زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

ثمّ ذكر سبحانه الآيات الّتي جعلها نورا للعقلاء العارفين بالله وصفاته ، فقال : (أَلَمْ تَرَ) الخطاب للنبيّ ، والمراد به جميع المكلّفين. و «رأى» بمعنى : علم ، أي : ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) ينزّه ذاته عن كلّ نقص وآفة (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أهلهما. وإيراد «من» لتغليب العقلاء. أو المراد الملائكة والثقلان بما يدلّ عليه من المقال أو دلالة حال.

(وَالطَّيْرُ) عطف على «من». تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ، ولذلك قيّدها بقوله : (صَافَّاتٍ) فإنّ إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجوّ صافّة ـ أي : باسطة ـ أجنحتها بما فيها من القبض والبسط ، حجّة قاطعة على كمال قدرة الصانع ولطف تدبيره.

(كُلٌ) كلّ واحد ممّا ذكر ، أو من الطير (قَدْ عَلِمَ) أي : علم الله (صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا ، لقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أو علم كلّ دعاء نفسه وصلاة نفسه ، على تشبيه حاله في الدلالة على الحقّ والميل إلى النفع ، على وجه يخصّه ، بحال من علم ذلك. مع أنّه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحا ، كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيّشها ، لا يكاد يهتدي إليها العقلاء.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنّه الخالق لهما ، ولما فيهما من الذوات والصفات والأفعال ، من حيث إنّها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) مرجع الجميع.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. ومنه البضاعة المزجاة الّتي يزجيها كلّ أحد لا يرضاها. والسحاب يكون واحدا كالعماء ، وجمعا ،

٥٢١

كالرباب جمع ربابة ، بمعنى السحاب الأبيض. (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) بأن يكون قطعا رقيقة فيضمّ بعضها إلى بعض ، فيجعل القطع المتفرّقة منه قطعة واحدة. وبهذا الاعتبار صحّ «بينه» وهو واحد ، إذ المعنى : بين أجزائه. وقرأ نافع برواية ورش : يولّف غير مهموز.

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) متراكما متراكبا بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) من فتوقه ومخارجه. جمع خلل ، كجبال جمع جبل.

(وَيُنَزِّلُ) مبتدأ (مِنَ السَّماءِ) أي : من الغمام ، فإنّ كلّ ما علاك فهو سماء (مِنْ جِبالٍ فِيها) بعضها من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها ، كما يقال : فلان يملك جبالا من ذهب (مِنْ بَرَدٍ) بيان للجبال. الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للتبيين.

ويجوز أن تكون الأوليان للابتداء ، والأخيرة للتبعيض ، واقعة موقع المفعول.

وعلى الأوّل مفعول «ينزّل» : «من جبال». وعلى الثاني محذوف ، أي : ينزّل البرد مبتدأ من السماء من جبال فيها من برد.

وقيل : المراد أنّ الله يخلق في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر ، فينزّلها بقدر ما يشاء.

والمشهور بين أرباب العلوم العقليّة أنّ الأبخرة إذا تصاعدت ، ولم تحلّلها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحابا. فإن لم يشتدّ البرد تقاطر مطرا. وإن اشتدّ ، فإن وصل إلى الأجزاء البخاريّة قبل اجتماعها نزل ثلجا ، وإلّا نزل بردا. وقد يبرد الهواء بردا مفرطا ، فينقبض وينعقد سحابا ، وينزل منه المطر أو الثلج. وكلّ ذلك لا بدّ وأن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم ، لقيام الدليل على أنّها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالّها وأوقاتها. وإليه أشار بقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) فيهلك زرعه وماله (وَيَصْرِفُهُ) ويصرف ضرره (عَنْ مَنْ يَشاءُ) فيكون إصابته نقمة ، وصرفه نعمة.

٥٢٢

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) يقرب ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة وشدّة اللمعان. وذلك أقوى دليل على كمال قدرته ، من حيث إنّه توليد للضدّ من الضدّ.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يصرفهما بالمعاقبة بينهما ، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحرّ والبرد والظلمة والنور ، أو بما يعمّ ذلك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما تقدّم ذكره من تسبيح من في السماوات والأرض ، وكلّ ما يطير بين السماء والأرض ، ودعائهم له ، وابتهالهم إليه. وأنّه سخّر السحاب التسخير الّذي وصفه ، وما يحدث فيه من أفعاله ، حتّى ينزل المطر منه. وأنّه يقسّم رحمته بين خلقه ، ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته. ويريهم البرق في السحاب الّذي يكاد يخطف أبصارهم ليحذروا ، وليتنبّهوا ويمتثلوا أمره. وأنّه يعاقب بين الليل والنهار ، ويخالف بينهما بالطول والقصر.

