زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

الْقَوْلَ) جهرا كان أو سرّا (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

وإنّما لم يقل : يعلم السرّ ، ليطابق قوله : وأسرّوا النجوى ، لأنّ القول عامّ يشمل السرّ والجهر ، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة. فكان آكد في بيان الاطّلاع على نجواهم من أن يقول : يعلم السرّ ، كما أنّ قوله : يعلم السرّ ، آكد من أن يقول : يعلم سرّهم.

فلذلك اختير القول هاهنا ، وليطابق قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) في المبالغة.

ثمّ بيّن ذلك بقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بضمائرهم وأفعالهم ، فلا يخفى عليه ما يسرّون ولا ما يضمرون.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) إضراب لهم عن قولهم : هو سحر ، إلى أنّه تخاليط أحلام خيّلت إليه في المنام. ثمّ إلى أنّه كلام اختلقه من تلقاء نفسه.

ثمّ إلى أنّه كلام شعريّ يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ويرغّبه فيها. وهكذا المبطل متحيّر ، رجّاع ، غير ثابت على قول واحد.

والظاهر أنّ «بل» الأولى لتمام حكاية ما مضى والابتداء بأخرى. أو للإضراب عن تحاورهم في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ظهر عليه من الآيات ، إلى تقاولهم في أمر القرآن.

ويجوز أن يكون الكلّ من الله ، تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد ، لأنّ كونه شعرا ابعد من كونه مفترى ، لأنّه مشحون بالحقائق والحكم ، وليس فيه ما يناسب قول الشعراء.

والمفترى أبعد من كونه أحلاما ، لأنّه مشتمل على مغيّبات كثيرة طابقت الواقع ، والمفترى لا يكون كذلك ، بخلاف الأحلام. ولأنّهم جرّبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نيّفا وأربعين سنة ، وما سمعوا منه كذبا قطّ. وأضغاث الأحلام أبعد من كونه سحرا ، لأنّه يجانسه من حيث إنّهما من الخوارق.

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : كما أرسل به الأولون ، مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى. وصحّة التشبيه من حيث إنّ الإرسال في معنى : كما

٣٠١

أتى الأوّلون بالآيات ، لأنّ إرسال الرسل متضمّن للإتيان بالآيات. ألا ترى أنّه لا فرق بين أن تقول : أرسل محمّد ، وبين قولك : أتى محمد بالمعجزة.

ثمّ بيّن علّة عدم إيتاء الآيات المقترحة بقوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية (أَهْلَكْناها) باقتراح الآيات لمّا جاءتهم (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) لو جئتهم بها وهم أعتى منهم.

وفيه تنبيه على أنّ عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم ، إذ لو أتى به ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم ، وقد حكم سبحانه في هذه الأمّة أن لا يعذّبهم عذاب الاستئصال.

ثمّ أجاب سبحانه عن قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) من بني آدم (نُوحِي إِلَيْهِمْ) قرأ حفص : نوحي بالنون (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب ، فإنّ الذكر التوراة والإنجيل. وقيل : هم أهل العلم بأخبار من مضى ، سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر حال الرسل المتقدّمة ، حتّى يعلموهم أنّ رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. والإحالة عليهم إمّا للإلزام ، فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يثقون بقولهم. وأمّا لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم ، وإن كانوا كفّارا.

وعن ابن زيد : أن أهل الذكر هم أهل القرآن. يعني : العلماء بالقرآن الّذي بيّن فيه أحوال الأنبياء وأممهم السالفة.

وروي عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : نحن أهل الذكر. وروي ذلك عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

٣٠٢

ثمّ نفى لما اعتقدوا من أنّ الوحي والرسالة والنبوّة من خواصّ الملائكة الّذين لا يحتاجون إلى الطعام ، ولا يليق بحالهم الموت ، فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) أي : ما أخرجناهم عن حدّ البشريّة ولوازمها بالوحي وإعطاء النبوّة.

وقيل : هذا جواب لقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) (١) و (ما كانُوا خالِدِينَ) تأكيد وتقرير له ، فإنّ التعيّش بالطعام من توابع التحليل المؤدّي إلى الفناء.

وتوحيد الجسد لإرادة الجنس. أو لأنّه مصدر في الأصل. أو على حذف المضاف ، أي : ذوي جسد. وهو جسم ذو لون ، ولذلك لا يطلق على الماء والهواء. ومنه : الجساد للزعفران. وقيل : جسم ذو تركيب ، لأنّ أصله لجمع الشيء واشتداده.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي : في الوعد. مثل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٢) أي : من قومه. والمعنى : أنجزنا ما وعدناهم به من النصر والظهور على الأعداء.

