعتان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، ذكر الأئمة أن تلك المتعة هي أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ. وعن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لنا خاصة. يعني الركب الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدّونها من أفجر الفجور ، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة. وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان نسخ الحج في أشهر الحج خاصا بهم. ومعنى التمتع بالعمرة إلى الحج أنه يتمتع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة إلى أوان الحج ، وقيل : استمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل الانتفاع بتقربه بالحج ولوجوب الدم على المتمتع شروط منها : أن لا يكون من حاضري المسجد

٥٤٣

الحرام لقوله تعالى (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ويجيء تمام الكلام فيه عما قريب ومنها أن يحرم بالعمرة من الميقات فإن جاوزه مريدا النسك ثم أحرم بها فإن كان الباقي أقل من مسافة القصر فليس عليه دم التمتع ولكن يلزمه دم الإساءة ، وإن كان الباقي مسافة القصر فعليه دمان. ومنها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حج لم يلزمه الهدي لأنه أشبه الإفراد ، ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهره فأصح قولي الشافعي أنه لا يلزمه الدم ، وبه قال أحمد لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج لتقدم أحد أركان العمرة. ولو سبق الإحرام مع بعض الأعمال قبل أشهر الحج فعدم وجود الدم أولى. وعن مالك أنه مهما حصل التحلل في أشهر الحج وجب الدم. وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر أعمال العمرة في الأشهر كان متمتعا. ومنها أن يقع الحج والعمرة في سنة واحدة ، فلو اعتمر ثم حج في السنة القابلة فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حج أو رجع وعاد لأن الدم إنما يجب إذا زاحم بالعمرة حجة في وقتها وترك الإحرام بحجة من الميقات مع حصوله في وقت الإمكان ولم يوجد. وعن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمرون في أشهر الحج وإذا لم يحجوا في عامهم ذلك لم يهدوا. ومنها أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحج فلا دم عليه لأنه لم يربح ميقاتا. وفي اشتراط نية التمتع وجهان : أصحهما لا تشترط كما لا تشترط نية القران ، وهذا لأن الدم منوط بربح أحد السفرين. ولا يختلف ذلك بالنية وعدمها ويخالف اشتراط نية الجمع بين الصلاتين من حيث إن أشهر الحج كما هي وقت الحج فهي وقت العمرة بخلاف وقت الصلاة. ثم إن دم التمتع دم جبران الإساءة حتى لا يجوز له أن يأكل منه ، أو دم نسك حتى يجوز أن يأكل. ذهب أبو حنيفة إلى الثاني ومال الشافعي إلى الأول لما روي أن عثمان كان ينهى عن المتعة فقال له علي رضي‌الله‌عنه : أعمدت إلى رخصة أثبتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للغريب للحاجة فأبطلتها؟ فسمى المتعة رخصة ، وهذا دليل النقص. وأيضا التمتع تلذذ وأنه ينافي العبادة لأنها مشقة وتكليف. وأيضا إنه تعالى أوجب الهدي على المتمتع بلا توقيت ، ولو كان نسكا كان موقتا. وأيضا للصوم فيه مدخل ودم النسك لا يبدل بالصوم ، والكلام في مراتب هذا الهدي كما مرّ وينبغي أن يكون الإبل ثنيا وهو الطاعن في السنة السادسة ، وكذا البقر وهو الطاعن في السنة الثالثة ، ويجزىء كل من الإبل والبقر عن سبعة شركاء. ولو اقتصر على الغنم فليكن ثني المعز وهو الذي دخل في السنة الثالثة ، أو جذع الضأن وهو أيضا في السنة الثانية ، يستوي في

٥٤٤

هذا الباب الذكر والأنثى ويستحب أن يذبح يوم النحر ، ولو ذبح بعد ما أحرم بالحج جاز لأن التمتع قد تحقق فترتب عليه الهدي جبرا له. وكذا قبل الإحرام بالحج وبعد التحلل من العمرة على الأصح ، لأنه حق مالي تعلق بسببين وهما الفراغ من العمرة والشروع في الحج. فإذا وجد أحدهما بأن إخراجه كالزكاة والكفارة. وعند أبي حنيفة لا يجوز بناء على أنه نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر وبه قال مالك وأحمد. فمن لم يجد الهدي وقيس عليه ما إذا لم يجد ما يشتريه به أو بيع بثمن غال ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج. قال الشافعي : أي بعد الإحرام بالحج لأنه تعالى جعل الحج ظرفا للصوم ، ولا يصلح سائر أفعال الحج ظرفا له فلا أقل من الإحرام. وأيضا ما قبل الإحرام بالحج ليس وقتا للهدي الذي هو أصل فكذا لبدله ، وقال أبو حنيفة ، أي في وقت الحج وهو أشهره فجاز أن يصوم بعد الإحرام بالعمرة. وبمثله قال أحمد في رواية ، وفي أخرى قال : يجوز بعد التحلل من العمرة ، ولا يجوز أن يصوم شيئا منها في يوم النحر ولا في أيام التشريق كما مر في الصوم. والمستحب أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة ، فإن الأحب للحاج يوم عرفة أن يكون مفطرا كيلا يضعف عن الدعاء وأعمال الحج ، ولم يصمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة بل يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. ويحكى عن أبي حنيفة أن الشخص إن كان بحيث لا يضعف فالأولى أن يصوم حيازة للفضيلتين. ويعلم مما ذكرنا أنه يستحب أن يحرم بالحج قبل يوم عرفة بثلاثة أيام ليصوم فيها. وأما الواجد للهدي فالمستحب له أن يحرم يوم التروية بعد الزوال متوجها إلى منى لما روي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج» (١) وإذا فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه القضاء عند الشافعي لأنه صوم واجب فلا يسقط بفوات وقته كصوم رمضان ، وإذا قضاها لم يلزمه دم خلافا لأحمد. وعند أبي حنيفة يسقط الصوم بالفوات ويستقر الهدي في ذمته (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) للشافعي في المراد من الرجوع قولان : أصحهما الرجوع إلى الأهل والوطن لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمتمتعين «من كان معه هدي فليهد ومن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» والثاني أن المراد منه الفراغ من أعمال الحج وبهذه قال أبو حنيفة وأحمد كأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلا عليه من الأعمال. وعلى الأصح لو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا في الطريق على الأصح لأنه تقديم العبادة البدنية على وقتها. ثم إذا لم يصم الثلاثة في الحج حتى فرغ ورجع لزمه صوم العشرة عند الشافعي. وهل يجب التفريق في القضاء بين الثلاثة

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣١٨ ، ٣٧٨) بلفظ «فإذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا».

