تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ١

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧٩

ملائكتي أني قد غفرت لهم» ولا ضير أن نشير هاهنا إلى أعمال الحج إشارة خفيفة. اعلم أنه من دخل مكة محرما في ذي الحجة أو قبله فإن كان مفردا أو قارنا طاف طواف القدوم وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات ، وإن كان متمتعا طاف وسعى وحلق وتحلل من عمرته وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفات ، وحينئذ يحرم من جوف مكة بالحج ويخرج ، وكذلك من أراد الحج من أهل مكة. والسنة للإمام أن يخطب بمكة اليوم السابع من ذي الحجة بعد ما صلى الظهر خطبة واحدة يأمر الناس فيها بالذهاب غدا بعد أن يصلوا الصبح إلى منى ، ويعلمهم تلك الأعمال. ثم إن القوم يذهبون يوم التروية إلى منى بحيث يوافون الظهر بمنى ويصلون بها مع الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح من يوم عرفة ، ثم إذا طلعت الشمس على ثبير توجهوا إلى عرفات ، فإذا دنوا منها فالسنة أن لا يدخلوها بل تضرب قبة الإمام بنمرة. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث حتى طلعت الشمس ثم ركب وأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها. فإذا زالت الشمس خطب الإمام خطبتين يبين لهم مناسك الحج ويحرضهم على إكثار الدعاء والتهليل بالموقف ، وبعد الفراغ من الخطبة الأولى جلس ثم قام وافتتح الخطبة الثانية والمؤذنون يأخذون في الأذان معه. ويخفف بحيث يكون فراغه منها مع فراغ المؤذنين من الأذان ، ثم ينزل فيقيم المؤذنون فيصلي بهم الظهر ، ثم يقيمون في الحال فيصلي. بهم العصر ، وهذا الجمع متفق عليه. ثم بعد الفراغ من الصلاة يتوجهون إلى عرفات فيقفون عند الصخرات لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف هناك ، وإذا وقفوا استقبلوا القبلة ويذكرون الله تعالى ويدعونه إلى غروب الشمس. والوقوف ركن لا يدرك الحج إلا به ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحج عرفة» فمن فاته عرفة فقد فاته الحج. وقد يستدل بالآية أيضا على ذلك لأنها دلت على ذكر الله عند المشعر الحرام عقيب الإفاضة من عرفات. والإفاضة من عرفات لا تتصور إلا بعد الحصول بعرفات. وجمهور الفقهاء على أن الوقوف بالمشعر الحرام ليس بركن لأنه تعالى أمر بالذكر عنده ، فالوقوف به تبع لا أصل بخلاف الوقوف بعرفة لأنه جعله أصلا حيث لم يقل فإذا أفضتم عن الذكر بعرفات. ووقت الوقوف يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر وذلك نصف يوم وليلة كاملة ، وإذا حضر الحاج هناك في هذا الوقت لحظة واحدة من ليل أو نهار كفى. وقال أحمد : وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر. وإذا غربت الشمس دفع الإمام من عرفات وأخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة. قيل : سمي بها لأنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب. وقيل : لأن الناس يجتمعون بها ، والازدلاف الاجتماع. وقيل :

٥٦١

لأنهم يزدلفون إلى الله أي يتقربون بالوقوف فيها. ويقال : للمزدلفة جمع لأنه يجمع فيها بين صلاتي المغرب والعشاء عن قتادة : وقيل : لأن آدم عليه‌السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أي دنا منها. ثم إذا أتى الإمام المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين. ثم يبيتون بها فإن لم يبت بها فعليه دم شاة. فإذا طلع الفجر صلوا الصبح بغلس. والتغليس بالفجر هاهنا أشد استحبابا منه في غيرها وهو متفق عليه. فإذا صلوا الصبح أخذوا منها الحصى للرمي ، يأخذ كل إنسان سبعين حصاة ثم يذهبون إلى المشعر الحرام ، وهو جبل يقول له قزح فيرقى فوقه إن أمكنه أو وقف بالقرب منه إن أمكنه ، ويحمد الله ويهلله ويكبره ، ولا يزال كذلك حتى يسفر جدا ، ثم يدفع قبل طلع الشمس. ويكفي المرور كما في عرفة ثم يذهبون منه إلى وادي محسر ، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكبا يحرك دابته ، ومن كان ماشيا يسعى سعيا شديدا قدر رمية حجر. فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات ويقطع التلبية إذا رمى ، ثم بعد ما رمى جمرة العقبة ذبح الهدي إن كان معه هدي وذلك سنة لو تركه لا شيء عليه لأنه ربما لا يكون معه هدي. ثم بعد ما ذبح الهدي يحلق رأسه أو يقصر ، ثم بعد الحلق أتى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وهو الركن ويصلي ركعتي الطواف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم بعد ذلك يعود إلى منى في بقية يوم النحر ، وعليهم البيتوتة بمنى ليالي التشريق لأجل الرمي. واعلم أن من مكة إلى منى فرسخين ، ومن منى إلى عرفات فرسخين ، ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات منها إلى كل واحد منهما فرسخ ، ولا يقفون بها في سيرهم من منى إلى عرفات. والحاصل أن أعمال الحج يوم النحر إلى أن يعود إلى منى أربعة : رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والتقصير والطواف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة أيضا لأنهم يأتون من منى زائرين للبيت ويعودون في الحال. والترتيب في الأعمال الأربعة على النسق المذكور مسنون وليس بواجب. أما أنه مسنون فلأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك فعلها ، وأما أنه ليس بواجب فلما روي عن عبد الله بن عمرو قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال : يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي. قال : ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال : إني ذبحت قبل أن أرمي قال : ارم ولا حرج. وأتاه آخر فقال : إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج ، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج. وعن مالك وأحمد وأبي حنيفة أن الترتيب بينها واجب ولو تركه فعليه دم على تفصيل ليس هاهنا موضع بيانه. ثم إن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج من سنة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وذلك أن الحمس كانوا لا يقفون بعرفات ويقولون : لا نخرج من الحرم ولا

