زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ) مشيئة ربّك وقل : إن شاء الله ، كما روي أنّه لمّا نزل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن شاء الله (إِذا نَسِيتَ) يعني : إذا غفلت عن كلمة الاستثناء ، لاشتغالك بأمر آخر من الأوامر الشرعيّة ، ثمّ تنبّهت عليها فتداركها.

وعن ابن عبّاس : يجوز تأخير الاستثناء في الأيمان والنذور وغير ذلك من العقود والإيقاعات ، كالإقرار والطلاق ، ولو بعد سنة ما لم يحنث ، ولذلك جوّز تأخير الاستثناء عنه.

وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع. وعن طاووس : هو على ثنياه ما دام في مجلسه. وعن الحسن : نحوه. وعن عطاء : يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة.

وعند أصحابنا : لا أثر في الأحكام ما لم يكن موصولا ، كما قال الصادق عليه‌السلام : «ما لم ينقطع الكلام» ، فإنّه لو صحّ التأخير العرفي لم يتقرّر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب.

ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربّك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، مبالغة في الحثّ عليه.

وقيل : واذكر ربّك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك. أو اذكره إذا اعتراك النسيان ، ليذكّرك المنسيّ.

(وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) يدلّني (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي : لعلّ الله يؤتيني من البيّنات والحجج على أنّي نبيّ صادق ، ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف. وقد هداه لأعظم من ذلك ، كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيّامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة.

وفي الكشّاف (١) : «والظاهر أن يكون المعنى : إذا نسيت شيئا فاذكر ربّك. وذكر ربّك عند نسيانه أن تقول : عسى ربّي أن يهديني لشيء آخر بدل من هذا المنسيّ ، أقرب

__________________

(١) في الصفحة التالية.

١٠١

منه رشدا ، وأدنى خيرا ومنفعة. ولعلّ النسيان كان خيرا ، كقوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) (١) (٢).

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

ثمّ أخبر سبحانه عن مقدار مدّة لبثهم ، فقال : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) تسع سنين. يعني : لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة. وهو بيان لما أجمله في قوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (٣). والمعنى : قل الله أعلم من الّذين اختلفوا منهم مدّة لبثهم ، والحقّ ما أخبرك به.

وعن قتادة : أنّه حكاية أهل الكتاب ، فإنّهم اختلفوا في مدّة لبثهم ، كما اختلفوا في عدّتهم ، فقال بعضهم : ثلاثمائة ، وقال بعضهم : ثلاثمائة وتسع سنين.

وقرأ حمزة والكسائي : ثلاثمائة سنين بالإضافة ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، والأصل ثلاثمائة سنة. ومن لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة. وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ردّ عليهم. والمعنى : الله أعلم بلبثهم.

ثمّ ذكر اختصاصه بما غاب عن الناس ، فقال : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني : له ما غاب فيهما ، وخفي من أحوال أهلهما ، وغيرها ، فلا خلق يخفى عليه

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) الكهف : ١١.

(٣) البقرة : ١٠٦.

١٠٢

علما. ويؤكّد ذلك قوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) فإنّه ذكر بصيغة التعجّب ، للدلالة على أنّ أمره في الإدراك خارج عمّا عليه إدراك السامعين والمبصرين ، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها ، كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر ، فلا يحجبه شيء ، ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف ، وصغير وكبير ، وخفيّ وجليّ.

والهاء تعود إلى الله ، ومحلّه الرفع على الفاعليّة. والباء مزيدة عند سيبويه. وكان أصله : أبصر ، أي : صار ذا بصر ، ثمّ نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء ، فبرز الضمير ، لعدم بيان الصيغة له ، أو لزيادة الباء ، كما في قوله تعالى : (وَكَفى بِهِ) (١). والنصب على المفعوليّة عند الأخفش ، والفاعل ضمير المأمور ، وهو كلّ أحد. والباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية ، ومعدّية إن كانت للصيرورة. والمعنى : ما أبصر الله لكلّ مبصر! وما أسمعه لكلّ مسموع! فلا يخفى عليه شيء.

(ما لَهُمْ) الضمير لأهل السماوات والأرض (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) من يتولّى أمورهم (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) في قضائه (أَحَداً) منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلا.

وقرأ ابن عامر وقالون عن يعقوب بالتاء والجزم ، على نهي كلّ أحد عن الإشراك.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

وبعد ذكر أصحاب الكهف وبيان قصّتهم قال : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) من القرآن ، ولا تسمع لقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) (٢) (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ تعدل إليه إن هممت به.