٥٤٥

والسبعة؟ الأصح عند إمام الحرمين وطائفة وبه قال أحمد أنه لا يجب لأن التفريق في الأداء يتعلق بالوقت فلا يبقى حكمه في القضاء كالتفريق في الصلوات المؤداة. والأصح عند أكثر أصحاب الشافعي وجوب التفريق كما في الأداء. ويفارق تفريق الصلوات فإن ذلك التفريق يتعلق بالوقت ، وهذا يتعلق بالفعل وهو الحج. والرجوع وما قدر ما يقع به التفريق أصح الأقوال التفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان مسيره إلى أهله على العادة الغالبة بناء على أصلين سبقا أحدهما : أن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، والثاني أن المراد بالرجوع الرجوع إلى أهله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) طعن فيه بعض الملحدين أن هذا من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة وأيضا قوله (كامِلَةٌ) يوهم أن هاهنا عشرة غير كاملة وهو محال ، فذكر العلماء من فوائده أن الواو في قوله (وَسَبْعَةٍ) ليس نصا قاطعا في الجمع بل قد يكون للإباحة بمعنى أو كما في قوله (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [فاطر : ١] وكما في قولك «جالس الحسن وابن سيرين» لو جالسهما جميعا أو واحدا منهما كان ممتثلا ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة. وأيضا ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا وعلى هذا مدار علم السياقة وكفى به إفادة. وأيضا المعتاد أن البدل أضعف حالا من المبدل كالتيمم من الوضوء ، فلعل المراد أن هذا البدل كامل في كونه قائما مقام المبدل وهما في الفضيلة سواء ، وذكر العشرة لصحة التوصل به إلى هذا الوصف إذ لو اقتصر على تلك جاز أن يعود إلى الثلاثة أو إلى السبعة. وأيضا قوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) يدفع التخصيص الذي يتطرق إلى كثير من العمومات في الشرع ويصرف الكلام إلى التنصيص. وأيضا إن مراتب الأعداد ثلاث : الآحاد والعشرات والمئات. وهذه من وسائطها فكأنه قال : إنما أوجبت هذا العدد لكونه موصوفا بصفة التوسط والكمال. وأيضا التوكيد طريقة مسلوكة في كلام العرب يعرف منه كون المذكور مما يعقد به الهمم ، ففيه زيادة توصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها وأيضا هذا الخطاب مع العرب ولم يكونوا أهل حساب فبين الله تعالى بذلك بيانا قاطعا كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الشهر هكذا وهكذا وهكذا ثم أشار بيده ثلاث مرات وأمسك إبهامه في الثالثة تنبيها بالإشارة الأولى على الثلاثين ، وبالثانية على التسعة والعشرين. وأيضا فيه إزالة الاشتباه والتصحيف الذي يمكن أن يتولد من تشابه سبعة وتسعة في الخط. وأيضا يحتمل أن يراد كاملة في الإجزاء حتى لا يتوهم أنها بسبب التفريق غير مجزئة كما لا يجزىء في كفارات الظهار والقتل ووقاع رمضان إلا الصوم المتتابع. وأيضا يحتمل أن يكون خبرا في معنى الأمر أي فلتكن تلك الصيامات كاملة لتسد الخلل ويكون الحج

٥٤٦

المأمور به تاما كاملا كما قال (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

واعلم أن الصوم مضاف إلى الله تعالى في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى «الصوم لي وأنا أجزي به» (١) والحج أيضا مضاف إليه تعالى في الآية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وكما دل النقل على هذا الاختصاص فالعقل أيضا يدل على ذلك. أما الصوم فلأنه عبادة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وهو مع ذلك شاق على النفس جدا ، وأما الحج فلأنه عبادة لا يطلع العقل البتة على وجوه الحكمة فيها وهو مع ذلك شاق جدا لأنه يوجب مفارقة الأهل والولد ويقتضي التباعد عن أكثر اللذات والاستمتاعات ، فكل منهما لا يؤتى به إلا لمحض ابتغاء مرضاة الله تعالى. ثم إن هذا الصوم بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعا بين مشقتين ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من مشقة إلى مشقة ، والأجر على قدر النصب ، فلا جرم وصفه الله تعالى بالكمال في باب العبادة والتنكير في اللفظ أيضا يؤيد ذلك زادنا الله اطلاعا على لطائف قرآنه العظيم (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اختلف العلماء في أن المشار إليه ماذا؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه : إنه إشارة إلى التمتع وما ترتب عليه لأنه ليس البعض أولى من البعض فيعود إلى كل ما تقدم فلا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام. وقال الشافعي : بل عودة إلى الأقرب أولى وهو الحكم بوجوب الهدي على المتمتع. وأيضا قوله (فَمَنْ تَمَتَّعَ) عام يشمل الحرمي والميقاتي والآفاقي. وأيضا إنه تعالى شرع القرآن والمتعة إبانة لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحج ، والنسخ يثبت في حق الناس كافة. ويتفرع على مذهب أبي حنيفة أن من تمتع أو قرن من حاضري المسجد الحرام كان عليه دم وهو دم جناية لا يأكل منه. وعلى مذهب الشافعي أن يصح تمتعهم وقرانهم ولا يجب عليهم شيء ، فإن لزوم الهدي على الآفاقي بسبب أنه أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فيلزمه جبر الخلل بدم. والمكي لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فلا خلل في حجة تمتع أو قرن أو أفرد ، فلا يلزمه الهدي ولا بد له. ثم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام فعن مالك أنهم أهل مكة وأهل ذي طوى. وعن طاوس هم أهل الحرم. وعن الشافعي هم الذين يكونون على أقل من مسافة القصر من مكة ، فإن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٢. مسلم في كتاب الصيام حديث ١٦٤ النسائي في كتاب الصيام باب ٤١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٨. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (١ / ٤٤٦) (٢ / ٢٣٢).

