زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

ثمّ نبّه على مقتضى الجهاد والداعي إليه بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) اختاركم لدينه ولنصرته (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : ضيق بتكليف ما يشتدّ القيام به عليكم. وفيه إشارة إلى أنّ التكليف بالجهاد حيث شقّ عليهم لا مانع لهم عنه ، ولا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وقيل : عدم الحرج بأن جعل الله تعالى لهم من كلّ ذنب مخرجا ، بأن رخّص لهم عند الضرورات ، كالتيمّم والقصر وأكل الميتة وغير ذلك ، وفتح عليهم باب التوبة ، وشرع لهم الكفّارات في حقوقه ، والأروش والديات في حقوق العباد. ونحوه قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١). وفي الحديث : «إنّ أمّتي أمّة مرحومة».

والحاصل : أنّ الله لم يضيّق عليكم أمر الدين ، فلن يكلّفكم ما لا تطيقون ، بل كلّف دون الوسع ، فلا عذر لأحد منكم في ترك الاستعداد للآخرة.

وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) منصوب على المصدر بفعل مقدّر دلّ عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف ، أي : وسّع دينكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم ، ثمّ حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو على الإغراء والاختصاص ، أي : أعني بالدين ملّة أبيكم ، كقولك : الحمد لله الحميد.

وإنّما جعله أباهم لأنّه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو كالأب لأمّته ، من حيث إنّه سبب لحياتهم الأبديّة ، ووجودهم على الوجه المعتدّ به في الآخرة أو لأنّ أكثر العرب كانوا من ذرّيّة إسماعيل ، وأكثر العجم من ولد إسحاق ، فغلّبوا على غيرهم.

(هُوَ) أي : الله سبحانه (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) من قبل القرآن في الكتب المتقدّمة (وَفِي هذا) وفي القرآن ، أي : سمّاكم بهذا الاسم الأكرم في جميع كتبه المنزلة.

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٤٢١

أو الضمير لإبراهيم. وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه ، لكن كانت بسبب تسميته من قبل في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (١). وقيل : معناه : وفي هذا بيان تسميته إيّاكم مسلمين.

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ) متعلّق بـ «سمّاكم» أي : سمّاكم المسلمين وفضّلكم ليكون رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بأنّه بلّغكم ، وقبلتم تبليغه مسلمين منقادين له ، فتقبل شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته. أو بطاعة من أطاع ، وعصيان من عصى.

(وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتبليغ الرسل إليهم. ومثله قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٢).

وقيل : معناه : لتكونوا شهداء على الّذين بعدكم ، بأن تبلّغوا إليهم ما بلّغه الرسول إليكم ، إذ خصّكم بهذه الكرامة والفضل والشرف.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فتقرّبوا إلى الله بأنواع الطاعات البدنيّة والماليّة ، وتمسّكوا بدينه (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) وثقوا به في مجامع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلّا منه (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولّي أموركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو ، إذ لا مثل له في الولاية والنصرة ، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة.

وقيل : فنعم المولى إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه ، ونعم النصير إذ أعانكم لمّا أطعتموه.

__________________

(١) البقرة : ١٢٨.

(٢) البقرة : ١٤٣.

٤٢٢

(٢٣)

سورة المؤمنون

مكّيّة ، وهي مائة وثماني عشرة آية. عن أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان ، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة ، ثمّ قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتّى ختم العشر».

وروي : «أنّ أوّلها وآخرها من كنوز الجنّة ، من عمل بثلاث آيات من أوّلها ، واتّعظ بأربع من آخرها ، فقد نجا وأفلح».