__________________

(١) النساء : ٥٠.

(٢) يونس : ١٥

١٠٣

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

روي أنّ قوما من رؤساء الكفرة قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحّ هؤلاء الموالي الّذين كأنّ ريحهم ريح الضأن ـ وهم صهيب وعمّار وخبّاب ، وغيرهم من فقراء المسلمين ـ حتّى نجالسك ، كما قال نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (١) فنزلت : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ)

واحبسها وثبّتها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار. وقرأ ابن عامر : بالغدوة. وفيه : أنّ غدوة علم في أكثر الاستعمال ، فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) رضا الله وطاعته.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم. وتعديته بـ «عن» لتضمينه معنى : نبا وعلا ، في قولك : نبت عنه عينه وعلت عنه عينه ، إذا اقتحمته ولم تعلق به. وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ. (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من الكاف.

__________________

(١) الشعراء : ١١١.

١٠٤

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) من جعلنا قلبه غافلا (عَنْ ذِكْرِنا) بالخذلان. أو نسبنا قلبه إلى الغفلة ، كما يقال : أكفره إذا نسبه إلى الكفر. أو من : أغفل إبله إذا تركها بغير سمة ، أي : لم نسمهم بالذكر ، ولم نجعلهم من الّذين كتبنا في قلوبهم الايمان. وقد أبطل الله تعالى توهّم المجبّرة بقوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي : تقدّما على الحقّ ، ونبذا له وراء ظهره. يقال : فرس فرط ، أي : متقدّم للخيل. ومنه الفرط.

وفيه تنبيه على أنّ الداعي إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات ، وانهماكه في المحسوسات ، حتّى خفي عليه أنّ الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنّه لو أطاعه كان مثله في الغباوة.

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : الحقّ ما يكون من جهة الله ، لا ما يقتضيه الهوى.

ويجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف ، و «من ربّكم» حالا ، أي : هذا الّذي أوحي إليّ هو الحقّ حال كونه صادرا من ربّكم. يعني : جاء الحقّ وزاحت العلل ، فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم ما شئتم.

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) يعني : من شاء أخذ في طريق النجاة ، ومن شاء أخذ في طريق الهلاك. وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنّه لمّا مكّن من اختيار أيّهما شاء ، فكأنّه مخيّر مأمور بأن يتخيّر ما شاء من النجدين.

(إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) فسطاطها. شبّه به ما يحيط بهم من النار. وقيل : السرادق الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط. وقيل : سرادقها دخانها ، يحيط بالكفّار قبل دخولهم النار. وقيل : حائط من نار يطيف (١) بهم.

(وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من العطش (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) هو كلّ شيء أذيب ، كالصفر المذاب ، أو النحاس المذاب ، أو غيرهما من جواهر الأرض. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) طاف يطوف حول الشيء : دار حوله. وأطاف يطيف بالشيء : ألمّ وأحاط به.

١٠٥

كعكر (١) الزيت ، إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه.

وقيل : هو القيح والدم. وعن الضحّاك : أنّه ماء أسود ، فإنّ جهنّم أسود ماؤها ، أسود شجرها ، أسود أهلها. وقيل : هو كدرديّ (٢) الزيت. وفيه تهكّم على طريقة قوله : فاعتبوا بالصيلم (٣) (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا قدّم ليشرب انشوى الوجه من فرط حرارته. وهو صفة ثانية لماء ، أو حال من المهل ، أو الضمير في الكاف. (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) متّكأ. وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخدّ. وهو لمقابلة قوله : وحسنت مرتفقا ، وإلّا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتّكاء.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

ولمّا تقدّم ذكر الوعيد عقّبه سبحانه بذكر الوعد ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أي : لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا ، بل نجازيهم ونوفّيهم أجورهم من غير بخس.

__________________

(١) العكر من كلّ شيء : خاثره ، أي : الغليظ والثخين منه.

(٢) الدرديّ من الزيت ونحوه : الكدر الراسب في أسفله.

(٣) لبشر بن أبي حازم ، وتمامه :

غضبت تميم أن نقتّل عامرا

يوم النسار فاعتبوا بالصيلم

أي : أزلنا عتابهم بالصيلم. وهو السيف الكثير القطع.