(فَأَنْجَيْناهُمْ) من كيد أعدائهم (وَمَنْ نَشاءُ) وأنجينا المؤمنين بهم ، ومن في إيقائه حكمة ، كمن سيؤمن هو أو أحد من ذرّيّته. ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال.

(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) على أنفسهم ، بتكذيبهم الأنبياء وسائر معاصيهم. وهذا تخويف لكفّار قريش.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

ثمّ ذكر نعمته على العباد بإنزال القران ، فقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا قريش (كِتاباً) يعني : القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) شرفكم وصيتكم ، كما قال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٣). أو فيه موعظتكم وما تحتاجون إليه من أمر دينكم ودنياكم. أو فيه مكارم

__________________

(١) الفرقان : ٧.

(٢) الأعراف : ١٥٥.

(٣) الزخرف : ٤٤.

٣٠٣

الأخلاق الّتي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر ، كحسن الجوار ، والوفاء بالعهد ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والسخاء ، وما أشبه ذلك من الأخلاق السنيّة ، والخلال المرضيّة ، والخصال المحمودة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنون.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين ، ليتخوّفوا ويجتنبوا من الكفر والمعاصي ، فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) هذا كلام وارد عن غضب شديد عظيم ، لأنّ القصم أفظع الكسر ، وهو الكسر الّذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم ، فإنّه من غير أن يبين. وأراد بالقرية أهلها ، ولذلك وصفهم بالظلم بقوله : (كانَتْ ظالِمَةً) فإنّها صفة لأهلها حقيقة ، وصفت بها لمّا أقيمت مقامه. فالمعنى : أهلكنا قوما ظالمين. (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) بعد إهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ) مكانهم.

وعن ابن عبّاس : أنّه حضور. وهي وسحول قريتان باليمن ، تنسب إليهما الثياب.

في الحديث : كفّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثوبين سحوليّين. وروي : حضوريّين.

قيل : إنّ الله تعالى بعث إلى الحضوريّين نبيّا فقتلوه ، فسلّط الله عليهم بختنصّر ، كما سلّطه على أهل بيت المقدس ، فاستأصلهم. وروي أنّه لمّا أخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السماء : يا لثارات الأنبياء ، ندموا واعترفوا بالخطإ ، وذلك حين لم ينفعهم الندم.

وصدر الآية يدلّ على كثرة القرى. ولعلّ ابن عبّاس ذكر «حضور» بأنّها إحدى

٣٠٤

القرى الّتي أرادها الله بهذه الآية.

ثمّ بيّن حالهم ومقالهم حين مشاهدة العذاب بقوله : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) فلمّا أدرك أهل القرى شدّة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس. يعني : فلمّا علموا شدّة عذابنا وبطشتنا علم حسّ ومشاهدة ، لم يشكّوا وأدركوا بحواسّهم. (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين راكضين دوابّهم. أو مشبّهين بهم من فرط إسراعهم. والركض ضرب الدابّة بالرجل.

فقيل لهم استهزاء : (لا تَرْكُضُوا) إمّا بلسان الحال ، أي : إنّهم خلقاء (١) بأن يقال لهم ذلك. أو المقال ، والقائل ملك أو من ثمّ من المؤمنين. (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من التنعّم والتلذّذ. والإتراف : إبطار النعمة ، وهي : الترفة. (وَمَساكِنِكُمْ) الّتي كانت لكم (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ).

تهكّم بهم وتوبيخ ، أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلّكم تسألون عن أموالكم ، وعمّا جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم ، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، وتجتهدوا في دفع هذه البليّة والعقوبة عنكم. أو تعذّبون ، فإنّ السؤال من مقدّمات العذاب.

أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم ، وترتّبوا في مراتبكم ، حتّى يسألكم عبيدكم وحشمكم ، ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم ، ويقولوا لكم : بم تأمرون كعادة المتنعّمين؟ أو يسألكم الناس في نوازل الخطوب ، ويستشيرونكم في المهمّات والنوازل ، ويستشفون بتدابيركم ، ويستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم والطمّاع ، ويستمطرون سحائب أكفّكم ، ويمترون (٢) أخلاف معروفكم وأياديكم. وذلك إمّا لأنّهم كانوا أسخياء ، ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء. أو كانوا بخلاء ، فقيل لهم

__________________

(١) جمع خليق بمعنى : جدير ، أي : جدراء.

