زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

والهباء ما يخرج من الكوّة مع شعاع الشمس ، شبيه بالغبار. من الهبوة ، وهي الغبار. وفي أمثالهم : أقلّ من الهباء و «منثورا» صفة للهباء. شبّه أوّلا عملهم المحبط بالهباء في حقارته وعدم نفعه. ثمّ بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه ، بل ذهب كلّ مذهب. ونحوه قوله : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (١) ، فإنّه لم يكف أن شبّههم بالعصف حتّى جعله مؤوفا بالأكال. أو مفعول ثالث لـ «جعلناه» أي : فجعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، كقوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢). أي : جامعين للمسخ والخسء (٣).

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

ثمّ ذكر سبحانه فضل أهل الجنّة على أهل النار ، فقال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) الفيل : ٥.

(٢) البقرة : ٦٥.

(٣) خسأ يخسأ خسأ : طرد وأبعد.

٥٦١

خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) مكانا يستقرّون فيه في أكثر أوقاتهم للتجالس والتحادث (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مكانا يأوون إليه للاسترواح بأزواجهم والتمتّع بهنّ. تجوّزا له من مكان القيلولة ، على التشبيه بالمترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب ، إذا لا نوم في الجنّة. وإنّما سمّي مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. وفي لفظ الأحسن رمز إلى ما يتزيّن به مقيلهم ، من حسن الوجوه وملاحة الصور ، إلى غير ذلك من التحاسين والزين.

ويحتمل أن يراد بهما المصدر أو الزمان ، إشارة إلى أنّ مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيّل من الأمكنة والأزمنة. والتفضيل إمّا لإرادة الزيادة مطلقا ، أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا.

وقال ابن عبّاس وابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة ، وأهل النار في النار. وفي معناه قوله عزوجل : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) (١).

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ) أصله : تتشقّق ، فحذفت التاء. وأدغمها ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب. (بِالْغَمامِ) بسبب طلوع الغمام منها. وهو الغمام المذكور في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٢). والمعنى : أنّ السماء تنفتح بغمام يخرج منها. وقيل : هو غمام أبيض دقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم.

(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) في ذلك الغمام إلى الأرض بصحائف أعمال العباد. وقرأ ابن كثير : وننزل الملائكة.

قال ابن عبّاس : تتشقّق السماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممّن في الأرض من

__________________

(١) يس : ٥٥

(٢) البقرة : ٢١٠.

٥٦٢

الجنّ والإنس. ثمّ تتشقّق السماء الثانية فينزل أهلها ، وهم أكثر ممّن في السماء الدنيا ، ومن الجنّ والإنس. ثمّ كذلك حتّى تتشقّق السماء السابعة. وأهل كلّ سماء يزيدون على أهل السماء الّتي قبلها.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) الثابت له ، لأنّ كلّ ملك يبطل يومئذ ، ولا يبقى إلّا ملكه. فهو خبر الملك ، و «للرحمن» صلته ، و «يومئذ» معمول «الملك» لا «الحقّ» لأنّه متأخّر. أو صفته ، والخبر «يومئذ» أو «للرحمن».

(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) شديدا. ويهون على المؤمنين ، كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا. وفي هذا بشارة للمؤمنين ، حيث خصّ تشدّد ذلك اليوم بالكافرين.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) من فرط الحسرة. وعضّ اليدين والأنامل ، والسقوط في اليد ، وأكل البنان ، وحرق الأسنان ونحوها ، كنايات عن الغيظ والحسرة ، لأنّها من روادفها ، فيذكر الرادفة ويدلّ بها على المردوف ، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنّي عنه. والمراد بالظالم الجنس.

وقيل : نزلت في عقبة بن أبي معيط بن أميّة بن عبد شمس ، كان يكثر مجالسة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقدم من سفره ذات يوم ، فصنع طعاما ودعا الناس إلى ضيافته ، فدعا إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى أن يأكل طعامه حتّى ينطق بالشهادتين ، ففعل.

وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه ، فقال : صبأت يا عقبة؟

فقال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي ، فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي.

