زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

والموعظة الحسنة. أو بكثرة الرياضة ، وكثرة التهجّد ، والقيام على ساق.

قيل : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي الليل كلّه ، ويعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النوم ، فأمره الله أن يخفّف على نفسه ، وقال : ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة ، وتذيقها المشقّة الفادحة ، وما بعثت إلّا بالحنيفيّة السهلة السمحة.

والشقاء شائع بمعنى التعب ، ومنه المثل : أشقى من رائض (١) المهر ، وسيّد القوم أشقاهم.

وقيل : ردّ وتكذيب للكفرة ، فإنّهم لمّا رأوا كثرة عبادته قالوا : إنّك لتشقى بترك ديننا ، وإنّ القرآن أنزل عليك لتشقى به.

(إِلَّا تَذْكِرَةً) أي : لكن تذكيرا. وانتصابها على الاستثناء المنقطع. ولا يجوز أن يكون بدلا من محلّ «لتشقى» لاختلاف الجنسين ، ولا مفعولا له لـ «أنزلنا» لأنّ الفعل الواحد لا يتعدّى إلى علّتين.

ويحتمل أن يكون المعنى : إنّا أنزلنا إليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ، ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم ، وغير ذلك من أنواع المشاقّ وتكاليف النبوّة ، وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاقّ إلّا ليكون تذكرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون «تذكرة» حالا ومفعولا له ، أي : إلّا تذكّرا أو للتذكير.

(لِمَنْ يَخْشى) لمن في قلبه خشية ورقّة تتأثّر بالإنذار. أو لمن علم الله منه أنّه يخشى بالتخويف منه ، فإنّه المنتفع به.

(تَنْزِيلاً) نصب بإضمار فعله ، أي : نزّل تنزيلا. أو بـ «يخشى» أي : لمن يخشى تنزيل الله. أو على المدح ، أو البدل من «تذكرة» إن جعل حالا. وإن جعل مفعولا له فلا ، لأنّ الشيء لا يعلّل بنفسه ولا بنوعه. وقيل : قوله : «أنزلنا ... إلخ» حكاية لكلام جبرئيل والملائكة النازلين معه.

(مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) متعلّقه إمّا «تنزيلا» نفسه ، فيقع صلة له.

__________________

(١) راض المهر : ذلّله وطوّعه وعلّمه السير ، فهو رائض. والمهر : ولد الفرس.

٢٢١

وإمّا محذوف ، فيقع صفة له ، أي : تنزيلا حاصلا ممّن. ووجه الالتفات من المتكلّم إلى الغائب ، إمّا عادة الافتنان في الكلام ، وما يعطيه من الحسن والروعة. وإمّا أنّ هذه الصفات إنّما تسرّدت في القرآن مع لفظ الغيبة. وإمّا أنّه قال أوّلا : أنزلنا ، ففخّم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثمّ ثنّى بالنسبة إلى المختصّ بصفات العظمة والتمجيد ، فضوعفت الفخامة من طريقين.

وهذه الصفات العظام والنعوت الفخام إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تفخيم لشأن المنزل ، لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل. فبدأ بخلق الأرض والسماوات الّتي هي أصول العالم ، وقدّم الأرض لأنّها أقرب إلى الحسّ ، وأظهر عند العقل من السماوات العلى. وفيه تنبيه على أنّ القرآن واجب الإيمان به والانقياد له ، من حيث إنّه كلام من هذا شأنه.

والعلى جمع العليا ، تأنيث الأعلى. وصفها بهذه الصفة للدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوّها وبعد مرتقاها ، بحيث لا يصل رمي الفكر إلى هدفها.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧))

ثمّ أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها ، بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام والتقادير ، وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير ، حسبما اقتضته حكمته ، وتعلّقت به مشيئته ، فقال : (الرَّحْمنُ) رفعه إمّا على المدح ، تقديره : هو الرحمن. وإمّا أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. وقوله : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) خبر آخر للمبتدأ ، أو خبره الأوّل. ولمّا كان الاستواء على العرش ـ وهو سرير الملك ـ ممّا يردف

٢٢٢

الملك جعلوه كناية عن الملك ، فقالوا : استوى فلان على العرش ، يريدون : أنّه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا. ومعنى الاستواء عليه وتحقيقه قد مرّ (١) غير مرّة.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ما تحت سبع الأرضين ، فإنّ الثرى آخر الطبقات الترابيّة من الأرض. وعن السدّي : هو الصخرة الّتي تحت الأرض السابعة. وهذا أيضا يدلّ على كمال قدرته وإرادته.