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة ، إذا كان يدمن قراءتها في كلّ جمعة ، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

ولمّا ختم الله سبحانه سورة الحجّ بأمر المكلّفين بالعبادة وأفعال الخير على طريق

٤٢٣

الإجمال ، افتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة وبيان تلك الأفعال ، ولمّا كان المؤمنون متوقّعين من فضل الله ، صدّر هذه السورة ببشارتهم ، فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) «قد» تثبت المتوقّع ، كما أنّ «لمّا» تنفيه ، وتدلّ على ثباته إذا دخلت على الماضي ، ولذلك تقّربه من الحال. والفلاح الظفر بالمراد. وقيل : البقاء في الخير. ويقال : أفلح إذا دخل في الفلاح ، كأبشر إذا دخل في البشارة. والمؤمن لغة : المصدّق. وشرعا : الّذي صدّق بوحدانيّته وبرسله وبجميع ما جاؤا به.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خائفون من الله خاضعون ، متذلّلون له ، ملزمون أبصارهم مساجدهم.

روي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي رافعا بصره إلى السماء ، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده. وأنّه رأى رجلا يبعث بلحيته في الصلاة ، فقال : «لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه».

وفي هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمّة لها والإعراض عمّا سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود. وأمّا الجوارح فهو أن يلتزم كلّ جارحة بما أمر به في الصلاة ، ويستعمل الآداب ، فيتوقّى من العبث بجسده وثيابه ، والالتفات ، والتمطّي ، والتثاؤب ، والتغميض ، والفرقعة ، والتشبيك ، وتقليب الحصى ، وغير ذلك.

ونظر الحسن البصري إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهمّ زوّجني من الحور العين. فقال : بئس الخاطب أنت! تخطب وأنت تعبث.

وأضيفت الصلاة إليهم لأنّهم المنتفعون بها فقط ، وهي عدّتهم وذخيرتهم ، وأمّا المصلّى له فغنيّ متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

وعن ابن عبّاس : الخاشع في الصلاة هو الّذي لا يعرف من على يمينه ، ولا من على يساره.

٤٢٤

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة ، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقّين على الأنفس ، اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف ، فقال : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) عمّا لا يعنيهم من قول أو فعل ، كالهزل واللعب (مُعْرِضُونَ) لما بهم من الجدّ في الطاعات ما شغلهم عنه.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل ، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله». وفي رواية أخرى : «أنّه الغناء والملاهي».

وإيثاره على : الّذين لا يلهون ، لأنّه أبلغ منه من وجوه ، وهي : جعل الجملة اسميّة ، وبناء الحكم على الضمير ، والتعبير عنه بالاسم ، وتقديم الصلة عليه ، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدلّ على بعدهم عنه رأسا ، مباشرة وتسبّبا ، وميلا وحضورا ، فإنّ الإعراض أبلغ من الترك لغة وعرفا.

وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ، ليدلّ على أنّهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنيّة والماليّة ، والتجنّب

٤٢٥

عن المحرّمات ، وسائر ما توجب المروءة اجتنابه. والزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى.

فالعين : القدر الّذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير. والمعنى : فعل المزكّي الّذي هو التزكية ، فإنّه هو الّذي أراده الله عزوجل ، لأنّ الفاعل فاعل الحدث ، لا المحلّ الّذي هو موقعه. أو المراد الأوّل على تقدير مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) لا يبذلونها (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) زوجاتهم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) سريّاتهم. و «على» صلة لـ «حافظون». من قولك : احفظ عليّ عنان فرسي. على تضمينه معنى النفي ، كما ضمّن قولهم : نشدتك بالله إلّا فعلت ، معنى : ما طلبت منك إلّا فعلك.

أو حال ، أي : إلّا والين على أزواجهم ، أو قوّامين عليهنّ. من قولك : كان فلان على فلانة ، فمات عنها فخلّف عليها فلان. ومنه قولهم : فلانة تحت فلان. ومن ثمّ سمّيت المرأة فراشا. والمعنى : أنّهم لفروجهم حافظون في كافّة الأحوال ، إلّا في حال التزوّج أو التسرّي.