فقال : لا أرضى منك إلّا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف. فأسر يوم بدر ،

٥٦٣

فأمر عليّا عليه‌السلام بقتله. وطعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبيّا بأحد في المبارزة ، فرجع إلى مكّة ومات.

قال الضحّاك : لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد بزاقه في وجهه ، فأحرق خدّيه ، وكان أثر ذلك فيه حتّى قتل.

(يَقُولُ) يوم البعث (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي : تمنّى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا ، وهو طريق الحقّ الموصل إلى النجاة ، ولم يتشعّب به طرق الضلالة والهوى.

(يا وَيْلَتى) أي : ينادي ويلته ـ وهي هلكته ـ ويقول لها : تعالي فهذا أوانك (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني : من أضلّه. وفلان كناية عن الأعلام ، كما أن ألهن كناية عن الأجناس.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) عن ذكر الله ، أو كتابه ، أو موعظة الرسول ، أو كلمة الشهادة (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) وتمكّنت منه (وَكانَ الشَّيْطانُ) يعني : الخليل المضلّ. سمّاه شيطانا لأنّه أضلّه كما يضلّ الشيطان ، ثمّ خذله ولم ينفعه في العاقبة. أو أراد إبليس ، لأنّه حمله على مخالّته ومخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أو كلّ من تشيطن من جنّ وإنس.

(لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يواليه حتّى يؤدّيه إلى الهلاك ، ثمّ يتركه مخذولا ولا ينفعه. فعول من الخذلان.

وهذه الجملة الفعليّة يحتمل أن تكون حكاية كلام الظالم ، وأن تكون كلام الله.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١))

٥٦٤

(وَقالَ الرَّسُولُ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ ، أو في الدنيا بثّا إلى الله (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) قريشا (اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) بأن تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ، ولم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلّقا به ، يقول : يا ربّ العالمين عبدك هذا اتّخذني مهجورا ، اقض بيني وبينه».

وقيل : هو من : هجر إذا هذى ، أي : جعلوه مهجورا فيه ، فحذف الجارّ.

وهو على وجهين :

أحدهما : زعمهم أنّه هذيان وباطل وأساطير الأوّلين.

والثاني : أنّهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه ، كقوله : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (١).

ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر ، كالمعقول. والمعنى : اتّخذوه هجرا.

وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية ، وتخويف لقومه ، لأنّ الأنبياء صلّى الله عليهم إذا شكوا إلى الله قومهم عجّل لهم العذاب ولم ينظروا.

ثمّ سلّى سبحانه رسوله ، ووعده النصرة عليهم ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) كما جعلناه لك ، فاصبر كما صبروا. والعدوّ يحتمل الواحد والجمع ، كقوله : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (٢).

وملخّص المعنى : أنّ الله سبحانه أمر الأنبياء أن يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ، وترك ما ألفوه من دينهم ودين آبائهم ، وإلى ترك عبادة الأصنام وذمّها ، وكانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة ، فإذا أمرهم بها فقد جعلهم عدوّا لهم.

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) إلى طريق قهرهم والانتصار منهم (وَنَصِيراً) لك عليهم.

__________________

(١) فصّلت : ٢٦.

(٢) الشعراء : ٧٧.

٥٦٥

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أي : أنزل ، كخبّر بمعنى : أخبر ، لئلّا يناقض قوله : (جُمْلَةً واحِدَةً) دفعة واحدة ، كالكتب الثلاثة.

وهذا أيضا من اعتراضاتهم واقتراحاتهم على شرادهم عن الحقّ ، وتجافيهم عن اتّباعه. ولا طائل تحته ، لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرّقا. وهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه ، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السّور ، فأبرزوا صفحة عجزهم حين لاذوا بالمناصبة والمنازعة ، وفزعوا إلى المحاربة. فاقتراحهم إنزاله جملة واحدة محض شراد وعناد.

مع أنّ للتفريق فوائد. منها : ما أشار إليه بقوله : (كَذلِكَ) صفة مصدر محذوف.

والإشارة إلى ما فهم من قولهم ، فإنّ قولهم : لو لا أنزل عليه جملة ، معناه : لم أنزل مفرّقا؟ فيكون المعنى : كذلك أنزلناه إنزالا كذلك ، أي : أنزلناه على التفريق.

(لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لنقوّي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه ، لأنّ حاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخالف حال عيسى وموسى وداود عليهم‌السلام ، حيث كان أمّيّا وكانوا يكتبون ، فلو ألقي إليه جملة لدهش بحفظه ، فلم يكن له بدّ من التلقّن والتحفّظ على وجه النجوم. ولأنّ فيه مزيد بصيرة وغوص في المعنى. ولأنّ نزوله على حسب الوقائع وجوابات السائلين. ولأنّه إذا نزّل منجّما وهو يتحدّى بكلّ نجم ، فيعجزون عن معارضته ، وزاد ذلك قوّة قلبه. ولأنّه إذا نزّل به جبرائيل حالا بعد حال يثبت به فؤاده. ولأنّ فيه معرفة الناسخ والمنسوخ. وغير ذلك من الفوائد.

٥٦٦

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) معطوف على الفعل الّذي تعلّق به «كذلك». كأنّه قال : كذلك فرقناه ورتّلناه ترتيلا ، أي : قرأناه عليك شيئا فشيئا على تؤده وتمهّل ، في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين سنة. وأصله : الترتيل في الأسنان ، وهو تفليجها (١). يقال : ثغر مرتّل ورتل.

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا ابن عبّاس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا. قال : وما الترتيل؟ قال : بيّنه تبيينا ، ولا تنثره نثر الدقل (٢) ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ـ كأنّه مثل في البطلان ـ يريدون به القدح في نبوّتك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أتيناك نحن بالجواب الحقّ الّذي لا محيد لهم عنه ، الدافع لسؤالهم (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وبما هو أحسن معنى من سؤالهم.

ولمّا كان التفسير هو التكشيف عمّا يدلّ عليه الكلام ، وضع موضع : معناه ، فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت ، كما قيل : معناه كذا وكذا.

أو لا يأتونك بحال عجيبة يقولون : هلّا كانت هذه صفتك وحالك ، من مقارنة ملك بك ينذر معك ، وإلقاء كنز إليك ، أو كون الجنّة لك ، أو إنزال القرآن عليك جملة ، إلّا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحقّ لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه ، وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه. ولهذا ينزّل عليك القرآن منجّما ، لأنّ تنزيله مفرّقا ، وتحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلّما نزل شيء منها ، أدخل في الإعجاز ، وأنور للحجّة من أن ينزّل كلّه جملة.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي : مقلوبين ، أو مسحوبين عليها.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدوابّ ، وصنف على الأقدام ، وصنف على الوجوه».

وهو ذمّ مرفوع أو منصوب. أو مبتدأ خبره (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)

__________________

(١) المفلّجة من الأسنان : المنفرجة.

(٢) الدقل : أردأ التمر. والهذّ : سرعة القراءة.

٥٦٧

والمفضّل عليه هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على طريقة قوله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (١). كأنّه قيل : إنّما يحملهم على هذه السؤالات أنّهم يضلّلون سبيله ، ويحتقرون مكانه ومنزلته ، وإذا سحبوا على وجوههم إلى جهنّم علموا أنّ مكانهم شرّ من مكانه ، وسبيلهم أضلّ من سبيله.

وقيل : إنّه متّصل بقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) (٢). ووصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

أورد البخاري في الصحيح عن أنس : «أنّ رجلا قال : يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : إن الّذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (٣).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩))

ثمّ ذكر حديث الأنبياء وأممهم تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى

__________________

(١) المائدة : ٦٠.

(٢) الفرقان : ٢٤.

(٣) صحيح البخاري ٦ : ١٣٧.

٥٦٨

الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) يوازره ، أي : معينا يعينه في الدعوة وإعلاء الكلمة. والوزارة لا تنافي النبوّة ، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ، ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) يعني : فرعون وقومه (بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي : فذهبا إليهم فكذّبوهما فدمّرناهم ، أي : فأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة.

فاقتصر على حاشيتي القصّة اكتفاء بما هو المقصود منها ، وهو إلزام الحجّة ببعثة الرّسل ، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. ومثله قوله تعالى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (١) أي : فضرب فانفلق.