٥٦٢

نتركه في وقت الطاعة ، وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذين يقفون بمزدلفة إذا طلعت الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع للنحر. وقيل : أي ندفع من مزدلفة فندخل في غور الأرض. وثبير جبل هناك فأمر الله تعالى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخالفة القوم في الدفعتين فأمره بأن يفيض من عرفات بعد غروب الشمس. وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، فإن السنة أيضا من قبيل الوحي. قال الواحدي : المشعر الحرام هو المزدلفة سماه الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده. وقال في الكشاف : المشعر الحرام قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة ، أي : يوقد هناك النار في الجاهلية ، قال : وقيل المشعر الحرام ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام. قال : والصحيح أنه الجبل لما روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صلى الفجر ـ يعني بالمزدلفة ـ بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر. وقال : عند المشعر الحرام معناه مما يلي المشعر الحرام قريبا منه وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ، أو جعلت أعقاب المزدلفة لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر المعلم لأنه معلم لعبادته ووصف بالحرام لحرمته. وأما الذكر المأمور به هناك فقيل : هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء. والصلاة تسمى ذكرا قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] والدليل عليه أن (فَاذْكُرُوا) أمر فهو للوجوب ولا ذكر يجب هناك إلا هذا ، والجمهور على أن المراد ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل. عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون (كَما هَداكُمْ) «ما» مصدرية أو كافة. أطلق الأمر بالذكر أوّلا ثم قيده ثانيا. والمعنى : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة كي تكونوا شاكرين والهداية إما كل أنواع الهدايات أو الهداية إلى سنة إبراهيم في مناسك الحج ، أو اذكروا كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه بحسب الرأي والقياس ، فإن أسماء الله تعالى توقيفية أو الذكر الأول محمول على الذكر باللسان ، والثاني على الذكر بالقلب. أو المعنى اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته ، أو المراد بتثنية الأمر تكريره وتكثيره كقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب : ٤١] وعلى هذا فيكون قوله (كَما هَداكُمْ) متعلقا بالأمرين جميعا ، أو الذكر الأول مقيد بأنه عند المشعر الحرام والثاني مطلق يدل على وجوب ذكره في كل مكان وعلى كل حال. فالأول إقامة للوظيفة الشرعية والثاني ارتقاء إلى معارج

٥٦٣

الحقيقة وهو أن ينقطع القلب عن المشعر الحرام بل عن كل ما سواه من حلال وحرام. أو المراد بالأول الجمع بين الصلاتين هناك وبالثاني التسبيح والتحميد (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل الهدى ، أو من قبل الرسول ، أو من قبل إنزال الكتاب الذي بين فيه معالم دينكم (لَمِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. «وإن» هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية (ثُمَّ أَفِيضُوا) في هذه الإفاضة قولان : أحدهما أنه الإفاضة من عرفات وعلى هذا فالأكثرون قالوا : إنه أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس لأنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويتعللون بأن الحرم أشرف من غيره ، فالوقوف به أولى. وبأنهم أهل الله وقطان حرمه فلا يليق بحالهم أن يساووا الناس بالوقوف في الموقف ترفعا وكبرا. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جعل أبا بكر أميرا في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات. فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك؟ فلا تذهب. فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها وأمر سائر الناس بالوقوف بها. والحاصل ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس الواقفون بعرفات لا من المزدلفة ومعنى «ثم» التفاوت بين الإفاضتين وأن الإفاضة المأمور بها صواب والأخرى خطأ كما تقول «أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم» تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى كريم والإحسان إلى غيره ، وبهذا التحقيق لا يلزم عطف الشيء على نفسه. وصيرورة المعنى : فإذا أفضتم من عرفات فأفيضوا من عرفات ، ولا أن يقدر تقديم هذه الآية على ما قبلها في الوضع. ومن القائلين بأن المراد الإفاضة من عرفات من قال إنه أمر الناس جميعا. وقوله (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) المراد به إبراهيم عليه‌السلام وإسماعيل عليه‌السلام فإن من سنتهما ذلك. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ويخالف الحمس. وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيسا مقتدى به. (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] يعني نعيم بن مسعود إن الناس يعني أبا سفيان. ووجه ثالث وهو أن يكون قوله (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفات وأن ما عداه مبتدع كما يقال «هذا مما فعله الناس قديما». القول الثاني عن الضحاك أن المراد الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر ، وقوله (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني إبراهيم وإسماعيل ومتبعيهما فإن طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس فأمرهم الله تعالى بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة

٥٦٤

إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام. وأورد على هذا القول أن استعمال «حيث» للزمان قليل ، ويمكن أن يجاب بأن القرآن أولى ما يحتج به. وعن الزهري : أن الناس في هذه الآية آدم عليه‌السلام واحتج بقراءة سعيد بن جبير (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) بكسر السين اكتفاء من الياء بالكسرة من قوله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم ، وليكن الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب وهي أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم أن لا يقصر فيما بعده ابتغاء لمرضاة الله لا للمنافع العاجلة. والاستغفار بالحقيقة يجب على كل مكلف وإن لم يعلم من ظاهر حاله خطيئة فإن النقص لازم الإمكان ، والقصور من خصائص الإنسان وكيف لا وقد قالت الملائكة وإنهم أرفع حالا ما عبدناك حق عبادتك. وصورة الاستغفار على ما روى البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (١) ولو اقتصر على قوله «أستغفر الله» كفى. ولو زاد فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وأنت التواب الرحيم. أو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذا الجلال والإكرام. من كل ذنب أذنبته ومعصية ارتكبتها ، وأتوب إليه من الذنب الذي أعلم ومن الذي لا أعلم كان حسنا.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بناءان للمبالغة كما مر مرارا. واختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية. فمن قائل إنها عند الدفع من عرفات إلى جمع بناء على القول الأول في الإفاضة ، ومن قائل إنها عند الدفع من جمع إلى منى بناء على القول الآخر.

قوله عز من قائل (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ، أو من أعمال مناسككم إذ المناسك جمع المنسك. وأنه يحتمل أن يكون مصدرا وأن يكون اسم مكان. وعن مجاهد أن قضاء المناسك هو إراقة الدماء. عن ابن عباس : أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار وغرضهم الشهرة والترفع بمآثر سلفهم. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ٢ ، ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٥ النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٥٧. أحمد في مسنده (٤ / ١٢٢).

