زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

بالأمر وحده ، وهاهنا إيّاه وأخاه ، فلا تكرير. قيل : أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقّى موسى. وقيل : سمع بإقباله فاستقبله.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) ارفقا به في الدعاء والقول ، ولا تغلظا له في ذلك.

قيل : إنّ القول الليّن هو قوله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) (١) فإنّه دعوة في صورة مشورة ، وعرض ما فيه الفوز العظيم ، حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما ، أو احتراما لما له من حقّ التربية عليك.

وقيل : كنّياه. وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العبّاس ، وأبو الوليد ، وأبو مرّة.

وقيل : عداه شبابا لا يهرم بعده ، وملكا لا ينزع منه إلّا بالموت ، وأن تبقى له لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنّة جزاء لإيمانه.

فأعجبه ذلك ، وكان لا يقطع أمرا دون هامان ، وكان غائبا ، فلمّا قدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه ، وأنّه يريد أن يقبل منه. فقال هامان : قد كنت أرى أنّ لك عقلا ، وأنّ لك رأيا بيّنا. أنت ربّ وتريد أن تكون مربوبا؟! وبينا أنت تعبد تريد أن تعبد؟! فقلّبه عن رأيه.

(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) متعلّق بـ «اذهبا» أو «قولا» أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنّه يثمر ولا يخيب سعيكما ، فإنّ الراجي مجتهد ، والآيس متكلّف والفائدة في إرسالهما ، والمبالغة عليهما في الاجتهاد ، مع علمه بأنّه لا يؤمن ، إلزام الحجّة وقطع المعذرة ، كما قال في موضع آخر : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) (٢). وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات ، والتذكّر للمتحقّق ، والخشية للمتوهّم. ولذلك قدّم الأوّل ، أي : إن لم يتحقّق صدقكما ولم يتذكّر ، فلا أقلّ من أن يتوهّمه فيخشى.

__________________

(١) النازعات : ١٨ ـ ١٩.

(٢) طه : ١٣٤.

٢٤١

وفي قوله : (قَوْلاً لَيِّناً) دلالة على وجوب الرفق في الدعاء إلى الله ، وفي الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ليكون أسرع إلى القبول ، وأبعد من النفور.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))

ولمّا أمر الله تعالى موسى وهارون أن يمضيا إلى فرعون ، ويدعواه إليه (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أن يعجّل علينا بالعقوبة ، ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. من : فرط إذا تقدّم. ومنه : الفارط. وفرس فرط : يسبق الخيل. (أَوْ أَنْ يَطْغى) أن يزداد طغيانا فيتخطّى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي ، لجرأته وقساوته. وفي المجيء به هكذا على الإطلاق وعلى سبيل الرمز باب من حسن الأدب ، وتحاش عن التفوّه بالعظيمة.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) بالحفظ والنصرة ، أي : إنّي ناصركما وحافظكما (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأحدث في كلّ حال ما يصرف

٢٤٢

شرّه عنكما ، ويوجب نصرتي لكما. وهذا مثل قوله : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) (١). ويجوز أن لا يقدّر المفعول ، على معنى : إنّني حافظكما سامعا مبصرا. والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تمّ الحفظ ، وصحّت النصرة ، وذهبت المبالاة بالعدوّ.

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ) فأطلق (مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وأعتقهم عن الاستعباد (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالتكاليف الصعبة ، من الحفر والبناء ونقل الحجارة ونظائرها ، وقتل الولدان ، فإنّهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ، ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام. وتعقيب الإتيان بذلك دليل على أنّ تخليص المؤمنين من الكفرة أهمّ من دعوتهم إلى الإيمان. ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة.

(قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) بدلالة واضحة ، ومعجزة لائحة (مِنْ رَبِّكَ) تشهد لنا بالنبوّة.

وهذه جملة مقرّرة لما تضمّنه الكلام السابق من دعوى الرسالة ، فإنّ دعواها لا تثبت إلّا ببيّنتها. وإنّما وحّد الآية وكان معه آيتان ، لأنّ المراد في هذا الموضع إثبات الدعوى ببرهانها ، لا الإشارة إلى وحدة الحجّة ، فكأنّه قال : قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجّة على ما ادّعيناه من الرسالة. وكذلك قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢). (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣). (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٤).

