زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

ثمّ أخبر سبحانه عن إفناء الدنيا وما عليها الّذي هو مقدّمة وقوع يوم الحسرة ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) أي : نميت سكّانها ، فلا يبقى فيها مالك ولا ملك. أو نتوفّى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك ، توفّي الوارث لإرثه. (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يردّون للجزاء بعد الموت ، أي : إلى حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا.

ثمّ أخبر عن قصّة إبراهيم الّتي هي متضمّنة للتوحيد ، الّذي هو منشأ الفلاح والفوز يوم الحسرة ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ملازما للصدق ، أو كثير التصديق ، لكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله. وهو من أبنية المبالغة. ونظيره : النطّيق. (نَبِيًّا) رفيع الشأن برسالة الله تعالى.

(إِذْ قالَ) بدل من «إبراهيم» ، وما بينهما اعتراض. أو متعلّق بـ «كان» أو بـ «صدّيقا نبيّا». (لِأَبِيهِ) أي : لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته ، أو لجدّه لأمّه ، فإنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ ، لإجماع الطائفة الحقّة على أنّ آباء الأنبياء كلّهم إلى آدم كانوا مسلمين موحّدين. وقد بيّنّا ذلك في سورة الأنعام (١).

(يا أَبَتِ) التاء معوّضة من ياء الإضافة ، ولذلك لا يقال : يا أبتي ، لئلّا يجمع بين العوض والمعوّض منه ، ويقال : يا أبتا. وإنّما تذكر للاستعطاف ، ولذلك كرّرها.

(لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) فيعرف حالك ، ويسمع ذكرك ، ويرى خضوعك (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) في جلب نفع أو دفع ضرّ.

دعاه إلى الهدى ، وبيّن ضلاله ، واحتجّ عليه أبلغ احتجاج وأرشقه ، برفق وحسن أدب وخلق حسن ، منتصحا في ذلك بنصيحة ربّه عزّ وعلا ، كما روى أبو هريرة أنّه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوحى الله إلى إبراهيم عليه‌السلام : إنّك خليلي ، حسّن خلقك ولو مع الكفّار ، تدخل مداخل الأبرار ، فإنّ كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أظلّه تحت عرشي ، وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري».

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ٤١٥ ذيل الآية ٧٤ من سورة الأنعام.

١٨١

ولهذا لم يصرّح بضلالة أبيه ، بل طلب العلّة الّتي تدعوه إلى عبادة ما يستخفّ به العقل الصريح ، ويأبى الركون إليه ، فضلا عن عبادته الّتي هي غاية التعظيم ، ولا تحقّ إلّا لمن له الاستغناء التامّ والإنعام العامّ ، وهو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المعاقب المثيب ، الّذي منه أصول النعم وفروعها.

ونبّه على أنّ العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح. والشيء لو كان حيّا مميّزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضرّ ولكن كان ممكنا ، لاستنكف العقل القويم عن عبادته ، وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيّين ، لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة ، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر؟! ثمّ ثنّى بدعوته إلى الحقّ مترّفقا به متلطّفا ، ودعاه إلى أن يتّبعه ليهديه إلى الحقّ القويم والصراط المستقيم ، لمّا لم يكن محظوظا من العلم الإلهي ، مستقلّا بالنظر السويّ ، فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله سبحانه (ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) على ذلك واقتد بي فيه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي : أوضح لك طريقا مستقيما. ولم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ، كأنّه قال : لا تستنكف وهب أنّي وإيّاك في مسير ، وعندي مزيّة معرفة بالهداية دونك.

ثمّ ثلّث تثبيطه عمّا كان عليه ، بأنّه مع خلوّه عن النفع مستلزم للضرّ ، فإنّه في الحقيقة عبادة الشيطان ، من حيث إنّه الآمر به ، فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) لا تطعه فيما يدعوك إليه ، فتكون بمنزلة من عبده ، فإنّ الكافر لا يعبد الشيطان ، ولكن يطيعه فيما أمره من الكفر والشرك.

ثمّ بيّن وجه الضرّ فيه ، بأنّ الشيطان مستعص على ربّك المولي للنعم كلّها ، بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) شديد العصيان. ومعلوم أنّ المطاوع للعاصي عاص ، وكلّ عاص حقيق بأن تستردّ منه النعم ، وينتقم منه.

