زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

أن يكون قوله : (لِما تُوعَدُونَ) فاعله ، لمكان اللام. ففاعله مقدّر ، تقديره : بعد جدّا الإخراج من الأجداث. أو «ما توعدون» ، والجارّ والمجرور لبيان المستبعد.

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) هذا الضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه من بيانه. وأصله : إن الحياة إلّا حياتنا الدنيا. فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها ، حذرا عن التكرّر ، وإشعارا بأن تعيّنها مغن عن التصريح بها. ومنه : هي النفس ما حمّلتها تتحمّل. فمعناه : لا حياة إلّا هذه الحياة الدنيا. لأنّ «إن» نافية دخلت على «هي» الّتي في معنى الحياة الدالّة على الجنس ، فكانت مثل «لا» الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس.

(نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت بعضنا ويولد بعض ، ينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، وهكذا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت.

ثمّ قالوا عنادا : (إِنْ هُوَ) ما هو (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدّعيه من إرساله له ، وفيما يعدنا من البعث (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدّقين فيما يقول.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم ، وانتقم لي منهم (بِما كَذَّبُونِ) بسبب تكذيبهم إيّاي.

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) أي : عن زمان قليل. فـ «قليل» صفة لزمان ، كقديم وحديث في قولك : ما رأيته قديما ولا حديثا ، وعن قريب. و «ما» زائدة لتوكيد قلّة المدّة. ويجوز أن تكون نكرة موصوفة. (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) على التكذيب.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبرئيل ، صاح عليهم صيحة هائلة تصدّعت منها قلوبهم فماتوا (بِالْحَقِ) بالوجه الثابت الواجب الّذي لا دافع له ، لأنّهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من الله ، كقولك : فلان يقضي بالحقّ ، إذا كان عادلا في قضاياه. أو بالوعد الصدق. (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) هلكى. شبّههم في دمارهم بالغثاء ، وهو حميل السيل ممّا بلي واسودّ من الأوراق والعيدان ، كقولهم : سال به الوادي لمن هلك.

٤٤١

(فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل الإخبار والدعاء. و «بعدا» مصدر : بعد إذا هلك. يقال : بعد بعدا وبعدا ، نحو : رشد رشدا ورشدا. وهو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها. واللام لبيان من دعي عليه بالبعد ، نحو : (هَيْتَ لَكَ) (١). و «لما توعدون». ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد قوم هود ، أو صالح (قُرُوناً آخَرِينَ) يعني : قوم صالح على الأوّل ، ولوط وشعيب وغيرهم. وعن ابن عبّاس : بني إسرائيل.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) الوقت الّذي حدّ لهلاكها. و «من» مزيدة للاستغراق ، (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) الأجل.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) متواترين واحدا بعد واحد. من الوتر ، وهو الفرد.

والتاء بدل من الواو ، كتولج وتيقور (٢). والألف للتأنيث ، على وزن فعلى ، لأنّ الرسل جماعة. وقرأ أبو عمرو بالتنوين ، على أنّه مصدر بمعنى المتواترة ، وقع حالا.

(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل ، ومع المجيء إلى المرسل إليهم ، لأنّ الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الّذي هو منتهاه إليهم.

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

(٢) انظر الهامش (٣) في ص : ٤٣٦

٤٤٢

(فَأَتْبَعْنا) الأمم والقرون (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي : لم نبق منهم إلّا أحاديث يسمر بها ويتعجّب منها. وهو اسم جمع للحديث.

ومنه أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أو جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدّث به تلهّيا وتعجّبا ، مثل الألعوبة والأعجوبة والأضحوكة. (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) مرّ آنفا.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) بالآيات التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وحجّة واضحة ملزمة للخصم. ويجوز أن يراد به العصا. وإفرادها لأنّها أوّل المعجزات وأمّها ، حيث تعلّقت بها معجزات شتّى ، كانقلابها حيّة ، وتلقّفها ما أفكته السحرة ، وانفلاق البحر ، وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها ، وحراستها ، ومصيرها شمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ورشاء ودلوا. وجعلت كأنّها ليست من جنس آيات أخر ، لما استبدّت به من مزيّة الفضل ، فلذلك عطفت عليها ، كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (١).

ويجوز أن يراد به المعجزات ، وبالآيات الحجج. وأن يراد بهما المعجزات ، فإنّها آيات النبوّة ، وحجّة بيّنة على ما يدّعيه موسى.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) خصّ الملأ ـ وهم الأشراف ـ بالذكر ، لأنّ الآخرون كانوا

__________________

(١) البقرة : ٩٧.

٤٤٣

أتباعا لهم (فَاسْتَكْبَرُوا) تجبّروا وتعظّموا عن الإيمان والمتابعة (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) متكبّرين ، كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (١). أو متطاولين على الناس ، قاهرين بالبغي والظلم.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) ثنّى البشر ، لأنّه يطلق للواحد ، كقوله : (بَشَراً سَوِيًّا) (٢) ، كما يطلق للجمع ، كقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٣). ولم يثنّ المثل ، لأنّه في حكم المصدر. وكذا يوصف به الجمع ، والمذكّر ، والمؤنّث. ومنه قوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (٤). (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٥). ويقال أيضا : هما مثلاه ، وهم أمثاله. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (٦).