(وَالسَّلامُ) وسلام الملائكة الّذين هم خزنة الجنّة (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) على المهتدين. أو السلامة في الدارين لهم.

ولمّا كان التهديد في أوّل الأمر أهمّ وأنجع ، وبالواقع أليق وأنفع ، غيّر النظم وصرّح بالوعيد ، وقال تأكيدا فيه : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) عذاب الدارين (عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) على المكذّبين للرسل ، والمعرضين عنهم.

__________________

(١) القصص : ٣٥.

(٢) الأعراف : ١٠٥. (٣ ، ٤) الشعراء : ١٥٤ و ٣٠.

٢٤٣

فلمّا أتياه وقالا له ما أمرا به (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) خاطب موسى وهارون أوّلا ، وخصّ موسى بالنداء ثانيا ، لأنّه الأصل وهارون وزيره وتابعه. ويحتمل أن يحمله خبثه على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه ، لما عرف من فصاحة هارون ورتّة لسان موسى. ويدلّ عليه قوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (١).

والمعنى : من أيّ جنس من الأجناس ربّكما حتّى أفهمه وأعرفه؟ فبيّن موسى أنّ الله تعالى ليس له جنس ، وإنّما يعرف سبحانه بأفعاله.

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) من الأنواع (خَلْقَهُ) صورته وشكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به وكماله الممكن له ، كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الّذي يوافق الاستماع ، وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان ، كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة. أو أعطى خليقته كلّ شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وقدّم المفعول الثاني لأنّه المقصود بيانه.

وقيل : أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجا ، كالناقة والبعير والرجل والمرأة وغير ذلك ، ولم يزاوج منها شيئا غير جنسه.

(ثُمَّ هَدى) ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أعطي؟ وكيف يتوصّل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طبعا؟ ولله درّ هذا الجواب ما أخصره! وما أجمعه! وما أبينه! فإنّه مع نهاية وجازته وغاية اختصاره معرب عن الموجودات بأسرها على مراتبها ، ودالّ على أنّ الغنيّ القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو الله تعالى ، وأنّ جميع ما عداه مفتقر إليه ، منعم عليه في حدّ ذاته وصفاته وأفعاله ، ولذلك بهت فرعون ، وأفحم عن الدخل عليه ، فلم ير إلّا صرف الكلام عنه إلى غيره.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) سأله عن حال من تقدّم وخلا من القرون الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود ، ونظائرهم الّذين لا يعبدون الله ، وعن شقاء من شقي منهم ، وسعادة من سعد. والمعنى : فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة؟

__________________

(١) الزخرف : ٥٢.

٢٤٤

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب ، وقد استأثر الله عزوجل به لا يعلمه إلّا هو ، وما أنا إلّا عبد مثلك ، لا أعلم منه إلّا ما أخبرني به علّام الغيوب.

(فِي كِتابٍ) أي : علم أحوال القرون وأعمالهم مثبت في اللوح المحفوظ. ويجوز أن يكون هذا تمثيلا لتمكّنه في علمه بما استحفظه العالم وقيّده بالكتبة. ويؤيّده (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) والضلال أن تخطئ الشيء في مكانه فلم تهتد إليه ، كقولك : ضللت الطريق والمنزل. والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك. وهما محالان على العالم بالذات.

ويجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة الله بالأشياء كلّها ، وتخصيصه أبعاضها بالصور والخواصّ المختلفة ، بأنّ ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئيّاتها ، والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدّتهم وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم؟! فيكون معنى الجواب : أنّ علمه تعالى محيط بذلك كلّه ، وأنّه مثبت عنده ، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان ، كما يجوزان عليك أيّها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي : لا يضلّ كما تضلّ أنت ، ولا ينسى كما تنسى يا مدّعي الربوبيّة بالجهل والوقاحة.