١٨٢

ثمّ ربّع بتخويفه سوء عاقبته وما يجرّ إليه من التبعة ، ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرّح بأنّ العقاب لاحق له ، وأنّ العذاب لاصق به ، ولكنّه قال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لإصرارك على الكفر. وذكر الخوف والمسّ وتنكير العذاب للمجاهلة. (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) ثابتا في موالاته ، قرينا في اللعن والعذاب ، تليه ويليك. وهو أكبر من العذاب ، كما أنّ رضوان الله أكبر من الثواب.

(قالَ أَراغِبٌ) أمعرض (أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) عن عبادتها (يا إِبْراهِيمُ) قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظة العناد ، فناداه باسمه ، ولم يقابل «يا أبت» بـ «يا بنيّ». وأخّره وقدّم الخبر على المبتدأ ، وصدّره بالهمزة ، لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجّب ، كأنّها ممّا لا يرغب عنها عاقل.

ثمّ هدّده بقوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن مقالتك فيها ، أو الرغبة عنها (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأرمينّك بلساني ـ يعني : الشتم والذمّ ـ أو بالحجارة حتّى تموت أو تبعد منّي (وَاهْجُرْنِي) عطف على ما دلّ عليه «لأرجمنّك» أي : فاحذرني واهجرني ، لأنّ «لأرجمنّك» تهديد وتقريع (مَلِيًّا) زمانا طويلا من الملاوة. أو مليّا بالذهاب عنّي والهجران قبل أن أثخنك بالضرب ، حتّى لا تقدر أن تبرح. من قولهم : فلان مليّ بهذا الأمر إذا كان كاملا فيه مضطلعا به.

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) سلام توديع ومتاركة ومباعدة منه ، كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (١). وقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٢). أو سلام إكرام ومقابلة للسيّئة بالحسنة ، أي : لا أصيبك بمكروه ، ولا أقول لك بعد ما يؤذيك. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة استمالة له ، ألا ترى أنّه وعده الاستغفار وقال : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) سأطلب لك التوفيق للإيمان ، فإنّ

__________________

(١) القصص : ٥٥.

(٢) الفرقان : ٦٣.

١٨٣

حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته.

والأصحّ أنّ الاستغفار له كان مشروطا بالتوبة عن الكفر. ودلّ عليه قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (١) ، كما مرّ (٢) في سورة التوبة.

(إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) بليغا في البرّ والألطاف. يقال : حفي به حفاوة ، أشفق عليه وبالغ في إكرامه ، وهو حفيّ.

(وَأَعْتَزِلُكُمْ) وأتنحّى منكم جانبا (وَما تَدْعُونَ) تعبدون. ومنه قوله عليه‌السلام : «الدعاء هو العبادة».

(مِنْ دُونِ اللهِ) بالمهاجرة بديني إلى الشام (وَأَدْعُوا رَبِّي) أي : أعبده.

ثمّ عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله : (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم. وفي تصدير الكلام بـ «عسى» التواضع وهضم النفس ، كقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٣) مع تيقّنه بالغفران.

ويجوز أن يراد بالدعاء ما حكاه في سورة الشعراء حيث قال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٤).

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) فارقهم (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالهجرة إلى الشام (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولده (وَيَعْقُوبَ) ولد ولده ، بدل من فارقهم من الكفرة. قيل : لأنّه لمّا قصد الشام أتى أوّلا حرّان ، وتزوّج بسارة ، وولدت له إسحاق ، وولد منه يعقوب.

ولعلّ تخصيصهما بالذكر لأنّهما شجرتا الأنبياء ، أو لأنّه أراد أن يذكر فضل إسماعيل على الانفراد. (وَكُلًّا) وكلّا منهما ، أو منهم (جَعَلْنا نَبِيًّا).

__________________

(١) التوبة : ١١٤.

(٢) راجع ج ٣ ص ١٧٣. (٣ ، ٤) الشعراء : ٨٢ و ٨٦.

١٨٤

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) من نعمتنا النبوّة والأموال والأولاد ، وكلّ خير دينيّ ودنيويّ (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ) ثناء وحسنا في الناس (عَلِيًّا) مرتفعا سائرا بينهم ، بحيث يفتخرون بهم ويثنون عليهم استجابة لدعوته ، حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١). فكلّ أهل الأديان يتولّونه وذرّيّته ، ويدّعون أنّهم على دينهم.

وقيل : معناه : وأعلينا ذكرهم بأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّته يذكرونهم بالجميل إلى يوم القيامة.