٥٦٥

يكون ذكرهم لربهم لا لآبائهم. ثم الفاء في قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ) تدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر فلهذا قيل : هو الذكر على الذبيحة ، وقيل : هو التكبيرات بعد الصلاة في أيام النحر والتشريق وقيل : هو الإقبال على الدعاء والاستغفار بعد الفراغ من الحج كالأدعية المأثورة عقيب الصلوات المكتوبة. وقيل : معناه فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية وقهرتم القوى الطبيعية وأمطتم الأذى من طريق السلوك ، فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله فإن التخلية ليست مقصودة بالذات ، وإنما الغرض منها التخلية بمواجب السعادات الباقيات ، فالأولى نفي والثاني إثبات. ومعنى (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء ، وأقيموا الثناء على الله مقام تعداد مفاخر الآباء فإنه إن كان كذبا أوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في العقبى ، وإن كان صدقا استتبع العجب والتباهي ، وإن كانوا يذكرون الآباء ليتوسلوا بذلك إلى إجابة الدعاء فالإقبال بالكلية على مولي النعماء أولى مع أن حسنات آبائهم محبطة لسبب إشراكهم. وعن الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم وذلك قول الصبي أول ما ينطق «أبه أبه أمه أمه» أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظبا على ذكر أبيه وأمه ، فاكتفي بالآباء عن الأمهات كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وقال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلا لدوام الذكر. والمعنى : كما أن الرجل لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله. وقال ابن الأنباري : العرب أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آباءكم. وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف بالآباء وقال «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (١) وقيل : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آباءكم بالوحدانية فإن الواحد منكم لو نسب إلى والدين تأذى منه واستنكف. وقيل : كما أن الطفل يرجع إلى أبيه في طلب المهمات وكفاية الملمات فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك. وعن ابن عباس معنى الآية أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء. وقوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله (كَذِكْرِكُمْ) كما تقول «كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا. وإما في موضع نصف عطفا على (آباءَكُمْ) بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم على أن (ذِكْراً) من فعل المذكور وهو الآباء لا فعل الذاكر وهو الأبناء ، فإن الذكر بل كل فعل معتد له اعتبارات اعتبار

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب ٢٦. أبو داود في كتاب الأيمان باب ٤. الترمذي في كتاب النذور باب ٩. النسائي في كتاب الأيمان باب ٤. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ٢. الدارمي في كتاب النذور باب ٦. الموطأ في كتاب النذور حديث ١٤.

٥٦٦

وقوعه على المفعول ، واعتبار صدوره عن الفاعل. وذلك الفعل بأحد الاعتبارين مغاير له بالاعتبار الآخر. وإنما لزم اعتبار الفعل هاهنا من جهة وقوعه على المفعول لأنّ الآباء المفضل عليهم المذكورون لا الذاكرون. ويحتمل أن يقال : المعنى فاذكروا الله ذكرا مثل ذكركم آباءكم أو أشد ذكرا. ولكن برد عليه أن أفعل إنما يضاف إلى ما بعده إذا كان من جنس ما قبله كقولك : «وجهك أحسن وجه» أي أحسن الوجوه. فإذا نصب ما بعده كان غير الذي قبله كقوله «زيد أفره عبدا». فالفراهة للعبد لا لزيد. والمذكور قبل (أَشَدَّ) هاهنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال «أشد ذكرا إنما قياسه أن يقال : الذكر أشد ذكر جرا إضافة. وفيه وجه نصبه على ما قال أبو علي أن يجعل الذكر ذاكرا مجازا. ويجوز نسبة الذكر إلى الذكر بأن يسمع إنسان الذكر فيذكر ، فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه وعلى جميع الوجوه. فمعنى «أو» هاهنا ليس هو التشكيك وإنما المراد به النقل عن الشيء إلى ما هو أقرب وأولى كقول رجل لغيره «افعل هذا إلى شهر أو أسرع منه». وإنما أمر الله تعالى أن يكون ذكره أشد لأن مفاخر آبائهم متناهية وصفاته الكمالية غير متناهية ، وتلك مشكوكة وهذه متيقنة ، وغاية الأول تضييع وحرمان ، ولازم الثاني نور وبرهان. ثم إنه تعالى بعد ما أمر بالعبادة تصفية للنفس وتخلية لها عن ظلمات الكبر والضلال وأمر عقيب ذلك بتنوير الباطن بنور الجلال والجمال بكثرة الاشتغال بذكر الكبير المتعال ، نبه على حسن طلب مزيد الإنعام والإفضال فذكر أن الناس فريقان : منهم من قصر دعاءه على طلب اللذات العاجلة ، ومنهم من أضاف إلى ذلك الطلب نعيم الآخرة وأهمل القسم الثالث وهو أن يكون دعاؤه مقصورا على طلب الآخرة تنبيها على أن ذلك غير مشروع ومن حقه أن لا يوجد ، فإن الإنسان خلق ضعيفا لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بعذاب النار. فالأولى به أن يستعيذ بربه من آفات الدنيا الآخرة. عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض فقال له : ما كنت تدعو الله به؟ قال : كنت أقول : اللهم إذا كنت تعاقبني به في الآخرة فعجلنيه في الدنيا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار؟ فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشفي. والإنصاف أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن أو على منبت شعرة واحدة عجز الإنسان عن الصبر عليه ، وقد يفضي ذلك به إلى الجزع ويعوقه عن اكتساب الكمالات ، ويحمله على إهمال وظائف الطاعات ، ومن ذا الذي يستغني عن إمداد الله إياه في دنياه وعقباه؟! ثم المقصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم؟ عن ابن عباس : أنهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وإماء وعبيدا. وذلك