٥٤٧

كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين ، وبه قال أحمد. وعن أبي حنيفة أنهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة. والمواقيت : ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة وعلى ميل من المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب على خمسين فرسخا من مكة ، ويلملم من صوب اليمن وقرن لنجد الحجاز ، وذات عرق من صوب المشرق والعراق وخراسان وكل هذه الثلاثة من مكة على مرحلتين. فهذه هي المذاهب وأوفقها للآية. مذهب مالك لأن أهل مكة هم الذين يحضرون المسجد الحرام. إلا أن الشافعي قال : قد يطلق المسجد الحرام على الحرم قال تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء : ١] ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري به من الحرم لا من المسجد. وقد يقال : حضر فلان فلانا إذا دنا منه. ومن كان مسكنه دون مسافة القصر فهو قريب نازل منزلة المقيم في نفس مكة. وفي مذهب أبي حنيفة بعد ، فإن يؤديّ إلى إخراج القريب من الحاضرين وإدخال البعيد لتفاوت مسافات المواقيت ، ثم إن مسافة القصر مرعية من نفس مكة أو من الحرم الأعراف هو الثاني لما قلنا إن المسجد الحرام يراد به جميع الحرم. قال الفراء : ذلك لمن لم يكن معناه ذلك الفرض الذي هو الدم أو الصوم لازم على من لم يكن من أهل مكة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اشتراطي لهم الولاء» أي عليهم وذكر حضور الأهل والمراد حضور الحرم لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون (وَاتَّقُوا اللهَ) في محافظة حدوده وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تهاون بحدوده. قال أبو مسلم : العقاب والمعاقبة سيان ، واشتقاقهما من العاقبة كأنه يراد عاقبة فعله السيء كقول القائل «لتذوقن فعلك».

التأويل : حج الخواص حج رب البيت وشهوده وهذه سيرة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] ولكنه أحصر في السماء السابعة فلا جرم أهدى بإسماعيل ، ولما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذهابه بالله ما أحصره شيء فقيل له (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وجرى ما جرى (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ٩ ، ١٠] ثم قال لأمته : اسعوا في إتمام صورة الحج بقدر استطاعتكم ، وفي الحقيقة بأن تخرجوا وجودكم (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) بأعداء النفس والهوى أو لملال القلب أو لكلال الروح أو باستجلاء الأحوال أو بتمني الآمال (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أعلاها الروح وأوسطها القلب وأدناها النفس يهدي ما كان الإحصار به. (وَلا تَحْلِقُوا) لا تشتغلوا بغير الله حتى تبلغوا المقصد ، فإن عرض مرض في الإرادة أو يعلوه أذى من المزاحمات من غير فترة من نفسه فلم يجد بدا من الإناخة بفناء الرخص ، فليجتهد أن يتداركه بالفدية فقد

٥٤٨

قيل : من أقبل على الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله ، والصيام هو الإمساك عن المشارب والصدقة الخروج عن المعلوم ، والنسك ذبح النفس في مقاساته الشدائد (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار وأقبل الجد الصاعد والزمان المساعد (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) واستراح في الطلب (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) من ترك مشارب الروح والقلب والنفس (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) (لَمْ يَسْتَطِعْ) ترك تلك المشارب لعلو شأنها وعظم مكانها فعليه الإمساك عن مشارب القوى الثلاث المدركة للمعاني والمتصرفة فيها وهي الوهم والحافظة والمتخيلة ، هذا إذا كان في عالم المعنى ، فإذا رجع إلى عالم الصورة أمسك عن القوى السبع مشار بها وهي الحس المشترك والخيال ، لأن الأولى مدركة الصور ، والثانية معينتها على الحفظ وبعدهما الحواس الخمس الظاهرة (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) هي الحواس الظاهرة والباطنة (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لأن الحاضر في مقام القرب والأنس لا يخاطب ولا يعاتب وإنما يلزم العتب ، والطلب للسالك والسائر ، فإذا وصل فقد استراح. (وَاتَّقُوا) أن تسكنوا في فترة أو وقفة أو تركنوا إلى مشرب من هذه المشارب (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) للغافلين عن هذا الخطاب القانعين بذل الحجاب.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

القراآت : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) بالرفع فيهما : أبو عمرو ويعقوب وابن كثير ويزيد. وزاد يزيد (وَلا جِدالَ) بالرفع. الباقون : بفتح الثلاثة وكذلك يروي القطعي عن أبي زيد من طريق الحسن الهاشمي ، (وَاتَّقُونِ) بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل بالياء. (وَمَنْ تَأَخَّرَ) روى هبة الله بن

٥٤٩

جعفر عن الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة في الوقف بالتليين.