وعن ابن عبّاس : معناه : لا يترك من كفر به حتّى ينتقم منه ، ولا يترك من وحّده حتّى يجازيه.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

٢٤٥

ثمّ زاد في الإخبار عن الله تعالى ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) مرفوع بأنّه صفة لـ «ربّي» أو خبر لمبتدأ محذوف. أو منصوب على المدح. والمهد مصدر سمّي به ما يمهّد للصبيّ. وقرأ به الكوفيّون هنا وفي الزخرف (١) ، أي : كالمهد تتمهّدونها. والباقون : مهادا. وهو اسم ما يمهّد ، كالفراش ، أو جمع مهد. ولم يختلفوا في الّذي في النبأ (٢).

(وَسَلَكَ) وحصّل (لَكُمْ فِيها سُبُلاً) بين الجبال والأودية والبراري ، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مطرا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) التفت من لفظ الغيبة إلى صيغة التكلّم على الحكاية لكلام الله عزوجل ، إيذانا بأنّه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته ، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) (٣). (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) (٤). (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) (٥).

وفيه وجه تخصيص أيضا بأنّا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة أحد.

(أَزْواجاً) أصنافا. سمّيت بذلك لازدواجها ، واقتران بعضها مع بعض (مِنْ نَباتٍ) بيان وصفة لـ «أزواجا». وكذلك (شَتَّى). ويحتمل أن يكون صفة للنبات ، فإنّه من حيث إنّه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع. وهو جمع شتيت ، كمريض ومرضى ، أي : متفرّقات ومختلفات في الصور وسائر الأغراض ، من الطعوم والألوان

__________________

(١) الزخرف : ١٠.

(٢) النبأ : ٦.

(٣) الأنعام : ٩٩.

(٤) فاطر : ٢٧.

(٥) النمل : ٦٠.

٢٤٦

والروائح والمنافع ، يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم. فلذلك قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وهو حال من ضمير «فأخرجنا» على إرادة القول ، أي : أخرجنا أصناف النبات قائلين : كلوا وارعوا. والمعنى : آذنين في الانتفاع بها ، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول الناهية عن اتّباع الباطل وارتكاب القبائح. جمع نهية.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) فإنّ التراب أصل خلقة أوّل آبائكم ، وهو آدم عليه‌السلام ، وأوّل موادّ أبدانكم. وقيل : إنّ الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الّذي يدفن فيه ، فيبدّدها على النطفة ، فيخلق من التراب والنطفة معا. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بالموت وتفكيك الأجزاء (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بتأليف أجزائكم المتفتّتة المختلطة بالتراب على الصورة السابقة ، وردّ الأرواح إليها.

والحاصل : أنّ موسى عليه‌السلام عدّد عليهم في هذه الآيات ما علق بالأرض من مرافقهم ، حيث جعلها الله لهم فراشا ومهادا يتقلّبون عليها ، وسوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاؤوا ، وأنبت فيها أصناف؟؟ النبات الّتي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم ، وهي أصلهم الّذي منه تفرّعوا ، وأمّهم الّتي منها ولدوا ، ثمّ هي كفاتهم (١) إذا ماتوا ، ومن ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تمسّحوا بالأرض ، فإنّها بكم برّة».

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

__________________

(١) كفات الأرض : ظهرها للأحياء ، وبطنها للأموات.

٢٤٧

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) بصّرناه إيّاها ، أو عرّفناه صحّتها (كُلَّها) تأكيد لشمول الأنواع ، أو لشمول الأفراد ، على أنّ المراد بـ «آياتنا» آيات معهودة ، وهي الآيات التسع المختصّة بموسى : العصا ، واليد ، وفلق البحر ، والجراد ، والحجر ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الجبل.

وقيل : أراد عليه‌السلام آياته وما أوتيه غيره من الأنبياء من المعجزات ، فإنّه نبيّ صادق ، فلا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به.

(فَكَذَّبَ) موسى من فرط عناده (وَأَبى) الإيمان والطاعة لعتوّه ، كقوله :(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (١).

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أرض مصر (بِسِحْرِكَ يا مُوسى) هذا تعلّل

__________________

(١) النمل : ١٤.