أو تعلّق «على» بمحذوف يدلّ عليه «غير ملومين». كأنّه قيل : يلامون إلّا على أزواجهم ، أي : يلامون على كلّ مباشر إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

وإنّما قال : «ما» وهنّ من جنس العقلاء ، إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء ، إذ الملك أصل شائع فيه. وإفراد ذلك بعد تعميم قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) لأنّ المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطرا.

(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الضمير لـ «حافظون». أو لمن دلّ عليه الاستثناء ، أي : فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم ، فإنّهم غير ملومين على ذلك.

وإنّما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج والإماء ، وإن كانت لهنّ أحوال يحرم وطؤهنّ فيها ، كحال الحيض والعدّة للجارية من زوج لها ، وما أشبه ذلك ، لأنّ الغرض بالآية بيان جنس من يحلّ وطؤها ، دون الأحوال الّتي لا يحلّ فيها الوطء.

٤٢٦

(فَمَنِ ابْتَغى) طلب (وَراءَ ذلِكَ) الحدّ المستثنى مع فسحته واتّساعه. وهو إباحة أربع من الحرائر ، ومن الإماء ما شاء. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الكاملون في العدوان ، المتناهون فيه.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) لما يؤتمنون عليه وما يعاهدون ، من جهة الحقّ ، من العهود في أداء الطاعات وترك المنكرات والمواثيق ، أو الخلق ، من الأمانات وعهودهم. ومثله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ) (١). (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) (٢). (راعُونَ) قائمون بحفظها وإصلاحها ، كراعي الغنم وراعي الرعيّة.

وقرأ ابن كثير : لأمانتهم على الإفراد ، لأمن الإلباس ، أو لأنّها في الأصل مصدر.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يواظبون عليها ، ويؤدّونها في أوقاتها.

والإتيان بلفظ الفعل هاهنا لما في الصلاة من التجدّد والتكرّر ، ولذلك جمعه غير حمزة والكسائي. وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أوّلا ، لأنّ الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها. وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها.

(أُولئِكَ) الجامعون لهذه الصفات (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقّاء بأن يسمّوا ورّاثا دون غيرهم.

ثمّ بيّن الوارثين بقوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) وفي التبيين بعد الإجمال تفخيم لوراثتهم لا يخفى على المتأمّل. وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس لأجل أعمالهم ، مبالغة فيه.

وقيل : إنّهم يرثون من الكفّار منازلهم فيها حيث فوّتوها على أنفسهم ، لأنّه تعالى خلق لكلّ إنسان منزلا في الجنّة ومنزلا في النار ، لما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ما منكم من أحد إلّا له منزلان : منزل في الجنّة ، ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث

__________________

(١) النساء : ٥٨.

(٢) الأنفال : ٢٧.

٤٢٧

أهل الجنّة منزله».

وقال الجبائي : معنى الوراثة هاهنا أنّ الجنّة ونعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب ، كما يؤول المال إلى الوارث من غير اكتساب. والفردوس : هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمار.

(هُمْ فِيها) في الفردوس (خالِدُونَ) أنّث الضمير لأنّه اسم للجنّة ، أو لطبقتها العليا.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله عزوجل بنى جنّة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وجعل خلالها المسك الأذفر» (١).

وفي رواية : «ولبنة من مسك مذرّى (٢) ، وغرس فيها من جيّد الفاكهة».

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

ثمّ استدلّ على قدرته على إعادة الإيجاد بقدرته على الإبداء ، فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ) أي : من خلاصة ، لأنّها سلّت من بين الكدر. والفعالة بناء

__________________

(١) أي : الشديد الرائحة.

(٢) أي : مفرّق ، من : ذرّت الريح التراب : فرّقته.

٤٢٨

لقلّة ، كالقلامة والقمامة. (مِنْ طِينٍ) متعلّق بمحذوف ، لأنّه صفة لـ «سلالة». أو «من» بيانيّة. أو بمعنى سلالة ، لأنّها في معنى : مسلولة ، فتكون «من» ابتدائيّة كالأولى.