١٠٦

واعلم أنّ خبر «إنّ» الأولى «إنّ» الثانية بما في حيّزها. والراجع محذوف ، تقديره : من أحسن عملا منهم. أو مستغنى عنه بعموم (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) كما هو مستغنى عنه في قولك : نعم الرجل زيد. أو واقع موقعه الظاهر ، فإنّ من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلّا على الّذين آمنوا وعملوا الصالحات. أو خبرها (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة لهم ، لأنّهم يبقون فيها ببقاء الله دائما أبدا. وعلى الوجه الأخير اعتراض (١). وعلى الأوّل استئناف لبيان الأجر المبهم ، أو خبر ثان.

وعن ابن مسعود : عدن بطنان الجنّة ، أي : وسطها ، وهي جنّة من الجنّات. وعلى هذا ، فإنّما جمع لسعتها ، ولأنّ كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) لأنّهم على غرف في الجنّة ، كما قال : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٢). وقيل : إنّ أنهار الجنّة تجري في أخاديد من الأرض ، فلذلك قال : تجري من تحتهم الأنهار.

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) «من» الأولى للابتداء ، والثانية للبيان ، صفة لـ «أساور». وتنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به. وهو جمع أسورة في جمع سوار.

عن سعيد بن جبير : أنّه يحلّى كلّ واحد بثلاثة أساور : سوار من فضّة ، وسوار من ذهب ، وسوار من لؤلؤ وياقوت.

(وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً) لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة (مِنْ سُنْدُسٍ) ممّا رقّ من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) وما غلظ منه. جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) على السرر ، كما هو هيئة المتنعّمين المستريحين

__________________

(١) أي : إن جعلنا قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ...) خبرا لـ «إنّ» الأولى ، يكون قوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ ...) اعتراضا بين «إنّ» وخبرها. وعلى الوجه الأوّل ـ وهو جعل (إِنَّا لا نُضِيعُ ...) خبرا لـ «إنّ» الأولى ـ يكون قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ...) استئنافا أو خبرا ثانيا لـ «إنّ».

(٢) سبأ : ٣٧.

١٠٧

حال الأمن والسلامة (نِعْمَ الثَّوابُ) الجنّة ونعيمها (وَحَسُنَتْ) أي : الأرائك (مُرْتَفَقاً) متّكأ.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

١٠٨

ثمّ ضرب الله لعباده مثلا ليرغّبهم به إلى طاعته ، ويزجرهم عن معصيته وكفران نعمته ، فقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) للكافر والمؤمن (رَجُلَيْنِ) حال رجلين مقدّرين أو موجودين.

قيل : هما أخوان من بني إسرائيل ، كافر اسمه قطروس ، والآخر مؤمن اسمه يهوذا.

قيل : هما المذكوران في سورة الصّافّات في قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) (١). ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فتشاطرا ، فاشترى الكافر أرضا بألف.

فقال المؤمن : اللهمّ إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار ، وأنا أشتري منك أرضا في الجنّة بألف ، فتصدّق به.

ثمّ بنى أخوه دارا بألف.

فقال : اللهمّ إنّي أشتري منك دارا في الجنّة بألف ، فتصدّق به.

ثمّ تزوّج أخوه امرأة بألف.

فقال : اللهمّ إنّي جعلت ألفا صداقا للحور.

ثمّ اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف.

فقال : اللهمّ إنّي اشتريت منك الولدان المخلّدين بألف ، فتصدّق به.

ثمّ أصابته حاجة ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرّ به في حشمه فتعرّض له ،

__________________

(١) الصافّات : ٥١.

١٠٩

فطرده ووبّخه على التصدّق بماله.

وقيل : هما أخوان من بني مخزوم ، كافر وهو الأسود بن عبد الأشد ، ومؤمن وهو أبو سلمة عبد الله زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ) بستانين (مِنْ أَعْنابٍ) من كروم. والجملة بتمامها بيان للتمثيل ، أو صفة لـ «رجلين». (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) وجعلنا النخل محيطة بهما ، مؤزّرا (١) بها كرومهما وسطها. يقال : حفّه القوم إذا أطافوا به ، وحففته بهم إذا جعلتهم حافّين حوله. فتزيده الباء مفعولا ثانيا ، كقولك : غشيه وغشيته به. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) وسطهما (زَرْعاً) ليكون كلّ منهما جامعا للأقوات والفواكه ، متواصل العمارة على الشكل الحسن والترتيب الأنيق.