(٢) أي : يستدرّون. والخلف : حلمة ضرع الناقة. وجمعه : أخلاف.

٣٠٥

ذلك تهكّما إلى تهكّم ، وتوبيخا إلى توبيخ.

ولمّا رأوا العذاب ، ولم يروا وجه النجاة ، فلم ينفعهم الركض والانهزام (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث كذّبنا رسل ربّنا. والمعنى : أنّهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب. والويل : الوقوع في الهلكة.

(فَما زالَتْ) أي : كلمة «يا ويلنا» (تِلْكَ دَعْواهُمْ) دعوتهم. وإنّما سمّيت دعوى ، لأنّ المولول كأنّه يدعو الويل ويقول : يا ويل تعال فهذا أوانك. وكلّ من «تلك» و «دعواهم» يحتمل الاسميّة والخبريّة.

(حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) مثل الحصيد ، وهو النبت المحصود ، ولذلك لم يجمع.

فشبّههم في استئصالهم واقتطاعهم بالمحصود ، كما تقول : جعلناهم رمادا ، أي : مثل الرماد. (خامِدِينَ) ميّتين. من : خمدت النار إذا انطفأت. وهو مع «حصيدا» بمنزلة المفعول الثاني ، أي : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، كقولك : جعلته حلوا حامضا ، أي : جامعا للطعمين. فلا يقال : كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ والحاصل : أنّ حكم الأخيرين حكم الواحد ، فيكون «جعل» متعدّيا إلى مفعولين.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

ثمّ بيّن أنّ الغرض من خلق أصناف الممكنات المشحونة بضروب البدائع وعجائب الصنائع ، أن يستدلّوا بها على وجود صانعها ، ليتخلّصوا بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ويتعرّجوا بها من كدورات الشكوك والأوهام إلى مدارج الإيقان ، فقال :

٣٠٦

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ما خلقنا هذا السقف المرفوع ، وهذا المهاد الموضوع ، وما بينهما من أصناف الخلائق ، منطوية على البدائع الغريبة ، مشحونة بالصنائع العجيبة ، للهو واللعب ، كما صنع الجبابرة سقوفهم المرفوعة وفرشهم الممهّدة للعب واللهو ، بل إنّما خلقناهما تبصرة للناظرين ، وتذكرة للمعتبرين ، وتسبّبا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد. فينبغي أن يتوسّلوا بها إلى تحصيل الكمال ، ولا يغترّوا بزخارفها السريعة الزوال.

ثمّ بيّن أنّ السبب في ترك اتّخاذ اللهو واللعب في أفعاله هو أنّ الحكمة صارفة عنه ، وإلّا فهو قادر على اتّخاذه ، فقال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) ما يتلهّى به ويلعب (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من جهة قدرتنا ، لأنّا على كلّ شيء قادرون ، كقوله : (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) (١) أي : من جهة قدرتنا.

وقيل : معناه : لاتّخذناه من عندنا ، ممّا يليق بحضرتنا من المجرّدات ، لا من الأجسام المرفوعة ، والأجرام السفليّة المبسوطة ، كعادتكم في رفع السقوف وتزويقها (٢) ، وتسوية الفرش وتزيينها.

وعن ابن عبّاس : اللهو الولد بلغة اليمن. وعن الحسن : الزوجة. والمعنى : لو اتّخذنا نساء وولدا لاتّخذناه من أهل السماء ، ولم نتّخذه من أهل الأرض. يريد : لو كان ذلك جائزا عليه لم يتّخذه بحيث يظهر لهم ، بل يسرّ ذلك بحيث لم يطّلعوا عليه. وهذا ردّ على النصارى واليهود في أنّ المسيح وعزيز ابنا الله.

وقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) محذوف الجواب ، أي : إن كنّا فاعلين ذلك لاتّخذناه ، فحذف لدلالة الجواب المتقدّم عليه.

وعن مجاهد وقتادة : معناه : ما كنّا فاعلين اللعب. فـ «إن» نافية ، والجملة كالنتيجة

__________________

(١) القصص : ٥٧.

(٢) أي : تنقيشها.

٣٠٧

للشرطيّة.

ثمّ أضرب عن اتّخاذ اللهو ، ونزّه ذاته عن اللعب ، وقال : سبحاننا أن نتّخذ اللهو واللعب (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) بل من شأننا وعادتنا وموجب حكمتنا واستغنائنا عن القبيح ، أن نغلب الحقّ الّذي من جملته الجدّ على الباطل الّذي من عداده اللهو ، بأن نورد الأدلّة القاهرة على الباطل (فَيَدْمَغُهُ) فيمحقه.