والمراد بالإنسان آدم عليه‌السلام ، خلق من صفوة سلّت من الطين. أو الجنس ، فإنّهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار. قيل : المراد بالطين آدم ، لأنّه خلق منه ، والسلالة : نطفته.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : جعلنا نسله ، فحذف المضاف (نُطْفَةً) بأن خلقناه منها.

يعني : خلقنا جوهر الإنسان أوّلا طينا ، ثمّ جعلنا جوهره بعد ذلك نطفة ، أو ثمّ جعلنا السلالة نطفة. وتذكير الضمير على تأويل الجوهر ، أو المسلول ، أو الماء. (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) مستقرّ حصين. يعني : الرحم. وصفت بالمكانة الّتي هي صفة المستقرّ فيها مبالغة ، مثل : طريق سائر ، ونهر جار ، وميزاب سائل.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) فصيّرناها قطعة لحم (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) بأن صلّبناها (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي : فأنبتنا اللحم عليها كاللباس ممّا بقي من المضغة ، أو ممّا أنبتنا عليها ممّا يصل إليها من المائيّة. واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات. وجمع العظام لاختلافها في الهيئة والصلابة. وقرأ ابن عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما ، اكتفاء باسم الجنس عن الجمع.

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها ، حيث نفخنا فيه الروح ، وجعلناه حيوانا ناطقا سميعا بصيرا ، بعد أن كان جمادا أبكم أصمّ أكمه.

والمراد مجموع صورة البدن والرّوح والقوى ، وسائر ما أودع فيه من عجائب فطرة وغرائب حكمة ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح. وإيراد «ثمّ» لما بين الخلقين من التفاوت.

(فَتَبارَكَ اللهُ) فتعالى شأنه في قدرته وحكمته ، ودام خيره (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)

٤٢٩

المقدّرين تقديرا. فحذف المميّز لدلالة «الخالقين» عليه.

روي : أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنطق بذلك قبل إملائه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اكتب هكذا نزلت».

وعلى رواية اخرى : فلمّا بلغ إلى قوله : «خلقا آخر» خطر بباله : فتبارك الله أحسن الخالقين ، فلمّا أملاها رسول الله كذلك قال عبد الله : إن كان محمّد نبيّا يوحى إليه فأنا نبيّ يوحى إليّ. فلحق بمكّة كافرا ، ثمّ أسلم يوم الفتح.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) بعد ما ذكرنا من تمام الخلق (لَمَيِّتُونَ) لصائرون إلى الموت لا محالة ، ولذلك ذكر النعت الّذي للثبوت دون اسم الفاعل.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) للمحاسبة والمجازاة. أخبر سبحانه بذلك أنّ هذه البنية العجيبة ، المبنيّة على أحسن إتقان وإحكام ، تنقض بالموت لغرض صحيح ، وهو البعث والإعادة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة الّتي هي حياة القبر ، فإنّ إثبات البعث يوم القيامة لا يدلّ على نفي ما عداه ، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك وطويت ذكر ثلثه ، لم يكن دليلا على أنّ الثلث ليس عندك. وأيضا الغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة : الإنشاء والإماتة والإعادة ، والمطويّ ذكرها من جنس الإعادة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي

٤٣٠

بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

ثمّ ذكر قدرته على وجوه أخر ليستدلّ بها على قدرته على البعث ، فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي : سبع سماوات ، لأنّها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل ، وكلّ ما فوقه مثله فهو طريقة. أو لأنّها طرق الملائكة ومتقلّباتهم ، أو طرق الكواكب في السماوات ومسايرها.