ولمّا كانت القدرة تابعة للإرادة ، ولا تنفكّ عن العلم ، عقّب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليّات الأمور وخفيّاتها ، فقال : (وَإِنْ تَجْهَرْ) برفع صوتك (بِالْقَوْلِ) بذكر الله ودعائه فاعلم أنّه غنيّ عن ذلك (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) وهو ما أسررته إلى غيرك ، أو ما أسررته في نفسك. وقيل : هذا نهي عن الجهر ، كقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) (٢). والمعنى : فلا تجهد نفسك برفع الصوت ، فإنّك وإن لم تجهر علم الله السرّ.

(وَأَخْفى) من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، أو ما ستسرّه فيها.

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام : «إنّ السرّ ما أخفيته في نفسك ، و «أخفى» : ما خطر ببالك ثمّ أنسيته».

وفيه تنبيه على أنّ شرع الذكر والدعاء والجهر فيهما ليس لإعلام الله ، بل لتصوير النفس بالذكر ورسوخه فيها ، ومنعها عن الاشتغال بغيره ، وهضمها بالتضرّع والجوار (٣).

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

ثمّ إنّه لمّا ظهر بذلك أنّه المستجمع لصفات الألوهيّة ، بيّن أنّه المتفرّد بها والمتوحّد بمقتضاها ، فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) هو تأنيث الأحسن. وفضّل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن ، لدلالتها على معان هي أشرف المعاني

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ٥٣١.

(٢) الأعراف : ٢٠٥.

(٣) جأر يجأر جؤارا إلى الله : رفع صوته بالدعاء وتضرّع إليه.

٢٢٣

وأفضلها ، لأنّها دالّة على التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبيّة ، والأفعال الّتي هي النهاية في الحسن.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله سبحانه تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

قال الزّجاج : «تأويله : من وحّد الله ، وذكر هذه الأسماء الحسنى ، يريد بها توحيد الله وإعظامه ، دخل الجنّة». وقد جاء في الحديث : «من قال : لا إله إلّا الله مخلصا دخل الجنّة».

فهذا لمن ذكر الله موحّدا له به ، فكيف بمن ذكر أسماءه كلّها ، يريد بها توحيده والثناء عليه؟! وإنّما قال : «الحسنى» بلفظ التوحيد ، ولم يقل : الأحاسن ، لأنّ الأسماء مؤنّثة تقع عليها هذه كما تقع على الجماعة هذه ، فيقال : الجماعة الحسنى ، كأنّه اسم واحد للجمع. ومثل ذلك : (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) (١) و (مَآرِبُ أُخْرى) (٢).

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

__________________

(١) النمل : ٦٠.

(٢) طه : ١٨.

٢٢٤

ثمّ قصّ سبحانه على نبيّه قصّة موسى ، ليأتمّ به في تحمّل أعباء النبوّة وتبليغ الرسالة ، والصبر على مقاساة الشدائد ، ويكون تسلية له ممّا ناله من أذى قومه ، وتثبيتا له بالصبر على أمر ربّه في تأدية أحكامه ، فإنّ هذه السورة من أوائل ما نزل ، كما صبر موسى عليه‌السلام في أذيّة بني إسرائيل بسبب تبليغه أحكام الله تعالى ، فقال : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) هذا ابتداء إخبار من الله تعالى على وجه التحقيق ، إذ لم يبلغه حديث موسى ، فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق ، فيقول : هل سمعت بخبر فلان؟ وقيل : إنّه استفهام تقرير بمعنى الخبر ، أي : وقد أتاك حديث موسى.

(إِذْ رَأى ناراً) ظرف للحديث ، لأنّه حدث. أو لمضمر : أي : حين رأى نارا كان كيت وكيت. أو مفعول لـ : اذكر.

عن ابن عبّاس : لمّا قضى موسى الأجل ، واستأذن شعيبا عليه‌السلام في الخروج إلى أمّه ، وأخرج أهله ، وفارق مدين ومعه غنم له. وكان أهله على أتان ، وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت ، وكان رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلّا ترى امرأته. فأضلّ الطريق في ليلة شاتية مظلمة مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وتفرّقت ماشيته ، ولم ينقدح زنده (١) ، وامرأته في الطلق ، فولد له منها ابن في الظلمة. فرأى نارا من بعيد كانت عند الله نورا ، وعند موسى نارا (فَقالَ) عند ذلك (لِأَهْلِهِ) لزوجته ، وهي بنت شعيب كان تزوّجها بمدين وخدمه (امْكُثُوا) الزموا مكانكم. والفرق بين المكث والإقامة : أنّ الإقامة تدوم ، والمكث لا يدوم.

وقرأ حمزة : لأهله امكثوا ، هنا وفي القصص (٢) ، بضمّ الهاء في الوصل. والباقون بكسرها فيه.

__________________

(١) الزند : العود الذي يقتدح به النار. يقال : زند النار ، أي : قدحها وأخرجها من الزند.