استعار لذلك القذف ، وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرميّ ، والدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاءه المؤدّي إلى زهوق الروح ، تصويرا لإبطاله به ومحقه ، ومبالغة فيه ، لأنّه جعل الحقّ كالجرم الصلب مثل الصخر ، فقذف به على جرم رخو أجوف فدمغه.

ثمّ ذكر ترشيح المجاز بقوله : (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) هالك مضمحلّ. وإذا كان الله سبحانه يظهر الحقّ بأدلّته الواضحة وحججه النيّرة ، ويبطل الباطل بهذه المثابة ، فكيف يفعل الباطل واللعب؟! (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) ممّا تصفونه به ممّا لا يجوز عليه. وهو في موضع الحال. و «ما» مصدريّة أو موصولة أو موصوفة.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

ولمّا ذكر سبحانه هلاك الكفّار ، بيّن بعده أنّه ما يهلكهم إلّا بالاستحقاق ، لأنّه ما خلق العباد وما لأجلهم من السماء والأرض وما بينهما إلّا للعبادة ، فلمّا كفروا جازاهم بكفرهم ، فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وملكا (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني : جنس الملائكة المكرّمين المنزّلين منه ـ لكرامتهم عليه وشرفهم ـ منزلة المقرّبين عند الملوك ، على طريق التمثيل والبيان ، لشرفهم وفضلهم. أو المراد به نوع من الملائكة

٣٠٨

متعال عن التبوّء (١) في السماء والأرض.

وهو معطوف على (مَنْ فِي السَّماواتِ). وإفراده للتعظيم. أو مبتدأ خبره (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لا يأنفون ولا يتعظّمون عنها (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ولا يعيون ولا يملّون منها.

وإنّما جيء بالاستحسار الّذي هو مبالغة في الحسور ، مع أنّ الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ، تنبيها على أنّ عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ينزّهونه ويعظّمونه في جميع أوقاتهم عن جميع ما لا يليق به (لا يَفْتُرُونَ) حال من الواو في «يسبّحون». وهو استئناف ، أو حال من ضمير قبله (٢).

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) بل اتّخذوا. والهمزة لإنكار اتّخاذهم ، فإنّ «أم» المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» والهمزة قد آذنت بالإضراب عمّا قبلها والإنكار لما بعدها ، وهو اتّخاذهم آلهة (مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) صفة لـ «آلهة» كقولك : فلان من مكّة أو من

__________________

(١) أي : الإقامة.

(٢) أي : «يسبّحون» حال من الضمير فيما قبله من «يستحسرون» وغيره.

٣٠٩

المدينة. تريد : مكّي أو مدنيّ.

ومعنى نسبتها إلى الأرض : الإيذان بأنّها الأصنام الّتي تعبد في الأرض ، لأنّ الآلهة على ضربين : أرضيّة وسماويّة. ومن ذلك حديث الأمة الّتي قال لها رسول الله : «أين ربّك؟ فأشارت إلى السماء. فقال : إنّها مؤمنة».

لأنّه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة الأرضيّة الّتي هي الأصنام ، لا إثبات السماء مكانا لله عزوجل. ففائدة قوله : «من الأرض» التحقير دون التخصيص.

ويجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض ، لأنّها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة ، أو تعمل من بعض جواهر الأرض.

ثمّ دلّ سبحانه على توحيده ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) غير الله. وصفت بـ «إلّا» لمّا تعذّر الاستثناء ، لعدم الجزم بشمول ما قبلها لما بعدها ليكون متّصلا ، ولا بعدمه ليكون منفصلا. ولا يجوز الرفع على البدل ، لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه موجب ، والبدل لا يسوغ إلّا في كلام غير موجب ، كقوله تعالى : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) (١). وذلك لأنّ أعمّ العامّ يجوز نفيه ، ولا يصحّ إيجابه ، لأنّه يصحّ أن يقال : ما في الدار إلّا زيد ، ولا يصحّ : في الدار جميع الأشياء إلّا زيد.

والمعنى : لو كان يتولّاهما ويدبّر أمرهما آلهة شتّى غير الواحد الّذي هو فاطرهما (لَفَسَدَتا) لبطلتا ، لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع ، فإن توافقت على المراد تطاردت عليه القدر ، وإن تخالفت تعاوقت عنه.