(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) عن ذلك المخلوق الّذي هو السماوات (غافِلِينَ) مهملين أمرها ، بل نحفظها عن الزوال والاختلال بقدرتنا ، حتّى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلّقت به المشيئة. أو ما كنّا عن خلق الناس وسائر المخلوقات غافلين ، وإنّما خلقنا السماوات السّبع فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها ، وينفعهم بأنواع منافعها.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) بتقدير يصلون إلى المنفعة العظيمة ، ويسلمون معه من المضرّة. أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم. (فَأَسْكَنَّاهُ) فجعلناه ثابتا مستقرّا (فِي الْأَرْضِ) بأن جعلنا له الأرض مسكنا جمعناه فيه لينتفع به. يريد ما يبقى من المستنقعات والآبار والدّحلان (١) ، فإنّ الله أقرّ الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع المطر.

وروى مقاتل عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله تعالى أنزل من الجنّة خمسة أنهار : سيحون وهو نهر الهند ، وجيحون وهو نهر بلخ ، ودجلة

__________________

(١) الدّحلان جمع الدّحل ، وهو النقب الضيّق الأعلى والواسع الأسفل ، أو البئر الواسعة الجوانب الضيّقة الرأس.

٤٣١

والفرات وهما نهرا العراق ، والنيل وهو نهر مصر. أنزلها الله من عين واحدة ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ).

(وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) على إزالته بالإفساد ، أو التصعيد ، أو التعميق ، بحيث يتعذّر استنباطه (لَقادِرُونَ) كما كنّا قادرين على إنزاله. وفي تنكير الذهاب إيماء إلى كثرة طرق الذهاب ، وكمال اقتدار مذهبه ، ومبالغة في الإيعاد به. ولذلك جعل أبلغ من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (١). فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء ، ويقيّدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر.

وفي الحديث : «النعم وحشيّة فقيّدوها بالشكر».

وقال بعض العلماء : الشكر للنعمة الحاضرة قيد ، وللمترقّبة صيد ، فإذا شكرت قرّت ، وإذا لم تشكر فرّت.

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) بالماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها) في الجنّات (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكّهون بها (وَمِنْها) ومن الجنّات ثمارها وزروعها (تَأْكُلُونَ) تغذّيا. أو ترتزقون وتحصّلون معايشكم. من قولهم : فلان يأكل من حرفة يحترفها ، ومن ضيعة يغتلّها ، ومن تجارة يتربّح بها. يعنون : أنّها طعمته وجهته الّتي منها يحصّل رزقه.

كأنّه قال : وهذه الجنّات وجوه أرزاقكم ومعايشكم ، منها ترتزقون وتتعيّشون.

ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم في ثمراتها. فوصفهما بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين : فاكهة يتفكّه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا ، وعنبا وتمرا وزبيبا.

(وَشَجَرَةً) عطف على «جنّات». وهي الزيتون. (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) جبل موسى بين مصر وأيلة. وقيل : بفلسطين. وقد يقال له : طور سينين.

ولا يخلو إمّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم بقعة ، فأضيف إليها. وإمّا أن

__________________

(١) الملك : ٣٠.

٤٣٢

يكون المركّب منهما علما له ، كامرئ القيس وبعلبك.

ومنع صرفه للتعريف والعجمة ، أو التأنيث على تأويل البقعة ، لا للألف ، لأنّه فيعال كد يماس ، من السناء بالمدّ وهو الرفعة ، أو بالقصر وهو النور ، أو ملحق بفعلال ـ كعلباء ـ من السين ، ولا يجيء فعلاء بألف التأنيث. بخلاف «سيناء» على قراءة الكوفيّين والشامي ويعقوب ، فإنّه فيعال ككيسان ، أو فعلاء كصحراء ، لا فعلال ، إذ ليس في كلامهم.

وتخصيص هذه الأنواع الثلاثة لأنّها أكرم الشجر وأفضلها ، وأجمعها للمنافع.