وقيل : هو ما يقال في التشهّد : كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم.

وعبّر باللسان عمّا يوجد به ، كما عبّر باليد عمّا يطلق بها ، وهي العطيّة. ولسان العرب لغتهم وكلامهم. وإضافته إلى الصدق ، وتوصيفه بالعلوّ ، للدلالة على أنّهم أحقّاء بما يثنون عليهم ، وأنّ محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحوّل الدول وتبدّل الملل.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه‌السلام فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في القرآن (مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) موحّدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء ، أو أسلم وجهه لله ، وأخلص نفسه عمّا سواه. وقرأ الكوفيّون بالفتح ، على أنّ الله أخلصه. (وَكانَ رَسُولاً

__________________

(١) الشعراء : ٨٤.

١٨٥

نَبِيًّا) أي : أرسله الله إلى الخلق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدّم «رسولا». قال في الجامع (١) والكشّاف (٢) ما حاصله : أنّ الرسول أخصّ وأعلى ، من حيث إنّه صاحب شريعة وكتاب ، بخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) من ناحيته اليمنى من اليمين ، وهي الّتي تلي يمين موسى. أو من جانبه الميمون ، من اليمن. وهو صفة للطور أو الجانب. والطور جبل في أرض الشام.

(وَقَرَّبْناهُ) تقريب تشريف ، لا تقريب مكان ومسافة. وشبّهه بمن قرّبه الملك لمناجاته ، حيث كلّمه بغير واسطة ملك ، بأن خلق الكلام في الشجر (نَجِيًّا) مناجيا ، حال من أحد الضميرين. وقيل : مرتفعا ، من النجوة ، وهو الارتفاع ، لما روي عن أبي العالية : أنّه رفع فوق السماوات حتّى سمع صرير القلم الّذي كتبت به التوراة.

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) من أجل رحمتنا (أَخاهُ) معاضدة أخيه ومؤازرته ، إجابة لدعوته : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (٣) وهو مفعول أو بدل. (هارُونَ) عطف بيان له (نَبِيًّا) حال منه.

وعن ابن عبّاس : كان هارون عليه‌السلام أسنّ من موسى عليه‌السلام ، فوقعت الهبة على معاضدته ومؤازرته.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

__________________

(١) جوامع الجامع ٢ : ١٨.

(٢) الكشّاف ٣ : ٢٢.

(٣) طه : ٢٩.

١٨٦

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) إذا وعد بشيء وفى به ولم يخلف. ذكره بذلك لأنّه المشهور به ، وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء ، فإنّه الموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره. وناهيك (١) أنّه وعد الصبر على الذبح ، فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٢) فوفى.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه واعد رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل ، فانتظره مدّة كثيرة حتى أتاه الرجل». وعن مقاتل : أقام أن ينتظره ثلاثة أيّام.

(وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) يدلّ هذا على أنّ الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة ، فإنّ أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنّهم أولى من سائر الناس ، فإنّ الرجل يقبل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل. قال الله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٣).

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) (٤) و (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (٥). ألا ترى أنّهم أحقّ بالتصدّق عليهم ، فالإحسان الديني أولى. وقيل : إنّه كان يأمر أهله بصلاة الليل وصدقة النهار.

وقيل : أهله أمّته كلّهم من القرابة وغيرهم ، فإنّ الأنبياء آباء أممهم ، وأممهم في عداد أهاليهم.

وفيه : أنّ من حقّ الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب ، فضلا عن الأقارب

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «النهاية : الغاية. وفلان ناهيك ونهيك ، كما تقول : كافيك وحسبك. وتأويله : أنه غاية تنهاك عن تطلّب غيره. والتطلّب : الطلب مرّة بعد مرّة. منه».

(٢) الصافّات : ١٠٢.

(٣) الشعراء : ٢١٤.

(٤) طه : ١٣٢.

(٥) التحريم : ٦.

١٨٧

والمتّصلين به ، وأن يحظيهم بالفوائد الدينيّة ، ولا يفرّط في شيء من ذلك.

(وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) لاستقامة أقواله وأفعاله كلّها.

روى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه إبراهيم ، وإنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه ، فسلخوا جلدة وجهه وفروة رأسه ، فخيّره الله فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ورضي بثوابه ، وفوّض أمرهم إلى الله في عفوه وعقابه. وقد أتاه ملك من ربّه يقرئه السلام ويقول : قد رأيت ما صنع بك ، وقد أمرني بطاعتك ، فمرني بما شئت. فقال : يكون لي بالحسين عليه‌السلام قدوة».