وفيه دلالة على أمرين : أحدهما : وجوب أن لا يكون مدبّرهما إلّا واحدا. والثاني : أن لا يكون ذلك الواحد إلّا إيّاه وحده ، لقوله : «إلّا الله». وذلك لعلمنا أنّ الرعيّة تفسد بتدبير الملكين ، لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وهو ظاهر.

وفي هذا دليل التمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد.

__________________

(١) هود : ٨١.

٣١٠

وتقرير ذلك : أنّه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين ، والقدم من أخصّ الصفات ، فالاشتراك فيه يوجب التماثل ، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين. ومن حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريده الآخر ، من إماتة وإحياء ، أو تحريك وتسكين ، أو إفقار وإغناء ، ونحو ذلك. فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو : إمّا أن يحصل مرادهما ، وذلك محال ، لاجتماع النقيضين. وإمّا أن لا يحصل مرادهما ، فينتقض كونهما قادرين. وإمّا أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر ، فينتقض كون من لم يقع مراده قادرا. فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا.

ولو قيل : إنّهما لا يتمانعان ، لأنّ ما يريده أحدهما يكون حكمة ، فيريده الآخر بعينه.

والجواب : أنّ كلامنا في صحّة التمانع ، لا في وقوع التمانع. وصحّة التمانع يكفي في الدلالة ، لأنّه يدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور دون الآخر ، فلا يجوز أن يكون إلها.

ثمّ نزّه سبحانه ذاته عن أن يكون معه إله ، فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) المحيط بجميع الأجسام ، الّذي هو محلّ التدابير ، ومنشأ التقادير. ولهذا خصّه بالذكر.

(عَمَّا يَصِفُونَ) من اتّخاذ الشريك والصاحبة والولد.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لعظمته ، وقوّة سلطانه ، وتفرّده بالألوهيّة والسلطنة الذاتيّة.

وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم ، وعمّا يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم ، تهيّبا وإجلالا ، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم ، كان ملك الملوك وربّ الأرباب وخالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله ، مع ما علم واستقرّ في العقول من أنّ ما يفعله كلّه مفعول بدواعي الحكمة ، ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح.

(وَهُمْ يُسْئَلُونَ) لأنّهم مملوكون مستعبدون خطّاؤن. فما أخلقهم بأن يقال لهم :

٣١١

لم فعلتم؟ في كلّ شيء فعلوه. ويحتمل أن يكون الضمير للآلهة.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) كرّره استعظاما لكفرهم ، واستفظاعا لأمرهم ، وتبكيتا لقولهم ، وإظهارا لجهلهم ، أو ضمّا لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل. على معنى : أوجدوا آلهة ينشرون الموتى ، فاتّخذوهم آلهة ، لما وجدوا فيهم من خواصّ الألوهيّة؟ أو وجدوا في الكتب الإلهيّة الأمر بإشراكهم ، فاتّخذوهم متابعة للأمر؟ ويعضد ذلك أنّه رتّب على الأوّل ما يدلّ على فساده عقلا ، وعلى الثاني ما يدلّ على فساده نقلا.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما وصفتم الله عزوجل بأنّ له شريكا ، إمّا من العقل أو من النقل ، فإنّه لا يصحّ القول بما لا دليل عليه ، كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا ونقلا. وفي هذا دلالة على فساد التقليد ، لأنّه طالبهم بالحجّة على صحّة قولهم ، فإنّ البرهان هو الدليل المؤدّي إلى العلم.

(هذا) أي : هذا الوحي الوارد عليّ. أو هذا الشيء الموجود في القرآن والكتب الثلاثة الّتي بين أظهركم ، من معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه. (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) عظة للّذين معي. يعني : أمّته. (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) وعظة للّذين قبلي. يعني : أمم الأنبياء.

فانظروا هل تجدون في الكتب السالفة إلّا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك؟ وإضافة الذكر إليهم لأنّه عظتهم.

فلمّا توجّهت الحجّة عليهم ذمّهم سبحانه على جهلهم ، فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) ولا يميّزون بينه وبين الباطل (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن التوحيد واتّباع الرسول تقليدا وعنادا. وإنّما خصّ الأكثر منهم لأنّ فيهم من آمن.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

٣١٢

(٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

ثمّ قرّر ما سبق من آي التوحيد بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ) لا معبود على الحقيقة (إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فوجّهوا العبادة إليّ دون غيري. وهذا تعميم بعد تخصيص ، فإنّ ذكر «من قبلي» من حيث إنّه خبر لاسم الاشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم ، وهو الكتب الثلاثة.