(لَعِبْرَةً) لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ، ونفاذ مشيئته ، وتنزّهه عن الحاجة وما يفضي إليها (لِأُولِي الْأَبْصارِ) لذوي البصائر والعقول ، أي : لمن يرجع إلى بصيرة ، فنظر وفكّر ، وتبصّر وتدبّر.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) حيوان يدبّ على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي : خالق كلّ دابّة ، بالإضافة. (مِنْ ماءٍ) هو جزء مادّته. أو ماء مخصوص هو النطفة ، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ ، إذ من الحيوانات ما يتولّد لا عن النطفة.

وقيل : «من ماء» متعلّق بـ «دابّة» وليس صلة لـ «خلق».

وتنكير الماء ليدلّ على أنّه خلق كلّ دابّة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابّة. أو خلقها من ماء مخصوص ، وهو النطفة. ولمّا كان اسم الدابّة موقعا على المميّز وغير المميّز ، غلّب المميّز ، فأعطى ما وراءه حكمه ، كأنّ الدوابّ كلّهم مميّزون.

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيّة والدود. فذكر «من» وذكّر الضمير

٥٢٣

للتغليب. وكذا سمّي الزحف مشيا على الاستعارة ، كما يقال : فلان لا يتمشّى أمره. أو للمشاكلة ، لأنّه ذكر مع الماشين.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنس والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالنعم والوحش. ويندرج فيه ماله أكثر من أربع ، كالعناكب ، فإنّ اعتمادها إذا مشت على أربع. وذكر الأجناس الثلاثة على الترتيب المذكور ، لتقديم ما هو أعرف في القدرة.

(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) ممّا ذكر وممّا لم يذكر ، من الحيوان وغيره ، بسيطا ومركّبا ، على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال ، مع اتّحاد العنصر بمقتضى مشيئته (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) للحقائق بأنواع الدلائل (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق للنظر فيها ، والتدبّر لمعانيها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام ، الموصل إلى درك الحقّ والفوز بالجنّة.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

روي : أنّ بشر المنافق خاصم يهوديّا في أرض ، فجعل اليهوديّ يجرّه إلى رسول

٥٢٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف ويقول : إنّ محمّدا يحيف علينا.

وحكى البلخي أنّه كانت بين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وعثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه‌السلام ، فخرجت فيها أحجار ، وأراد ردّها بالعيب فلم يأخذها. فقال : بيني وبينك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له ، فلا تحاكمه إليه. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وفي رواية اخرى : أنّ المغيرة بن وائل كان بينه وبين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خصومة في ماء وأرض ، فقال المغيرة : أمّا محمّد فلست آتية ، ولا أحاكم إليه ، فإنّه يبغضني ، وأنا أخاف أن يحيف عليّ. فنزلت :(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ)

صدّقنا بتوحيد الله (وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) فيما حكما (ثُمَّ يَتَوَلَّى) يعرض عن طاعتهما بالامتناع عن قبول حكمه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) بعد قولهم : آمنّا (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى جميع القائلين. فيكون إعلاما من الله بأنّ جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم يؤمنوا بقلوبهم ، لا الفريق المتولّي وحده.

أو إلى الفريق منهم. وسلب الإيمان عنهم لتولّيهم.

والتعريف فيه للدلالة على أنّهم ليسوا بالمؤمنين الّذين عرفتهم. وهم المخلصون في الإيمان ، الثابتون عليه ، الموصوفون في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) (١).

وفي هذا إشارة إلى أنّ القول المجرّة لا يكون إيمانا ، إذ لو كان كذلك لما صحّ النفي بعد الإثبات.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي : ليحكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كقولك : أعجبني زيد وكرمه ، تريد : أعجبني كرم زيد ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحاكم ظاهرا والمدعوّ إليه.

وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله.

__________________

(١) الحجرات : ١٥.

٥٢٥

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) فاجأه فريق منهم الإعراض عمّا يدعون إليه ، إذا كان الحقّ عليهم ، لعلمهم بأنّك لا تحكم لهم. وهو بيان للتولّي ، ومبالغة فيه.