٢٤٨

وتحيّر ، ودليل على أنّه علم كونه محقّا حتّى خاف منه على ملكه ، فإنّ الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ، ويغلبه على ملكه بالسحر.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) مثل سحرك (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) وعدا ، لقوله : (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ) فإنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان (مَكاناً سُوىً) أي : منصفا (١) يكون النصف بيننا والنصف الآخر بينك ، فتستوي مسافته إلينا وإليك. وهو من النعت. وعن مجاهد : هو من الاستواء ، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها. وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بالضّم.

وانتصابه بفعل دلّ عليه المصدر لا به ، فإنّه موصوف. والتقدير : نعد مكانا. أو بأنّه بدل من «موعدا» على تقدير : مكان موعد. فيجعل الضمير في «نخلفه» للموعد ، و «مكانا» بدل من المكان المحذوف.

وعلى هذا يكون طباق الجواب في قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) من حيث المعنى ، فإنّ يوم الزينة يدلّ على مكان بعينه مشتهر باجتماع الناس فيه ، فبذكر الزمان علم المكان. أو بإضمار مثل : مكان موعدكم ، أو وعدكم وعد يوم الزينة.

وقيل : هو يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم عيد كانوا يتّخذون فيه سوقا ، ويتزيّنون ذلك اليوم.

(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) عطف على اليوم أو الزينة. وإنّما واعدهم ذلك اليوم ليكون علوّ كلمة الله ، وظهور دينه ، وكبت الكافر ، وزهوق الباطل ، على رؤوس الأشهاد ، وفي المجمع الغاصّ (٢) ، لتقوى رغبة من رغب في اتّباع الحقّ ، ويكلّ حدّ المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدّث بذلك الأمر المشهور في كلّ بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.

__________________

(١) في هامش النسخة الخطيّة : «المنصف : الموضع الذي ينتصف فيه المسافة. منه».

(٢) أي : المزدحم ، من غصّ المكان بهم : امتلأ وضاق عليهم ، فهو غاصّ.

٢٤٩

وتخصيص الضحو من بين ساعات النهار ، لأنّ ذلك الوقت أضوؤها وأبينها ، فيرى الناس المعجزة الموسويّة وغلبتها على الشوكة الفرعونيّة على أوضح وجه ، فيكون أبلغ في الحجّة ، وأبعد في الشبهة.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) انصرف وفارق موسى على هذا الوجه (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ما يكاد به ، يعني : السحرة وآلاتهم وأدواتهم (ثُمَّ أَتى) أي : حضر الموعد.

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تدعوا آياته سحرا (فَيُسْحِتَكُمْ) فيهلككم ويستأصلكم (بِعَذابٍ).

وقرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب برواية ورش بالضمّ ، من الإسحات. وهو لغة نجد وبني تميم. والسحت لغة الحجاز. يقال. سحته الله وأسحته إذا استأصله وأهلكه.

(وَقَدْ خابَ) خسر (مَنِ افْتَرى) من كذب على الله ونسب إليه باطلا ، كما خاب فرعون ، فإنّه افترى واحتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه ، فقال بعضهم : ليس هذا من كلام السحرة (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) بأنّ موسى إن غلبنا اتّبعناه. وعن قتادة : إن كان ساحرا فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب : لمّا قال : «ويلكم ...» الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر. وقيل : تنازعوا واختلفوا فيما يعارضون به موسى وتشاوروا في السرّ. وقيل : الضمير لفرعون وقومه. والمعنى : أنّهم تشاوروا في السرّ ، وتجاذبوا أهداب (١) القول.

وقوله : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) تفسير لـ (أَسَرُّوا النَّجْوى) أي : كانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام خوفا من غلبتهما ، وتثبيطا للناس عن اتّباعهما. وعلى الأوّل معناه : قال السحرة لفرعون : إن هذان لساحران ، أو قاله بعضهم لبعض.

و «هذان» اسم «إن» على لغة بني حارث بن كعب ، فإنّهم جعلوا الألف للتثنية ،

__________________

(١) أي : وجوه القول ، استعارة من هدب الشجرة أي : طول أغصانها وتدلّيها ، وجمعه : أهداب.

٢٥٠

وأعربوا المثنّى تقديرا ، نحو الأسماء الّتي آخرها ألف ، كعصا وسعدى ، فلم يقلبوها في الجرّ والنصب.