٥٦٧

لإنكارهم البعث والمعاد. وعن أنس : كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدوّنا الظفر ، ويحكى عن أبي علي الدقاق أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله في الدنيا. طلب المأكول والمشروب وفي النار طلب المأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة وقال الآخرون. يحتمل أن يكونوا مسلمين وعوقبوا لأنهم سألوا الله في أعظم المواقف وأشرف المشاهد أخس البضائع وأدون المطالب المشبه تارة بكنيف وأخرى بأحقر من جناح بعوضة ، معرضين عن العيش الباقي والنعيم المقيم. وقوله (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) متروك المفعول الثاني لأنه كالمعلوم ، ويحتمل أن يكون من قولهم «فلان معط» أي موجد الإعطاء ، معناه اجعل إعطاءنا في الدنيا خاصة. واعلم أن مطامح النفس في الدنيا إحدى ثلاث خصال : روحانية هي تكميل القوة النظرية بالعلم وتتميم القوّة العملية بتحصيل الأخلاق الفاضلة ، وبدنية هي الصحة والجمال ، وخارجية هي الجاه والمال. وكل من لا يؤمن بالبعث فإنه لا يطلب فضيلة روحانية ولا جسمانية إلا لأجل الدنيا. فيطلب العلم لأجل الترفع على الأقران ويكتسب الأخلاق لتدبير الأمور المنزلية والمدنية. فلما قال عز من قائل (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي طلب نصيب حذف مفعول (آتِنا) لأن كل من ليس له في الآخرة طلب ، ولا لهمته إلى اقتناء السعادات الباقيات نزاع وطموح ، فمطلوبه عبث وسفه ووبال وضلال أي شيء فرضت علما وعملا روحانيا أو جسمانيا. اللهم اجعلنا ممن لا ينظر في أي شيء بنظر إلا إليك ، ولا يرغب في كل ما يرغب إلا لأجل ما لديك إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. ثم إنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أن هذا الفريق مجابة دعوتهم أولا. فقال طائفة من العلماء : إنهم ليسوا بأهل للإجابة ، لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح ولا يليق إلا بأولياء الله والمرتضين من عباده وقال آخرون قد يكون الإنسان مجابا لا كرامة واجتباء بل مكرا واستدراجا ويؤيده قوله سبحانه (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠] وعلى هذا يصح أن يقال في الآية إضمار أي يقول : ربنا آتنا في الدنيا فيؤتيه الله في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. لأن همته مقصورة على الدنيا. والحسنتان في دعاء الصالحين. أما في الدنيا فالصحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق وما أشبه ذلك حسنة (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة : ٥٠] (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة : ٥٢] قيل : إما النصرة وإما الشهادة. وأما في الآخرة فالفوز

٥٦٨

بالثواب والخلاص من العقاب ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. صرح بذلك في قوله (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) وهذه بالجملة كلمة جامعة لجميع خيرات الدنيا والآخرة. روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا : زدنا فأعادها قالوا : زدنا قال : فما تريدون سألت لكم خير الدنيا والآخرة. وعن علي رضي‌الله‌عنه الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء. وعذاب النار امرأة السوء. وقيل : الحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة ، وفي الآخرة التنعم بذكر الله والإنس به وبرؤيته. قلت : لا تلذذ في الدنيا والآخرة إلا بهذا.

الجسم مني للجليس مجالس

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وعن قتادة الحسنتان طلب العافية في الدارين. وعن الحسن : هي في الدنيا فهم كتاب الله ، وفي الآخرة الجنة. ومنشأ البحث مجيء الحسنة منكرة في حيز الإثبات ، فكل من المفسرين حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة عقلا أو شرعا. ويمكن أن يقال : التنوين للتعظيم أي حسنة وأي حسنة أو يريد حسنة توافق حال الداعي وحكمة المدعو ، وفيه من حسن الطلب ورعاية الطلب ورعاية الأدب ما ليس في التصريح به فإنه لا يكون إلا ما يشاء أو يريد حسنة ما وإن كانت قليلة ، فإن النظر إلى المنعم لا إلى الإنعام. قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل. (أُولئِكَ) الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ) وأي نصيب (مِمَّا كَسَبُوا) من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة. فمن للابتداء. ويحتمل التعليل أي من أجل ما كسبوا كقوله (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] والكسب ما يناله المرء بعمله ومنه يقال للأرباح «إنها كسب فلان» أولهم نصيب مما دعوا به يعطيهم بحسب مصالحهم في الدنيا واستحقاقهم في الآخرة وسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعا وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) السرعة نقيض البطء. والحساب مصدر كالمحاسبة وهو العدّ قال الزجاج : هو مأخوذ من قوله «حسبك كذا» أي كفاك. وذلك أن فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان. ومعنى كون الله محاسبا لخلقه قيل : إنه يعلمهم ما لهم وعليهم بأن يخلق العلم الضروري في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، أو بمقادير ما لهم من الثواب والعقاب. ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بماله وعليه ، فإطلاق الحساب

٥٦٩

على هذا الإعلام إطلاق اسم السبب على المسبب. عن ابن عباس أنه قال : لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ، ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم. وقيل : المحاسبة المجازاة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) [الطلاق : ٨] ووجه المجاز أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء. وقيل : إنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية ما لها من الثواب والعقاب. فمن قال : إن كلامه ليس بحرف ولا صوت قال : إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعا يسمع به كلامه القديم كما يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة. ومن قال : إنه صوت قال : إنه تعالى يخلق كلاما يسمعه كل مكلف. إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا يبلغ قوة ذلك الصوت مبلغا يمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذا هو المراد من كونه محاسبا لخلقه ، ومعنى كونه سريع الحساب أو قدرته تعالى متعلقة بجميع الممكنات من غير أن يفتقر في أحداث شيء إلى فكر وروية ومدة وعدّة ، ولذلك ورد في الخبر أنه يحاسب الخلق في مقدار حلب شاة ، وروي في لمحة. أو أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم لأنه قادر على أن يعطي مطالب جميع الخلائق في لحظة واحدة كما ورد في الدعاء المأثور «يا من لا يشغله سمع عن سمع» ، أو أن وقت جزائه وحسابه سريع يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد كقوله تعالى (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ) أي بالتكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار يكبر مع كل حصاة. وفيه دليل على وجوب الرمي لأن الأمر بالتكبير أمر بالذي يتوقف التكبير على حضوره ، وإنما اختير هذا النسق لأنهم ما كانوا منكرين للرمي وإنما كانوا يتركون ذكر الله تعالى عنده (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر : أولها يوم القر لأن الناس تستقر فيه بمنى. والثاني يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى. والثالث يوم النفر الثاني. عن عبد الرحمن بن معمر الديلي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مناديا ينادي الحج عرفة. من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وأيام منى ثلاثة من تعجل في يومين فلا إثم عليه واعلم أن التكبير المشروع في غير الصلاة وخطبة العيدين نوعان : مرسل ومقيد. فالمرسل هو الذي لا يتقيد ببعض الأحوال بل يؤتى به في المنازل والمساجد والطرق ليلا ونهارا كما مر في تفسير قوله تعالى (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] وذكرنا صورة التكبير هناك أيضا. ولا فرق في التكبير المرسل بين عيد الفطر والأضحى. وأما التكبير المقيد فأظهر الوجهين