الوقوف : (مَعْلُوماتٌ) ط (فِي الْحَجِ) ط (يَعْلَمْهُ اللهُ) ط (التَّقْوى) ز للعارض بين الجملتين المتفقتين (الْأَلْبابِ) ه (مِنْ رَبِّكُمْ) ط لأن «إذا» أجيبت بالفاء فكانت شرطا في ابتداء حكم آخر (الْحَرامِ) ص لعطف المتفقتين (هَداكُمْ) ج لأن الواو تصلح حالا واستئنافا. (الضَّالِّينَ) ه (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) ج (رَحِيمٌ) ه (ذِكْراً) ط (مِنْ خَلاقٍ) ه (النَّارِ) ه (مِمَّا كَسَبُوا) ط (الْحِسابِ) ه نصف الجزء. (مَعْدُوداتٍ) ط لأن الشرط في بيان حكم آخر (عَلَيْهِ) الأولى ط لابتداء شرط آخر مع العطف (عَلَيْهِ) الثانية لا لتعليق اللام. (اتَّقى) ط لاختلاف النظم (تُحْشَرُونَ) ه.

التفسير : من المعلوم أن الحج ليس نفس الأشهر ، فالتقدير أشهر الحج أو وقته أشهر معلومات كقولك «البلد شهران». أو الحج حج أشهر معلومات أي لا حج إلا فيها خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء. وقيل : يمكن أن يقال : جعل الحج نفس الأشهر كما في قولهم «ليل قائم ونهار صائم» واتفق المفسرون على أن شوّالا وذا القعدة من أشهر الحج. واختلفوا في ذي الحجة فعن عروة بن الزبير ومالك كله لأن أقل الجمع ثلاثة ، وقد يفعل الإنسان بعد النحر ما يتصل بالحج من رمي الجمار ونحوه. والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى أيام بعد الشهر ، من هنا ذهب عروة إلى جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. وعن أبي حنيفة : عشر ذي الحجة وهو قول ابن عباس وابن عمرو النخعي والشعبي ومجاهد والحسن قالوا : لفظ الجمع يشترك فيما وراء الواحد بدليل قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] ونزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال «رأيتك سنة كذا» وإنما رآه في ساعة منها. ورمي الجمار يفعله الإنسان وقد حل بالحلق والطواف والنحر من إحرامه فكأنه ليس من أعمال الحج. والحائض إذا طاف بعده فهو في حكم القضاء. وإنما قلنا إن يوم النحر من أشهر الحج لأنه وقت لركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة. ومن المفسرين من زعم أن يوم الحج الأكبر يوم النحر. وعن الشافعي : التسعة الأولى من ذي الحجة من ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع يوم النحر ولا تفوت العبادة مع بقاء وقتها. قيل : إنه تعالى جعل كل الأهلة مواقيت للحج في قوله (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] وفي هذه الآية جعل وقت الحج أشهر معلومات. وأجيب بأن تلك الآية عامة وهذه خاصة والخاص مقدم على العام. وأقول : الميقات علامة الوقت فلولا الأهلة لم يعلم مدخل كل شهر على التعيين. فجميع الأهلة في الإعلام سواء بالنسبة إلى وقت مفروض ، فلا منافاة بين كون جميع الأهلة

٥٥٠

علامات الحج من حيث إنها تؤذن بما بقي من السنة إلى أوان الحج ، وبين كون الأشهر المعلومات وقتا للحج ، ومعنى قوله (مَعْلُوماتٌ) أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معينة من شهورها ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مرارا ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع. وعلى هذا فهذا الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء موافقا مقررا له. أو المراد أنها معلومات ببيان الرسول ، أو المراد أنها مؤقتة بأوقات معينة لا يجوز تقديمها وتأخيرها كما يفعله أصحاب النسيء. ثم إن الشافعي استدل بالآية على أنه لا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج ، وبه قال أحمد وإسحق. وأيضا الإحرام بالعبادة قبل وقت الأداء لا يصح قياسا على الصلاة. وأيضا الخطبة في صلاة الجمعة لا تجوز قبل الوقت لأنها أقيمت مقام ركعتين من الظهر حكما ، فلأن لا يصح الإحرام وهو شروع في العبادة أولى. وأيضا الإحرام لا يبقى صحيحا لأداء الحج إذا ذهب وقت الحج قبل الأداء ، فلأن لا ينعقد صحيحا لأداء الحج قبل الوقت أولى لأن البقاء أسهل من الابتداء. وعن أبي حنيفة ومالك والثوري : جواز الإحرام في جميع السنة لقوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] والجواب ما مر. قالوا : الإحرام التزام الحج فجاز تقدمه قبل الوقت كالنذر. والجواب الفرق بين النذر والإحرام ، فإن الوقت معتبر للأداء ولا اتصال للنذر بالأداء بدليل أن الأداء لا يتصور إلا بعقد مبتدأ ، وأما الإحرام مع كونه التزاما فهو أيضا شروع في الأداء وعقد عليه فلا جرم افتقر إلى الوقت. قالوا : اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله. وقد تبعد داره بعدا شديدا يحتاج إلى أن يحرم قبل شوال. والجواب أن النص لا يعارضه الأثر على أنه يمكن تخصيص الأثر في حق من لا يكون داره سحيقا (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) فمن ألزم نفسه في هذه الشهور أن يحج. وبماذا يحصل هذا الإلزام المسمى بالإحرام لأنه يحرم عليه حينئذ أشياء كانت حلالا له. قال الشافعي : إنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية. نعم إنها سنة عند النية وبه قال أحمد ومالك لقوله تعالى (فَمَنْ فَرَضَ) وفرض الحج على النية أدل منه على التلبية أو سوق الهدي. وفرض الحج موجب لانعقاد الحج بدليل قوله (فَلا رَفَثَ) فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج. وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لكل امرئ ما نوى» وأيضا إنه عبادة ليس في آخرها ولا في أثنائها نطق واجب ، فكذلك في ابتدائها كالطهارة والصوم. وعند أبي حنيفة : التلبية شرط انعقاد الإحرام لإطباق الناس على الاعتناء به عند الإحرام إلا أن سوق الهدي وتقليده والتوجه معه يقوم مقام التلبية. وعن ابن عمر أنه قال :