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي : الحكم ، لا عليهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُذْعِنِينَ). و «إليه» إمّا صلة لـ «يأتوا» لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين بـ «إلى». أو يتّصل بـ «مذعنين» لأنّه في معنى : مسرعين في الطاعة. وهذا أحسن ، لتقدّم صلته ودلالته على الاختصاص.

والمعنى : أنّهم لمعرفتهم أنّه ليس معك إلّا الحقّ المرّ والعدل البحت ، يزورّون (١) عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحقّ ، لئلّا تنتزع الحقّ من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم. وإن ثبت لهم حقّ على خصم أسرعوا إليك ، ولم يرضوا إلّا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما كان لهم في ذمّة الخصم.

ثمّ قسّم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم ، بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين ، أو مرتابين في أمر نبوّته ، أو خائفين الحيف في قضائه ، فقال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كفر ، أو ميل إلى الظلم؟ (أَمِ ارْتابُوا) بأن رأوا منك تهمة ، فزالت ثقتهم ويقينهم بك؟ (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكومة؟

ثمّ أبطل ارتيابهم وخوفهم حيفه ، فقال إضرابا عن هذين القسمين لتحقيق القسم الأوّل : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : لا يخافون أن يحيف عليهم ، لمعرفتهم بحاله.

وإنّما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحقّ عليهم ، ويتمّ لهم جحوده ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه.

ووجه التقسيم في الآية : أنّ امتناعهم إمّا لخلل فيهم ، أو في الحاكم. والثاني إمّا أن يكون محقّقا عندهم ، أو متوقّعا. وكلاهما باطل ، لأنّ منصب نبوّته وفرط أمانته يمنعه ، فتعيّن الأوّل. وظلمهم يعمّ خلل عقيدتهم ، وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل ، لنفي ذلك

__________________

(١) ازورّ عنه : عدل وانحرف.

٥٢٦

عن غيرهم ، سيّما المدعوّ إلى حكمه.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

ولمّا كان من عادة الله أن يتبع ذكر المحقّ المبطل ، وأن ينبّه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي ، مدح المؤمنين الصادقين في إيمانهم ، وذمّ الكافرين الراسخين في كفرهم ، فقال : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا) قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَطَعْنا) أمره ، وإن كان فيما يضرّهم. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «أنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام». (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمر. وعن ابن عبّاس : من يطع الله في فرائضه ، ورسوله في سننه. (وَيَخْشَ اللهَ) على ما صدر عنه من الذنوب (وَيَتَّقْهِ) فيما بقي من عمره.

وقرأ يعقوب وقالون عن نافع بلا ياء. وأبو عمرو وأبو بكر بسكون الهاء. وحفص بسكون القاف. فشبّه «تقه» بكتف فخفّف. والهاء في الوقف ساكنة بالاتّفاق. وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وخلّاد بخلاف عنه : ويتّقه بإسكان الهاء. وقالون باختلاس كسرتها. والباقون بصلتها.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم. قد جمع الله سبحانه في هذه الآية أسباب الفوز. وعن بعض الملوك أنّه سأل عن آية كافية ، فتليت له هذه الآية.

٥٢٧

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

ولمّا بيّن سبحانه كراهة الكفّار والمنافقين لحكمه ، قال المنافقون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لو أمرتنا بالخروج من ديارنا وأموالنا لفعلنا ، فقال الله سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) إنكار للامتناع عن حكمه (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) مستعار من : جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها ، لأنّهم أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. فحذف الفعل ، وقدّم

٥٢٨

المصدر ، فوضع موضعه مضافا إلى المفعول. كقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (١). وهذا المنصوب في حكم الحال ، كأنّه قال : جاهدين أيمانهم.

(لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) بالخروج عن ديارهم وأموالهم (لَيَخْرُجُنَ) جواب لـ «أقسموا» على الحكاية.

(قُلْ لا تُقْسِمُوا) على الكذب (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي مطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشكّ فيها ولا يرتاب ، كطاعة الخلّص من المؤمنين الّذين طابق باطن أمرهم ظاهره ، لا اليمين على الطاعة النفاقيّة المنكرة. أو طاعتكم طاعة معروفة. أو طاعة معروفة أمثل وأولى لكم من الإيمان الكاذبة. أو لتكن طاعة معروفة.