(٢) القصص : ٢٩.

٢٢٥

(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه. ومنه إنسان العين ، لأنّه يتبيّن به الشيء. والإنس ، لظهورهم ، كما قيل : الجنّ ، لاستتار هم. وقيل : هو إبصار ما يؤنس به (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) بنار مقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) مصدر بمعنى الفاعل ، أي : هاديا يدلّني على الطريق ، أو ذوي هدى بحذف المضاف.

وعن مجاهد : هاديا يهديني أبواب الدين ، فإنّ أفكار الأنبياء مغمورة بالهمّة الدينيّة في جميع أحوالهم ، لا يشغلهم عنها شاغل.

ولمّا كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقّبين متوقّعين ، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع ، وقال : لعليّ ، ولم يقطع فيقول : إنّي آتيكم ، لئلّا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به ، بخلاف الإيناس ، فإنّه كان محقّقا ، ولذلك حقّقه لهم بـ «إنّ» ليوطّن أنفسهم عليه.

ومعنى الاستعلاء في «على النار» : أنّ أهلها مشرفون عليها ، فإنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا اكتنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. أو مستعلون المكان القريب منها ، كما قال سيبويه في مررت بزيد : إنّه لصوق بمكان يقرب منه.

(فَلَمَّا أَتاها) أتى النار وجد نارا بيضاء تتّقد في شجرة خضراء (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) فتحه ابن كثير وأبو عمرو ، أي : بأنّي. وكسره الباقون بإضمار القول ، أو إجراء النداء مجراه. وتكرير الضمير لتوكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة ، وإماطة الشبهة.

روي : أنّه لمّا نودي : يا موسى ، قال : من المتكلّم؟ قال : إنّي أنا الله. فوسوس إليه إبليس : لعلّك تسمع كلام شيطان. فقال موسى : أنا عرفت أنّه كلام الله ، بأنّي أسمعه من جميع الجهات وبجميع أعضائي.

وهو إشارة إلى أنّه تلقّى من ربّه كلامه تلقّيا روحانيّا ، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه ، وانتقل إلى الحسّ المشترك ، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة.

وروي : أنّه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، كأنّها نار بيضاء

٢٢٦

تتّقد ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما ، لم تكن الخضرة تطفئ النار ، ولا النار تحرق الخضرة ، فعلم أنّه لأمر عظيم ، فخاف وبهت ، فألقيت عليه السكينة ، ثمّ نودي.

وكانت الشجرة عوسجة.

وروي : كلّما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت.

وعن ابن إسحاق : لمّا دنا استأخرت عنه ، فلمّا رأى ذلك رجع وأوجس في نفسه خيفة ، فلمّا أراد الرجعة دنت منه.

قال وهب : نودي من الشجرة فقيل : يا موسى. فقال : إنّي أسمع صوتك ، ولا ارى مكانك ، فأين أنت؟ فقال : أنا فوقك ومعك ، وأمامك وخلفك ، وأقرب إليك من نفسك.

فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلّا لربّه عزوجل ، وأيقن به.

وقال ابن عبّاس : لمّا توجّه نحو النار فإذا النار في شجرة عنّاب ، فوقف متعجّبا من حسن ضوء تلك النار ، وشدّة خضرة تلك الشجرة ، فسمع النداء : يا موسى أنا ربّك.

(فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمره بذلك لأنّ الحفوة تواضع وأدب ، ولذلك طاف السلف بالكعبة حافين. وعن السدّي : أمر بخلع النعلين لأنّهما كانتا من جلد حمار ميّت غير مدبوغ. وقيل : كانت من جلد بقرة ذكيّة ، ولكنّه أمر بخلعهما ليباشر الوادي بقدميه متبرّكا به. ومنهم من استعظم دخول الكعبة بنعليه ، وكان إذا ندر منه الدخول متنعّلا تصدّق.

والقرآن يدلّ على أنّ ذلك احترام للبقعة ، وتعظيم لها ، وتشريف لقدسها ، فإنّه قال مستأنفا : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) تعليلا للأمر باحترام البقعة. وروي أنّه خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.

وقيل : معناه : فرّغ قلبك من الأهل والمال ، ومن جميع ما سوى الله ، لأنّك جئت بالبقعة المقدّسة المباركة.

(طُوىً) عطف بيان للوادي. ونوّنه ابن عامر والكوفيّون بتأويل المكان. وقيل : هو كثنى (١) ، من الطيّ ، مصدر لـ «نودي» أي : نودي نداءين. يقال : ناديته طوى ، أي :

__________________

(١) الثنى : الأمر يعاد مرّتين.