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) كذّبوا نوحا ومن قبله من الرسل صريحا. أو نوحا وحده ، ولكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع. أو كذّبوا بعثة الرسل مطلقا ، كالبراهمة. (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان (وَجَعَلْناهُمْ) وجعلنا إغراقهم ، أو قصّتهم (لِلنَّاسِ آيَةً) عبرة (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي : لجميع الظلمة من أمم الأنبياء. أو لجميع قوم نوح ، فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر ، تظليما لهم.

(وَعاداً وَثَمُودَ) عطف على «هم» في «جعلناهم» (وَأَصْحابَ الرَّسِ) قوم كانوا عبدة الأصنام ، وأصحاب آبار ومواش ، ولهم بئر غير مطويّة يسكنون عليها ، ويعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم وفي إبذائه ، فانهارت البئر ، فخسف بهم وبديارهم.

وقيل : الرّسّ قرية بفلج اليمامة ، كان فيها بقايا ثمود ، فبعث إليهم نبيّ فقتلوه فهلكوا.

وعن الصادق عليه‌السلام : «إنّ نساءهم كنّ سحّاقات».

وقيل : هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبيّ ، ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من

__________________

(١) الشعراء : ٦٣.

٥٦٩

كلّ لون ، وسمّوها عنقاء لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم الّذي يقال له : فتح أو دمح ، وتنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد ، ولذلك سمّيت مغربا. فدعا عليها حنظلة ، فأصابتها الصاعقة. ثمّ إنّهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.

وقيل : هم أصحاب الأخدود. والرسّ : هو الأخدود (١). وقيل : الرسّ بأنطاكية ، قتلوا فيها حبيبا النجّار. وقيل : قوم كذّبوا نبيّهم ، ورسّوه في بئر ، أي : دسّوه فيها.

(وَقُرُوناً) وأهل أعصار. وقيل : القرن أربعون سنة. وقيل : سبعون. وقيل : مائة وعشرون. (بَيْنَ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر ، فإنّه قد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ، ثمّ يشير إليها بذلك ، أي : ذلك المذكور. وكذا يحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ، ثمّ يقول : فذلك كيت وكيت. على معنى : فذلك المحسوب أو المعدود. (كَثِيراً) لا يعلمها إلّا الله.

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) بيّنّا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين ، ووصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء إنذارا وإعذارا ، فلمّا أصرّوا أهلكوا ، كما قال عزّ اسمه : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) فتتناه تفتيتا. ومنه : التبر لفتات الذهب والفضّة والزجاج.

و «كلّا» الأوّل منصوب بما دلّ عليه «ضربنا» ، وهو : أنذرنا. والثاني بـ «تبّرنا» لأنّه فارغ له ، بخلاف الأوّل.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢))

__________________

(١) الأخدود : الحفرة المستطيلة.

٥٧٠

(وَلَقَدْ أَتَوْا) يعني : قريشا مرّوا مرارا في متاجرهم إلى الشام (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني : سدوم عظمى قرى قوم لوط. وكانت خمسا ، أهلك الله أربعا بأهلها ، وبقيت واحدة أمطرت عليها الحجارة.

(أَفَلَمْ يَكُونُوا) في مرار مرورهم (يَرَوْنَها) ينظرون إليها ، فيتّعظون بما يشاهدون فيها من آثار عذاب الله (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) بل كانوا كفرة لا يتوقّعون نشورا ولا عاقبة ، فلذلك لم ينظروا ولم يتّعظوا ، فمرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب. أو لا يخافونه ، على اللغة التهاميّة.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ما يتّخذونك إلّا موضع هزؤ ، أو مهزوءا به.

يعني : يستهزؤن بك. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) محكيّ بعد قول مضمر ، أي : يقولون : أهذا. والهمزة والاشارة للإنكار والاستحقار. وإخراج بعث الله رسولا في معرض التسليم والإقرار ، وهم على غاية الإنكار ، تهكّم واستهزاء. ولو لاه لقالوا : هذا الّذي زعم أنّه بعثه الله رسولا.