(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ثمرها. وإفراد الضمير لإفراد «كلتا» ، فإنّه مفرد اللفظ مثنّى المعنى. ولو قيل : آتتا على المعنى لجاز. (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ) ولم تنقص من أكلها (شَيْئاً) يعهد في سائر البساتين ، فإنّ الثمار تتمّ في عام وتنقص في عام غالبا (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما) وشققنا وسط الجنّتين (نَهَراً) نسقيهما ، حتّى يكون الماء قريبا منهما ، يصل إليهما من غير كدّ وتعب ، ويكون ثمرهما وزرعهما بدوام الماء فيهما أوفى وأروى. وقرأ يعقوب : وفجرنا بالتخفيف.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أنواع من المال سوى الجنّتين ، من ثمر ماله إذا كثر. وعن مجاهد : الذهب والفضّة وغيرهما. فكان وافر اليسار من كلّ وجه ، متمكّنا من عمارة الأرض كيف شاء. (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يراجعه في الكلام ، من : حار يحور إذا رجع (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) حشما وأعوانا. وقيل : أولادا ذكورا ، لأنّهم

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «التوزير : الإحكام ، من قولهم : تأزّر النبت ، أي : التفّ واشتدّ. منه غفر الله له».

١١٠

الّذين ينفرون (١) معه دون الإناث.

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) أخذا بيد أخيه المسلم يطوف به فيها ، ويفاخره بها. وإفراد الجنّة لأنّ المراد ما هو جنّته ، وهو ما متّع به من الدنيا ، تنبيها على أنّه لا جنّة له غيرها ، ولا حظّ له في الجنّة الّتي وعد المتّقون. أو لاتّصال كلّ واحدة من جنّتيه بالأخرى. أو لأنّ الدخول يكون في واحدة واحدة.

(وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ضارّ لها بعجبه وافتخاره ، وكفره وكفرانه ، معرّض بذلك نفسه لسخط الله ، وهو أفحش الظلم.

(قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أن تفنى (هذِهِ) الجنّة (أَبَداً) لطول أمله ، وتمادي غفلته ، واغتراره بمهلته ، واطّراحه النظر في عواقب أمثاله. ونرى أكثر الأغنياء من المسلمين كذلك ، وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم ، فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به ، منادية عليه.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) أقسم على أنّي إن بعثت ورجعت إلى جزاء ربّي على سبيل الفرض والتقدير ، أو كما زعمت (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) من جنّته. وقرأ الحجازيّان والشامي : منهما ، أي : من الجنّتين. (مُنْقَلَباً) مرجعا وعاقبة ، لأنّها فانية ، وتلك باقية. ونصبه على التمييز. وإنّما أقسم على ذلك لاعتقاده أنّه تعالى إنّما أولاه ما أولاه لاستئهاله واستحقاقه إيّاه لذاته ، وهو معه أينما توجّه ، كقوله : (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٢). (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٣). وقيل : معناه : لاكتسبنّ في الآخرة خيرا من هذه الّتي اكتسبها في الدنيا.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) لأنّه أصل مادّتك ،

__________________

(١) أي : يخرجون معه للحرب.

(٢) فصّلت : ٥٠.

(٣) مريم : ٧٧.

١١١

أو مادّة أصلك (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) فإنّها مادّتك القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ثمّ عدّلك وكمّلك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعل كفره بالبعث كفرا بالله ، لأنّ منشأه الشكّ في كمال قدرة الله ، ولذلك رتّب الإنكار على خلقه إيّاه من التراب ، فإنّ من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه. وفي الآية دلالة على أنّ الشكّ في البعث والنشور كفر.

(لكِنَّا) أصله : لكن أنّا ، فحذفت الهمزة ، وألقيت حركتها على نون «لكن» ، فتلاقت النونان ، فحرّكت النون الأولى وأدغمت. وقرأ ابن عامر ويعقوب في رواية بالألف في الوصل ، لتعويضها من الهمزة ، أو لإجراء الوصل مجرى الوقف. (هُوَ اللهُ رَبِّي) هو ضمير الشأن ، وهو بالجملة الواقعة خبرا له خبر «أنا». أو ضمير الله ، و «الله» بدله ، و «ربّي» خبره ، والجملة خبر «أنا». (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لا أشرك بعبادتي إيّاه أحدا ، بل أوجّهها إليه وحده خالصا. والاستدراك من «أكفرت» كأنّه قال : أنت كافر بالله ، لكنّي مؤمن به وبوحدانيّته.