وقيل : اسمها ضمير الشأن المحذوف ، و «هذان لساحران» خبرها.

وقيل : «إن» بمعنى : نعم ، وما بعدها مبتدأ وخبر. وفيهما : أنّ اللام لا تدخل خبر المبتدأ.

وقرأ أبو عمرو : إنّ هذين. وهو ظاهر. وابن كثير وحفص : إن هذان ، على أنّها هي المخفّفة واللام هي الفارقة ، أو النافية واللام بمعنى : إلّا. ويشدّد ابن كثير «هذان». وهي لغة.

(يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) بالاستيلاء عليها (بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب ، بإظهار مذهبهما ، وإعلاء دينهما ، لقوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) (١).

وقيل : أرادوا أهل طريقتكم الفضلى. وهم بنو إسرائيل ، فإنّهم كانوا أرباب علم فيما بينهم ، لقول موسى : (أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢).

وقيل : الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم ، من حيث إنّهم قدوة لغيرهم. والمعنى : يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما. يقال : هم طريقة قومهم ، أي : قدوتهم. ويقال للواحد أيضا : هو طريقة قومه. والمثلى هم الجماعة الأفضلون ، تأنيث الأمثل بمعنى الأفضل ، كالفضلى في تأنيث الأفضل.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) فأزمعوه واجعلوه مجمعا عليه لا يتخلّف عنه واحد منكم ، كالمسألة المجمع عليها ، أي : لا تدعوا من كيدكم شيئا إلّا جئتم به. وهذا قول فرعون للسحرة. والضمير في «قالوا» إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. وقرأ أبو عمرو :

__________________

(١) غافر : ٢٦.

(٢) الشعراء : ١٧.

٢٥١

فاجمعوا. ويعضده قوله : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) (١).

(ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) مصطفّين ، لأنّه أهيب في صدر الرائين ، وأنظم لأموركم.

روي : أنّهم كانوا سبعين ألفا ، مع كلّ واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ) فاز بالمطلوب (مَنِ اسْتَعْلى) من علا وغلب. وهو اعتراض.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ

__________________

(١) طه : ٦٠

٢٥٢

الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

وبعد ما أتوا الموعد مجتمعين (قالُوا) مراعاة للأدب والتواضع وخفض الجناح (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) «أن» بما بعده منصوب بفعل مضمر ، أو مرفوع بخبريّة مبتدأ محذوف ، أي : اختر إلقاءك أوّلا أو إلقاءنا ، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا) مقابلة أدب بأدب ، وعدم مبالاة بسحرهم ، وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء ، بذكرهم إيّاه أوّلا. وتغيير النظم ليكون على وجه أبلغ.

وقيل : ألهمهم ذلك وعلّم موسى اختيار إلقائهم ، ليبرزوا ما معهم من مكائد السحر أقصى وسعهم ، ثمّ يظهر الله سبحانه سلطانه فيقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه ، ويسلّط المعجزة على السحر فتمحقه ، وتكون آية نيّرة للناظرين ، وعبرة بيّنة للمعتبرين.

فألقوا ما معهم من الحبال والعصيّ (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) «إذا» للمفاجأة. والتحقيق : أنّها أيضا ظرفيّة تستدعي متعلّقا ينصبها ، وجملة تضاف إليها ، لكنّها خصّت بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا ، وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائيّة. فتقدير الآية : فألقوا ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيّهم

٢٥٣

من سحرهم أنّها تعدو مثل عدو الحيّات. وذلك لأنّهم لطخوها بالزئبق ، فلمّا حميت الشمس طلب الزئبق الصعود في أجوافها ، فاضطربت واهتزّت ، فخيّل أنّها تتحرّك.

وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وروح : تخيّل بالتاء ، على إسناده إلى ضمير الحبال والعصيّ ، وإبدال «أنّها تسعى» بدل الاشتمال ، كقولك : أعجبني زيد كرمه.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) إيجاس الخوف إضمار شيء منه. والمعنى : فأضمر فيها خوفا من مفاجأته ، على ما هو مقتضى الجبلّة البشريّة عند رؤية أمر غريب وشيء عجيب في أوّل وهلة.