٢٢٧

مرّتين. أو لـ «المقدّس» أي : قدّس الوادي بالبركة كرّة بعد كرّة.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) اصطفيتك للنبوّة. وقرأ حمزة : وإنّا اخترناك ، بالجمع.

(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) للّذي يوحى إليك ، أو للوحي. واللام تحتمل أن تتعلّق بكلّ من الفعلين.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) بدل ممّا يوحى ، دالّ على أنّه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم ، والأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) خصّها بالذكر وأفردها بالأمر للعلّة الّتي أناط بها إقامتها ، وهو تذكّر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره.

وقيل : معنى «لذكري» : لتذكرني ، فإنّ ذكري أن اعبد ويصلّى لي. أو لتذكرني فيها ، لاشتمال الصلاة على الأذكار. أو لأنّي ذكرتها في الكتب ، وأمرت بها. أو لأن أذكرك بالثناء والمدح. أو لذكري خاصّة ، لا ترائي بها ، ولا تشوبها بذكر غيري ، ولا تقصد بها غرضا آخر.

وقيل : لأوقات ذكري ، وهي مواقيت الصلاة ، كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١). فاللام فيه كما في قولك : جئتك لكذا ، أي : لوقت كذا. وكذا : لستّ مضين. ومثله قوله : (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢).

أو لذكر صلاتي بعد نسيانها ، على حذف المضاف ، أي : أقمها متى ذكرت ، كنت في وقتها أو لم تكن. وروي ذلك عن الباقر عليه‌السلام. ويعضده ما رواه أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها».

وروي أيضا عنه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها ، إنّ الله تعالى يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) كائنة لا محالة (أَكادُ أُخْفِيها) أريد أن أخفيها ـ أي : إخفاء وقتها ـ عن عبادي لئلّا تأتيهم إلّا بغتة. قال تغلب : هذا أجود الأقوال ، وهو قول الأخفش

__________________

(١) النساء : ١٠٣.

(٢) الفجر : ٢٤.

٢٢٨

وفائدة الإخفاء التهويل والتخويف ، فإنّ الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة ، كانوا على حذر منها كلّ وقت.

وقيل : معناه : أقرب أن أسترها ، فلا أقول إنّها آتية ، لفرط إرادتي إخفاءها ، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به.

قال أبو عبيدة : معناه : أكاد أظهرها ، من : أخفاه إذا سلب خفاءه (١).

وقال في المجمع : «يقال : أخفيت الشيء كتمته وأظهرته جميعا ، وخفيته بلا ألف أظهرته لا غير» (٢).

ويؤيّد المعنى الأخير قراءة سعيد بن جبير : أخفيها ، بفتح الهمزة ، من : خفاه إذا أظهره ، أي : قرب إظهارها ، كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٣).

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) بما تعمل من خير وشرّ. متعلّق بـ «آتية» ، أو بـ «أخفيها» على المعنى الأخير.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) فلا يصرفنّك عن تصديق الساعة ، أو لا يمنعك عن الصلاة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) نهى الله الكافر أن يصدّ موسى عنها. والمراد نهيه أن يصدّ عنها.

وتحقيق ذلك : أنّ صدّ الكافر مسبّب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته ، فذكر المسبّب ليدلّ على السبب ، كقولهم : لا أرينّك هاهنا ، فإنّ المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته ، وذلك سبب رؤيته إيّاه ، فكان ذكر المسبّب دليلا على السبب ، كأنّه قيل : فكن شديد الشكيمة ، صليب النفس ، راسخا في الدين ، حتّى لا يطمع في صدّك عمّا أنت عليه من كفر بالبعث.

(وَاتَّبَعَ هَواهُ) ميل نفسه إلى اللذّات المحسوسة المخدجة (٤) ، فقصر نظره عن

__________________

(١) الخفاء : الغطاء. وجمعه : أخفية.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٤.

(٣) القمر : ١.

(٤) أي : الناقصة ، من : خدج الشيء : نقص.

٢٢٩

غيرها ، ولم يتّبع البرهان والتدبّر في الحقّ (فَتَرْدى) فتهلك بالانصداد بصدّه.

وفي هذا حثّ عظيم على العمل بالدليل ، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأنّ الهلاك والردى مع التقليد وأهله.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

ثمّ بيّن سبحانه ما أعطى موسى من المعجزات ، فقال : (وَما تِلْكَ) استفهام

٢٣٠

يتضمّن استيقاظا لما يريه في عصاه من العجائب (بِيَمِينِكَ) حال من معنى الإشارة ، كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) (١). ويجوز أن تكون «تلك» اسما موصولا ، و «بيمينك» صلته ، أي : ما الّتي بيمينك (يا مُوسى) تكريره لزيادة الاستئناس والتنبيه.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا) أعتمد (عَلَيْها) إذا عييت ، أو وقفت على رأس القطيع ، وعند الطفرة (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) وأخبط (٢) الورق بها على رؤوس غنمي تأكله ، من : هشّ الخبز يهشّ إذا انكسر لهشاشته (٣).

