تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

القراآت : (لِجِبْرِيلَ) مفتوحة الجيم مكسورة الراء غير مهموز : ابن كثير. وقرأ حمزه وعلي وخلف وعاصم غير حفص ويحيى مفتوحة الراء والجيم مهموزة مشبعا. وقرأ يحيى مختلسا. الباقون : مكسورة الراء والجيم غير مهموز. (مِيكالَ) أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص ، وقرأ أبو جعفر ونافع مختلسا مهموزا. الباقون : ميكائيل مهموزا مشبعا.

الوقوف : (لِلْمُؤْمِنِينَ) (ه) (لِلْكافِرِينَ) (ه) (بَيِّناتٍ) (ج) لأن هذه الواو للابتداء أو الحال والحال أوجه لاتحاد القصة (الْفاسِقُونَ) (ه) (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (ط) لأن «بل» للإعراض عن الأول (لا يُؤْمِنُونَ) (ه) (أُوتُوا الْكِتابَ) (ط) قد قيل يوقف لبيان أن كتاب الله مفعول «نبذ» لا بدل مما قبله (لا يَعْلَمُونَ) (ه) قد يجوز للآية ، والوصل للعطف على (نَبَذَ) لإتمام سوء اختيارهم في النبذ والاتباع.

التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود ، والسبب في نزوله أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال : يا محمد ، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يجيء في آخر الزمان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي. قال : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة؟ فقال : أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة. فقال صدقت. قال : فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله ، أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له. قال : صدقت. قال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه فنذر لله نذرا إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم. فقال له : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك. أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال : جبريل قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء. فإن كان هو يأتيك آمنا بك. فقال عمر : ما مبدأ هذا العداوة؟ فقال ابن صوريا : إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالا فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله. فهذا ليس هو ذاك وإن

٣٤١

لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه. ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا. وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل. فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل ، وهما عدوان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين. وقيل : كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها ، وكان ممره على مدراس اليهود ، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم. فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك. فقال : والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرى آثاره في كتابكم. ثم سألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال عمر : جبريل. فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمدا على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم : وما منزلتهما من الله؟ قالوا :أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدوّ لجبريل. فقال عمر : إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير. ومن كان عدوا لأحدهما كان عدوا للآخر ، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد وافقك ربك يا عمر. قال : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وعن مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يشعر بذلك قوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقا لكتابهم وموافقا له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك «إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه» أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله (بِإِذْنِ اللهِ) إلى آخره. أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقا هاديا مبشرا ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكورا. فعداوة من هذا سبيله عداوة الله ، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضا لا محالة ولتوجه الإشكال عليه ، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها. وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله ، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] وهذا النوع من الإضمار فيه

٣٤٢

فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه. وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه ، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأداء ثباته في قلبه ، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه. وقيل : أي جعل قلبك متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة «كان خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن» وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) ومعنى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) موافقا لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع لى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات. ومعنى قوله (هُدىً وَبُشْرى) أن القرآن يشتمل على أمرين. أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى ، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى ، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضا. ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين ، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدوا لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجب أن يكون عدوا لله تعالى ، بين في الآية التالية أن من كان عدوا لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم. والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي. فمعنى قوله (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) أي لأولياء الله كقوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧]. أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه ، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره. قال أهل التحقيق : عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر «هؤلاء في النار ولا أبالي» كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة ، والأولى علة الثانية. وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر ، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات ، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما. وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضا أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان. والواو في جبريل وميكائيل بمعنى «أو» لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك ، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا من

٣٤٣

القرينة. وقوله (لِلْكافِرِينَ) من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر. الآيات البينات هي آيات القرآن ، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابيا عنه بعض النبوّ. ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله ، والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب ، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة. والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها ، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه ، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور ، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد. عن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقبا صغيرا لا يقال : إنه فجر النهر. وفي قوله (إِلَّا الْفاسِقُونَ) وجهان : أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس ، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره. الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره. وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى ، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود. عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته. فقال بعضهم : ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت. واللام في (الْفاسِقُونَ) للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب. (أَوَكُلَّما) الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة. وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك. والنبذ الرمي بالذمام ورفضه ، وإنما قيل (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا. (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ) أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم ، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به. وقيل : كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها. وعن سفيان : أدرجوه في

٣٤٤

الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه. اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به.