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧))

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) وهو سبط شيث ، وجدّ أبي نوح. واسمه أخنوخ.

واشتقاقه من الدرس يردّه منع صرفه. وكذلك إبليس أعجميّ ، وليس من الإبلاس كما يزعمون ، ولا يعقوب من العقب ، ولا إسرائيل من إسراءل ، والأسر القوّة ، والإل هو الله ، كما زعم ابن السكّيت. ومن لم يحقّق ولم يتدرّب بالصناعة كثر منه أمثال هذه الهنات.

ولا يبعد أن يكون إدريس في تلك اللغة ملقّبا به لكثرة درسه ، إذ روي أنّه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وأنّه أوّل من خطّ بالقلم ، ونظر في علم النجوم والحساب ، وأوّل من خاط الثياب ولبسها ، وكانوا يلبسون الجلود.

(إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) رفيعا شريفا عند الله في رفعة الدرجة ومزيّة القربة. وقيل : المراد الجنّة. وقيل : السماء السادسة أو الرابعة ، فإنّه رفع إليها كما رفع عيسى وهو حيّ لم يمت. وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنّه قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة».

واعلم أنّه يجوز أن يكون تقديم ذكر إبراهيم على موسى ، وموسى على إسماعيل ،

١٨٨

وإسماعيل على إدريس ، لأجل تقدّم شرف كلّ واحد منهم على الآخر ، ومزيّة مرتبة بعضهم على بعض على الترتيب المذكور.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢))

ولمّا فصّل سبحانه ذكر النبيّين ، ووصف كلّا منهم بصفة تخصّه ، جمعهم في المدح والثناء ، فقال : (أُولئِكَ) أي : هؤلاء المذكورون في السورة من زكريّا إلى إدريس (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بأنواع النعم الدينيّة والدنيويّة (مِنَ النَّبِيِّينَ) بيان للموصول (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) بدل منه بإعادة الجارّ. ويجوز أن تكون «من» فيه للتبعيض ، لأنّ المنعم عليهم أعمّ من الأنبياء وأخصّ من الذرّيّة.

(وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) من ذرّيّة من حملنا خصوصا. وهم من عدا إدريس ، فإنّ إبراهيم كان من ذرّيّة سام بن نوح. (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) الباقون (وَإِسْرائِيلَ) عطف على «إبراهيم» أي : ومن ذرّيّة إسرائيل.

١٨٩

وإنّما فرّق سبحانه ذكر نسبهم ، مع أنّ كلّهم كانوا من ذرّيّة آدم ، لتبيان مراتبهم في شرف النسب ، فإنّه كان لإدريس شرف القرب لآدم ، لأنّه جدّ نوح عليه‌السلام. وكان إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح ، كما ذكر آنفا. وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرّيّة إبراهيم ، فلمّا تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم. وكذلك كان موسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى من ذرّيّة إسرائيل. وفيه دليل على أنّ أولاد البنات من الذرّيّة ، فإنّ مريم من ذرّيّة إسرائيل.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا) عطف على «من» الأولى أو الثانية ، أي : هؤلاء من جملة من أرشدناه إلى الحقّ (وَاجْتَبَيْنا) للنبوّة والكرامة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) من كتبه السماويّة (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) خبر لـ «أولئك» إن جعل الموصول صفة ، واستئناف إن جعل خبرا ، لبيان أنّهم مع جلالة قدرهم وشرف نسبهم وكمال أنفسهم وزلفاهم من الله تعالى ، كانوا يبكون عند ذكر آيات الله مخبتين خاشعين ، وهؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيّئات بهم.

والبكيّ جمع باك ، كالسجود جمع ساجد. وقرأ حمزة والكسائي : بكيّا بكسر الباء.

روي عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «نحن عنينا بهذه الآية».

ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس : أنّ المراد من آيات الرحمن هاهنا القرآن. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتلوا القرآن وابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا».

وعن صالح المرّي : قرأت القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فقال لي : يا صالح هذه القراءة ، فأين البكاء؟!

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فتحازنوا».

وعن ابن عبّاس : إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتّى تبكوا ، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه.