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ) وهلّا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها (ما شاءَ اللهُ) أي : الأمر ما شاء الله. أو ما شاء الله كائن ، على أنّ «ما» موصولة. أو أيّ شيء شاء الله كان ، على أنّها شرطيّة ، والجواب محذوف ، إقرارا بأنّها وما فيها بمشيئة الله ، إن شاء أبقاها عامرة ، وإن شاء أبادها وخرّبها. (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) وهلّا قلت : لا قوّة إلّا بالله ، اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله ، وأن ما تيسّر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونته وإقداره ، إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلّا بالله.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله ولا قوّة إلا بالله ، لم يضرّه».

وروى هشام بن سالم وأبان بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام قال : «عجبت لمن خاف الفقر كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١) قال : سمعت الله عزوجل

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

١١٢

يقول بعقبها : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (١).

وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢). فإنّي سمعت الله سبحانه يقول معها : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٤) فإنّي سمعت الله سبحانه يعقّبها : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) (٥).

وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله : (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ). فإنّي سمعت الله تعالى يعقّبها : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ). و «عسى» موجبة».

(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) يحتمل أن يكون «أنا» فصلا ، وأن يكون تأكيدا للمفعول الأوّل. وقرئ : أقلّ بالرفع ، على أنّه خبر «أنا» ، والجملة مفعول ثان لـ «ترن».

وفي قوله : «وولدا» دليل لمن فسّر النفر بالأولاد.

وجواب الشرط قوله : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) في الدنيا أو في الآخرة ، لإيماني. والمعنى : إن ترني أفقر منك ، فأنا أتوقّع من صنع الله أن يقلّب ما بي وما بك من الفقر والغنى ، فيرزقني لإيماني جنّة خيرا من جنّتك.

(وَيُرْسِلَ عَلَيْها) على جنّتك ، لكفرك وكفرانك (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) مرامي (٦) ، جمع حسبانة ، وهي الصواعق. وقيل : هو مصدر ، كالغفران والبطلان ، بمعنى الحساب. والمعنى : مقدارا قدّره الله وحسبه ، وهو الحكم بتخريبها. وقال الزّجاج : عذاب حسبان أي : حساب ما كسبت يداك من الأعمال السيّئة. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أرضا

__________________

(١) آل عمران : ١٧٤.(٢ ، ٣) الأنبياء : ٨٧ ـ ٨٨. (٤ ، ٥) غافر : ٤٤ ـ ٤٥.

(٦) أصل الحسبان : السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد.

١١٣

ملساء يزلق عليها القدم ، لملاستها باستئصال نباتها وأشجارها.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) غائرا (١) في الأرض ، لا يبقى أثره. مصدر وصف به ، كالزلق. (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) للماء الغائر ، تردّدا في ردّه.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) وأهلك أمواله حسبما توقّعه صاحبه. وهو مأخوذ من : أحاط به العدوّ ، فإنّه إذا أحاط به استولى عليه وغلبه ، وإذا غلبه أهلكه. ومنه : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٢). ونظيره : أتى عليه إذا أهلكه ، من : أتى عليهم العدوّ إذا جاءهم مستعليا عليهم.

(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ظهرا لبطن ، كما هو فعل النادم ، تلهّفا وتحسّرا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) في عمارتها. وهو متعلّق بـ «يقلّب» ، لأنّ تقليب الكفّين لمّا كان في معنى الندم ، عدّي تعديته بـ «على» ، فإنّ النادم يقلّب كفّيه ظهرا لبطن ، كما كنّي عن ذلك بعضّ الكفّ والسقوط في اليد. فكأنّه قيل : فأصبح يندم. أو حال ، أي : متحسّرا على ما أنفق فيها.

(وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) بأن سقطت عروشها على الأرض ، وسقطت الكروم فوقها. قيل : أرسل الله عليها نارا فأكلتها.

(وَيَقُولُ) عطف على «يقلّب» ، أو حال من ضميره (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) كأنّه تذكّر موعظة أخيه ، وعلم أنّه أتى من قبل شركه وطغيانه ، فتمنّى لو لم يكن مشركا فلم يهلك الله بستانه. ويجوز أن يكون توبة من الشرك ، وندما على ما سبق منه.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) وقرأ حمزة والكسائي بالياء ، لتقدّمه (يَنْصُرُونَهُ) يقدرون على نصره ، بدفع الإهلاك ، أو ردّ المهلك ، أو الإتيان بمثله (مِنْ دُونِ اللهِ) فإنّه القادر على ذلك وحده (وَما كانَ مُنْتَصِراً) وما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام الله منه.