ثمّ ردّ قول خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، فقال : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ) تنزيه له عن ذلك (بَلْ عِبادٌ) بل هم عباد من حيث إنّهم مخلوقون ، والمعبوديّة تنافي الولادة (مُكْرَمُونَ) مقرّبون مفضّلون على سائر العباد ، لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم ، فذلك هو الّذي غرّ منهم من زعم أنّهم أولاد الله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يقولون شيئا حتّى يقوله ، كما هو عادة العبيد المؤدّبين.

وأصله : لا يسبق قولهم قوله ، فنسب السبق إليه وإليهم ، وجعل القول محلّه وأداته ، تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله. وأنيبت اللام مناب الإضافة اختصارا ، واحترازا عن تكرير الضمير.

(وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) لا يعملون قطّ ما لم يأمرهم به. يعني : كما أنّ قولهم تابع لقوله ، فعملهم أيضا كذلك مبنيّ على أمره.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لا تخفى عليه خافية ممّا قدّموا وأخّروا. وهو كالعلّة لما قبله ، والتمهيد لما بعده. كأنّه قال : لمّا علمت الملائكة يقينا بأنّ جميع ما يأتون

٣١٣

ويذرون ممّا قدّموا وأخّروا بعين الله ، وهو مجازيهم عليه ، فيضبطون أنفسهم ، ويراعون أحوالهم ، ويحافظون أوقاتهم. ومن تحفّظهم أنّهم لا يجسرون أن يشفعوا ، مع أنّهم أشرف الخلائق وأعلى مرتبة منهم ، كما قال : (وَلا يَشْفَعُونَ) مهابة منه (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) لمن ارتضاه الله أن يشفع له.

(وَهُمْ) مع هذا كلّه (مِنْ خَشْيَتِهِ) من خشيته ومهابته وعظمته (مُشْفِقُونَ) خائفون وجلون مرتعدون من التقصير في عبادته.

وأصل الخشية خوف مع تعظيم ، ولذلك خصّ بها العلماء. والإشفاق خوف مع اعتناء ، فإن عدي بـ «من» فمعنى الخوف فيه أظهر ، وإن عدي بـ «على» فبالعكس.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس (١) من خشية الله عزوجل».

وبعد أن وصف كرامتهم عليه ، وقرب منزلتهم عنده ، وأثنى عليهم ، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنيّة ، والأعمال المرضيّة ، عقّبها بالوعيد الشديد ، وأنذر بعذاب جهنّم من أشرك منهم ، وإن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل ، مع إحاطة علمه بأنّه لا يكون ، قصدا بذلك تفظيع أمر الشرك ، وتهديد أهله ، وتعظيم شأن التوحيد وأهله ، فقال : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الملائكة. أو منهم ومن سائر الخلائق. (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) يريد به نفي البنوّة ، ونفي ادّعاء ذلك عن الملائكة ، وتهديد المشركين (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) من ظلم بالإشراك وادّعاء الربوبيّة.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي

__________________

(١) الحلس : ما يوضع على ظهر الدابّة ، أو يبسط في البيت على الأرض تحت الثياب والمتاع.

٣١٤

الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

ثمّ قال تقريعا للكفرة : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أو لم يعلموا. وقرأ ابن كثير بغير واو. (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) ذواتي رتق ، أو مرتوقتين ، وهو الضمّ والالتحام ، أي : كانتا شيئا واحدا ، وحقيقة متّحدة. (فَفَتَقْناهُما) بالتنويع والتمييز ، وجعلنا كلّا منهما سبع طبقات. أو كانت السماوات واحدة ، ففتقت بالتحريكات المختلفة حتّى صارت أفلاكا. وكانت الأرضون واحدة ، فجعلت باختلاف كيفيّاتها وأحوالها طبقات أو أقاليم.

وقيل : كانت السماء لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما ، ففرّج.

وقيل : كانتا رتقا لا تمطر ولا تنبت ، ففتقناهما بالمطر والنبات. وهو المرويّ عنهم عليهم‌السلام. فيكون المراد بالسماوات سماء الدنيا ، كما نقل عن عكرمة وعطيّة وابن زيد. وجمعها باعتبار الآفاق. أو السماوات بأسرها ، على أنّ لها مدخلا مّا في الأمطار.

والكفرة وإن لم يعلموا ذلك ، فهم متمكّنون من العلم به نظرا ، فإنّ تلاصق الأرض والسماء وتباينهما جائز في العقل ، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصّص ، وهو القديم سبحانه. وأيضا الفتق عارض مفتقر إلى مؤثّر واجب ابتداء أو بوسط. أو استفسارا من العلماء ، أو مطالعة الكتب السالفة ، أو القرآن الّذي هو معجزة في نفسه ، فقام مقام المرئيّ المشاهد.