(إِنْ كادَ) إنّه كاد (لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) ليصرفنا عن عبادتها ، بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد ، وكثرة ما يوردها ممّا يسبق إلى الذهن بأنّها حجج ومعجزات (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها لأزالنا عن ذلك.

وحذف الجواب لدلالة الكلام السابق عليه. فـ «لو لا» جار من حيث المعنى ـ لا من حيث اللفظ ـ مجرى التقييد للحكم المطلق ، لأنّ صناعة النحو تقتضي أنّ كلمات الشرط تأتي بعدها جملتان : شرط وجزاء. وقد يأتي في بعض المواضع الّذي يراد به تقييد الجملة المتقدّمة محذوفا جوابها ، فيقيّد بها الجملة المذكورة قبلها ، ويكون جوابها محذوفا. وكما تكون كلمات الشرط بهذه الحيثيّة ، فكذلك «لو لا» ، فإنّ حكمها حكم كلمات الشرط في اقتضاء الجملتين ، وتقدير الربط بينهما.

روي : أنّ هذا من قول أبي جهل لعنه الله. فقال سبحانه متوعّدا عليه : (وَسَوْفَ

٥٧١

يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من أخطأ طريقا عن الهدى ، أنتم أم المؤمنون؟ وهو كالجواب لقولهم : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) ، فإنّه يفيد نفي ما يلزمه ويكون الموجب له. وفيه وعيد ودلالة على أنّه لا يهملهم وإن أمهلهم.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

روي : أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ يعبد الآخر ، ومنهم الحرث بن قيس السهمي ، فعجّب الله سبحانه نبيّه من نهاية جهلهم ، فقال : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) بأن أطاعه وبنى عليه دينه ، ويتّبعه في كلّ ما يأتي ويذر ، لا يسمع حجّة ، ولا يتبصّر دليلا ، ولا يصغي إلى برهان. وإنّما قدّم المفعول الثاني للعناية به ، كما تقول : علمت منطلقا زيدا ، لفرط عنايتك بالمنطلق.

(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حفيظا قادرا على أن تمنعه عن الشرك والمعاصي.

والاستفهام الأوّل للتقرير والتعجيب. والثاني للإنكار ، أي : كيف تستطيع أن تدعو من لا يرى معبوده إلّا الهوى إلى الهدى ، وتجبره على الإسلام؟ وتسمية الحفيظ بالوكيل ، لأنّ الوكيل هو الكافي للشيء ، ولا يكون كذلك إلّا وهو قادر عليه.

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أَمْ تَحْسَبُ) بل تظنّ (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) ما تقوله سماع طالب للإفهام (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقوله لهم ، وتقرأه عليهم ، فتجدي لهم الآيات أو الحجج ، فتهتمّ بشأنهم ، وتطمع في إيمانهم. وهذا أشدّ ندامة ممّا قبله ، حتّى حقّ بالإضراب عنه إليه. وتخصيص الأكثر لأنّه كان منهم من آمن ، ومنهم من عقل الحقّ وكابر استكبارا وخوفا على الرئاسة.

ثمّ شبّههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم ، وعدم تدبّرهم فيما

٥٧٢

شاهدوا من الدلائل والمعجزات ، فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي : ما هم إلّا كالبهائم الّتي تسمع النداء ولا تعقل.

ثمّ جعلهم أضلّ منها ، فقال : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام ، لأنّها تنقاد لمن يتعهّدها ، وتميّز من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتتجنّب ما يضرّها. وهم لا ينقادون لربّهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان الّذي هو أعدى أعدائهم ، ولا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع ، ولا يتّقون العقاب الّذي هو أشدّ المضارّ والمهالك. ولأنّها إن لم تعتقد حقّا ، ولم تكتسب خيرا ، لم تعتقد باطلا ، ولم تكتسب شرّا ، بخلاف هؤلاء. ولأنّ جهالتها لا تضرّ بأحد ، وجهالة هؤلاء تؤدّي إلى هيج الفتن ، وصدّ الناس عن الحقّ. ولأنّها غير متمكّنة من طلب الكمال ، فلا تقصير منها ولا ذمّ. وهؤلاء مقصّرون ومستحقّون أعظم العقاب على تقصير هم ، فبينهما بون بعيد.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