(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) حاجات أخر ، مثل إن كان إذا سار ألقاها على عاتقة ، فعلّق بها أدواته ، من القوس والكنانة (٤) والحلاب (٥) وغيرها ، وعرض الزندين (٦) على شعبتيها ، وألقى عليها الكساء واستظلّ به ، وإذا قصر الرشاء وصله بها ، وإذا تعرّضت السباع لغنمه قاتل بها.

وكأنّه عليه‌السلام فهم أنّ المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها ، وما يرى من منافعها ، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ، ووجد منها خصائص اخرى خارقة للعادة ، مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع ، وتصير دلوا عند الاستقاء ، وتطول بطول البئر ، وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وينبع الماء بركزها ، وينضب (٧) بنزعها ، وتورق وتثمر

__________________

(١) هود : ٧٢.

(٢) أي : أضرب ، من : خبط الشيء : ضربه ضربا شديدا. وهشّ ورق الشجر : خبطه بعصا ليتحاتّ ويسقط.

(٣) أي : لرخاوته ولينه.

(٤) جعبة من جلد أو خشب تجعل فيها السهام.

(٥) الحلاب : الإناء يحلب فيه.

(٦) في هامش النسخة الخطّية : «الزند : العود الذي يقدح به النار ، وهو الأعلى ، والزندة السفلى فيها ثقب ، وهي للأنثى ، فإذا اجتمعا قيل : زندان ، ولم يقل : زندتان. منه»

(٧) أي : يذهب ماؤه ويغور في الأرض.

٢٣١

إذا اشتهى ثمرة فركزها ، وكانت تقيه الهوامّ ، وتحدّثه وتؤنسه ، علم أنّ ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة ، أحدثها الله تعالى فيها لأجله ، وليست من خواصّها. فذكر قبل ظهور هذه الأمور العجيبة منها حقيقتها ومنافعها مفصّلا ومجملا ، على معنى أنّها من جنس العصا ، تنفع منافع أمثالها ، ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه من كلام ربّه.

وفي الكشّاف : «يجوز أن يريد عزوجل أن يعدّد المرافق الكثيرة الّتي علّقها بالعصا ، ويستكثرها ويستعظمها ، ثمّ يريه على عقب ذلك الآية العظيمة. كأنّه يقول له : أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى ، المنسيّة عندها كلّ منفعة ومأربة كنت تعتدّ بها وتحتفل بشأنها؟ ونظير ذلك أن يريك الزرّاد (١) زبرة من حديد ويقول لك : ما هي؟

فتقول : زبرة حديد. ثمّ يريك بعد أيّام لبوسا مسردا فيقول لك : هي تلك الزبرة صيّرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة وأنيق السرد» (٢).

وقيل : إنّما سأله ليبسط منه ويقلّل هيبته.

وقيل : إنّما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه.

وقيل : انقطع لسانه بالهيبة فأجمل.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) تمشي بسرعة وخفّة حركة.

روي أنّه لمّا ألقاها انقلبت حيّة صفراء بغلظ العصا ، ثمّ تورّمت وعظمت. فلذلك سمّاه جانّا تارة نظرا إلى المبدأ ، وثعبانا مرّة باعتبار المنتهى ، وحيّة اخرى باعتبار الاسم الّذي يعمّ الحالين.

وقيل : كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجانّ ، ولذلك قال : كأنّها جانّ.

قيل : كان لها عرف كعرف الفرس. وكان بين لحييها أربعون ذراعا.

وعن ابن عبّاس : انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر ، فلمّا رآها حيّة تسرع

__________________

(١) الزرّاد : صانع الزرد ، وهو الدرع. والسرد : الدرع.

(٢) الكشّاف ٣ : ٥٧.

٢٣٢

وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها.

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) هيأتها وحالتها المتقدّمة. وهي فعلة من السير. يقال : سار فلان سيرة حسنة. ثمّ اتّسع فيها ، فنقلت إلى الطريقة والهيئة.

وانتصابها على نزع الخافض ، أي : سنعيدها في طريقتها الأولى ، أي : في حال ما كانت عصا. أو على أن «أعاد» منقول من «عاده» بمعنى : عاد إليه. أو على تقدير فعلها ، أي : سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى ، فتنتفع بها ما كنت تنتفعه كما أنشأناها أوّلا.

قيل : لمّا قال له ربّه ذلك اطمأنّت نفسه ، حتّى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) إلى جنبك تحت العضد. يقال لكلّ ناحيتين : جناحان ، كجناحي العسكر. استعارة من جناحي الطائر. سمّيا جناحين ، لأنّه يجنحهما ـ أي : يميلهما ـ عند الطيران.

(تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها نور ساطع يضيء بالليل والنهار ، كضوء القمر والشمس (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) صلة بيضاء ، أي : ابيضّت من غير سوء ، أي : من غير عاهة وقبح. كنّي به عن البرص ، كما كنّي بالسوءة عن العورة. والبرص أبغض شيء إلى طباع العرب ، ولهم عنه نفرة عظيمة ، وأسماعهم لاسمه مجّاجة (١) ، فكان جديرا بأن يكنّى عنه.

وروي : أنّه عليه‌السلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته (٢) بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر.

(آيَةً أُخْرى) معجزة ثانية. وهي حال من ضمير «تخرج» كـ «بيضاء». أو من ضميرها. أو مفعول بإضمار : خذ أو دونك ، حذف لدلالة الكلام عليه.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) بعض آياتنا. وهذا متعلّق بالمضمر ، أو بما دلّ عليه «آية» أي : دلّلنا بها ، أو فعلنا ذلك لنريك. و «الكبرى» صفة لـ «آياتنا». أو مفعول «نريك»

__________________

(١) أي : كارهة. يقال : هذا كلام تمجّه الأسماع ، أي : تقذفه وتستكرهه.

(٢) المدرعة : ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود. أو جبّة مشقوقة المقدّم.

٢٣٣

و «من آياتنا» حال منها.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بهاتين الآيتين وادعه إلى عبادتي (إِنَّهُ طَغى) عصى وتكبّر في كفره.

ولمّا أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي ، عرف أنّه كلّف أمرا عظيما وخطبا جسيما ، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلّا ذو قلب قويّ وصدر فسيح ، فسأل ربّه أن يشرح صدره حتّى لا يضجر ولا يغتمّ ، ويستقبل الشدائد بجميل الصبر ، وأن يسهّل عليه أمره الّذي هو خلافة الله في أرضه ، وما يصحبها من مقاساة الخطوب الجليلة. (قالَ رَبِّ اشْرَحْ) أي : وسّع (لِي صَدْرِي) حتّى لا أضجر ، ولا أخاف ، ولا أغتمّ.

(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) وسهّل عليّ أداء ما كلّفتني من الرسالة ، والدخول على الطاغي ، ودعائه إلى الحقّ. وفائدة «لي» إبهام المشروح والميسّر أوّلا ، ثمّ رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيدا ومبالغة ، لأنّه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) فإنّما يحسن التبليغ من البليغ. وكان في لسانه رتّة (١) من جمرة أدخلها فاه. وذلك إنّ فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته ونتفها ، فغضب وأمر بقتله. فقالت آسية : إنّه صبيّ لا يفرّق بين الجمرة والدرّة. فأمر فرعون حتّى أحضرهما بين يديه. فأراد موسى أن يأخذ الدرّة ، فصرف جبرئيل يده إلى الجمرة ، فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه.

وقيل : احترقت يده ، واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ثمّ لمّا دعاه قال : إلى أيّ ربّ تدعوني؟ قال : إلى الّذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه.

واختلف في زوال العقدة بكمالها. فمن قال به تمسّك بقوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٢). ومن لم يقل احتجّ بقوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) (٣) وقوله :

__________________

(١) الرتة : العجمة والحكلة في اللسان. يقال : تكلم كلام الحكل ، أي : كلاما لا يفهم.

(٢) طه : ٣٦.

(٣) القصص : ٣٤.

٢٣٤

(وَلا يَكادُ يُبِينُ) (١). وأجاب عن الأوّل بأنّه لم يسأل حلّ عقدة لسانه مطلقا ، بل عقدة تمنع الإفهام ، ولذلك نكّرها ، وجعل «يفقهوا» جواب الأمر. و «من لساني» يحتمل أن يكون صفة «عقدة». وأن يكون صلة «احلل».

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) لأبي وأمّي ، يعينني على ما كلّفتني به. واشتقاق الوزير إمّا من الوزر ، لأنّه يحمل عن أميره أوزاره ومؤنة. أو من الوزر ، وهو الملجأ ، لأنّ الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره. ومنه : الموازرة ، بمعنى المعاونة. وعن الأصمعي : أصله أزير ، من الأزر بمعنى القوّة ، فقلبت الهمزة إلى الواو.

ووجهه : أنّ فعيلا جاء بمعنى مفاعل ، كقولهم : عشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم ، فلمّا قلبت في موازر قلبت فيه. وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز.