(هُنالِكَ) في ذلك المقام وتلك الحال (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) النصرة لله وحده ، لا

__________________

(١) غار الماء : ذهب في الأرض ، فهو غائر.

(٢) يوسف : ٦٦.

١١٤

يقدر عليها غيره. وهذا تقرير لقوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ). أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، كما نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن. ويعضده قوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي : لأوليائه.

وقرأ حمزة والكسائي «الولاية» بالكسر ، ومعناها السلطان والملك ، أي : هنالك السلطان له لا يغلب ولا يمنع منه ، أو في مثل تلك الحال الشديد يتولّى الله ويؤمن به كلّ مضطرّ ، كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١). فيكون تنبيها على أنّ قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) كان عن اضطرار وجزع ممّا دهاه من شؤم كفره. وقيل : «هنا لك» إشارة إلى الآخرة ، كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (٢).

وقرأ حمزة والكسائي «الحقّ» بالرفع ، صفة للولاية. وقرأ حمزة وعاصم «عقبا» بالسكون.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضرب المثل للدنيا ، تزهيدا فيها وترغيبا في الآخرة ، فقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها ، أو صفتها الغريبة (كَماءٍ) هي كماء. ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا

__________________

(١) العنكبوت : ٦٥.

(٢) غافر : ١٦.

١١٥

ل «اضرب» ، على أنّه بمعنى : صيّر.

(أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فالتفّ وتكاثف بسببه ، وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه. أو نفذ في النبات الماء ، فاختلط به حتّى روى ورفّ (١) رفيفا. وعلى هذا ، كان حقّه : فاختلط بنبات الأرض ، لكن لمّا كان كلّ من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس ، للمبالغة في كثرته.

(فَأَصْبَحَ هَشِيماً) مهشوما متفتّتا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرّقه. والمشبّه به ليس الماء ولا حاله ، بل الكيفيّة المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء ، يكون أخضر وارفا ، ثمّ هشيما تطيّره الرياح ، فيصير كأن لم يكن. فشبّه الدنيا بهذا النبات في سرعة الفساد والهلاك. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإنشاء والإفناء (مُقْتَدِراً) قادرا.

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتزيّن بها الإنسان في دنياه ، وتفنى عنه عمّا قريب (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وأعمال الخير الّتي تبقى له ثمرتها أبد الآباد ، وتفنى عنه كلّ ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) من المال والبنين (ثَواباً) عائدة (وَخَيْرٌ أَمَلاً) لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.

روي عن عطاء وعكرمة ومجاهد عن ابن عبّاس : أنّ الباقيات الصالحات هي ما كان يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين ، وهو : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر.

وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لجلسائه : «خذوا جنّتكم. قالوا : أحضر عدوّ؟ قال : خذوا جنّتكم من النار ، قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. فإنّهن المقدّمات ، وهنّ المجيبات ، وهنّ المعقّبات ، وهنّ الباقيات

__________________

(١) رفّ لونه رفيفا : برق وتلألأ.

١١٦

الصالحات» ورواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه ، وعن العدوّ أن تجاهدوه ، فلا تعجزوا عن قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإنّهنّ من الباقيات الصالحات ، فقولوها».

وعن ابن مسعود وسعيد بن جبير ومسروق : هي الصلوات الخمس. وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وروي عنه أيضا : «أنّ الباقيات الصالحات القيام بالليل».

وقيل : إنّ الباقيات الصالحات هنّ البنات الصالحات. وقيل : صيام رمضان.

وقيل : أعمال الحجّ. وروي : الكلام الطيّب. والأولى حملها على الطاعات ، فيدخل فيها جميع الطاعات والخيرات.

وفي كتاب ابن عقدة أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال للحصين بن عبد الرحمن : «يا حصين لا تستصغر مودّتنا ، فإنّها من الباقيات الصالحات. قال : يا ابن رسول الله ما أستصغرها ، ولكن أحمد الله عزوجل عليها».

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

١١٧

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) واذكر يوم نقلعها ونسيّرها في الجوّ ، أو نذهب بها فنجعلها هباء منبثّا. ويجوز عطفه على «عند ربّك» أي : الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : تسيّر ، بالتاء والبناء للمفعول.