٥٧٣

ثمّ نبّه سبحانه على النظر فيما يدلّ على وحدانيّته وكمال قدرته بطريق آخر ، ليستوفي الإلزام عليهم ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) ألم تنظر إلى صنعه وقدرته (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) كيف جعله منبسطا ممتدّا لينتفع به الناس؟ أو ألم تنظر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك؟ فغيّر النظم إشعارا بأنّه المعقول من هذا الكلام ، لوضوح برهانه ، وهو دلالة حدوثه وتصرّفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة ، على أنّ ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي ، فكيف بالمحسوس منه. أو ألم ينته علمك إلى أنّ ربّك كيف مدّ الظلّ؟ وهو ظلّ الأجرام ، من نحو الجبال والحيطان والأشجار.

وعن ابن عبّاس والضحّاك وسعيد بن جبير : المراد الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وهو أطيب الأحوال ، فإنّ الظلمة الخالصة تنفّر الطبع وتسدّ النظر ، وشعاع الشمس يسخن الجوّ ويبهر البصر. ولذلك وصف به الجنّة فقال : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (١).

(وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ثابتا ، من السكنى ، أي : لاصقا بأصل كلّ مظلّ ، من جبل وبناء وشجرة ، غير منبسط ، فلم ينتفع به أحد. سمّي انبساط الظلّ وامتداده تحرّكا ، وعدم ذلك سكونا ، تجوّزا. أو جعله غير متقلّص ، من السكون ، بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) فإنّه لا يظهر للحسّ حتّى تطلع ، فيقع ضوءها على بعض الأجرام. أو لا يوجد ولا يتفاوت إلّا بسبب حركتها. يعني : أنّ الناس يستدلّون بالشمس وأحوالها في مسيرها على أحوال الظلّ ، من كونه ثابتا في مكان وزائلا ، ومتّسعا ومتقلّصا. ولو لا الشمس لما عرف الظلّ ، ولو لا النور لما عرفت الظلمة. فيبنون حاجتهم إلى الظلّ على حسب ذلك.

ولمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ بمعنى التسيير ، عبّر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي

__________________

(١) الواقعة : ٣٠.

٥٧٤

هو في معنى الكفّ ، فقال : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) أي : أنزلناه بإيقاع الشمس موقعه (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس ، لينتظم بذلك مصالح الكون ، ويتحصّل به ما لا يحصى من منافع الخلق. ولو قبض دفعة واحدة لتعطّلت مرافق الناس بالظلّ والشمس جميعا.

و «ثمّ» في الموضعين لبيان تفاضل الأمور الثلاثة ، فإنّ الثاني أعظم من الأوّل ، والثالث أعظم منهما ، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.

وقيل : حدّ الظلّ حين بنى السماء كالقبّة المضروبة بلا نيّر ، ودحا الأرض تحتها ، فألقت القبّة ظلّها على الأرض ، ولو شاء لجعله ساكنا ثابتا على تلك الحالة. ثمّ خلق الشمس عليه دليلا ، أي : سلّطها عليه ونصبها دليلا مستتبعا إيّاه ، كما يستتبع الدليل المدلول ، فهو يزيد بها وينقص ، ويمتدّ ويتقلّص. ثمّ نسخه بها ، فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير ، إلى أن تنتهي غاية نقصانه. أو يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه ، وهي الأجرام الّتي تبقي الظلّ. فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه. وفي قوله : «قبضناه إلينا» دلالة عليه. وكذلك في قوله : «يسيرا» ، كقوله : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (١).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) شبّه ظلامه باللباس في ستره ، أي : غطاء ساترا للأشياء بالظلام ، كاللباس الّذي يشتمل على لابسه.

(وَالنَّوْمَ سُباتاً) راحة للأبدان بقطع المشاغل. وأصل السبت القطع. أو موتا ، كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (٢) لأنّه قطع الحياة. ومنه : المسبوت للميّت.

(وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) ذا نشور ، أي : انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش ، أو

__________________

(١) ق : ٤٤.

(٢) الأنعام : ٦٠.