١٩٠

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) فعقّبهم وجاء بعدهم عقب سوء. يقال : خلف صدق بالفتح ، وخلف سوء بالسكون ، كما قالوا : وعد في الخير ، ووعيد في الشرّ. (أَضاعُوا الصَّلاةَ) تركوها. وعن ابن مسعود : أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها أصلا. ويؤيّد الأوّل الاستثناء من بعده. (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) أنفذوها فيما حرّم عليهم.

عن ابن عبّاس : هم اليهود ، تركوا الصلاة المفروضة ، وشربوا الخمر ، واستحلّوا نكاح الأخت من الأب ، وانهمكوا في المعاصي.

وعن قتادة : هم من هذه الأمّة عند قيام الساعة.

وعن علي عليه‌السلام في قوله : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) من بني الشديد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور» (١).

(فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) شرّا ، فإنّ كلّ شرّ عند العرب غيّ ، كقوله :

فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أو جزاء غيّ ، كقوله : (يَلْقَ أَثاماً) (٢) أي : مجازاة أثام. أو غيّا عن طريق الجنّة.

وعن ابن مسعود : هو واد في جهنّم تستعيذ منه أوديتها.

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) يدلّ على أنّ الآية في الكفرة (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب على البناء للمفعول ، من : أدخل. (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ولا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم. ويجوز أن ينتصب «شيئا» على المصدر ، أي : ظلما حقيرا ، فإنّ «شيئا» وقع موقعه. وفيه تنبيه على أنّ كفرهم السابق لا يضرّهم ، ولا ينقص أجورهم.

__________________

(١) رواه الزمخشري في الكشّاف (٣ : ٢٦) بهذا اللفظ. والشديد : الرفيع. ولعلّه إشارة إلى بناء القصور الرفيعة المشيّدة ، وركوب الحيوان للخيلاء والتبختر ، ولباس الشهرة.

(٢) الفرقان : ٦٨.

١٩١

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنّة بدل البعض ، لأنّ الجنّة قد اشتملت عليها. أو منصوب على المدح.

و «عدن» بمعنى الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به. أو هو علم لأرض الجنّة ، لكونها مكان إقامة ، ولو لا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأنّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلّا موصوفة ، ولما ساغ وصفها بـ «الّتي» في قوله (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) أي : عباده المؤمنين (بِالْغَيْبِ) أي : وعدها إيّاهم وهي غائبة عنهم ، أو هم غائبون عنها. أو وعدهم بإيمانهم بالغيب.

(إِنَّهُ) إنّ الله (كانَ وَعْدُهُ) الّذي هو الجنّة (مَأْتِيًّا) يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة. وقيل : هو مأخوذ من : أتى إليه إحسانا ، أي : باشره وصنع إليه. ومنه قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) (١) أي : يباشرنها. والمعنى : وكان وعد الله مفعولا منجّزا.

وفي المجمع : «المفعول هنا بمعنى الفاعل ، لأن ما أتيته فقد أتاك ، وما أتاك فقد أتيته» (٢).

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) فضول كلام وما لا طائل تحته. وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنّب اللغو واتّقائه ، حيث نزّه الله عنه الدار الّتي لا تكليف فيها. وما أحسن ما قال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٣) (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٤) نعوذ بالله من اللغو والجهل ، والخوض فيما لا يعنينا.

(إِلَّا سَلاماً) ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة. أو تسليم

__________________

(١) النساء : ١٥.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٥٢١.

(٣) الفرقان : ٧٢.

(٤) القصص : ٥٥.

١٩٢

الملائكة عليهم. أو تسليم بعضهم على بعض ، على الاستثناء المنقطع. أو على معنى أنّ التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه ، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أو على أنّ الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه ، فهو من باب اللغو ظاهرا ، وإنّما فائدته الإكرام.

ولمّا كانت العرب تأكل الوجبة ، وهي الأكلة الواحدة في اليوم ، أخبر الله سبحانه بقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) على العادة المحمودة بين المتنعّمين ، والتوسّط بين الوجبة الّتي هي طرف التفريط ، وبين دوام الأكل كلّ الأوقات كما هو عادة المنهومين ولا يكون ثمّ ليل ولا نهار ، ولا قمر وشمس ، ليكون لهم بكرة وعشيّ. والمراد : أنّهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء والعشاء.

وقيل : إنّهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ومقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب.