(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي : تنبت ملتبسة بالدهن ومستصحبة له. ويجوز أن يكون الباء صلة معدّية لـ «تنبت» ، كما في قولك : ذهبت بزيد.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في رواية : تنبت. وهو إمّا من : أنبت بمعنى : نبت ، كقول زهير :

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم

قطينا لهم حتّى إذا أنبت البقل

أي : نبت. أو تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن.

(وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) معطوف على الدهن ، جار على إعرابه ، وعطف أحد وصفي الشيء على الآخر ، أي : تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه ، وكونه إداما يصبغ فيه الخبز ، أي : يغمس فيه للائتدام. قيل : هي أوّل شجرة تنبت بعد الطوفان ، ووصفها الله عزوجل بالبركة في قوله : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) (١). وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الزيت شجرة مباركة ، فأتدموا به وادّهنوا».

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) تعتبرون بحالها ، وتستدلّون بها على كمال قدرته (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان أو من العلف ، فإنّ اللبن يتكوّن منه. فـ «من»

__________________

(١) النور : ٣٥.

٤٣٣

للتبعيض أو للابتداء. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : نسقيكم بفتح النون. ومن قرأ بضمّ النون أراد : إنّا جعلنا ما في ضروعها من اللبن سقيا لكم. ومن فتح النون جعل ذلك مختصّا بالسقاة. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فتنتفعون بأعيانها من اللحوم والشحوم.

(وَعَلَيْها) وعلى الأنعام ، فإنّ منها ما يحمل عليه كالإبل والبقر. وقيل : المراد الإبل ، لأنّها هي المحمول عليها عندهم ، أو للمناسبة للفلك ، كأنّها سفائن البرّ. (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في البرّ والبحر. وعلى الوجه الأخير فالضمير في «عليها» كالضمير في (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (١).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

٤٣٤

مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

ولمّا عدّد النعم المذكورة على الكفّار ، خوّفهم على كفرانها ، بذكر قوم نوح وغيرهم من أمم الأنبياء ، وما حاق بهم من زوال النعم بسبب كفرانها ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) الّذي هو ربّكم وخالقكم ورازقكم ، وشكر نعمته الّتي لا تحصونها واجب عليكم (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) استئناف يجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه ، فيهلككم ويعذّبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره ، وكفرانكم نعمه الّتي لا تحصوها؟

(فَقالَ الْمَلَأُ) الأشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) لعوامهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل عليكم ويسودكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يرسل رسولا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) رسلا ولم يرسل بشرا آدميّا (ما سَمِعْنا بِهذا) إشارة إلى نوح عليه‌السلام ، أو إلى ما كلّمهم به من الحثّ على عبادة الله وحده ، أي : ما سمعنا بأنّه نبيّ ، أو بالّذي يدعونا إليه من عبادة الله ونفي إله غيره (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) وذلك إمّا لفرط عنادهم ، أو لأنّهم كانوا في فترة متطاولة.

وما أعجب شأنهم! إنّهم لم يرضوا للنبوّة ببشر وقد رضوا به للإلهيّة ، بل بأدون من البشر ، وهو الجمادات ، لانهماكهم في الغيّ ، وتشمّرهم أن يدفعوا الحقّ بما أمكنهم. ألا تراهم كيف جنّنوه وقد علموا أنّه أرجح الناس عقلا وأوزنهم قولا! فقالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : به جنون ، أو به جنّ يخبّلونه ، ولأجله يقول : إنّي رسول الله (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) انتظروا واصبروا عليه (حَتَّى حِينٍ) حتّى يتجلّى أمره بأن يفيق من

٤٣٥

جنونه ، وإلّا اقتلوه أو انتظروا موته فتستريحوا منه.

(قالَ) بعد ما يئس من إيمانهم (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إيّاي ، أو انصرني بدل ما كذّبوني ، كما يقال : هذا بذاك ، أي : بدل ذاك ومكانه. والمعنى : أبدلني من غمّ تكذيبهم بي سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذّبوه فيه حين قال لهم : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١).