٥٧٥

تنتشر الأرواح في اليقظة. أو بعث من النوم بعث الأموات. فيكون إشارة إلى أنّ النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان : «يا بنيّ كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر».

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس (بُشْراً) ناشرات للسحاب. جمع نشور (١). وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف. وحمزة والكسائي به وبفتح النون ، على أنّه مصدر وصف به. وعاصم : بشرا ، تخفيف بشر جمع بشور ، بمعنى المبشّر.

(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني : قدّام المطر (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) بليغا في طهارته. بمعنى : طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره ، مزيلا للأحداث والأخباث. ويعضده قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢).

وقيل : هو اسم لمال يتطهّر به ، كالوضوء والوقود والسحور ، بمعنى ما يتوضّأ به ويتوقّد به ويتسحّر به. أو بمعنى الطهارة ، كقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور».

واستدلّوا بالنقل والاستعمال.

أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيدي من أنّ الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية ، بمعنى المطهّر غيره. وهو أحد أئمّة اللغة ، ومن القرّاء السبعة.

وأمّا الثاني فلأنّه مراد في الاستعمال ، فيكون حقيقة. أمّا إرادته ىفلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا ، وترابها طهورا».

ولو أراد الطاهر لم يكن له مزيّة. ولأنّهم يقولون : ماء طهور ، ولا يقولون : ثوب طهور ، فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء ، ولا تظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره ، فهو من الوضع الثاني.

__________________

(١) النشور من الرياح : الّتي تنشر السحاب. وجمعها : نشر. وقرئ : نشرا ، نشرا ، بشرا. والأخيرة هي القراءة المتّبعة في المصحف الشريف.

(٢) الأنفال : ١١.

٥٧٦

وقال بعض الحنفيّة : إنّ طهورا فعول يفيد المبالغة في فائدة فاعل ، كما يقال : ضروب وأكول لزيادة الضرب والأكل ، ولا يفيد شيئا مغايرا له. فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر ، لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطاهر ، فلا تتناوله المبالغة. ولأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التطهير ، كقوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (١). وقول الشاعر : عذب الثنايا ريقهنّ طهور.

والحقّ أنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر ، وألحقوا طهورا به توقيفا. وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة ، وتتميم للمنّة فيما بعده ، فإنّ الماء الطهور أهنأ وأنفع ممّا خالطه ما يزيل طهوريّته ، وتنبيه على أنّ ظواهرهم لمّا كانت ممّا ينبغي أن يطهّروها ، فبواطنهم بذلك أولى.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) بالنبات. وتذكير «ميتا» لأنّ البلدة في معنى البلد. ولأنّه غير جار على الفعل ، كفعول ومفعال ومفعيل ، وغيرها من أبنية المبالغة ، فأجري مجرى الجامد.

(وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) يعني : أهل البوادي الّذين يعيشون بالمطر ، ولذلك نكّر الأنعام والأناسيّ. وهو جمع إنسيّ أو إنسان. ونحوه ظرابي في ظربان. وهو دويبّة منتنة الريح. فقلبت النون ياء حين جمع.

ووصف بالكثرة ، لأنّ كثيرا منهم لا يعيشون إلّا بما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه. كأنّه قال : لنحيي به بعض البلاد الميتة ، ونسقيه بعض الأنعام والأناسيّ ، وذلك البعض كثير.

وأمّا تخصيص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب ، لأنّ الطير والوحش تبعد في طلب الماء ، فلا يعوزها الشرب ، بخلاف الأنعام.

__________________

(١) الإنسان : ٢١.

٥٧٧

وقدّم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسيّ ، لأنّ حياة الأناسيّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدّم ما هو سبب حياتهم وتعيّشهم على سقيهم. ولأنّهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم ، لم يعدموا سقياهم.

واعلم أنّ مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة ، فهو أيضا لتعداد أنواع النعمة.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) صرّفنا هذا القول بين الناس في القرآن ، وسائر الكتب والصحف الّتي أنزلت على الرسل. وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر.

وقيل : معناه : صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة ، والأوقات المتغايرة ، وعلى الصفات المتفاوتة ، من وابل (١) وطلّ وديمة ، وأمثالها في القوّة والضعف.