وإنّما قال : «كانتا» ولم يقل : «كنّ» لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة الأرض.

٣١٥

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) وخلقنا من الماء كلّ حيوان ، كقوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (١). وذلك لأنّه من أعظم موادّه ، فكأنّما خلقناه من الماء ، أو لفرط احتياجه إليه ، وانتفاعه به بعينه ، وقلّة صبره عنه. وإن كان جعل متعدّيا إلى مفعولين ، فمعناه : وصيّرنا كلّ شيء حيّ كائنا بسبب من الماء لا يحيا دونه.

وقيل : معناه : وجعلنا من الماء حياة كلّ ذي روح ونماء كلّ نام ، فيدخل فيه الحيوان والنبات والأشجار.

(أَفَلا يُؤْمِنُونَ) مع ظهور الآيات.

ثمّ بيّن كمال قدرته وشمول نعمته ، فقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جبالا راسيات ثابتات. من : رسا إذا ثبت. (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) كراهة أن تميل بهم وتضطرب. أو لأن لا تميد ، فحذف اللام للقياس ، و «لا» لأمن الإلباس ، كما تزاد لذلك في نحو قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٢). وهذا مذهب الكوفيّين.

(وَجَعَلْنا فِيها) في الأرض ، أو الرواسي (فِجاجاً سُبُلاً) مسالك واسعة ، فإنّ الفجّ هو الطريق الواسع. وإنّما قدّم «فجاجا» وهو وصف له ، كما في قوله : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٣) ليصير حالا ، فيدلّ على أنّه حين خلقها خلقها على تلك الصفة. أو ليبدل منها «سبلا» فيدلّ ضمنا على أنّه خلقها ووسّعها للسابلة ، مع ما يكون فيه من التأكيد. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مصالحهم.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) وخلقناها رفيعا فوق الخلق كالسقف (مَحْفُوظاً) عن الوقوع على الأرض بقدرته ، كما قال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (٤)

__________________

(١) النور : ٤٥.

(٢) الحديد : ٢٩.

(٣) نوح : ٢٠.

(٤) فاطر : ٤١.

٣١٦

الآية. أو عن الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم. أو البلى والانهدام على طول الدهر. أو عن تسمع الشياطين على سكّانه من الملائكة بالشهب الثواقب ، كما قال : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١).

(وَهُمْ عَنْ آياتِها) عمّا وضع الله عزوجل فيها من الأحوال العجيبة ، وعبرها الغريبة ، وسائر الحالات الحادثة فيها ، من الشمس والقمر وسائر النيّرات ، ومسايرها طلوعا وغروبا ، على النهج البديع ، والترتيب العجيب ، الدالّ على وجود صانعها القديم ، ووجوب وجوده ، وكمال علمه وقدرته ، وتناهي حكمته ، الّتي يحسّ ببعضها ، ويبحث عن بعضها في علم الهيئة.

(مُعْرِضُونَ) غير متفكّرين. وأيّ جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ، ولم يذهب به وهمه إلى تدبّرها ، والاعتبار بها ، والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن العدم ، ودبّرها ، ونصبها هذه النصبة ، وأودعها ما أودعها ممّا لا يعرف كنهه إلّا هو عزّت قدرته ، ولطف علمه ، وجلّت حكمته.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) اللّتان هما بعض الآيات السّماويّة (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) كلّ واحد منهما. والتنوين بدل من المضاف إليه. والمراد بالفلك الجنس ، كقولهم : كساهم الأمير حلّة وقلّدهم سيفا ، أي : كساهم وقلّدهم هذين الجنسين. (يَسْبَحُونَ) يسرعون على سطح الفلك إسراع السابع على سطح الماء.

وهو خبر «كلّ». والجملة حال من «الشمس والقمر». وجاز انفرادهما بها عن الليل والنهار ، لعدم الإلباس ، كما تقول : رأيت زيدا وهندا متبرّجة ، ونحو ذلك إذا جئت بصفة يختصّ بها بعض ما تعلّق به العامل ، ومنه قوله تعالى في هذه السورة : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) (٢). فضمير «يسبحون» لهما. والجمع باعتبار كثرة المطالع. وإنّما

__________________

(١) الحجر : ١٧.

(٢) الأنبياء : ٧٢.

٣١٧

جعل الضمير واو العقلاء لوصفهما بفعلهم ، وهو السباحة ، كما قال : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١).