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

القراآت : (وَلكِنَ) خفيفا (الشَّياطِينُ) بالرفع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وكذلك قوله (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام هاهنا وفي سورة الأعراف : قتيبة. على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل.

الوقوف : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (ج) لأن الواو قد تصلح حالا لبيان نزاهة سليمان وردّ ما افتروا عليه (السِّحْرَ) (ط) قيل : على جعل «ما» نافية ولا يتضح لمناقضته ما في سياق الآية من إثبات السحر بل «ما» خبرية معطوفة على قوله (السِّحْرَ) على أنها وإن كانت نافية يحتمل كون الواو حالا على تقدير : يعلمون الناس السحر غير منزل فلا يفصل. وفي الآية عشر «ماآت» إحداها كافة في (إِنَّما) والأخيرة نكرة منصوبة في (لَبِئْسَ ما) والباقية خبرية ثم نافية ثم خبرية على التعاقب (وَمارُوتَ) (ط) (فَلا تَكْفُرْ) (ط) (وَزَوْجِهِ) (ط) (بِإِذْنِ اللهِ) (ط) (وَلا يَنْفَعُهُمْ) (ط) (مِنْ خَلاقٍ) (ط) يجوز الوقف لابتداء اللام (أَنْفُسَهُمْ) (ط) (يُعَلِّمُونَ) (ه) (خَيْرٌ) (ط) (يَعْلَمُونَ) (ه).

التفسير : من قبائح أفعالهم أنهم نبذوا كتاب الله وأقبلوا على السحر ودعوا الناس إليه ، وهذا شأن اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إنهم الذين تقدموا من اليهود. وقيل : إنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه‌السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدّونه من جملة ملوك الدنيا ، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر. والأولى أن يقال : اللفظ يتناول الكل. قال السدي : لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت. ومعنى «تتلو» تقرأ ، أو (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي على عهده وفي زمانه. وقيل : تلا عليه أي كذب. فالقوم لما ادعوا

٣٤٥

أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان. وأما الشياطين فالأكثرون على أنهم شياطين الجن ، وأنهم كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها ويقرأونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون : هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم. وقيل : إنهم شياطين الإنس لما روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصا على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم من بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا بهذه الأشياء. وزيفوا قول الأكثرين بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخيفا فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع ، وهذا بخلاف ما يفعله الإنسان فإنه لا يكاد يخفى على بني نوعه. واختلف في سبب إضافتهم السحر إلى سليمان فقيل : ليروج ذلك منهم. وقيل : لأنهم ما كانوا مقرين بنبوته. وقيل : لأنه لما خالط الجن وأظهر أسرارا عجيبة غلب على ظنونهم أنه استفاد ذلك من الجن. وقوله (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) تنزيه له عما نسب القوم إليه من السحر المستلزم للكفر ، فإن كونه نبيا ينافي كونه ساحرا كافرا. ثم بين أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) ثم ذكر ما به كفروا فقد كان من الجائز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ) أي ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين. وهاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ممتنعان من الصرف للعلمية والعجمة ، وليسا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم ، لأنهما لو كانا منهما لانصرفا. وقيل : بدلان منهما.

ولنذكر هاهنا حقيقة السحر وقصة هاروت وماروت. أما السحر ففي اللغة عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم. وسحره خدعه ، والسحر الرئة ، وفي الشرع : مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع. ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد وهو السحر الحلال قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من البيان لسحرا» سمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض البيان سحرا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولطف عبارته ، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن ، يسخط تارة فيقول أسوأ ما يمكن ، ويرضى تارة فيقول أحسن ما يعلم. ثم