٥٥١

إذا قلد أو أشعر فقد أحرم. وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحج فقد أحرم. وروى أبو منصور الماوردي في تفسيره عن عائشة أنها قالت : لا يحرم إلا من أهل أو لبى. وأيضا إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع فيها بنفس النية كالصلاة. وصورة التلبية ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، ولا تكره الزيادة على هذا. روي عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها. لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك لبيك والرغبى إليك والعمل. فإن رأى شيئا يعجبه قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة. ثبت ذلك عن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي بعض الروايات أنه قال في تلبيته : لبيك حقا تعبدا ورقا. قال الشافعي في أصح قوليه : الأفضل أن ينوي ويلبي حين تنبعث به راحلته إن كان راكبا ، وحين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشيا لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يهل حتى انبعثت به دابته ، قال إمام الحرمين : ليس المراد من انبعاث الدابة ثورانها ، بل المراد استواؤها في صوب مكة. فإذا استوت به راحلته متوجها إلى الطريق نوى : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولبى. وإن كان يريد القرآن نوى الحج والعمرة ، وإن كان يريد العمرة نوى العمرة ولبى. والقول الثاني وبه قال أحمد ومالك وأبو حنيفة أن الأفضل أن ينوي ويلبي كما تحلل من الصلاة أي من ركعتي الإحرام وهو قاعد. ثم يأخذ في السير لرواية ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم ، وتكثير التلبية في دوام إلا حرام مستحب قائما كان أو قاعدا راكبا أو ماشيا حتى في حالة الجنابة والحيض لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضي‌الله‌عنها حين حاضت : افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت.

قوله عز من قائل (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) من قرأ بفتح الثلاثة أو برفعها فلا إشكال ، ومن قرأ برفع الأولين وفتح الأخير فقيل : لأن الأولين محمولان على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، ثم أخبر بانتفاء الجدال أي لا شك ولا خلاف في الحج. وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج ، وربما يستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كهيئته يوم ولدته أمه» (١) وإنه لم يذكر الجدال. وقيل : الاهتمام بنفي الجدال

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الحج باب ٤. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٣٨. الترمذي في كتاب

٥٥٢

أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق فلذلك قرىء كذلك. أما الأوّل فلأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق. وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فدل على أن الجدال مشتمل على جميع أنواع القبح. وأما أن القراءة تفيد ذلك فلأن الفتح يقتضي نفي الماهية ، وانتفاؤها يوجب انتفاء جميع أفرادها. وأما الرفع فلا يوجب انتفاء جميع أفراد الماهية بل يجوّز ، فيكون الفتح أدل على عموم النفي. أما تفسير الرفث فعن ابن عباس هو الجماع ، وله في العمرة والحج نتائج منها. فساد النسك يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، واتفق الفقهاء عليه بعدهم ، وإنما يفسد الحج بالجماع إذا وقع قبل التحللين لقوّة الإحرام. ولا فرق بين أن يقع قبل الوقوف بعرفة أو بعده خلافا لأبي حنيفة حيث قال : لا يفسد بالجماع بعد الوقوف ولكن يلزمه الفدية. وأما الجماع بين التحللين فلا أثر له في الفساد على الصحيح. وعن مالك وأحمد أنه يفسد ما بقي شيء من إحرامه ، وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل حصول التحلل. ووقت التحلل عنها بعد الفراغ من الحلق بناء على أنه نسك وهو الأصح ، فتفسد العمرة بالجماع قبل الحلق ، واعلم أن للعمرة تحللا واحدا وذلك إذا طاف وسعى وحلق ، وللحج تحللان وذلك أنه إذا أتى باثنين من الرمي والنحر والحلق والطواف أعني الرمي والحلق ، أو الرمي والطواف ، أو الحلق والطواف ، حصل التحلل الأول وهو إباحة جميع المحظورات من التطيب والقلم ولبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح إلا الجماع فإنه لا يحل إلى الإتيان بالأمر الثالث ، فإذا أتى به حل الجماع أيضا وهو المراد بالتحلل الثاني قال الأئمة : الحج يطول زمانه وتكثر أعماله بخلاف العمرة فأبيح بعض محظوراته دفعة وبعضها أخرى. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس وكل شيء إلا النساء» واللواط وإتيان البهيمة في الإفساد كالوطء في الفرج وبه قال أحمد خلافا لأبي حنيفة فيهما ولمالك في إتيان البهيمة ، ثم سائر العبادات لا حرمة لها بعد الفساد ويصير الشخص بالفساد خارجا منها ، لكن الحج والعمرة وإن فسدا يجب المضي فيهما وذلك بإتمام ما كان يفعله لولا عروض الفساد روي عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم من أفسد حجه مضى في فاسده وقضى من قابل. ومن نتائج الفساد الكفارة يستوي فيها الحج والعمرة. وخصالها خمس على الترتيب بدنة إن وجدها لأن

__________________

الحج باب ٢. النسائي في كتاب الحج باب ٤. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٣. الدارمي في كتاب المناسك باب ٧. أحمد في مسنده (٢ / ٢٢٩ ، ٤١٠).