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه سرائركم ، وأنّه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم.

ثمّ أمر الله رسوله بتبليغ ما خاطبهم به ، مبالغة في تبكيتهم ، فقال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما آتاكم به ، واحذروا المخالفة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله : تتولّوا فحذف أحد التاءين ، أي : فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ) على محمّد (ما حُمِّلَ) من التبليغ (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الامتثال.

(وَإِنْ تُطِيعُوهُ) في حكمه (تَهْتَدُوا) إلى الحقّ (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التبليغ الموضح لما كلّفتم به وقد أدّى ، وإنّما بقي عليكم ما حمّلتم ، فإن لم تفعلوا وتولّيتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه ، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى.

ثمّ خاطب الرسول والأئمّة ، أو الرسول ومن معه ، فقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : وعد الله المؤمنين المطيعين لله ورسوله (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ليجعلنّهم خلفاء متصرّفين في الأرض تصرّف الملوك. وهو جواب قسم

__________________

(١) محمّد : ٤.

٥٢٩

مضمر ، تقديره : وعدهم الله وأقسم ليستخلفنّهم. أو الوعد في تحقّقه منزّل منزلة القسم ، فتلقّي بما يتلقّى به القسم.

(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : بني إسرائيل استخلفهم في مصر والشام بعد الجبابرة ، وأورثهم أرضهم وأموالهم.

وقرأ أبو بكر بضمّ التاء وكسر اللام ، وإذا ابتدأ ضمّ الألف. والباقون بفتحهما. وإذا ابتدءوا كسروا الألف.

(وَلَيُمَكِّنَنَ) ليثبتنّ (لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) دينهم الّذي أمرهم أن يتديّنوا به ـ وهو الإسلام ـ بالتقوية والتثبيت ، وإظهاره على الدّين كلّه ، كما قال عليه‌السلام : «زويت (١) لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

وروى المقداد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر ، إلّا أدخله الله كلمة الإسلام ، بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل. إمّا أن يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإمّا أن يذلّهم فيدينون بها».

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) من الأعداء. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بالتخفيف. (أَمْناً) منهم. وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه مكثوا بمكّة عشر سنين خائفين ، ولمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه ، حتّى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تغبرون (٢) إلّا يسيرا حتّى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا (٣) ليس فيه حديدة. فأنجز الله وعده ، وأظهر هم على جزيرة العرب ، وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب ، ومزّقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا.

__________________

(١) أي : جمعت وقبضت.

(٢) أي : لا تبقون.

(٣) أي : مشتملا بثوب ونحوه.

٥٣٠

وفيه دليل على صحّة نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، للإخبار عن الغيب على ما هو به.

وقيل : المراد الخوف من العذاب ، والأمن منه في الآخرة.

(يَعْبُدُونَنِي) حال من «الّذين» لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد. أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن. كأنّ قائلا قال : ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من الواو في «يعبدونني» أي : غير مشركين.

روي عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «هم والله شيعتنا أهل البيت ، يفعل الله ذلك بهم على يدي رجل منّا. وهو مهديّ هذه الأمّة. وهو الّذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما». وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما‌السلام.

قال النيشابوريّ في تفسيره : «قال أهل السنّة : في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين ، لأنّ قوله : «منكم» للتبعيض ، وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب. ومعلوم أنّ الأئمّة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصّالح ، وكانوا حاضرين وقتئذ ، وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح ، فيجب أن يكونوا مرادين من الآية. واعترض بأن قوله : «منكم» لم لا يجوز أن يكون للبيان؟ ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرّف والتوطّن فيها ، كما في حقّ بني إسرائيل؟

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة عليّ عليه‌السلام ، والجمع للتعظيم؟ أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده؟» (١).

(وَمَنْ كَفَرَ) ومن ارتدّ ، أو كفر هذه النعم (بَعْدَ ذلِكَ) بعد الوعد ، أو حصول الخلافة (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في فسقهم ، حيث ارتدّوا بعد وضوح مثل

__________________

(١) تفسير غرائب القرآن ٥ : ٢٠٩.

٥٣١

هذه الآيات ، أو كفروا تلك النعمة الجليلة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في سائر ما أمركم به. وهذا معطوف على (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال ، لأنّ حقّ المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكرّرت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها. وعلّقت الرحمة بها بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كما علّق به الهدى.