٣٤٦

السحر على أقسام : منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهو قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ، ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم مذاهبهم. ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية بدليل أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعا على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر ، وما ذاك إلا لأن تخيل السقوط متى قوي أوجبه. وقد اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. وحكي في الشفاء عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة في الصوت تنبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك. وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية. واجتمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة ، وأن الدعاء باللسان من غير طلب نفساني قليل الأثر. ويحكى أن بعض الملوك عرض له فالج ، فدخل عليه بعض الحذاق من الأطباء على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض ، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية وزالت تلك العلة المزمنة. والإصابة بالعين مما اتفق عليه العقلاء ، والتحقيق فيه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات ، كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، وكانت قوية التأثير في مواد هذا العالم. أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن. فإذا أراد أن يتعدى تأثيرها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس فاشتغل الحس به وتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة بالكلية على ذلك ، فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ، ويعضده الانقطاع عن المألوف والمشتهيات وتقليل الغذاء والاعتزال عن الناس ، ثم إن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر بحسب ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير. وأما الرقى فإن كانت بألفاظ معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حسن البصر كما اشتغل بالأمور المناسبة للغرض ، فحس السمع أيضا يشتغل بها ، فإن الحواس متى تطابقت متوجهة إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه أقوى وإن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ، ويحصل لها إذ ذاك انجذاب وانقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل ، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض. وهكذا القول في الدخن قالوا : فثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مستقل بالتأثير فإن

٣٤٧

انضم إليه الاستعانة بالقسم الأول وهو تأثيرات الكواكب قوي الأثر جدا ، لا سيما إن حصل لهذه النفس مدد من النفوس المفارقة المشابهة لها أو من الأنوار الفائضة من النفوس الفلكية. ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم ، وتسخير الجن ومنه التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة. وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركا ، والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما ، والعنبة ترى في الماء كالزجاجة ، ويرى العظيم من البعيد صغيرا. وقد لا تقف القوة الباصرة على المحسوس وقوفا تاما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جدا فيخلط البعض بالبعض ولا يتميز ، فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطا كثيرة بألوان مختلفة ثم أديرت ، فإن البصر يرى لونا واحدا كأنه مركب من كل تلك الألوان. وأيضا النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ، فلا يشعر الحس به البتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة ربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا ، فلا يرى شيئا مما في المرآة. فالمشعوذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استقر بهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه ، عمل شيئا آخر عملا بسرعة فيبقى ذلك العمل خفيا لتعاون الشيئين اشتغالهم بالأول وسرعة إتيانه بالثاني. ومنها الأعمال العجيبة التي تظهر من الآلات المركبة على النسب الهندسية ، أو لضروب الخيلاء كفارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ، ومنه الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، وقد يصورونها ضاحكة أو باكية. وقد يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات وعلم جر الأثقال وهذا لا يعد من السحر عرفا ، لأن لها أسبابا معلومة يقينية. ومنها الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار ، ومنها تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن ينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن كان السامع ضعيف القلب قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في قلبه نوع من الرعب ، وحينئذ تضعف القوى الحساسة فيتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء. وإن من جرب الأمور وعرف أحوال الناس علم أن لتعليق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار. ومنها السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في الناس. فهذه جملة الكلام في أقسام السحر ، وعند المسلمين كلها مستندة إلى قدرة الله ، فإنه لا يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة. واتفقوا على أن العلم به ليس بقبيح ولا محظور ،

٣٤٨

لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ولأن الفرق بينه وبين المعجز يمكن به إلا أن اجتنابه أقرب إلى السلامة كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. وأما أن الساحر هل يكفر أم لا فلا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور ، فإنه يكون كافرا على الإطلاق ، وهذا هو القسم الأول من السحر. وأما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر على إيجاد الأجسام وإعدامها وتغيير البنية والشكل ، فالأظهر إجماع الأمة أيضا على تفكيره ، وأما أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا : لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل ، وزيف بأن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذبا في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار الخوارق على يده لئلا يحصل التلبيس ، أما إذا لم يدع النبوة فظهرت الخوارق على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس ، فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة ، وإن حصلت لم يتم فصوله الباطل كنار العرفج. وأما سائر أنواع السحر فلا شك أنها ليست بكفر ، وحكم من كفر بالسحر حكم المرتد. وإذا سحر إنسانا فمات فإن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالبا وجب عليه القود ، وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد ، وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه اسمه فخطأ. وعن أبي حنيفة أنه قال : يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله «إني أترك السحر وأتوب منه» فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه. وإن شهد شاهدان علي أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل. وأما قصة هاروت وماروت فقد يروى عن ابن عباس أن الملائكة لما قالت (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فأجابهم الله بقوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣١] ثم وكل عليهم جمعا من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة ، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح. ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة ، فأراد الله أن يبتلي الملائكة فقال لهم : اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علما وزهدا وديانة لأنزلهم إلى الأرض فأختبرهم. فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن

٣٤٩

الشرك والقتل والزنا والشرب. فنزلا ، فأمر الله تعالى الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض ، فجعلت الزهرة في صورة امرأة ، والملك في صورة رجل. ثم إن الزهرة اتخذت منزلا وزينت نفسها ودعتهما إليها ، ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا عليها وطلبا الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا الخمر فقالا : لا نشرب الخمر. ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت : بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها. قالا : وما هي؟ قالت : تسجدان لهذا الصنم. فقالا : لا نشرك بالله شيئا. ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا : نفعل ثم نستغفر. فسجدا للصنم. ثم دخل سائل عليهم فقالت : إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا ، فإن أردتما الوصول إليّ فاقتلا هذا الرجل. فامتنعا منه ، ثم اشتغلا بقتله. فلما فرغا من القتل ارتفعت الزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما بسبب تعيير بني آدم. وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض ، وأنهما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا يعرجان به إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم فعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب ثم إن الله تعالى خيرهما بين عذاب الآخرة آجلا وبين الدنيا عاجلا ، فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع ليعلم السحر خاصة. وهذه القصة عند المحققين غير مقبولة ، فليس في كتاب الله ما يدل عليها ، ولأن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة تنافيها ، ولاستبعاد كونهما معلمين للسحر حال العذاب ، ولأن الفاجرة كيف يعقل أنها صعدت إلى السماء وجعلها الله تعالى كوكبا مضيئا ، ولأنه ذكر في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا : لو فعلت بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب الله وتجهيل. فإذن السبب في إنزالهما أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة ، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكاذبين ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد. وأيضا تعريف حقيقة السحر ليميز بينه وبين المعجزة حسن ، وكذا السحر لإيقاع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أوليائه. ولعل للجن أنواعا من السحر لا يقدر البشر على معارضتها إلا بإعانة الملك وإرشاده ، ويجوز أن يكون ذلك تشديدا في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم يمنعه من استعماله ، كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب مزيد الثواب كما ابتلي قوم طالوت بالنهر (فَمَنْ شَرِبَ

٣٥٠

مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٩٤٢] ويقال : هذه الواقعة كانت في زمان إدريس لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض ، فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ، ولا يجوز كونهما رسولين لأن رسول الإنس ثبت أنه لا يكون إلا منهم.

قوله تعالى (وَما يُعَلِّمانِ) أي وما يعلم الملكان أحدا حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) ابتلاء واختبار من الله (فَلا تَكْفُرْ) بأن تتعلمه معتقدا له أنه حق أو متوصلا به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة (فَيَتَعَلَّمُونَ) الضمير لما دل عليه العموم في (مِنْ أَحَدٍ) أي فيتعلم الناس من الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) إما لأنه إذا اعتقد أن السحر حق كفر فبانت منه امرأته ، وإما لأنه يفرّق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه ، لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإدارته وقدرته ، لأن إن شاء أحدث عند ذلك شيئا من أفعاله وإن شاء لم يحدث ، وكان الذي يتعلمونه منهما لم يكن مقصورا على هذه الصورة ، ولكن سكون المرء وركونه إلى زوجه لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى وقرأ الأعمش (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) فجعل الجارّ جزءا من المجرور وهو «أحد» وأضاف إلى المجموع وفصل بينهما بالظرف. ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يستعملونه في وجوه المفاسد (وَلَقَدْ عَلِمُوا) علم هؤلاء اليهود اللام فيه للابتداء وكذا في (لَمَنِ اشْتَراهُ) استبدل ما تتلو الشياطين واختاره على كتاب الله (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) من نصيب كأنه قدر له هذا المقدار ، وقيل : الخلاق الخلاص. وقيل معنى الآية أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر للدنيا فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي باعوها والمخصوص محذوف وهو السحر أو منافع الدنيا ، وجواب «لو» محذوف يدل عليه ما قبله أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروا. ويجوز أن يكون «لو» للتمني مجازا كما تقدم من الترجي في (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب. بقي هاهنا سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد بالقسم إجمالا ثم نفاه عنهم في قوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)؟ فإن «لو» لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وكذا لو كان للتمني فإن التمني استدعاء أمر هو كالممتنع. والجواب أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والذين لا يعلمون هم الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر. سلمنا أن القوم واحد ، ولكنهم علموا