وقيل : المراد دوام الرزق ودروره ، كما تقول : أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيّا ، تريد الديمومة ، ولا تقصد الوقتين المعلومين.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

قيل : إنّ العاص بن وائل السهمي لم يعط أجرة أجير استعمله ، وقال : لو كان ما

١٩٣

يقوله محمد حقّا فنحن أولى بالجنّة ونعيمها! فحينئذ أوفّره أجره ، فنزلت : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم ، كما يبقى على الوارث مال مورّثه. والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملّك والاستحقاق ، من حيث إنّها لا تعقّب بفسخ ولا استرجاع ، ولا تبطل بردّ ولا إسقاط.

وقيل : أورثوا من الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا ، زيادة في كرامتهم. وعن يعقوب : نورّث بالتشديد. واعلم أنّه قد مرّ (١) في سورة الكهف أنّه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قصّة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، ولم يدر ما يجيب ، ورجا أن يوحى إليه فيه ، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما ، وقيل : أربعين ، حتّى قال المشركون : ودّعه ربّه وقلاه ، فشقّ ذلك عليه مشقّة شديدة. ثمّ نزل جبرئيل ببيان ذلك. فقال رسول الله : أبطأت وإنّي اشتقت إليك. قال : إنّي كنت أشوق ، ولكنّي عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست. فنزلت : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فهو حكاية قول جبرئيل حين استبطأه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والتنزّل : النزول على مهل ، لأنّه مطاوع : نزل. وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا ، كما يطلق «نزل» بمعنى : أنزل.

والمعنى : ما نتنزّل وقتا غبّ وقت إلّا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته.

(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما قدّامنا (وَما خَلْفَنا) من الجهات والأماكن (وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) لأعمال العاملين وغيرها ، فإنّه لا يجوز عليه الغفلة والنسيان.

والمعنى : ما كان عدم نزولنا إليك إلّا لعدم الأمر به ، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته ، ونتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، ومكان إلى مكان ، إلّا بأمر المليك ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكلّ حركة وسكون. وما يحدث ويتجدّد من الأحوال لا يجوز عليه الغفلة

__________________

(١) راجع ص ١٠٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة الكهف.

١٩٤

والنسيان ، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته إلّا إذا راى ذلك مصلحة وحكمة ، وأطلق لنا الإذن فيه.

وقيل : معناه : وما كان ربّك تاركا لك ، كقوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (١) أي : احتباس الوحي لم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إيّاك كما زعمت الكفرة ، وإنّما كان لحكمة رآها فيه.

وقيل : أوّل الآية حكاية قول المتّقين حين يدخلون الجنّة. والمعنى : وما ننزل الجنّة إلّا بأمر الله ولطفه ، وهو مالك الأمور كلّها ، السالفة والمترقّبة والحاضرة ، فما وجدناه وما نجده من فضله ولطفه. وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) تقرير من الله لقولهم : أي : وما كان ناسيا لأعمال العاملين ، وما وعد لهم من الثواب عليها ، وكيف يجوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماوات والأرض وما بينهما؟! وقيل : ما سلف من أمر الدنيا ، وما يستقبل من أمر الآخرة ، وما بين ذلك ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة.

وقيل : ما مضى من أعمارنا ، وما غبر منها ، والحال الّتي نحن فيها.

وقيل : ما قبل وجودنا ، وما بعد فنائنا ، وحين حياتنا.

وقيل : الأرض الّتي بين أيدينا إذا نزلنا ، والسّماء الّتي وراءنا ، وما بين السماء والأرض.

وتوضيح المعنى : أنّه المحيط بكلّ شيء ، لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة ، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلّا صادرا عمّا توجبه حكمته ، ويأمرنا به ، ويأذن لنا فيه؟! وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) بيان لامتناع النسيان عليه. وهو خبر محذوف ، أو بدل من «ربّك» أي : كيف يجوز النسيان والغفلة على من له ملك

__________________

(١) الضّحى : ٣.

١٩٥

السماوات والأرض وما بينهما؟! فحين عرفته بهذه الصفة (فَاعْبُدْهُ) وحده (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي : اصبر على تحمّل مشقّة عبادته ، يثبك كما أثاب غيرك من المتّقين.

وهذا خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مرتّب على ما قبله ، أي : لمّا عرفت ربّك بأنّه لا ينبغي له أن ينساك أو ينسى أعمال العمّال ، فأقبل على عبادته ، واصطبر عليها ، ولا تتشوّش بإبطاء الوحي وهزء الكفرة.