٥٧٠

أنه لا يستحب في عيد الفطر لم ينقلوا ذلك عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أصحابه ، وإنما يستحب في الأضحى. وتقييده هو أن يؤتى به في أدبار الصلوات خاصة. واختلفوا في ابتدائه وانتهائه فقيل : من طهر يوم النحر إلى ما بعد طلوع الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبيرات على هذا في خمس عشرة صلاة وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال مالك والشافعي في أشهر أقواله ، وحجتهم أن الناس فيه تبع للحجاج وهم يبتدؤن التكبير عقيب الظهر يوم النحر إلى مضي خمس عشرة صلاة. فيكون آخرها صلاة الصبح من آخر أيام منى وذكرهم قبل ذلك التلبية. والقول الثاني للشافعي أنه يبتدأ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير في أعقاب ثماني عشرة صلاة. والقول الثالث أنه يبتدأ من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر ، فتكون التكبيرات بعد ثماني صلوات ، وهو قول علقمة والأسود والنخعي وأبي حنيفة. واعترض عليه بأن هذه التكبيرات تنسب إلى أيام التشريق ، فوجب أن يؤتى بها فيها. وإن انضم معها زمن آخر فلا أقل من أن تكون هي أغلب. والقول الرابع يبتدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة ويقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة ، وهو قول أكابر الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود رضي‌الله‌عنهم وقول الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحق والمزني من الفقهاء لما روى جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا وقال : الله أكبر. ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق ، ولأن هذا هو الأحوط فتكثير التكبير خير من تقليله. وعلى هذا القول إنما تكون التكبيرات مضافة إلى أيام التشريق لأنها أكثر تلك المدة. قال الجوهري : تشريق اللحم تقديده ، ومنه أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها في الشمس. وقيل : هو من قولهم «أشرق ثبير كيما نغير». وقيل : سميت بذلك لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس. وأما رمي أيام أيام التشريق فإنه يجب أن يرمي كل يوم بين الزوال والغروب بكل جمرة من الجمرات الثلاث بالترتيب مبتدئا من الجمرة الأولى من جانب المزدلفة ومختتما برمي جمرة العقبة وهي التي تلي مكة رميات سبعا في سبع دفعات لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك رماها. وقال : خذوا عني مناسككم. فجملة ما يرمي في الحج سبعون حصاة ، يرمي إلى جمرة العقبة يوم النحر سبع حصيات ، وإحدى وعشرون في كل يوم من أيام التشريق إلى الجمرات الثلاث إلى كل واحدة سبع تواتر النقل به قولا وفعلا ، ويكبر مع كل حصاة. وعلى الحجيج أن يبيتوا بمنى الليلتين الأوليين من ليالي التشريق ، فإذا رموا اليوم الثاني فمن أراد منهم أن ينفر قبل غروب الشمس فله ذلك ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة والرمي

٥٧١

من الغد وذلك قوله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي عجل أو استعجل (فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه أن يبيت الليلة الثالثة ويرمي يومها ، وبه قال أحمد ومالك والشافعي. وعند أبي حنيفة يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر ، فإذا طلع لزم التأخر إلى تمام الأيام الثلاثة وذلك قوله تعالى (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) قال في الكشاف : تعجل واستعجل يجيئان متعديين مثل تعجل الذهاب واستعجله ، ويجيئان مطاوعين بمعنى عجل وهذا أوفق لقوله (وَمَنْ تَأَخَّرَ) والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة. وعند الشافعي لا يجوز كسائر الأيام. وقد سئل هاهنا أن المتأخر قد استوفى ما عليه من العمل فكيف ورد في حقه (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وهذا إنما يقال في حق المقصر الذي يظن أنه قد رهقه آثام فيما أقدم عليه. فأجيب بأن الرخصة قد تكون عزيمة كالقصر عند أبي حنيفة والشيعة لا يجوز في السفر غيره ، فلمكان هذا الاحتمال رفع الحرج في الاستعجال والتأخر دلالة على أن الحاج مخير بين الأمرين ، أو بأن أهل الجاهلية كانوا فريقين : منهم من يجعل المتعجل آثما ، ومنهم من يجعل المتأخر آثما مخالفا لسنة الحج ، فبيّن الله تعالى أن لا إثم على واحد منهما. وقيل : إن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاثة. فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها فيها ثلاثة ، فمن نقص فلا إثم عليه ، ومن زاد على الثلاثة ولم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه. وقيل : إن الآية سيقت لبيان أن الحج مكفر للذنوب والآثام لا لبيان أن التعجل وتركه سيان كما أن الإنسان إذا تناول الترياق فالطبيب يقول له : الآن إذا تناولت السم فلا بأس ، وإن لم تتناول فلا بأس ، يريد أن الترياق دواء كامل في دفع المضار لا أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحدا. وقيل : إن جوار البيت مكروه عند كثير من العلماء لأن ذلك قد يفضي إلى نقص حشمة البيت ووقعه في قلبه وعينه فأمكن أن يختلج في قلب أحد أن التعجيل أفضل بناء على هذا المعنى ، ولما في التعجل من المسارعة إلى طواف الزيارة ، فبيّن تعالى أنه لا حرج في واحد منهما. وقال الواحدي : هذا من باب رعاية المقابلة والمشاكلة مثل (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] بل هاهنا أولى لأن المندوب يصدق عليه أنه لا إثم على صاحبه فيه ، وجزاء السيئة ليس بسيئة أصلا. وأما قوله تعالى (لِمَنِ اتَّقى) أي ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي كيلا يتخالج في قلبه إثم منهما فإن ذا التقوى متحرز من كل ما يريبه. وقيل : معناه أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقيا قبل حجه كقوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] أو لمن كان متقيا عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج. وقوله

٥٧٢

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما يستقبل فيه حث على ملازمة التقوى فيما بقي من عمره وتنبيه على مجانبة الاغترار بالحج السابق كما أن قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) توكيد للأمر بالتقوى وبعث على التشدد فيه لأن الحشر ـ وهو اسم يقع على ابتداء ـ خروج الناس من الأجداث إلى انتهاء الموقف يوجب تصوره ، لزوم سيرة الاتقاء عن ترك الواجبات وفعل المحظورات. والمراد من قوله (إِلَيْهِ) أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إليه ، ولا مستعان إلا هو (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].