٥٥٣

الصحابة نصوا على البدنة وإلا فبقرة وإلا فسبع من الغنم وإلا قومت البدنة دراهم والدراهم طعاما فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما. ومن النتائج القضاء باتفاق لما روينا عن كبار الصحابة وقضى من قابل ، سواء كان المقضي عنه فرضا أو تطوعا فإن القضاء واجب ، وأصح الوجهين في القضاء أنه على الفور لا على التراخي ، لأنه لزم وتضيق بالشروع ويدل عليه ظاهر قول الصحابة و «قضى من قابل». وكذا الكلام فيمن ترك الصوم أو الصلاة بعدوان على الأشبه ، لأن جواز التأخير نوع ترفيه وتخفيف والمتعدي لا يستحق ذلك. ولو كانت المرأة محرمة نظر إن جامعها وهي نائمة أو مكرهة لم يفسد حجها وإلا فسد ، ولكن لا يجب على أصح القولين إلا بدنة واحدة عنهما جميعا. وإذا أفسد حجه بالجماع ثم جامع ثانيا فإن لم يفد عن الأول لزم بدنة أخرى. وإن فدى لم يلزم إلا شاة. وعن الحسن : الرفث كل ما يتعلق بالجماع ، فليس للمحرم التقبيل بالشهوة ولا المباشرة فيما دون الفرج. فلو باشر شيئا منها عمدا فالفدية. روي عن علي وابن عباس أنهما أوجبا بالقبلة شاة وإن كان ناسيا لم يلزمه شيء ولا يفسد شيء من مقدمات الجماع الحج ولا يوجب البدنة بحال سواء أنزل أو لم ينزل ، وبه قال أبو حنيفة ، وعند مالك يفسد الحج إذا أنزل وهو أظهر الروايتين عن أحمد. وقيل : الرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها. والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع. وقيل : الرفث هو قول الخنا والفحش لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم» (١) وعن أبي عبيدة : الرفث الإفحاش وعنه الرفث اللغو في الكلام. وأما الفسوق فهو الخروج عن الطاعة وحدود الشريعة فيشمل كل المعاصي قال تعالى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] وقيل : هو التنابز بالألقاب والسباب قال تعالى (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (٢) وقيل الإيذاء والإيحاش (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] وعن ابن زيد : هو الذبح للأصنام (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] وقيل : الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة والفسوق ذلك مع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٢ ، مسلم في كتاب الصيام حديث ١٦٠ ، ١٦٣ أبو داود في كتاب الصوم باب ٢٥. النسائي في كتاب الصيام باب ٤٢. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٢١.

الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٧.

(٢) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٣٦. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١١٦. الترمذي في كتاب البر باب ٥١. النسائي في كتاب التحريم باب ٢٧. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٤.

٥٥٤

الأجنبية. وأما الجدال فإنه فعال من المجادلة وأصله من الجدل والفتل كأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. واختلف المفسرون فيه. فعن الحسن : هو الجدال الذي يفضي إلى السباب والتكذيب والتجهيل ، وإنه واجب الاجتناب في كل حال إلا أنه مع الرفقاء وفي الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن قريشا كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم : حجنا أتم. وقال آخرون : بل حجنا أتم. وقال آخرون : بل حجنا أتم. فنهاهم الله عن ذلك. وقال مالك في الموطأ : الجدال في الحج أن قريشا كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وإنه جبل هناك ، وكان غيرهم يقفون بعرفات ، وكل من الفريقين يقول : نحن أصوب. وقال القاسم بن محمد : كانوا يجعلون الشهور على العدد فيختلفون في يوم النحر بسبب ذلك. فبعضهم يقول هذا يوم عيد ، ويقول آخرون بل غدا فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة هي مواقيت الحج فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه. قال القفال : ويدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق ذلك عليهم وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فتركوا الجدال حينئذ. وقال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج اختلافهم في أن أيهم المصيب مقام إبراهيم. وقيل : إنه النسيء نهوا عن ذلك فإن الزمان قد عاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال القاضي أبو بكر الباقلاني : لو حمل النفي في الألفاظ الثلاثة على الخبر وجب أن يحمل الرفث على الجماع ، والفسوق على الزنا ، والجدال على الشك في الحج ، ليصح خبر الله تعالى بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج المعتبر. وإن حملنا الكلام على النهي صح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وبالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أصنافه ، فعلى هذا يكون في الآية بعث على الأخلاق الحميدة والآداب الحسنة. وبالحقيقة لا رفث نهي عن طاعة القوّة الشهوية التي توجب الانهماك في الفجور ، ولا فسوق إشارة إلى قهر القوّة الغضبية الداعية إلى التمرد والاستعلاء ، ولا جدال رمز إلى تسخير القوّة الوهمية التي تحمل الإنسان على الخلاف في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه ، فمنه تنشأ الآراء المتخالفة والأهواء المتصادمة والعقائد الفاسدة والمذاهب الباطلة. واعلم أن الجدال ليس منهيا عنه بجميع أقسامه وإنما المذموم منه هو الذي منشأه صرف العصبية ومحض المراء لتنفيذ الآراء الزائفة وتحصيل الأعراض الزائلة والأغراض الفارغة ، وأما الذب عن الدين القويم والدعاء إلى الصراط المستقيم وإلزام الخصم الألد وإفحام المعاند اللجوج بمقدمات

٥٥٥

مشهورة وآراء محمودة حتى يستقر الحق في مركزه ويضمحل صولة الباطل ويركد ريحه فمأمور به في قوله عز من قائل (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وإنه إحدى شعب البيان وقد يكون أنجع من قاطعة البرهان (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) لم يتعرض لمقابل الخير وإن كان عالما به أيضا لنكتة هي أني إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك ضده أخفيته وسترته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك هكذا في الدنيا فكيف تكون في العقبى؟ وفيه ترغيب للمطيعين وإيذان بأنهم من المحسنين «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١) والعبد الصالح إذا علم اطلاع مولاه على سرائره وخفاياه اجتهد في أداء ما أمره به ، واحترز عن ارتكاب ما نهاه عنه ، ومن غاية عنايته حثهم على الخير بعد ما نهاهم عن الشر ليستعملوا مكان الرفث التفث ، وبدل الفسوق رعاية الحقوق ، ومقام الجدال والشقاق الوفاق مع الرفاق تتميما لمكارم الأخلاق وتنبيها على شرف النفس وطيب الأعراق بدليل قوله (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإن ذلك خير الزاد. وليس السفر من الدنيا أهون من السفر في الدنيا ، وهذا لا بد له من زاد فكذا ذلك. بل يزداد فإن زاد الدنيا يخلصك عن عذاب منقطع موهوم ، وزاد الآخرة ينجيك من عذاب أبديّ معلوم. زاد الدنيا يوصلك إلى متاع الغرور ، وزاد الآخرة يبلغك دار السرور. وزاد الدنيا سبب حصول حظوظ النفس ، وزاد الآخرة سبب الوصول إلى عتبة الجلال والقدس.