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) بمرأى منّا وبحفظنا تحفظ. وذكر الجمع للمبالغة في الحفظ ، كأنّ معه من الله حفّاظا يكلؤونه بعيونهم ، لئلّا يتعرّض له ، ولا يفسد عليه مفسد عمله ، أو لا تخطئ فيه. ومنه قولهم : عليه من الله عين كالئة. (وَوَحْيِنا) وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع. روي أنّه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ (٢) الطائر ، فصنعها كما أمر.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بالركوب ، أو بنزول العذاب (وَفارَ التَّنُّورُ) أصله : ونوّر ، قلبت الواو تاء ، كما في تراث وتولج (٣) وتيقور وتخمة وتكلة (فَاسْلُكْ فِيها) فأدخل فيها. يقال : سلك فيه وسلك غيره. ومنه قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤). (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) من كلّ أمّتي زوجين. وهما : أمّة الذكر وأمّة الأنثى ، كالجمال والنوق ، والحصن والرّماك (٥). (اثْنَيْنِ) واحدين مزدوجين ، كالجمل والناقة ، والحصان والرمكة. وقرأ حفص : من كلّ بالتنوين ، أي : من كلّ نوع زوجين ، و «اثنين» تأكيد

__________________

(١) الشعراء : ١٣٥.

(٢) الجؤجؤ من الطائر والسفينة : الصدر.

(٣) التولج : كناس الوحش أي : بيته. وأصله : الوولج. والتيقور : الوقار. وأصله ويقور ، قلبت الواو ياء. والتخمة : الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم. وأصلها : الوخمة. والتكلة : العاجز الذي يكل أمره إلى غيره ويتّكل عليه.

(٤) المدّثّر : ٤٢.

(٥) الرماك جمع الرمكة ، وهي الفرس تتّخذ للنسل.

٤٣٦

وزيادة بيان. وروي أنّه لم يحمل إلّا ما يلد ويبيض. (وَأَهْلَكَ) وأهل بيتك ، أو من آمن معك.

وقيل : إنّه قيل لنوح : إذا فار الماء من التنّور اركب أنت ومن معك ، فلمّا نبع الماء منه أخبرته امرأته ، فركب هو ومن معه.

وعن الشعبي : محلّ التنّور في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ممّا يلي باب كندة ، وكان نوح عليه‌السلام عمل السفينة وسط المسجد. وقيل : عين وردة بالشام. وقيل : بالهند. وعن ابن عبّاس : التنّور وجه الأرض. وعن قتادة : أشرف موضع في الأرض ، أي : أعلاه. وعن عليّ عليه‌السلام : فار التنّور : طلع الفجر.

وقيل : معناه : أن فوران التنّور كان عند تنوير الفجر. والقول الأوّل أشهر.

(إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي : القول من الله بإهلاكه لكفره. وإنّما جيء بـ «على» لأنّ السابق ضارّ ، كما جيء باللام حيث كان نافعا ، كما في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (١) (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (٢).

(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالدعاء لهم بالإنجاء (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا محالة ، لظلمهم بالإشراك ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه. ولهذا أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بعد النهي عن الدعاء لهم بالإنجاء ، فقال : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كقوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣).

ثمّ أمره أن يدعوه بدعاء هو أهمّ وأنفع له ، فقال : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) في السفينة ، أو في الأرض عند خروجه منها (مُنْزَلاً مُبارَكاً) إنزالا مباركا ، أو موضع إنزال يبارك له

__________________

(١) الأنبياء : ١٠١.

(٢) الصافّات : ١٧١.

(٣) الأنعام : ٤٥.

٤٣٧

فيه ، ويعطيه فيه مزيد الخير في الدارين. وقرأ عاصم برواية أبي بكر : منزلا بفتح الميم وكسر الزاي ، بمعنى : نزولا مباركا ، أو موضع نزول. (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ثناء مطابق لدعائه. أمره بأن يشفع الدعاء بالثناء عليه مبالغة فيه ، وتوسّلا به إلى الإجابة.