وإنّما عدّي باللام لتضمّنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاقّ ، كقولك للمحارب : اصطبر لقرنك ، أي : اثبت للعبادة ، ولا تهن ، ولا يضق صدرك عن إلقاء عداتك (١) من أهل الكتاب إليك الأغاليط (٢) ، وعن احتباس الوحي عليك مدّة ، وعن شماتة المشركين بك.

(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) مثلا وشبيها يستحقّ أن يسمّى إلها ، أو أحدا سمّي الله؟! فإنّ المشركين وإن سمّوا الصنم إلها لم يسمّوه الله قطّ ، وذلك لظهور أحديّته ، وتعالى ذاته عن المماثلة ، بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة. أو هل تعلم أحدا يسمّى خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على الثواب والعقاب سواه حتّى تعبده؟ فإذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته.

والاستفهام لتقرير الأمر ، أي : إذا صحّ أن لا أحد مثله ، ولا يستحقّ العبادة غيره ، لم يكن بدّ من التسليم لأمره ، والاشتغال بعبادته ، والاصطبار على مشاقّها.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢))

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «العداة جمع عاد ، وهو الظالم ، كقضاة جمع قاض. منه».

(٢) في هامش النسخة الخطية : «الأغاليط جمع أغلوط وأغلوطة. وفي الحديث نهي عن المغلوطات والأغلوطات. وهي المبهمة من المسائل. منه».

١٩٦

روي : أنّ أبيّ بن خلف الجمحي ـ وبرواية ابن عبّاس : الوليد بن المغيرة ـ أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ، ويقول : زعم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاما مثل هذا ، إنّ هذا شيء لا يكون أبدا. فنزلت : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ).

قيل : المراد به الجنس بأسره ، فإنّ المقول مقول فيما بينهم وإن لم يقله كلّهم ، كقولك : بنو فلان قتلوا فلانا ، والقاتل واحد منهم. أو المراد بعضهم المعهود ، وهم الكفرة.

(أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) من الأرض ، أو من حال الموت. وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار ، لأنّ المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة. وانتصابه بفعل دلّ عليه «اخرج» لابه ، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها ، ولهذا لا يقال : اليوم لزيد قائم.

و «ما» في «أإذا ما» للتأكيد. واللام هنا مخلصة للتوكيد ، مجرّدة عن معنى الحال ، فلهذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال ، كما خلصت الهمزة واللام في «يا الله» للتعويض.

وروي عن ابن ذكوان : «إذا ما متّ» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) عطف على «ويقول». وتوسيط همزة الإنكار بينه وبين العاطف ، مع أنّ الأصل أن يتقدّمهما ويقال : أيقول ذلك ولا يتذكّر ، للدلالة على أنّ المنكر بالذات هو المعطوف ، وأنّ المعطوف عليه إنّما نشأ منه ، فإنّه لو تذكّر وتأمّل (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك ، فإنّه أعجب وأغرب من جمع

١٩٧

الموادّ بعد التفريق ، وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض ، وأدلّ على قدرة الخالق ، حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود. ثمّ أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم الّتي تحار فيها الفطن ، من غير حذو على مثال ، واقتداء بمؤلّف ، ولكن اختراعا وإبداعا من عند قادر ، جلّت قدرته ، ودقّت حكمته.

وأمّا النشأة الثانية فقد تقدّمت نظيرتها وعادت لها كالمثال المحتذى عليه ، وليس فيها إلّا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية وتركيبها ، وردّها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك والتفريق.

وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) دليل على هذا المعنى. وكذلك قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) على أنّ ربّ العزّة سواء عليه النشأتان ، لا يتفاوت في قدرته الصعب والسهل ، ولا يحتاج إلى احتذاء على مثال ، ولا استعانة بحكيم ، ولا نظر في مقياس ، ولكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته ، وكشفا عن صفحة جهله.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وقالون عن يعقوب : يذّكّر ، من التذكّر الّذي يراد به التفكّر.

ثمّ أقسم سبحانه باسمه مبالغة وتأكيدا لوقوع الحشر ، فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) أضاف اسمه إلى نبيّه تفخيما لشأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقوله : (وَالشَّياطِينَ) عطف على المفعول به ، أو مفعول معه. وهذا أحسن ، لما روي أنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الّذين أغووهم ، كلّ كافر مع شيطانه في سلسلة. هذا إذا كان المراد بالإنسان الكفرة خاصّة. أمّا إذا أريد الأناسي على العموم ، فالمعنى : أنّهم إذا حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين ، فقد صدق أنّهم حشروا جميعا معهم ، كقوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) (٢) ، وإن كان القمر في فلك واحد.