التأويل : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) هي مدة الحياة الفانية ، وقيل إلى أربعين سنة ، ولهذا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد. نعم لو صدق طلبه قبل الأربعين وما أمكنه الوصول فقريب أن يحصل مقصوده بعد الأربعين ، ومن فاته الطلب في عنفوان شبابه إلى أن بلغ الأربعين فحري منه عليه الحيف إذ ضيع اللبن في الصيف ، لكنه يصلح للعبادة التي أجرها الجنة. (فَلا رَفَثَ) لا يميل إلى الدنيا وزينتها وليهجرها كالمحرم بعد الاغتسال بماء الإنابة يتزر بإزار التواضع والانكسار ، ويتردى برداء التذلل والافتقار. (وَلا فُسُوقَ) ولا خروج من الأوامر والنواهي بل لا يخرج من حكم الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) لا نزاع للسالك الصادق في طلب الوصول لا بالفروع ولا بالأصول فلا في مالها مع أحد يخاصم ولا في جاهها لأحد يزاحم ، فمن نازعه في شيء من ذلك يسلمها إليه ويسلم عليه (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وتزودوا لكل سالك زاد. فزاد أولي القشور كعك وسويق وهم الذين مقصدهم البيت ومقصودهم الجنة ، وزاد أولي الألباب التقوى وهم من مقصدهم ومقصودهم رب البيت. وتقوى أهل القشور مجانبة الزلات ومواظبة الطاعات ، وتقوى أولي الألباب مجانبة الصفات بالصفات والذات بالذات. فلما كان مقصودهم خير المقاصد كان زادهم خير الزاد (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً) مقام ابتغاء الفضل بمعنى الرحمة بترك الموجود وبذل المجهود وهو في سيره إلى عرفات ، ومقام ابتغائه بمعنى مواهب القربة ببذل الوجود عند الوقوف بعرفات ، لأن الحج عرفة وعرفة المعرفة ومقام ابتغائه بمعنى الرزق هو قبل سيره إلى عرفات. وقال جمع من المحققين : إنه بعد استكمال الحج الحقيقي لأنه لقوة عرفانه بالله لا تضره الدنيا بل يكون تصرفه فيها بالله في الله لله (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) يعني القلب الذي حرام عليه الاطمئنان بغير ذكر الله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي كما هدى قلوبكم يهدي نفوسكم كيلا تقع في خطر حب الدنيا. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ) قبل الوقوف بعرفات المعرفة (لَمِنَ الضَّالِّينَ) في طلب الدنيا وحظوظ النفس (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعنى محمدا وسائر الأنبياء والأولياء أي

٥٧٣

لتكن الإفاضة من عرفات المعرفة لأجل أداء الحقوق بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) لأجل إزالة غين المخالطة مع الخلق كقوله (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) إلى قوله (وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ١ ـ ٣] أي إذا وجدت هذا لا تخلو عن خط ما فاستغفره (فَإِذا قَضَيْتُمْ) مناسك الوصال وبلغتم مبلغ الرجال فلا تأمنوا مكر الله وواظبوا على الذكر (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) في صغركم للافتقار وفي كبركم للافتخار (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) لأنه يمكن الاستغناء من الأب ولا يمكن الاستغناء من الله (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأن أثر الطاعة وأثر المعصية تظهر في الحال على القلب (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هي أيام البداية والوسط والنهاية (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) وقف على الوسط ليكون من أهل الجنة (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ) إلى أن يصل يوم النهاية حتى يكون من أهل الله فذاك لمن اتقى الرجوع والوقوف ، والله ولي التوفيق وهو حسبي.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

القراآت : (مَرْضاتِ) بالإمالة والوقف بالهاء : علي. وكذلك يقف على (هَيْهاتَ) هيهاه وعلى (حَدائِقَ ذاتَ) ذاه وعلى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) اللاه وعلى (وَلاتَ حِينَ) ولاه ، وعلى (مَرْيَمَ ابْنَتَ) ابنه. وافق أبو عمر وفي (وَلاتَ حِينَ) بالهاء (السِّلْمِ) بفتح السين. أبو جعفر ونافع وابن كثير وعلي. الباقون : بالكسر. (وَالْمَلائِكَةُ) بالجر : يزيد عطفا على «ظلل» أو على «الغمام» أو للجوار وإن كان فاعل «يأتهم». الباقون : بالرفع (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) حيث كان بفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي وخلف وابن عامر وسهل ويعقوب. الباقون : بضم التاء وفتح الجيم.

الوقوف : (قَلْبِهِ) لا لأن الواو للحال (الْخِصامِ) ه (وَالنَّسْلَ) ط (الْفَسادَ) ط (جَهَنَّمُ) ط (الْمِهادُ) ه (مَرْضاتِ اللهِ) ط (بِالْعِبادِ) ه (كَافَّةً) ص لعطف الجملتين المتفقتين (الشَّيْطانِ) ط مع احتمال الجواز (مُبِينٌ) ه (حَكِيمٌ) ه (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ط (الْأُمُورُ) ه

٥٧٤

التفسير : لما آل أمر بيان الحج إلى تعديد فرق الناس بحسب أغراضهم في الدعاء ، ناسب أن يعطف على ذلك تقسيم آخر يعرف منه مطامح أنظار الناس على الإطلاق ليعرف أرباب النفاق. من أصحاب الوفاق. عن السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وهو حليف بني زهرة. أقبل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فأظهر له الإسلام وزعم أنه يحبه وقال : والله يعلم أني لصادق. فلما خرج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر. وقيل : إنه أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمدا ابن أختكم فإن يك كاذبا كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقا كنتم أسعد الناس به. فقالوا : نعم الرأي ما رأيت. ثم خنس بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمى بهذا السبب أخنس ـ وكان اسمه أبي بن شريق ـ فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعجبه. وعن ابن عباس والضحاك : أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك فبعث إليهم جماعة ، فلما كانوا ببعض الطريق ركب من الكفار سبعون راكبا فأحاطوا بهم فقتلوهم وصلبوهم ففيهم نزلت. وقوله بعد ذلك (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) إشارة إلى هؤلاء الشهداء. واختيار المحققين من المفسرين أنه لا يمتنع أن تكون الآية نازلة في الرجل ثم تكون عامة في أمثاله. فهذه الآية عامة في المنافقين ، فإن ألسنتهم تحلو لي وقلوبهم أمر من الصبر. والضمير في (يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) يعود إلى «من» ويحتمل أن يكون جمعا ولكنه أفرد نظرا إلى اللفظ. ومعنى يعجبك يروقك ويعظم في قلبك و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إما أن يتعلق بقوله أي يعجبك ما يقوله في باب الدنيا طلبا للمصالح العاجلة فقط كالأمان من القتل والأخذ من المغانم ، وإما أن يتعلق بيعجبك لأن قوله وحلو كلامه إنما يعجب السامع في الدنيا ولا يعجبه في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الهيبة والحيرة ، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام. والخطاب إما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل سامع. (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف ، وأن يكون بقوله «شهد الله على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام». (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) الألد الشديد الخصومة ، واللديدان جانبا الوادي. كأن كلا من المتخاصمين في جانب. ومنه اللدود وهو ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم. وإضافة الألد بمعنى «في» كقولهم «ثبت الغدر» و «قتيل الصف» أو جعل الخصام ألد على المبالغة نحو «جد جده». والخصام جمع خصم كصعاب في صعب. والمعنى : هو أشد الخصوم خصومة. والحاصل إنه جدل بالباطل شديد الفسوق في معصية الله عالم اللسان جاهل العمل ، وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق سعى في الأرض ليفسد فيها كما فعل بأولئك المسلمين من إحراق الزروع