وقيل : خاف أن يخالج الناس شكّ ، بأن يلتبس عليهم أمره ، فيتوهّموا أنّهم فعلوا مثل ما فعله ، فيشكّوا فعلا يتّبعوه.

(قُلْنا لا تَخَفْ) ما توهّم (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) تعليل للنهي ، وتقرير لغلبته ، مؤكّدا بالاستئناف ، وحرف التحقيق ، وتكرير الضمير ، وتعريف الخبر ، ولفظ العلوّ الدالّ على الغلبة الظاهرة ، وصيغة التفضيل.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أيهمه ولم يقل : ألق عصاك ، تحقيرا لها ، أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيّهم ، وألق العويد (١) الفرد الصغير الجرم الّذي في يمينك. أو تعظيما لها ، أي : لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها ، فإنّ في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه.

(تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) تبتلع ما افتعلوا وزوّروا بقدرة الله ، على وحدته وصغره وكثرة ما فعلوا وعظمه. وأصله : تتلقّف ، فحذفت إحدى التاءين. وتاء المضارعة تحتمل التأنيث ، والخطاب على إسناد الفعل إلى المسبّب.

وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع ، على الحال أو الاستئناف. وحفص بالجزم والتخفيف ، على أنّه من : لقفته ، بمعنى : تلقّفته. والبزّي بتشديد التاء.

(إِنَّما صَنَعُوا) أي : الّذي افتعلوا (كَيْدُ ساحِرٍ) قرأ حمزة والكسائي : سحر ،

__________________

(١) العويد : مصغّر العود.

٢٥٤

بمعنى : ذي سحر. أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة. أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان ، لأنّه يكون سحرا وغير سحر ، كما تبيّن المائة بدرهم. ونحوه : علم فقه وعلم نحو.

وإنّما وحّد الساحر ، لأنّ المراد به الجنس المطلق ، لا معنى العدد ، فلو جمع لخيّل أنّ المقصود هو العدد. ولذلك قال : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي : هذا الجنس. وتنكير الأوّل لتنكير المضاف ، لا من أجل تنكيره في نفسه ، كقول العجاج :

يوم ترى النفوس ما أعدّت

في سعي دنيا طالما قد مدّت (١)

أي : في سعي دنيويّ. فكأنّه قيل : إن ما صنعوا كيد سحريّ.

(حَيْثُ أَتى) حيث كان وحيث أقبل. وقيل : معناه : لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره ، لأنّ الحقّ يبطله.

روي : أنّه لمّا ألقى موسى عصاه صارت حيّة وطافت حول الصفوف حتّى رآها الناس كلّهم ، ثمّ قصدت الحبال والعصيّ فابتلعتها كلّها على كثرتها ، ولم يبق منها شيء على وجه الأرض ، ثمّ أخذها موسى فعادت عصاه كما كانت ، فتحقّق عند السحرة أنّه ليس بسحر ، وإنّما هو من آيات الله ومعجزة من معجزاته.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ) فألقاهم ذلك على وجوههم (سُجَّداً) ساجدين لله توبة عمّا صنعوا ، وإعتابا (٢) لله ، وتعظيما لما رأوا.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قدّم هارون لكبر سنّه ، أو لرؤوس الآي. أو لأنّ فرعون ربّى موسى في صغره ، فلو اقتصر على موسى أو قدّم ذكره فربما توهّم أنّ المراد فرعون وذكر هارون على الاستتباع.

وفي الكشّاف : «سبحان الله ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود ، ثمّ ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «أي : أمهلت ، من : مدّه الله في الغيّ ، أمهله. منه».

(٢) أي : إرضاء له. من : أعتبه ، أزال عتبه ، وترك ما كان يغضب عليه لأجله وأرضاه.

٢٥٥

روي : أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتّى رأوا الجنّة والنار ، ورأوا ثواب أهلها. وعن عكرمة :لمّا خرّوا سجّدا أراهم الله في سجودهم منازلهم الّتي يصيرون إليها في الجنّة» (١).