(لا تَحْسَبَنَ) يا محمّد (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) معجزين لله عن إدراكهم وإهلاكهم (فِي الْأَرْضِ) صلة «معجزين». وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء. وفاعله ضمير راجع إلى الرسول. أو فاعله الموصول بعده ، فيكون (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) مفعوليه. أو ولا يحسبونهم ، فحذف المفعول الأوّل ، لأنّ الفاعل والمفعولين لشيء واحد ، فاكتفي بذكر اثنين عن الثالث.

(وَمَأْواهُمُ النَّارُ) عطف عليه من حيث المعنى. كأنّه قيل : الّذين كفروا ليسوا بمعجزين ، ومأواهم النار ، لأنّ المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المأوى الّذي يصيرون إليه. وإنّما وصفها بذلك ، وإن كانت حكمة وصوابا من فعل الله ، لما ينال الصائر إليها من الشدائد والآلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ

٥٣٢

آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

ثمّ تمّم الأحكام السالفة بعد الفراغ عن الآيات الدالّة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها ، والوعد عليها ، والوعيد على الإعراض عنها ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) قال القاضي (١) : هذا الخطاب للرجال ظاهرا ، ولكنّه من باب التغليب ، فيدخل فيه النساء. وقال الرازي : «الحكم يثبت للنساء بقياس جليّ ، لأنّهنّ في الحفظ أشدّ حالا من الرجال» (٢).

(الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : عبيدكم وإماؤكم ، غلّب فيه العبيد. قيل : أراد العبيد خاصّة. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وروي : أنّ غلام أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها في وقت كرهت دخوله ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. فنزلت.

وقيل : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري ـ وكان غلاما ـ وقت الظهيرة ليدعوا عمر ، فدخل وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه. فقال عمر : لوددت أنّ الله عزوجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا ، أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلّا بإذن. ثمّ انطلق معه إلى النبيّ ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية.

__________________

(١) أنوار التنزيل ٤ : ٨٦.

(٢) التفسير الكبير ٢٤ : ٢٨.

٥٣٣

(وَالَّذِينَ) والصبيان الّذين (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار. فعبّر عن البلوغ بالاحتلام ، لأنّه أقوى دلائله وأكثرها.

(ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في اليوم والليلة. مرّة (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنّه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة. ومحلّه النصب بدلا من «ثلاث مرّات». أو الرفع خبرا لمحذوف ، أي : هي من قبل صلاة الفجر. (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) أي : ثيابكم لليقظة ، للقيلولة (مِنَ الظَّهِيرَةِ) بيان للحين (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنّه وقت التجرّد عن لباس اليقظة والالتحاف باللحاف.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي : هي ثلاث أوقات يختلّ فيها تستّركم وتحفّظكم. وأصل العورة : الخلل. ومنها : أعور المكان ، أي : اختلّ مكانه. ورجل أعور : إذا اختلّت عينه.

وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : ثلاث بالنصب ، بدلا من «ثلاث مرّات».

ثمّ عذّرهم في ترك الاستئذان وراء هذه الأوقات ، فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان.

ثمّ استأنف الكلام لبيان وجه العذر ، فقال : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : هم طوّافون.

يعني : أنّ بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة. ولمّا لم يكن الطواف مخصوصا بأحد الفريقين ، بل هو شامل لهما ، لم يكتف بقوله : «طوّافون» فقال بدلا منه : (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بعضكم طائف على بعض ، أو بعضكم يطوف على بعض. فحذف لدلالة «طوّافون» عليه.

(كَذلِكَ) مثل ذلك التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) فيما شرع لكم.

واعلم أنّ الآية في الصبيان والمماليك الداخلين على أهل بيتهم ومواليهم. ثمّ قال في الأحرار البالغين : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي : من الأحرار (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الأحرار الّذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلّها.

٥٣٤

والمعنى : أنّه يجوز دخول الأطفال على آبائهم وأمّهاتهم بدون الاستئذان ، إلّا في الأحوال الثلاث ، فإذا خرجوا من حدّ الطفوليّة فليستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار.

وقال في كنز العرفان : «إنّ المراد الأطفال الأحرار ، لأنّ بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستئذان بالأوقات الثلاثة. وأمّا بلوغ الأرقّاء ، فالحكم باق كما كان في التخصيص ، لأجل بقاء السبب المذكور» (١).