٣٥١

شيئا وجهلوا شيئا آخر ، علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة ، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارّها وعقوباتها ، سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ، ولكنهم نسبوا إلى الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم ولم ينتفعوا به كما قيل : إنهم صم بكم عمي حيث لم ينتفعوا بالحواس. ولما أوعدهم بقوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) أتبع ذلك الوعد جامعا بين الترهيب والترغيب ليكون أدعى إلى الطاعة وأنهى عن المعصية فقال (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بعين ما نبذوه من كتاب الله وهو القرآن أو التوراة التي يصدقها القرآن أو كلاهما ، واتقوا فعل المنهيات وترك المأمورات ، أو اتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لشيء من ثوابه (خَيْرٌ) ولا بد من تقدير فعل يكون «أن» مع ما بعده فاعلا له ، أي لو ثبت أنهم آمنوا ، وجواب «لو» محذوف أيضا ويدل عليه هذه الجملة الاسمية المصدرة باللام أي لأثيبوا وإنما تركت الفعلية إلى هذه ليدل على ثبات المثوبة واستقرارها. ويجوز أن يكون القسم مقدرا وقوله (لَمَثُوبَةٌ) جوابه سادا مسد جواب الشرط مغنيا عنه ، ودخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر ، على أن دخول اللام الموطئة في «لو» مستثقل فيشبه أن يكون الأكثر بل الواجب هاهنا عدم الدخول. ويجوز أن يكون «لو» للتمني مجازا عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل : وليتهم آمنوا. ثم ابتدئ (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير مما هم فيه لآمنوا واتقوا ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك العمل بالعلم. ويجوز أن يكون «لو» بمعنى التمني كما تقرر والله تعالى أعلم.

التأويل : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) النفوس (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الروح الذي هو خليفة الله في أرضه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) الروح (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ) النفس والهوى (كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) من تخييلات الهواجس وتمويهات الوساوس (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) فتنة وخذلانا من العلوم الضارة غير النافعة كشبهات الفلاسفة والمبتدعة على ملكي الروح والقلب (بِبابِلَ) الجسد (هارُوتَ) الروح (وَمارُوتَ) القلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى الأرض العالم الجسماني بالخلافة لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا واتبعا خداعها فوقعا في شبكة الشهوة التي تركت فيها ابتلاء وامتحانا ، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل ، وزنيا ببغي الدنيا الدنية ، وعبدا صنم الهوى فعذبا منكسين برؤوسهما بالالتفات إلى السفليات وإعراضهما عن العلويات ، فحرما استماع خطاب الحق وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ، ومع هذا من خصوصية الملائكة الروحانية ما يعلمان أحدا من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية.

٣٥٢

والقوى البشرية حتى يلهماها (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ) القلب (وَزَوْجِهِ) دينه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨))

القراآت : (ما نَنْسَخْ) بضم النون وكسر السين : ابن ذكوان ننسأها مهموزا : ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية ، وروى أوقية بغير همز ، الباقون : ننسها من الإنساء (نَأْتِ بِخَيْرٍ) بغير همز : أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف ، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط ، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقا أي عطفا على المجزوم أو جوابا للمجزوم كل القرآن مثل قوله عزوجل (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) وقوله (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) وأشباه ذلك (فَقَدْ ضَلَ) بالإظهار : حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى ، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى : (فَقَدْ ظَلَمَ وَلَقَدْ ذَرَأْنا) وأشباه ذلك.