٥٧٥

وعقر المواشي. وأصل السعي المشي بسرعة ، وقد يستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس. وقيل : لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة ، فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم ، وعلى هذا فيقع قوله (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) تفصيلا لما أجمله قوله (لِيُفْسِدَ) وقيل : إفساده هو إلقاء الشبه في عقائد المسلمين ، وعلى هذا فيكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى آخر. وهذا تفسير مناسب لأن كمال الإنسان بالعلم والعمل ونقصه بضدهما ، فيكون الإفساد إشارة إلى نقص قوّته النظرية والإهلاك عبارة عن فعل المنكرات وفيه نقصان قوّته العملية. وقيل : (وَإِذا تَوَلَّى) أي إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل. وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل. فالحرث الزرع ، والنسل الولد. ونسلت الناقة بولد كثير ، والتركيب يدل على الخروج. وقيل : إهلاك الحرث قتل النسوان (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٢٣] وإهلاك النسل إفناء الصبيان (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) قالت المعتزلة : معناه لا يريد الفساد. وفيه دليل على أنه يريد القبائح وإذا لم يردها لم يخلقها لأن الخلق لا يمكن إلا بالإرادة. ومنع من أن المحبة نفس الإرادة ، بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكره بالتعظيم. ثم الدليل الدال على أن لا مرجح لأحد جانبي كل ممكن على الآخر إلا الله وإلا انسد باب إثبات الصانع يدل على أن الكل بإرادته ومشيئته ، وقد مر تحقيق ذلك فيما سلف. واعلم أنه سبحانه حكى عن المنافق جملة من الأفعال الذميمة.أولها حسن كلامه في طلب الدنيا ، وثانيها استشهاده بالله كذبا وبهتانا ، وثالثها لحاجة في إبطال الحق وإثبات الباطل ، ورابعها سعيه في الأرض للإفساد ، وخامسها سعيه في إهلاك الحرث والنسل. فوقع قوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) جمله معترضة. ثم ذكر خصلة سادسة أشنع من الكل دالة على جهله المركب وخروجه عن أن يرجى منه خير وذلك مثله (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) في ارتكاب شيء من هذه المنهيات. والقائل إما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا خاصا أو عاما لجميع المكلفين فيدخل المنافق فيه ، وإما كل واعظ وناصح (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) من قولهم «أخذت فلانا بأن يفعل كذا» أي ألزمته ذلك وحملته عليه أي أخذته الغلبة والاستيلاء والأنفة وحمية الجاهلية أن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الالتفات إلى هذا الوعظ وعدم الإصغاء إليه ، أو من قوله «أخذته الحمى» أي لزمته ، و «أخذه الكبر» أي اعتراه ذلك والمعنى لزمته العزة الحاصلة بسبب الإثم الذي في قلبه ، وذلك الإثم هو الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) كافية هي جزاء له يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث لأنه مصدر. ورفعه على الخبرية أو على الابتداء إذا كان ما بعده

٥٧٦

معرفة ، أو على الابتداء فقط إن كان نكرة مثل «حسبك درهم». وعلى هذا تكون الإضافة معنوية البتة ، وعلى تقدير كونه خبر الوقوع المعرفة بعده تكون الإضافة لفظية أي فحسب وكاف له. قال يونس وأكثر النحويين : جهنم اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وفيها العلمية والتأنيث. وقال آخرون : إنه اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها. حكي عن رؤبة أنه قال : ركية جهنام بكسر الجيم والهاء أي بعيدة القعر. وقيل : اشتقاقها من الجهومة وهي الغلظ. ومنه رجل جهم الوجه أي غليظه. سميت بذلك لغلظ أمرها في العذاب والعقاب. (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ما يمهد لأجله فإن المعذب في النار يلقى على النار كما يوضع الشخص على الفراش. ويحتمل أن يكون مصدرا بمعنى التمهيد والتوطئة.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) الآية. قال سعيد بن المسيب : أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي. وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا. فلما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ربح البيع أبا يحيى وتلا الآية. وقيل : أخذ المشركون صهيبا فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم ، أمنكم كنت أم من غيركم. فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك. وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى. قال صهيب : وبيعك. أفلا تخبرني ما ذاك؟ فقال : نزلت فيك كذا وقرأ الآية. عن الحسن : نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل. وقيل : نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية فقال عمر : إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. وقيل : نزلت في علي رضي‌الله‌عنه بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة خروجه إلى الغار. ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ. من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. ثم إن الآية تدل على أن هاهنا مبايعة ، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع. ومعنى يشري يبيع (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) [يوسف : ٢٠] والله هو المشتري (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن. وقيل : يحتمل أن يراد بالشراء هاهنا الاشتراء وذلك أن من أقدم

٥٧٧

على الكفر والمعاصي. فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقا للنار ، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه ، والمؤمن يبذل أنفاسا معدودة ويشتري بها نفسه ، لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا ، وهذا كقول عيسى عليه‌السلام (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١] وقوله عز من قائل لنبيه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] و (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية. وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوبا بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالا وكده وبالا. (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل ، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] ومن رأفته أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه ، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلا منه وامتنانا ورحمة وإحسانا.