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كرّره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.

واعلم أنّ بعضهم ظنّ أنّ الآية منسوخة. وليست كذلك. قال ابن جبير : يقولون هي منسوخة ، لا والله ما هي منسوخة ، لكنّ الناس تهاونوا بها. وقيل : للشعبي : إنّ الناس لا يعملون بها. فقال : الله المستعان.

وأنا أقول : يمكن أن يقال : إنّ ثبوت هذا الحكم في الأوقات الثلاثة المذكورة ـ كما دلّ عليه سبب نزول الآية ـ إنّما هو بسبب مظنّة انكشاف العورة ، وإذا انعدم سببه ـ كما يكون في أكثر بلادنا ـ فينتفي هذا الحكم ، لانتفاء المسبّب بانتفاء سببه.

ثمّ بيّن حكما آخر من هذا الباب ، فقال : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) العجائز اللّاتي قعدن عن الحيض والحمل (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه لكبرهنّ (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي : الثياب الظاهرة ، كالملحفة والجلباب الّذي فوق الخمار. والفاء فيه لأنّ اللام في القواعد بمعنى اللّاتي ، أو لوصفها بها.

(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات زينة ممّا أمرن بإخفائه في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) (٢) بل قاصدات به التخفيف عن أنفسهنّ. وأصل

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) النور : ٣١.

٥٣٥

التبرّج التكلّف في إظهار ما يجب إخفاؤه ، من قولهم : سفينة بارجة لا غطاء عليها.

والبرج : سعة العين ، بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كلّه لا يغيب منه شيء ، إلّا أنّه خصّ بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال.

ولمّا ذكر رفع الحظر الّذي يستلزم الجواز ، عقّبه باستحباب التستّر بالثياب عليهنّ ، بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها ، فقال : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) وأن يطلبن العفّة من وضع الثياب (خَيْرٌ لَهُنَ) من الوضع ، لأنّه أبعد من التهمة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لمقالتهنّ للرجال (عَلِيمٌ) بمقصودهنّ.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

روي : أنّ المؤمنين كانوا يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم ، وإلى بيوت أقربائهم وأصدقائهم ، فيطعمونهم منها ، فخافوا أن يلحقهم فيه حرج ، فنزلت :

٥٣٦

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) من البيوت الّتي فيها أزواجكم وأولادكم ، فإنّ بيت الولد كبيته ، لقوله عليه‌السلام : «أنت ومالك لأبيك».

وقوله : «إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه».

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وهو ما يكون تحت أيديكم وتصرّفكم ، من ضيعة أو ماشية ، وكالة أو حفظا.

وقيل : بيوت المماليك. وليس بشيء ، لأنّ العبد لا يملك ، فماله مال السيّد. والمفاتح جمع مفتح ، وهو ما يفتح به.

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) أو بيوت صديقكم. وهو يقع على الواحد والجمع ، كالخليط.

قيل : إنّ ذوي العاهات كانوا يتحرّجون عن مؤاكلة الأصحّاء حذرا من استقذارهم ، وقوم آخرون لا يأكلون من بيت من يدفع إليهم المفتاح ، فنفى الله الحرج عنهم بهذه الآية.

وقيل : كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلّفون الضعفاء في بيوتهم ، ويدفعون إليهم المفاتيح ، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرّجون ، فبهذه الآية رفع التحرّج.

وهذا كلّه إنّما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن ، أو قرينة مقاليّة أو حاليّة ، أو عدم ظهور كراهية منه ، ولذلك خصّص هؤلاء ، فإنّه يعتاد التبسّط بينهم. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه». وهو مرويّ أيضا عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وروي : أنّ الرجل من الصحابة كان يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسه ، فيأخذ منه ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك.

وروي عن الصادق عليه‌السلام : «أيدخل أحدكم يده إلى كم صاحبه أو جيبه فيأخذ منه؟

٥٣٧

قالوا : لا. قال : فلستم بأصدقاء».

والأصل أنّه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا بالأكل ، فيقوم العلم مقام الإذن.

وعن ابن عبّاس : أنّ الصداقة أقوى من النسب ، فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء والأمّهات ، بل بالأصدقاء ، فيقولون : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١).