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ) لموسى. واللام لتضمّن الفعل معنى الاتّباع ، أي : قال فرعون للسحرة : صدّقتم واتّبعتم لموسى. وقرأ حفص وقنبل : آمنتم له على الخبر. والباقون على الاستفهام. (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) في الإيمان له.

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) لعظيمكم في فنّكم ، وأعلاكم وأعلمكم في صناعتكم. أو لمعلّمكم وأنتم تلامذته ، وقد يعجز التلميذ عمّا يفعله الأستاذ. يقال : قال لي كبيري كذا ، أي : معلّمي واستاذي. (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وأنتم تواطأتم على ما فعلتم. وقيل : معناه : إنّه لرئيسكم ومتقدّمكم ، وأنتم أشياعه وأتباعه ، ما عجزتم عن معارضته ، ولكنّكم تركتم معارضته احتشاما له واحتراما. وإنّما قال ذلك ليوهم العوام أنّ ما أتوا به إنّما هو لتواطئهم على ما فعلوا ليصرفوا وجوه الناس إليهم.

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد اليمنى والرجل اليسرى ، لأنّ كلّ واحد من العضوين خالف الآخر ، بأنّ هذا يمين وذاك شمال. و «من» ابتدائيّة ، لأنّ القطع مبتدأ وناشئ من مخالفة العضو العضو. وهي مع المجرور بها في حيّز النصب على الحال ، أي : لأقطّعنّها مختلفات.

(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) شبّه تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن المظروف بالظرف. وهو أوّل من صلب.

(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا) يريد نفسه وموسى ، لقوله : «آمنتم له» فإنّ اللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله ، والباء معه لله ، كقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢). وفيه

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) التوبة : ٦١.

٢٥٦

صلف (١) واختيال باقتداره وقهره ، وما ألفه وضرى (٢) به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، وتوضيع لموسى وهزء به ، فإنّه لم يكن قطّ من التعذيب في شيء. وقيل : يريد ربّ موسى الّذي آمنوا به. (أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) وأدوم عقابا : أنا على إيمانكم ، أو موسى وربّه على ترككم الإيمان به.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك (عَلى ما جاءَنا) موسى به. ويجوز أن يكون الضمير فيه لـ «ما». (مِنَ الْبَيِّناتِ) من المعجزات الواضحات على صدق موسى وصحّة نبوّته (وَالَّذِي فَطَرَنا) عطف على «ما جاءنا» أو قسم ، أي : وعلى أنّه الّذي خلقنا ، أو نقسم به على أنّا لا نختارك على ما جاء به موسى وما ظهر لنا من الحقّ.

(فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) قاضيه ، أي : صانعه على إتمام وإحكام ، فإنّا لا نرجع عن الإيمان (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) إنّما تصنع ما تهواه ، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا. وهو كالتعليل لما قبله ، والتمهيد لما بعده.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) من الكفر والمعاصي (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) من معارضة موسى.

روي أنّ السحرة ـ يعني : رؤوسهم ـ كانوا اثنين وسبعين ، اثنان من القبط ، وسائرهم من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلّم السحر. وكذا الملوك السالفين كانوا يجبرون الرعايا على تعلّم السحر ، لئلّا يخرج السحر من أيديهم.

روي أنّهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما. ففعل فوجدوه تحرسه عصاه. فقالوا : ما هذا بسحر الساحر ، لأنّ الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى فرعون إلّا أن يعارضوه ، فذلك إكراههم.

__________________

(١) صلف صلفا : تمدّح بما ليس فيه ، وادّعى فوق ذلك إعجابا وتكبّرا. والاختيال : التبختر والتكبّر.

(٢) ضرى بالشيء ، أي : تعوّده وأولع به.

٢٥٧

(وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) جزاء. أو خير ثوابا للمؤمن ، وأبقى عقابا للكافر. وهذا جواب لقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

(إِنَّهُ) الشأن والأمر (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) بأن يموت على كفره (فَإِنَّ لَهُ) نار (جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العقاب (وَلا يَحْيى) حياة مهنّأة فيها راحة.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) بأن أدّى الفرائض في الدنيا (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) جمع العليا ، وهي تأنيث الأعلى ، أي : المنازل الرفيعة في الجنّة ، بعضها أعلى من بعض.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة. بدل «الدرجات». (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) حال ، والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار (وَذلِكَ) الثواب الّذي ذكر (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) تطهّر من أدناس الكفر والمعاصي.