الوقوف : (وَاسْمَعُوا) (ط) (أَلِيمٌ) (ه) (مِنْ رَبِّكُمْ) (ط) (مَنْ يَشاءُ) (ط) (الْعَظِيمِ) (ه) (أَوْ مِثْلِها) (ط) (قَدِيرٌ) (ه) (وَالْأَرْضِ) (ط) (وَلا نَصِيرٍ) (ه) ربع الجزء (وَمِنْ قَبْلُ) (ط) (السَّبِيلِ) (ه).

التفسير : لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود ، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه ، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن. قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة بـ «يا أيها المساكين» فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولا بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخرا حيث قال (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) [البقرة : ٦١] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخرا (وَبَشِّرِ

٣٥٣

الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧] ، ولا سيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام ، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام. وقيل : آمنوا على الغيبة نظرا إلى المظهر وهو «الذين» ولو قيل آمنتم نظرا إلى النداء جاز من حيث العربية ، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي : لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية.

فلا يبعد أن يمنع الله من قول (راعِنا) ويأذن في قول (انْظُرْنا) وإن كانا مترادفين. ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول (راعِنا) لاشتماله على مفسدة. ثم ذكروا وجوها منها : أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ألقي عليهم شيئا من العلم راعنا يا رسول الله ، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي «راعينا» ومعناها «اسمع لا سمعت» كما صرح بذلك في سورة النساء (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) [النساء : ٤٦] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون «راعنا» افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي (انْظُرْنا). روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أو لستم تقولونها؟ فنزلت ، ومنها قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها ، وقيل : إن اليهود كانوا يقولون «راعينا» أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه. وقيل : إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة ، تدل على المساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا : أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣] وقيل : «راعنا» خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره ، وليس في (انْظُرْنا) إلا سؤال الانتظار. وقيل : إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق ، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم «عائذا بك» أي أعوذ عياذا. فقولهم (راعِنا) أي فعلت رعونة ، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة ، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها ، وقيل : المراد لا تقولوا قولا راعنا أي منسوبا إلى الرعن كدارع ولابن ، ومنه قراءة الحسن (راعِنا) بالتنوين. وانظرنا من نظره إذا انتظره (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] أمرهم الله تعالى أن يسألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له : توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا. وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصا منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشاد من التثبت

٣٥٤

والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك. وقيل : انظرنا معناه انظر إلينا مثل (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أي من قومه. والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى. وفي قراءة أبيّ (انْظُرْنا) من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه. (وَاسْمَعُوا) معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا ، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسبوه عذاب أليم قوله (ما يَوَدُّ) الآية. «من» الأولى للبيان ، لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا) جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون. كقوله (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١] «ولا» مزيدة لتأكيد النفي وقرىء ولا المشركون والثانية مزيدة لاستغراق الخير فـ (أَنْ يُنَزَّلَ) في سياق النفي : فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل. والثالثة لابتداء الغاية ، والخير الوحي وكذلك الرحمة (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي ، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء ، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة ، والإفضال والإحسان ، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [الإسراء : ٨٧].

قوله عز من قائل (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام. روي أنهم قالوا : ألا ترون إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت. وفي الآية مسائل :

الأولى : النسخ لغة هو الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته. والنقل أيضا وهو أن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه ، ومنه نسخت الكتاب ، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم. فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني ، وقيل بالعكس. وفي الاصطلاح : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعا لإباحته فإنه لا يسمى نسخا إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضا الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ونحوه ، بل يقتضيه العقل أيضا بخلاف الرفع بنحو «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإنه لا مجال للعقل فيه. ويخرج الرفع بنحو «صم إلى

٣٥٥

آخر الشهر» فإن «إلى» أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخا لأنه ليس متأخرا ، ويمكن أن يقال : إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك. ونحو «صم إلى كذا» وأمثاله من أنواع التخصيص متصلا كان أو منفصلا ، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف ، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام. ونعني بالحكم هاهنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلا عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث. وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعد ما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع. وأيضا نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولا وهو المعنى بالرفع ، ويحسن أيضا أن يقال : النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ ، فيخرج بقولنا «شرعي» بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية ، و «بطريق شرعي» يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله. وقولنا «متراخ» ليخرج التخصيص بالغاية. ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى ، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته ، ثم ورد الخطاب اللاحق بيانا لذلك.