وعن ابن عبّاس : ما عام أمطر من عام ، ولكنّ الله قسّم ذلك بين عباده على ما شاء.

وتلا هذه الآية.

وروي : أنّ الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كلّ عام. أو صرّفنا المطر في الأنهار والمنافع (٢) على سعة قدرتنا.

(لِيَذَّكَّرُوا) ليتفكّروا ويعرفوا كمال القدرة وحقّ النعمة في ذلك ، ويقوموا بشكره. أو ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم. وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضمّ الكاف مخفّفة.

(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) إلّا كفران النعمة وقلّة الاكتراث لها. أو جحودها ، بأن يقولوا : مطرنا بنوء (٣) كذا ، ولا يذكروا صنع الله ورحمته. ومن لا يرى الأمطار إلّا من

__________________

(١) الوابل : المطر الشديد. والطلّ : المطر الضعيف. والديمة : مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق.

(٢) المنافع جمع المنقع. وهو البحر ، أو الموضع يستنقع فيه الماء.

(٣) النوء : النجم ، المطر. كانت العرب في الجاهليّة إذا سقط من الأنواء نجم وطلع آخر قالوا :

٥٧٨

الأنواء كافر ، بخلاف من يرى أنّها من خلق الله بوسائط ، يجعلها الله دلائل وأمارات عليها ، فإنّه لم يكفر بهذا الاعتقاد.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

ثمّ وقّر الله رسوله وعظّمه وكرّمه بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) نبيّا ينذر أهلها ، فيخفّ عليك أعباء النبوّة. لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك ، وتعظيما لشأنك ، وتفضيلا لك على سائر الرسل ، فقابل ذلك بالثبات والتشدّد ، والتصبّر والاجتهاد ، في صدوع الدعوة وإظهار الحقّ.

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يريدونك عليه. وهو تهييج له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمؤمنين.

(وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن. أو بترك طاعتهم الّذي يدلّ عليه «فلا تطع».

والمعنى : أنّهم يجتهدون في توهين أمرك وإبطال حقّك ، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم.

(جِهاداً كَبِيراً) لأنّ مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر وأشقّ من مجاهدة الأعداء بالسيف.

ويحتمل أن يكون ضمير «به» يرجع إلى ما دلّ عليه (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) من كونه نذير كافّة القرى. فالمعنى : لو بعثنا في كلّ قرية نذيرا لوجبت على كلّ نذير مجاهدة قريته ، فاجتمعت عليك تلك المجاهدات كلّها ، فكبر جهادك من أجل ذلك وعظم.

__________________

لا بدّ من أن يكون عند ذلك مطر ، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى النجم ، فيقولون : مطرنا بنوء الثريّا أو بنوء الدبران.

٥٧٩

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

ثمّ بيّن قدرة اخرى من أقداره الكاملة ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلّاهما وأرسلهما متجاورين متلاصقين ، بحيث لا يتمازجان. من : مرج دابّته إذا خلّاها.

(هذا عَذْبٌ) طيّب ذو حلاوة (فُراتٌ) قامع للعطش من فرط عذوبته ، فإنّ أصله القمع (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بليغ الملوحة.

(وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا من قدرته ، كقوله تعالى : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١) وهو قدرته (وَحِجْراً مَحْجُوراً) وتنافرا بعيدا ، كأنّ كلّا منهما يقوله للآخر ما يقوله المتعوّذ للمتعوّذ عنه. وهي هاهنا واقعة على سبيل المجاز ، كما قال : (لا يَبْغِيانِ) (٢) أي : لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة. فانتفاء البغي ثمّة كالتعوّذ هاهنا. فجعل كلّ واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه ، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات ، وأشهدها على البلاغة.

وقيل : معناه : حدّا محدودا. وذلك كدجلة تدخل البحر فتشقّه ، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها.

وقيل : المراد بالبحر العذاب النهر العظيم مثل النيل ، وبالبحر الملح البحر الكبير ، وبالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض ، فتكون القدرة في الفصل واختلاف الصفة ، مع أنّ

__________________

(١) الرعد : ٢.

(٢) الرحمن : ٢٠.

٥٨٠