ومفعولا «اجعل» : وزيرا وهارون. قدّم ثانيهما عناية بأمر الوزارة. و «لي» صلة ، أو حال. أو مفعولاه «لي وزيرا» ، و «هارون» عطف بيان للوزير. أو (وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) و «لي» تبيين ، كقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). و «أخي» على الوجوه بدل من «هارون».

أو مبتدأ خبره (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) على لفظ الأمر. والأزر : القوّة. يقال : أزّره ، أي : قوّاه. والمراد بالأمر الرسالة ، أي : اجعله شريكي في الرسالة. وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر ، على أنّهما جواب الأمر.

(كَيْ نُسَبِّحَكَ) ننزّهك عمّا لا يليق بك (كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ) ونحمدك ونثني عليك بما أوليت من نعمك (كَثِيراً) أي : لنتعاون على عبادتك وذكرك ، فإنّ التعاون يهيّج الرغبات ، ويؤدّي إلى تكاثر الخيرات وتزايد المبرّات.

(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا ، وبأنّ التعاون والتعاضد ممّا يصلحنا ، وأنّ هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به ، فإنّه أكبر منّي سنّا ، وأفصح لسانا ، وأتمّ طولا ، وأبيض جسما ، وأكثر لحما.

__________________

(١) الزخرف : ٥٢.

٢٣٥

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤))

(قالَ) سبحانه إجابة له (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أعطيت سؤلك. فعل بمعنى مفعول ، كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.

قال الصادق عليه‌السلام : «حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن أمير المؤمنين ، قال : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإنّ موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا ، فكلّمه الله عزوجل ، فرجع نبيّا. وخرجت ملكة سبأ لأمر ، فأسلمت مع سليمان. وخرج سحرة فرعون يطلبون العزّة بفرعون ، فرجعوا مؤمنين».

٢٣٦

ولمّا أخبر سبحانه موسى بأنّه آتاه طلبته وأعطاه سؤله ، عدّد عقيبه ما تقدّم ذلك من نعمه عليه ومننه لديه ، فقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا) أنعمنا (عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) في وقت آخر ، إنعاما متواليا من صغرك إلى الوقت الّذي أعطينا سؤلك فيه.

ثمّ بيّن سبحانه تلك النعمة بقوله : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) بإلهام ، كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١). أو في منام. أو على لسان نبيّ في وقتها ، كقوله : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٢) أو على لسان ملك لا على وجه النبوّة ، كما أوحى إلى مريم (ما يُوحى) أمرا لا يعلم إلّا بالوحي ، أو ممّا ينبغي أن يوحى ، لعظم شأنه ، وفرط الاهتمام به ، لأنّه يتضمّن مصلحة دينيّة ، فوجب أن يوحى ولا يخلّ به.

ثمّ فسّر ذلك الإيحاء بقوله : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) فإنّ «أن» هي المفسّرة والمعنى : اقذفيه ، لأنّ الوحي بمعنى القول. (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) والقذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ، كقوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (٣). وكذلك الرمي ، كقوله : غلام رماه الله بالحسن يافعا (٤) ... أي : حصل فيه ووضعه فيه حال كونه غير بالغ.

ولمّا كان إلقاء اليمّ إيّاه إلى الساحل أمرا واجب الحصول ، لتعلّق الإرادة به ، جعل البحر كأنّه ذو تمييز مطيع أمره بالإلقاء ، وأخرج الجواب مخرج الأمر ، فقال : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) الضمائر كلّها لموسى عليه‌السلام ، لأنّ رجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة ، لما يؤدّي إليه من تنافر النظم القرآني ، وإن كان المقذوف في البحر والملقى إلى الساحل التابوت بالذات وموسى بالعرض. والقانون الّذي وقع عليه التحدّي ومراعاته

__________________

(١) النحل : ٦٨.

(٢) المائدة : ١١١.

(٣) الأحزاب : ٢٦.

(٤) لأسيد بن عنقاء الفزاري. وتمام البيت : له سيمياء لا تشقّ على البصر

٢٣٧

أهمّ ما يجب على المفسّر.

(يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) جواب «فليلقه». وتكرير «عدوّ» للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقّع.

روي أنّها جعلت في التابوت قطنا محلوجا ، فوضعته فيه ، وجصّصته وقيّرته ، ثمّ ألقته في اليمّ. وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فدفعه الماء إليه ، فأدّاه إلى بركة في البستان. وكان فرعون جالسا على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ، ففتح فإذا صبيّ أصبح الناس وجها ، فأحبّه حبّا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه ، كما قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي : محبّة كائنة منّي قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، فلذلك أحبّك فرعون.

وروي أنّه كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه.

ويجوز أن يتعلّق «منّي» بـ «ألقيت» أي : أحببتك ، ومن أحبّه الله أحبّته القلوب.