المسألة الثانية : انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلا وعلى الوقوع شرعا ، وخالف اليهود في الجواز ، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز. لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة ، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ. وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق ، وهذا ما يدل على وقوعه ، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله. ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخا. حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر «هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض» وأيضا إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى ، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا

٣٥٦

يستتبع غاية. والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه‌السلام ، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحا عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولحاجوه بذلك ، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم. وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر ، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئا فشيئا بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات. فالظهور والخفاء والسابق واللاحق ، والإعدام والإيجاد ، كلها بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين. والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى ، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال ، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف ، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدما أحدهما ومتأخرا الآخر. وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث ، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية ، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطرا بعد سطر ، وكلمة تلو كلمة ، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه ، فالمنقضي في حكم المحو ، والتالي في حكم الإثبات ، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب ، وهذا سر قوله عز من قائل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر.

المسألة الثالثة : اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه : أحدها : هذه الآية أعني ما ننسخ من آية. وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية. وأيضا لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب. وأيضا إن ما هاهنا يفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك «من جاءك فأكرمه» لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها : الاعتداد

٣٥٧

بالحول في قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ)[البقرة : ٢٤٠] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا. ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلا بالكلية. وثالثها : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة : ١٢] منسوخة بالاتفاق ، أجاب بأنه زال لزوال سببه ، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين. ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقا وهو باطل ، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه‌السلام ، وبدليل (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣] ورابعها : الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] ثم نسخ ذلك بقوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] وخامسها : تحويل القبلة. قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر. ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء. وسادسها : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم. وكيفما كان فهو رفع ونسخ ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة. حجة أبي مسلم (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] والجواب أن الضمير للمجموع ، وأيضا نسخه بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآنا عربيا.

المسألة الرابعة : المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة ، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم وروي «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» ، أو الحكم والتلاوة معا كما روي عن عائشة «كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس». فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعا ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم. ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان.

ولنرجع إلى تفسير الآية (ما نَنْسَخْ) محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة ،

٣٥٨

أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعا. وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة ، أو يحتج به ، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها. قال عز من قائل (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ، ٧] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها ، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وقيل : ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط ، أو تلاوتها فقط ، أو نبدلهما ، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها ، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك. وقيل : ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة. ولا يخفى أن قوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي. ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن ، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر. وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم ، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات ، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] ومعنى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) إن حملنا الآية على ما يتضمن حكما على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة إلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته. فالثاني خير بالنسبة إلى وقته ، ومثل الأول بالنسبة إلى وقته ، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثوابا من العمل بالأول أو مساو له ، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثوابا ، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح. قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه ، وإن غصن استكمالهم أبدا ناضر ، ونجم وصالهم دائما زاهر ، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية ، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية. وأيضا إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام ، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة ، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال ، فقيل : ما ننسخ من آية من آيات المقامات ، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال ، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها. ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل : الأولى : زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى ، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا. سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم

٣٥٩

الصدقة بين يدي النجوى ، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل. سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيرا للمكلف لمصلحة علمت. الثانية : زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل ، لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله. وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل «أجرك على قدر نصبك» وأيضا قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتما ، وصوم عاشوراء برمضان ، والحبس في البيوت للزاني بالحد. وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة. الثالثة : عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان «ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه» يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وجنس القرآن قرآن. وأيضا (نَأْتِ) يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول. وأيضا المأتي به خير والسنة لا تكون خيرا من القرآن. وأيضا قوله (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته ، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى. وأجيب بأن قوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبا على الإتيان بذلك الخير لزم الدور. قلت : ويمكن دفع الدور بأن يقال : المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها. ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله «ألا لا وصية لوارث» وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم. أجاب الشافعي : بأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى «الشيخ والشيخة» إلخ.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح ، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ. والخطاب في (أَلَمْ تَعْلَمْ) إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتدخل الأمة تبعا ، أو لكل من له أهلية الخطاب. ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه. وقيل : إشارة إلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين ، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات ، ومن كشف

٣٦٠