قيل في هذه الآيات الثلاث : هي حكاية قول السحرة. وقيل : ابتداء كلام من الله ، لا على وجه الحكاية.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

ثمّ أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل ، فقال : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي : من مصر (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) أي : فاجعل لهم ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما. أو فاتّخذ ، من : ضرب اللبن إذا عمله. (فِي الْبَحْرِ يَبَساً) مصدر وصف به.

يقال : يبس يبسا ويبسا ، كسقم سقما وسقما. ومن ثمّ وصف به المؤنّث فقيل : شاتنا يبس

٢٥٨

وناقتنا يبس ، إذا جفّ لبنها. والمعنى : اجعل أو اتّخذ لهم طريقا في البحر يابسا بضربك العصا لينفلق البحر.

(لا تَخافُ دَرَكاً) حال من الضمير في «فاضرب». والدرك اسم من الإدراك ، أي : حال كونك آمنا من أن يدرككم العدوّ. أو صفة ثانية ، والعائد محذوف.

وقرأ حمزة : لا تخف ، على أنّه جواب الأمر. وعلى هذا قوله : (وَلا تَخْشى) استئناف ، أي : وأنت لا تخشى. يعني : من شأنك أنّك آمن ولا تخشى من الغرق. أو عطف ، والألف فيه للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١) (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٢). أو حال بالواو.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده ، فحذف المفعول الثاني. وقيل : «فأتبعهم» بمعنى : فاتّبعهم ، والباء للتعدية. وقيل : الباء مزيدة. والمعنى : فاتّبعهم جنوده.

روي : أن موسى خرج ببني إسرائيل أوّل الليل ، فأخبر فرعون بذلك ، فاتّبع أثرهم بجنوده ، ولمّا جاوز البحر موسى وقومه ، ولج فرعون وجنوده فيه (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الضمير له ولجنوده ، أي : لحقهم منه ما لحقهم ، وجاءهم منه ما جاءهم. وهذا من باب الاختصار ، ومن جوامع الكلم الّتي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة ، أي : غشيهم ما سمعتم قصّته وما لا يعرف كنهه إلّا الله.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي : أضلّهم في الدين ، وما هداهم إلى الخير والرشد وطريق النجاة. وهو تهكّم به في قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣). أو أضلّهم في البحر وما نجا.

__________________

(١) الأحزاب : ١٠.

(٢) الأحزاب : ٦٧.

(٣) غافر : ٢٩.

٢٥٩

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

ثمّ خاطب سبحانه بني إسرائيل بعد إنجائهم من البحر ، وهلاك فرعون وقومه ، وعدّد نعمه عليهم ، فقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) على إضمار القول ، أي : قلنا لهم يا أولاد يعقوب. وقيل : الخطاب للّذين كانوا منهم في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منّ الله عليهم بما فعل بآبائهم. والوجه هو الأوّل.

(قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون وقومه (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) بمناجاة موسى ، وإنزال التوراة عليه. وإنّما عدّى المواعدة إليهم ، وهي لموسى أو له وللسبعين المختارين ، لأنّها لابستهم ، واتّصلت بهم ، حيث كانت لنبيّهم ونقبائهم ، وإليهم رجعت منافعها الّتي قام بها دينهم وشرعهم.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) يعني : في التيه. وقد مرّ ذلك مفصّلا في سورة البقرة (١).

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) لذائذه المحلّلة. وقرأ حمزة والكسائي : أنجيتكم ... وواعدتكم ... وما رزقتكم ، على التاء. (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) فيما رزقناكم بالكفران ، والإخلال بشكره ، والتعدّي لما حدّ الله لكم فيه ، بأن تنتفعوا به في المعاصي ، وتمنعوه من حقوق الفقراء فيه ، وتسرفوا في إنفاقه ، وتبطروا فيه وتتكبّروا.

__________________

(١) راجع ج ١ ص ١٥٣.

٢٦٠