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

روي أنّ المشركين مع وضوح تلك الآيات الدالّة على وجوب صانعها ووحدانيّتها عندهم ، توغّلوا في العناد والمكابرة ، ولم يصدّقوا الرسول في ذلك ، وكانوا يقدّرون أنّه سيموت ، ويقولون : نتربّص به ريب المنون ، فيشمتون بموته ، فنفى الله عنه الشماتة بقوله : (وَما جَعَلْنا) وما قضينا (لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) دوام البقاء في الدنيا. فلا أنت ولا هم إلّا عرضة للموت ، فإذا كان الأمر كذلك (أَفَإِنْ مِتَ) على ما يتوقّعونه وينتظرونه (فَهُمُ الْخالِدُونَ) يخلدون بعدك؟ وفي معناه قول القائل :

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

والمعنى : لئن متّ فإنّهم أيضا يموتون ، فأيّة فائدة لهم في تمنّي موتك. والفاء الداخلة على «إن» الشرطيّة لتعلّق الشرط بما قبله. والهمزة لإنكاره بعد ما تقرّر ذلك.

ثم برهن عليه بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ذائقة مرارة مفارقتها جسدها (وَنَبْلُوكُمْ) ونختبركم (بِالشَّرِّ) بما يجب فيه الصبر من البلايا (وَالْخَيْرِ) وبما يجب فيه الشكر من النعم (فِتْنَةً) ابتلاء واختبارا. مصدر من غير لفظه (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) وإلى حكمنا تردّون ، فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر. وإنّما سمّى ذلك ابتلاء ، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ، لأنّه في صورة الاختبار.

__________________

(١) يوسف : ٤.

٣١٨

والمعنى : نعاملكم معاملة المختبر بالفقر والغنى ، وبالشدّة والرخاء ، ليظهر على العالمين صبركم على ما تكرهون الله ، وشكركم فيما تحبّون.

وفيه إيماء بأنّ المقصود من هذه الحياة الابتلاء ، والتعريض للثواب والعقاب ، تقريرا لما سبق.

روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مرض فعاده إخوانه ، فقالوا : كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال : بشّر. قالوا : ما هذا كلام مثلك. فقال عليه‌السلام : إنّ الله تعالى يقول : «ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة». فالخير الصحّة والغناء ، والشرّ المرض والفقر».

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

وقال بعض الزهّاد : الشرّ غلبة الهوى على النفس ، والخير العصمة عن المعاصي».

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ يوما على جماعة من صناديد قريش ، منهم أبو جهل ، فضحك أبو جهل عليه ، وقال لقرنائه على سبيل الاستهزاء به : هو نبيّ بني عبد مناف.

فنزلت : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) ما يتّخذونك إلّا مهزوءا به ، ويقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي : بسوء ، ويقول : إنّها جمادات لا تنفع ولا تضرّ.

وإنّما أطلقه لدلالة الحال ، فإنّ ذكر العدوّ لا يكون إلّا بسوء ، وإن كان مطلقا ، كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوّا فذمّ.

ومنه قولهم في إبراهيم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) (١). وقولهم : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

(وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بالتوحيد. أو بإرشاد الخلق ، ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. (هُمْ كافِرُونَ) منكرون.

__________________

(١) الأنبياء : ٦٠.

٣١٩

والمعنى : أنّهم عاكفون بهممهم على ذكر آلهتهم ، وما يجب أن لا تذكر به ، من كونهم شفعاء وشهداء ، ويسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. وأمّا ذكر الله عزوجل ، وما يجب أن يذكر به من الوحدانيّة ، فهم به كافرون ، لا يصدّقون به أصلا. فهم أحقّ بأن يتّخذوا هزوا منك ، فإنّك محقّ وهم مبطلون.

وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ، ولحيلولة الصلة بين الضمير وبين الخبر.

والجملة في موضع الحال ، أي : يتّخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخريّة.

وهي الكفر بالله.

وقيل : يعني «بذكر الرحمن» قولهم : ما نعرف الرحمن إلّا مسيلمة. وقولهم : (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) (١).

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))

روي عن عطاء : أنّ النضر بن الحرث وأضرابه استعجلوا العذاب عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنكارا واستهزاء ، ويقولون : متى هذا الوعد؟ فأراد الله سبحانه زجرهم ونهيهم عن الاستعجال ، فقدّم أوّلا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة ، وأنّ لزومها له على وجه كأنّه مطبوع عليها ، فقال :

__________________

(١) الفرقان : ٦٠.

٣٢٠