وظاهر اللفظ على أنّ البحر ألقاه بساحله ـ وهو شاطئه ، لأنّ الماء يسحل (١) موسى ـ وقذف به ثمّة ، فالتقط من الساحل ، إلّا أنّه قد ألقاه اليمّ بموضع من الساحل فيه فوهة (٢) نهر فرعون ، ثمّ أدّاه النهر إلى حيث البركة.

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ولتربّى بمرأى منّي ، ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك ، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلّا تخالف به مرادي وبغيتي. والعطف على علّة مضمرة ، مثل : ليتعطّف عليك. أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلّل ، مثل : ولتصنع فعلت ذلك.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) ظرف لـ «ألقيت» أو «لتصنع». أو بدل من «إذ أوحينا» على أنّ

__________________

(١) أي : يقشره.

(٢) الفوهة والفوّهة من الوادي والطريق : فمها.

٢٣٨

المراد بها وقت متّسع ، كما يصحّ ـ وإن اتّسع الوقت وتباعد طرفاه ـ أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته في ذلك الوقت ، وربّما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها.

(فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) وذلك أنّ أخته ـ واسمها مريم ـ جاءت متعرّفة خبره ، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثدي امرأة. فقالت :هل أدلّكم على امرأة تربّيه وترضعه؟ فقالوا : نعم. فجاءت بالأمّ ، فقبل ثديها. ويروى أنّ آسية استوهبته من فرعون وتبنّته ، وهي الّتي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.

(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) وفاء بقولنا : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)(كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) هي بفراقك وخوف غرقك. أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) هي نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الاسرائيلي ، فقتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) من غمّ قتله خوفا من الاقتصاص ، بأن نأمرك بالهجرة إلى مدين (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) مصدر على فعول ، كالثبور والشكور والكفور ، أي : ابتليناك ابتلاء. أو جمع فتن أو فتنة ، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث ، كحجوز وبدور ، في حجزة وبدرة.

والمعنى : فتنّاك أنواعا من الفتن ، فخلّصناك مرّة بعد اخرى. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الالّاف (١) ، والمشي راجلا على حذر ، وفقد الزاد ، وأجر نفسه ، إلى غير ذلك.

روي أنّه سأل سعيد بن جبير ابن عبّاس فقال : خلّصناك من محنة بعد محنة ، فإنّه ولد في عام كان يقتل فيه الولدان. فهذه فتنة يا ابن جبير. وألقته أمّه في البحر. وهمّ فرعون بقتله. وقتل قبطيّا. وأجر نفسه عشر سنين. وضلّ الطريق ، وتفرّقت غنمه في ليلة مظلمة.

وكان ابن عبّاس يقول عند كلّ واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير. والفتنة : المحنة ، وكلّ ما

__________________

(١) الالّاف جمع آلف ، وهو الصديق والمؤانس.

٢٣٩

يشقّ على الإنسان ، وكلّ ما يبتلي الله عزوجل عباده فتنة. قال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١).

(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين.

ومدين على ثماني مراحل من مصر. وعن وهب : أنّه لبث عند شعيب ثمانيا وعشرين سنة ، منها مهر ابنته.

(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) قدّرته ذلك القدر ، ووقّتّه في سبق قضائي وقدري ، لأن أكلّمك وأستنبؤك غير مستقدم وقته المعيّن ولا مستأخر. أو على مقدار من السنّ يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة. (يا مُوسى) كرّره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) اتّخذتك صنيعتي وخالصتي. أو اصطنعتك لمحبّتي ، واختصصتك بكلامي. مثّله فيما خوّله من منزلة التكريم والتقريب والتكليم ، بحال من يراه بعض الملوك ـ جوامع خصال فيه ، ومزايا خصائص له ـ أهلا لئلّا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه ، ولا ألطف محلّا ، فيصطنعه بالكرامة والأثرة ، ويستخلصه لنفسه ، ولا يبصر ولا يسمع إلّا بعينه وأذنه ، ولا يأتمن على مكنون سرّه إلّا ضميره.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) بمعجزاتي (وَلا تَنِيا) ولا تفترا ولا تقصّرا ، من الوني بمعنى الفتور (فِي ذِكْرِي) أي : لا تنسياني حيثما تقلّبتما ، واتّخذا ذكري جناحا تصيران به مستمدّين بذلك العون والتأييد منّي ، معتقدين أنّ أمرا من الأمور لا يتمشّى لأحد إلّا بذكري.

وقيل : في تبليغ الرسالة والدعاء إليّ ، فإنّ الذكر يقع على سائر العبادات ، وتبليغ الرسالة من أجلّها وأعظمها ، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) جاوز الحدّ في الطغيان. خاطب موسى أوّلا

__________________

(١) الأنبياء : ٣٥.

٢٤٠