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على أن لا تكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقيل : نزلت في ناس من اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكلون. ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموهم وغصبوهم فأمرهم الله سبحانه أن يتزوّدوا ما يتبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم. وفيه دليل على أن القادر على استصحاب الزاد في السفر ، إذا لم يستصحب عصى الله في ذلك ، ففيه إبطال حكمة الله تعالى ورفع الوسائط والروابط التي عليها تدور المناجح وبها تنتظم المصالح. روي أن بعض العارفين زهد فبلغ من زهده أن فارق الناس وخرج من الأمصار وقال : لا أسأل أحدا شيئا حتى يأتيني رزقي. فأخذ يسيح فأقام في سفح جبل سبعا لم يأته شيء

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٣١ باب ٢. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٧. أبو داود في كتاب السنة باب ١٦. الترمذي في كتاب الإيمان باب ٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٩. أحمد في مسنده (١ / ٢٧ ، ٥١).

٥٥٦

حتى كاد يتلف. فقال : يا رب إن أحببتني فأتني برزقي الذي قسمت لي وإلا فاقبضني إليك. فألهمه الله تعالى في قلبه : وعزتي وجلالي لا أرزقك حتى تدخل الأمصار وتقيم بين الناس فدخل المدينة وأقام بين ظهراني الناس فجاء هذا بطعام وهذا بشراب فأكل وشرب فأوجس في نفسه من ذلك ، فسمع أردت أن تبطل حكمته بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنه يرزق العباد بأيدي العباد أحب إليه من أن يرزقهم بيد القدرة. وقيل : في الآية حذف أي تزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى واتقون وخافوا عقابي. وفيه تنبيه على كمال عظمته كقوله «أنا أبو النجم وشعري شعري» (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني أن قضية العقل تقوى الله ومن لم يتقه فلا لب له في التحقيق. ولما منع الناس عن الجدال اختلج في قلب المكلف شبهة أن التجارة لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها يجب أن تكون منهية. وأيضا أنها كانت محرمة في الجاهلية وقت الحج وأنه أمر غير مستحسن ظاهرا لأن المشتغل بخدمة الله تعالى يجب أن لا يتلوث بالأطماع الدنيوية. وأيضا كان من الممكن أن تقاس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام فلدفع هذه الشبهة نزلت.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا) أي في أن تطلبوا (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء منه وتفضلا أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والربح بها كقوله (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠] عن أبي مسلم : أنه حمل الآية على ما بعد الحج. قال : والتقدير واتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح أن تبتغوا كقوله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وزيف بأن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لا على موضع الشبهة ، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج ، وأما بعد الفراغ فالحل معلوم ، وقياس الحج على الصلاة فاسد ، فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في خلالها. وأيضا الفاء في قوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ) ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك يدل على أن المراد وقوع التجارة في زمان الحج ويؤيده قراءة ابن عباس فضلا من ربكم في مواسم الحج وقال ابن عباس في سبب نزول الآية كانوا يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في الكف عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ، ويسمون من يخرج للتجارة الداج ويقولون : هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ومعنى الداج الأعوان والمكارون من الدجيج وهو الدبيب في السير. قال ابن السكيت : لا يطلق الدجيج إلا إذا كان جماعة ولا يقال ذلك للواحد. وقيل : كانت

٥٥٧

عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم ، وكانت معايشهم منها. فلما جاء الإسلام تأثموا فرفع عنهم الحرج. ومن المعلوم أنه إنما يباح ما لم يشغل عن العبادة. وعن ابن عمر أن رجلا قال له : إنا قوم نكرى في هذا الوجه يعني في طريق الحج ، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا. فقال : سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما سألت عنه فلم يرد عليه حتى نزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) فدعا به فقال : أنتم حجاج. وعن عمر أنه قيل له : هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال : وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟! وعن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : أن ابتغاء الفضل هاهنا طلب أعمال أخر زائدة على أعمال الحج موجبة لفضل الله تعالى ورحمته كإعانة الضعيف وإغاثة الملهوف وإطعام الجائع وإرواء العطشان. واعلم أن الفضل ورد في القرآن بمعان ، منها ما يتعلق بالمصالح الدنيوية من المال والجاه والغذاء واللباس وهو المسمى بالرزق (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] ومنها ما يتعلق بالمصالح الأخروية وهو الفضل والثواب والجنة والرحمة (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) [الفتح : ٢٩] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) [النساء : ٨٣] ومنها ما يتعلق بمواهب القربة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [الحديد : ٢١] (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣] ورفع الجناح قد يستعمل في الواجب والمندوب مثل ما يستعمل في المباح كما مر في قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨].