قيل : إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة المالك ، فأيّ فرق بين بيوت المذكورين وبين بيوت غيرهم؟

أجيب : الفرق أنّ في بيوت غير المذكورين يشترط العلم بالرضا ، وأمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة. وما روي عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّهم قالوا : لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره الله تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف ، مشروط بالشرط المذكور.

وقيل : إنّهم كانوا يتحرّجون من المؤاكلة مع ذوي العاهات ، ويقولون : إنّ الأعمى لا يبصر ، فنأكل جيّد الطعام دونه ، والأعرج لا يتمكّن من الجلوس ، والمريض يضعف عن الأكل. فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) مجتمعين أو متفرّقين.

قيل : نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من الأنصار ، إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه. أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام والمؤاكلة ، لما عسى أن يؤدّي إلى الكراهة من قبلهم. وقيل : كان ذلك في أوّل الإسلام فنسخ.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) على أهلها الّذين هم منكم دينا وقرابة (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثابتة بأمره ، مشروعة من لدنه. وانتصابها بالمصدر ، لأنّها بمعنى التسليم ، كما تقول : حمدت شكرا. (مُبارَكَةً) لأنّها دعوة مؤمن

__________________

(١) الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

٥٣٨

لمؤمن ، يرجى بها من الله زيادة الخير والثواب وطيب الرزق (طَيِّبَةً) تطيب بها نفس المستمع.

وعن أنس أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك».

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) كرّره ثلاثا لمزيد التأكيد ، وتفخيم الأحكام المختتمة به. وفصّل الأوّلين (١) بما هو المقتضي لذلك ، وهذا بما هو المقصود منه ، فقال : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الحقّ والخير في الأمور.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

ولمّا تقدّم ذكر المعاشرة مع الأقرباء والمسلمين ، بيّن سبحانه كيفيّة المعاشرة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي : ليس الكاملون في الإيمان إلّا (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) من صميم قلوبهم.

(وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي : أمر يجمع له الناس ، ويقتضي اجتماعهم عليه ، كالحروب والمشاورة في الأمور المهامّ ، وغير ذلك. ووصف الأمر بالجامع على سبيل المجاز مبالغة. (لَمْ يَذْهَبُوا) لم ينصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) النور : ٥٨ ـ ٥٩.

٥٣٩

(حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) يستأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيأذن لهم ، فإنّ ذلك كالمصداق لصحّة كمال الإيمان ، والمميّز للمخلص فيه عن المنافق ، فإنّ عادتهم التسلّل والفرار.

وفيه تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير إذنه. ولذلك جعل ترك ذهابهم حتّى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، وجعلهما كالتشبيب (١) له والبساط لذكره ، مع تصدير الجملة بـ «إنّما» ، وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر المؤمنين.

ثمّ عقّبه بما يزيده توكيدا وتشديدا ، حيث أعاده على أسلوب آخر أبلغ من الأوّل بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإنّه يفيد أنّ المستأذن مؤمن لا محالة ، وأنّ الذاهب بغير إذن ليس كذلك.

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) لما يعرض لهم من المهامّ (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) وفيه أيضا مبالغة وتضييق للأمر ، حيث فوّض الأمر إلى رسوله ، ولم يأمره بالإذن.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) بعد الإذن ، فإنّ الاستئذان ولو لعذر قصور ، لأنّه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لفرطات العباد (رَحِيمٌ) بالتيسير عليهم.

واعلم أنّ الأمر الجامع لمّا كان خطبا جليلا ، لا بدّ للرسول فيه من ذوي رأي وقوّة ، يظاهرونه عليه ويعاونونه ، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ممّا يشقّ على قلبه ، ويشتّت عليه رأيه. فمن ثمّ غلّظ عليهم ، وضيّق عليهم الأمر في الاستئذان ، مع العذر المبسوط ، ومساس الحاجة إليه ، وأكّد زيادة تأكيد في النهي عن الذهاب ، حيث جعل عدم الذهاب ثالث الإيمانين كما ذكر. ثمّ لم يأمره بالإذن ، بل جعله مخيّرا بين المعذورين. ثمّ أمر رسوله بالاستغفار ، وذكر المغفرة للمعذورين الذاهبين ، الدالّ على أنّهم مع الاستئذان بالذهاب كأنّهم مذنبون. وهذا الحكم

__________________

(١) أي : الابتداء به. من : شبّ الكتاب : ابتدأ به.

٥٤٠