قيل : يسيّرها على وجه الأرض كما يسيّر السحاب في السماء ، ثمّ يجعلها كثيبا مهيلا ، كما قال : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) (١) الآية. ثمّ يصيّرها كالعهن المنفوش ، كما قال : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٢). ثمّ يصيّرها هباء منبثّا في الهواء ، كما قال : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٣). ثمّ يصيّرها بمنزلة التراب ، كما قال : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٤).

(وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) بادية برزت من تحت الجبال ، ليس عليها ما يسترها من الجبال والنبات والشجر. وقيل : معناه قد برز من كان في بطنها ، فصاروا على ظهرها.

وتقديره : وترى ما في باطن الأرض بارزا. فهو مثل قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترمي الأرض بأفلاذ كبدها».

(وَحَشَرْناهُمْ) وجمعناهم إلى الموقف. ومجيئه ماضيا بعد «نسيّر» و «ترى» لتحقّق الحشر ، أو للدلالة على أنّ حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعد لهم.

وعلى هذا ، تكون الواو للحال بإضمار «قد». (فَلَمْ نُغادِرْ) فلم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) يقال : غادره وأغدره إذا تركه. ومنه : الغدر لترك الوفاء ، والغدير لما غادره السيل.

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) شبّه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم (صَفًّا) مصطفّين ظاهرين ، لا يحجب أحد أحدا.

__________________

(١) المزّمّل : ١٤.

(٢) القارعة : ٥.

(٣) الواقعة : ٥ ـ ٦.

(٤) النبأ : ٢٠.

١١٨

وقيل : يعرضون صفّا بعد صفّ. (لَقَدْ جِئْتُمُونا) على إضمار القول ، أي : قلنا لهم : لقد جئتمونا. وهذا المضمر يجوز أن يكون عاملا في (يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ). (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عراة لا شيء معكم من المال والولد ، كقوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) (١).

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة عراة حفاة غرلا (٢). فقالت عائشة : يا رسول الله أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)». أو أحياء كخلقتكم الأولى.

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور ، وأنّ الأنبياء كذّبوكم به. و «بل» للخروج من قصّة إلى قصّة اخرى.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) صحائف أعمال بني آدم في الأيمان والشمائل ، أو في الميزان. وقيل : هو كناية عن وضع الحساب. (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا فِيهِ) من الذنوب (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) ينادون هلكتهم الّتي هلكوها من بين الهلكات (ما لِهذَا الْكِتابِ) تعجّبا من شأنه (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً) لا يترك هنة صغيرة (وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) إلّا عدّدها وأحاط بها ، أي : أحصاها كلّها. وقد مرّ (٣) تفسير الصغيرة والكبيرة في سورة النساء. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في الصحف (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) فيكتب عليه ما لم يفعل ، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله.

وفيه دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب الأطفال ، لأنّه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب؟!

__________________

(١) الأنعام : ٩٤.

(٢) غرل الصبيّ : لم يختن ، فهو أغرل ، وجمعه : غرل.

(٣) راجع ج ٢ ص ١٤٨.

١١٩

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه أن يذكّر هؤلاء المتكبّرين عن مجالسة الفقراء قصّة إبليس وما أورثه الكبر ، فقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) قيل : لمّا بيّن حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها ، وكان سبب الاغترار بها حبّ الشهوات وتسويل الشيطان ، زهّدهم أوّلا في زخارف الدنيا بأنّها عرضة الزوال ، والأعمال الصالحة خير وأبقى ، ثمّ نفّرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة. وكرّره سبحانه في مواضع لكونه مقدّمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحالّ كما هاهنا ، وهكذا مذهب كلّ تكرير في القرآن.

(كانَ مِنَ الْجِنِ) حال بإضمار «قد» ، أو استئناف للتعليل ، كأنّه قيل : ماله لم يسجد؟ فقيل : كان من الجنّ. (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فخرج عن أمره بترك السجود.

والفاء للتسبيب ، جعل كونه من الجنّ سببا في فسقه. يعني : لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر الله ، لأنّ الملائكة معصومون البتّة ، لا يجوز عليهم ما يجوز على الجنّ والإنس ، كما قال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١).

وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتّة ، وإنّما عصى إبليس لأنّه كان جنّيّا في أصله. فما أبعد البون بين هذا القول ، وبين قول من ضادّه وزعم أنّه كان ملكا ورئيسا على

__________________

(١) الأنبياء : ٢٧.

١٢٠