قوله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أصل السلم بالكسر ، والفتح الاستسلام والطاعة. ويطلق أيضا على الصلح وترك الحرب والمنازعة. وهو أيضا راجع إلى هذا وإنه يذكر ويؤنث. واختلف في المخاطبين فقيل : أمر للمسلمين بما يضاد حال المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا بالألسنة والقلوب دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من أيامكم ولا تخرجوا منه ولا من شيء من شرائعه. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أهل الغواية ، والكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجا منها لا يمتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالا بعد حال. ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال ، فلا يبعد أن يأمرهم الله بالدخول في الإسلام فيما يستأنف من الزمان. أو أمرهم بأن يكونوا مجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه. ولا تتبعوا آثار الشيطان بالإقبال على الدنيا والجبن والخور في أمر الدين مثل (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال : ٤٦] أو يكون المراد بالدخول في السلم ترك الذنوب والمعاصي ، فإن من مذهبنا أن الإيمان باق مع الذنب والعصيان ، أو يكون المراد الرضا بالقضاء والتلقي لجميع المكاره بالبشر والطلاقة كما ورد في الخبر «الرضا بالقضاء باب الله الأعظم»أو يكون المراد ترك الانتقام وسلوك طريق العفو والإغماض (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وقوله : (كَافَّةً) يصلح أن يكون حالا من المأمورين أي ادخلوا بأجمعكم في السلم ولا تتفرقوا ولا تختلفوا وأن يكون حالا من السلم على أنها

٥٧٨

مؤنث كالحرب أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها وأصل الكف المنع فسمي الجميع كافة لأن الاجتماع بمنع التفرق والشذوذ. ورجل مكفوف أي كف بصره من أن ينظر. وكفة القميص لأنها تمنع الثوب من الانتشار. والكف طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن. وقيل : الخطاب للمنافقين والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ولا تتبعوا آثار تزيين الشيطان وتسويله بالإقامة على النفاق. وقيل : نزلت في مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه حين أرادوا أن يقيموا على بعض شرائع موسى كتعظيم السبت وقراءة التوراة واستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فأمروا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة لثبوت نسخها بالكلية ، فإن التمسك بها بعد تبين نسخها من اتباع آثار الشيطان ، وقيل : السلم الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم كملوا طاعتكم بالإيمان بجميع أنبيائه وكتبه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) عن أبي مسلم أن المبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، ولا يخفى أنه أعرب عن عداوته لآدم ونسله. وقيل : مبين من الإبانة القطع وذلك أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. قوله (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) المخاطبون هاهنا هم المخاطبون في قوله (ادْخُلُوا) فيجيء الخلاف هاهنا بحسب الخلاف هناك. والمعنى العام : فإن دحضت أقدامكم وانحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الدلائل العقلية والسمعية على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام منكم وهذه نهاية في الوعيد كما لو قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وبشدّة سطوتي. كان أبلغ في الزجر من التصريح بضرب من ضروب العذاب. وكما أن قوله (عَزِيزٌ) يشتمل على الوعيد البليغ فقوله (حَكِيمٌ) يشتمل على الوعد الحسن. فإن اللائق بالحكمة تمييز المحسن من المسيء وأن لا يسوّي بينهما في الثواب والعقاب. روي أن قارئا قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا. الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه يكون إغراء عليه. قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) الآية معنى النظر هاهنا الانتظار. وأما إتيان الله فقد أجمع المفسرون على أنه سبحانه منزه عن المجيء والذهاب لأن هذا من شأن المحدثات والمركبات وأنه تعالى أزلي فرد في ذاته وصفاته فذكروا في الآية وجهين :

الأول : وهو مذهب السلف الصالح السكوت في مثل هذه الألفاظ عن التأويل وتفويضه إلى مراد الله تعالى كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على أربعة

٥٧٩

أوجه : وجه لا يعذر أحد بجهالته ، ووجه يعرفه العلماء ويفسرونه ، ووجه يعرف من قبل العربية فقط ، ووجه لا يعلمه إلا الله.

الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين : أنه لا بد من التأويل على سبيل التفصيل. فقيل : جعل مجيء الآيات مجيئا له تفخيما لها كما يقال «جاء الملك» إذا جاء جيش عظيم من جهته. وقيل : المراد إتيان أمره وبأسه فحذف المضاف بدليل قوله في موضع آخر (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] (جاءَهُمْ بَأْسُنا) وأيضا اللام في قوله (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تدل على معهود سابق وما ذاك إلا الذي أضمرناه. لا يقال أمر الله عندكم صفة قديمة فالإتيان عليها محال. وعند المعتزلة أصوات فتكون أعراضا. فالإتيان عليها أيضا محال لأنا نقول : الأمر قد يطلق على الفعل (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٤] وحينئذ فالمراد ما يليق بتلك المواقف من الأهوال وإظهار الآيات المهيبة. وإن حملنا الأمر على ضد النهي فلا يبعد أن مناديا ينادي يوم القيامة ألا إن الله يأمركم بكذا. ومعنى كونه في ظلل من الغمام أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في آن واحد ، أو يكون المراد حصول أصوات مقطعة مخصوصة في تلك الغمامات تدل على حكم الله تعالى على أحد بما يليق به من السعادة والشقاوة ، أو أنه تعالى يخلق نقوشا منظومة في ظلل من الغمام لشدة بياضها. وسواد تلك الكتابة يعرف بها حال أهل الموقف في الوعد والوعيد ، وتكون فائدة الظلل أنه تعالى جعلها أمارة لما يريد إنزاله بالقوم ليعلموا أن الأمر قد حضر. وقيل : المأتي به محذوف والمعنى إلا أن يأتيهم الله ببأسه أو بنقمته الدالة عليه بقوله (عَزِيزٌ). وفائدة الحذف كونه أبلغ في الوعيد لانقسام خواطرهم وذهاب فكرتهم في كل وجه. وقيل : إن «في» بمعنى الباء أي يأتيهم الله بظلل من الغمام ، والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة. وقيل : الغرض من ذكر إتيان الله تصوير غاية الهيبة ونهاية الفزع كقوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ولا قبض ولا طي ولا يمين وإنما الغرض تصوير عظمة شأنه. وقيل : بناء علي أن الخطاب في ادخلوا وزللتم لليهود المراد أنهم لا يقبلون دين الحق إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وذلك أن اليهود كانوا على اعتقاد التشبيه ويجوّزون المجيء والذهاب على الله تعالى ويقولون : إنه تعالى تجلى لموسى عليه‌السلام على الطور في ظلل من الغمام ، فطلبوا مثل ذلك في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فعلى هذا يكون الكلام حكاية عن معتقد اليهود ولا يبقى إشكال فإن الآية لا تدل إلا على أن قوما ينتظرون إتيان الله وليس فيها دلالة على أنهم محقون في ذلك الانتظار أم مبطلون. والظلل جمع ظلة وهي ما أظلك

٥٨٠