وإنّما آثر (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) لأنّه في معنى : فإذا استويتم ، لأنّه نبيّهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبيّة ، وأنّ رتبة تلك المخاطبة لا يترقّى إليها إلّا ملك أو نبيّ.

روي عن الحسن : كان في السفينة سبعة أنفس من المؤمنين ونوح ثامنهم. وقيل : ثمانون.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) في ما فعل بنوح وقومه (لَآياتٍ) يستدلّ بها ويعتبر أولوا الاستبصار والاعتبار (وَإِنْ) وإن الشأن والقصّة (كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو مختبرين عبادنا بهذه الآيات لننظر من يعتبر ويذّكّر ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١). و «إن» هي المخفّفة ، واللام هي الفارقة.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً

__________________

(١) القمر : ١٥.

٤٣٨

أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) هم عاد قوم هود ، لأنّ صالحا مبعوث بعد نوح. وقيل : ثمود ، لأنّهم أهلكوا بالصيحة.

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود أو صالح. وإنّما جعل القرن وإلزامه موضع الإرسال ، وحقّه أن يعدّى بـ «إلى» كأخواته الّتي هي : وجّه وأنفذ وبعث ، ليدلّ على أنّه لم يأتهم من مكان غير مكانهم ، وإنّما أوحي إليه وهو بين أظهرهم. ومثل ذلك قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) (١). (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) «أن» مفسّرة لـ «أرسلنا» أي : قلنا لهم على لسان الرسول : اعبدوا الله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ذكر الواو هنا ، والفاء في قوم نوح (٢) ، لأنّ كلامهم لم يتّصل بكلام الرسول ، بخلاف قول قوم نوح ، وما صدر في مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو ، حيث قال : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ

__________________

(١) الفرقان : ٥١.

(٢) المؤمنون : ٢٤.

٤٣٩

إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) (١) (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) (٢) ، وها هنا مع الواو ، لأنّ الّذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال : فما قال قومه؟ فقيل له : قالوا : كيت وكيت ، والّذي مع الواو فهو عطف لما قالوه على ما قاله. ومعناه : أنّه اجتمع في الحصول هذا الحقّ وهذا الباطل ، وشتّان ما بينهما.

(وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب ، أو بمعادهم إلى الحياة الثابتة بالبعث (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ونعّمناهم بضروب الملاذّ ، من كثرة الأموال النفيسة والأولاد الرشيدة (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في الصفة والحالة. ثمّ بيّنوا المثليّة بقولهم : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فليس هو أولى بالرسالة منّا. والعائد إليه محذوف ، أي : من الّذي تشربونه ، أو تشربون منه.

وهذا الكلام منهم لإنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. ولتقريرهم أنّه لا بدّ أن يكون من المماثلة قالوا تأكيدا لإنكارهم : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يأمركم به (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) حيث أذللتم أنفسكم وغبنتم في آرائكم. و «إذا» جزاء للشرط ، وجواب للّذين قاولوهم من قومه.

ثمّ أنكروا ما قال لهم من وقوع البعث ، فقالوا : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) مجرّدة عن اللحوم والأعصاب (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من القبور ، أو من العدم تارة اخرى إلى الوجود. و «أنّكم» تكرير للأوّل للتأكيد ، لمّا طال الفصل بينه وبين خبره. أو «أنّكم مخرجون» مبتدأ ، وخبره الظرف المقدّم.

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ) اسم فعل بمعنى : بعد. وتكريره للتأكيد. ومن حقّه أن يرتفع اسم بعده ليكون فاعلا له ، كما ارتفع في قوله (٣) : فهيهات هيهات العقيق وأهله. ولا يجوز

__________________

(١) الأعراف : ٦٦.

(٢) هود : ٥٣.

(٣) لجرير. وعجزه : وهيهات خلّ بالعقيق نواصله

٤٤٠