__________________

(١) الروم : ٢٧.

(٢) نوح : ١٦.

١٩٨

(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ) جميعا (حَوْلَ جَهَنَّمَ) ليرى السعداء ما نجّاهم الله منه ، فيزدادوا غبطة وسرورا ، وليشمتوا بأعداء الله وأعدائهم ، فتزداد مساءتهم ، وينال الأشقياء ما ادّخروا لمعادهم عدّة ، فيزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب ، وشماتتهم عليهم.

(جِثِيًّا) متجاثين (١) على ركبهم ، لما يدهمهم من هول المطّلع. أو لأنّه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإنّ أهل الموقف كلّهم جاثون ، لقوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) (٢) على المعتاد في مواقف التقاول. وإن كان المراد بالإنسان الكفرة ، فيجوز أن يساقوا جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنّم إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام ، لما عراهم من الشدّة.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر الجيم. وكذا في : عتيّا وصليّا.

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) لنستخرجنّ (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) فعلة بمعنى الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت. والمراد : من كلّ أمّة شاعت دينا. (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) من كان أعتى وأعصى منهم ، فنطرحهم في جهنّم. والعتيّ مصدر ، كالعتوّ ، وهو التمرّد في العصيان.

وفي ذكر الأشدّ تنبيه على أنّه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان. ولو خصّ بالكفرة ، فالمراد أنّه يميّز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ، ويطرحهم في النار على الترتيب ، أو يدخل كلّا طبقتها الّتي تليق به.

واختلفوا في «أيّهم» ، فعند سيبويه أنّه مبنيّ على الضمّ ، لأنّ حقّه أن يبنى كسائر الموصولات ، لكنّه أعرب حملا على «كلّ» و «بعض» للزوم الإضافة ، فإذا حذف صدر صلته زاد نقصه ، فعاد إلى بنائه ، لتأكّد شبه الحرف من جهة الاحتياج إلى أمر غير الصلة ،

__________________

(١) جثا جثوّا وجثيّا : جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه ، فهو جاث ، وجمعه : جثيّ وجثيّ.

(٢) الجاثية : ٢٨.

١٩٩

فإنّ جزء الصلة غير الصلة. وبنيت على الضمّ تشبيها لها بالغايات ، لأنّه حذف منها بعض ما يوضحها ، كما حذف من الغايات ما يبيّنها ، أعني : المضاف إليه.

وهو منصوب المحلّ بـ «ننزعنّ». وعند الخليل مرفوع ، إمّا بالابتداء على أنّه استفهاميّ ، وخبره «أشدّ» ، والجملة محكيّة. وتقدير الكلام : لننزعنّ من كلّ شيعة الّذين يقال فيهم : أيّهم أشدّ. أو الجملة معلّق عنها بـ «ننزعنّ» ، لتضمّنه معنى التمييز اللازم للعلم. أو مستأنفة والفعل واقع على «من كلّ شيعة» ، على زيادة «من» ، كما تقول : أكلت من كلّ طعام. أو على معنى : لننزعنّ بعض كلّ شيعة. وإمّا بـ «شيعة» لأنّها بمعنى : تشيع ، و «على» للبيان ، أو متعلّق بـ «أفعل» أي : عتوّهم أشدّ على الرحمن.

وكذا الباء في قوله : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي : أولى بالصليّ ، أو صليّهم أولى بالنار ، وهم المنتزعون. ويجوز أن يراد بهم وبأشدّهم عتيّا رؤساء الشيع ، فإنّ عذابهم مضاعف ، لضلالهم وإضلالهم.

والمعنى : نحن أعلم بالّذين هم أولى بشدّة العذاب ، وأحقّ بعظيم العقاب ، وأجدر بلزوم النار.

وقرأ حمزة والكسائي وحفص : صليّا بكسر الصاد. وهو لازم من باب : علم ، بمعنى الدخول في النار والحرق بها.

ثمّ التفت إلى الإنسان فقال خطابا لهم : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) إلّا واصلها وحاضر عندها. وقيل : خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور ، أمّا المؤمن منهم فيمرّ بها وهي خامدة ، وأمّا الكافر فتنهار به.

وعن جابر أنّه سئل عليه‌السلام عنه ، فقال : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة.

وعنه أيضا : أنّه سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدخول ، لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت

٢٠٠