(فَإِذا أَفَضْتُمْ) أي دفعتم بكثرة ومنه إفاضة الماء وهو صبه بكثرة. التقدير : أفضتم أنفسكم. فترك ذكر المفعول كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا وصبوا. وعرفات جمع عرفة وكلاهما علم للموقف كأن كل قطعة من تلك الأرض عرفة فسمي مجموع تلك القطعة بعرفات كما قيل في باب الصفة «ثوب أخلاق» و «برمة أعشار» ثم سئل : هلا منعت الصرف وفيها سببان التعريف والتأنيث؟ فقيل : إنه لم يبق علما بعد ما جمع ثم جعل علما لمجموع القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في الصرف. وقيل : إن هذا التنوين تنوين المقابلة في نحو «مسلمات» ومن ذهب إلى أن تنوين المقابلة لا وجود له كجار الله وكثير من المتأخرين. وأن هذا التنوين تنوين الصرف. قالوا : إنما لم يسقط لأن التأنيث في نحو «مسلمات وعرفات» ضعيف. فإن التاء التي هي لمحض التأنيث سقطت ، والباقية علامة لجمع المؤنث ، وزيف بأن عرفات مؤنث. وإن قلنا إنه لا علامة تأنيث فيها لا متمحضة للتأنيث ولا مشتركة لأنه لا يعود الضمير إليها إلا مؤنثا تقول «هذه عرفات مباركا فيها» ولا يجوز «مباركا فيه» إلا بتأويل بعيد كما في قوله «ولا أرض أبقل إبقالها» فتأنيثها لا يقصر

٥٥٨

عن تأنيث مصر الذي هو بتأويل البقعة. وقال بعض المتأخرين : الأولى أن يقال : إن التنوين للصرف وإنما لم يسقط في نحو «عرفات» لأنه لو سقط لتبعه الكسر في السقوط وتبع النصب وهو خلاف ما عليه الجمع السالم ، إذ الكسر فيه متبوع لا تابع فهو فيه كالتنوين في غير المنصرف للضرورة لم يحذفا لمانع. هذا مع أنه جوز المبرد والزجاج هاهنا مع العلمية حذف التنوين وإبقاء الكسر كبيت امرئ القيس في رواية.

تنورتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي

وبعضهم يفتح التاء في مثله مع حذف التنوين كسائر ما لا ينصرف. فعلى هذين الوجهين التنوين للظرف بلا خلاف ، والأشهر بقاء التنوين في مثله مع العلمية. وقيل : التنوين عوض من منع الفتحة. واعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة. وعرفة وعرفات هي الموضع المخصوص. فقيل : التروية التفكر. وسببه أن آدم عليه‌السلام لما أمر ببناء البيت فبناء تفكر فقال : يا رب إن لكل عامل أجرا فما أجري على هذا العمل؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به. قال : زدني ، فقال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك. قال : حسبي يا رب حسبي. وقيل : ان إبراهيم عليه‌السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا هل هذا من الله أو من الشيطان ، فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك. وقيل : إن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروّون في الأدعية التي يذكرونها في الغد بعرفات. وقيل : التروية الإرواء فإن أهل مكة كانوا يجمعون الماء للحجيج الذي يقصدونهم من الآفاق فيتسعون في الماء بعد ما تعبوا في الطريق من قلة الماء ، أو لأنهم يتزوّدون الماء إلى عرفة ، أو لأن المذنبين كالعطاش وردوا بحار الرحمة فشربوا منها حتى رووا. أما يوم عرفة فقيل : إنه من المعرفة لأن آدم وحوّاء عليهما‌السلام التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه ، عن ابن عباس أو لأن جبريل عليه‌السلام علم آدم مناسك الحج فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت؟ قال : نعم. أو لأن إبراهيم عليه‌السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة. عن علي عليه‌السلام وابن عباس وعطاء والسدي. أو لأن جبريل عرف بها إبراهيم المناسك وقد مر في قوله (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨] أو لأن إبراهيم وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يتلاقيا سنين ثم التقيا يوما بعرفات ، وقد سبقت القصة في بناء البيت في قوله (وَإِذْ يَرْفَعُ

٥٥٩

إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) [البقرة : ١٢٧] ولما ذكرنا آنفا من مقام إبراهيم أو لأن الحاج يتعارفون فيه إذا وقفوا ، أو لأنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة. وقيل : اشتقاقها من الاعتراف لأن الناس يعترفون هنالك للحق بالربوبية والجلال ، ولأنفسهم بالفقر واختلاف الحال. يقال : إن آدم عليه‌السلام وحوّاء لما وقفا بعرفات قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه : الآن عرفتما أنفسكما. وقيل : من العرف وهو الرائحة الطيبة لأن المذنبين يكتسبون بالمغفرة روائح طيبة عند الله مقام ضدها. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» (١) وقد يسمى يوم عرفة يوم إياس الكفار من الإسلام ويوم إكمال الدين ويوم إتمام النعمة ويوم الرضوان أخذا من قوله تعالى في المائدة (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] عن عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية يوم عرفة وكان يوم الجمعة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه‌السلام في حجة الوداع وقد اضمحل الكفر وهدم منار الجاهلية. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو يعلم الناس مالهم في هذه الآية لقرت أعينهم. قال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية أنزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين. وكان ذلك يوم عرفة ويوم جمعة يوم صلة الواصلين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] يوم قطيعة القاطعين (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] يوم إقالة عثرة النادمين وقبول توبة التائبين (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] يوم وفد الوافدين في الخبر «الحاج وفد الله والحاج زوّار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره» يوم الحج الأكبر (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) [التوبة : ٣] يوم خص صومه بكثرة الثواب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين» وقال «من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله مثل ثواب عيسى بن مريم» أقسم الله تعالى به في قوله عز من قائل (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر : ٣] عن ابن عباس : الشفع يوم التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر يوم خص بكثرة الرحمة وسعة المغفرة. وعن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء اشهدوا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم باب ٣ ، ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ١٦٢ ـ ١٦٤ الترمذي في كتاب الصوم باب ٥٤. النسائي في كتاب الصيام باب ٤١. ابن ماجه في كتاب الصيام باب ١. الدارمي في كتاب الصوم باب ٥٠. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨.

٥٦٠