واعلم أنّ هذه القصص ـ كما ترى ـ تشهد بأنّ قصارى شبه المنكرين للنبوّة قياس حال الأنبياء على أحوالهم ، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة. وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمّل ، فإنّ النفوس البشريّة وإن تشاركت في أصل القوى والإدراك ، لكنّها متباينة الأقدام جدّا فيهما قوّة وضعفا ، فكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا ينفعهم التفكّر في تحصيل شيء ، ترى في طرف الكمال أغنياء عن التعلّم والتفكّر في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال ، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ، ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم.

(وَقَوْمُهُما) يعني : بني إسرائيل (لَنا عابِدُونَ) خادمون منقادون متذلّلون ، على وجه كأنّهم يعبدوننا. أو لأنّ فرعون كان يدّعي الألوهيّة ، فادّعى للناس عبادتهم إيّاه ، وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.

__________________

(١) القصص : ٤. (٢ ، ٣) مريم : ١٧ و ٢٦.

(٤) النساء : ١٤٠.

(٥) الطلاق : ١٢.

(٦) الأعراف : ١٩٤.

٤٤٤

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق في بحر قلزم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (لَعَلَّهُمْ) لعلّ بني إسرائيل (يَهْتَدُونَ) إلى المعارف الإلهيّة ، والأحكام الشرعيّة ، والمواعظ السنيّة ، والحكم الزاجرة. ولا يجوز عود الضمير إلى فرعون وقومه ، لأنّ التوراة نزلت بعد إغراقهم ، كما قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) (١).

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

ولمّا كان موسى صاحب شريعة مستمرّة إلى زمن عيسى ، وشريعة عيسى ناسخة لشريعته ، قال بعد قصّة موسى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) على كمال قدرتنا ، بولادتها إيّاه من غير مسيس. فالآية أمر واحد مضاف إليهما ، لأنّ عيسى خلق من غير ذكر ، ومريم من غير فحل. أو جعلنا ابن مريم آية ، بأن تكلّم في المهد ، وظهرت منه معجزات أخر ، وأمّه آية اخرى ، بأن ولدت من غير مسيس ، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها.

(وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أرض مرتفعة. وعن كعب : أنّها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وهي أرض بيت المقدس ، أو دمشق ، أو رملة فلسطين. وعن أبي هريرة : الزموا هذه الرملة رملة فلسطين ، فإنّها الربوة الّتي ذكرها الله عزوجل. وقيل : مصر ، فإنّ قراها على الربى. وقيل : حيرة الكوفة وسوادها. وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء. وهما لغتان.

(ذاتِ قَرارٍ) مستقرّ من الأرض ، منبسطة مستوية. وعن قتادة : ذات ثمار وزروع وماء. يعني : أنّه لأجل الثمار يستقرّ فيها ساكنوها. (وَمَعِينٍ) وماء ظاهر جار

__________________

(١) القصص : ٤٣.

٤٤٥

على وجه الأرض. فعيل من : معن الماء إذا جرى. وأصله : الإبعاد في الشيء. أو من الماعون ، وهو المنفعة ، لأنّه نفّاع. أو مفعول من : عانه إذا أدركه بعينه ، لأنّه لظهوره مدرك بالعيون. وصف ماءها بذلك ، لأنّه الجامع لأسباب التنزّه وطيب المكان.

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام : «القرار مسجد الكوفة ، والمعين الفرات».

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

ولمّا أخبر سبحانه عن إيتائه الكتاب للاهتداء ، ثمّ عمّا أولاه من سابغ النعماء ، خاطب الرسل بعد ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) خصّ الرسل بهذا النداء ، مع أنّ غيرهم أيضا مأمورون بهذا الأمر ، لأنّ أممهم أتباع لهم ، ومقتفون بهم في الأعمال ، فيدخلون تحت هذا النداء. ولم يخاطبوا بذلك دفعة ، لأنّهم أرسلوا في أزمنة مختلفة ، بل على معنى أنّ كلّا منهم خوطب به في زمانه ، وليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل ووصّوا به ، حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.

وفيه دلالة على أنّ إباحة الطيّبات للأنبياء شرع قديم ، واحتجاج على الرهبانيّة في رفض الطيّبات. وفي اتّصال هذا الكلام بقصّة عيسى تنبيه على أنّ تهيئة أسباب التنعّم لم تكن خاصّة له. وقيل : النداء لعيسى ، ولفظ الجمع للتعظيم.

وعن الحسن ومجاهد وقتادة والكلبي : أنّه سبحانه أراد بهذا النداء من الطيّبات محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم ، على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع.

٤٤٦

والطيّبات ما يستطاب ويستلذّ به من المآكل والفواكه. ويشهد له مجيئه عقيب قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).

وقيل : طيّبات الرزق : حلال ، وصاف ، وقوام. فالحلال : ما لا يعصى الله فيه.

والصافي : ما لا ينسى الله فيه. والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا ، فإنّه أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ)».

وعن الحسن : أما والله ما عنى به أصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكنّه قال : انتهوا إلى الحلال من الأكل.

(وَاعْمَلُوا صالِحاً) فإنّه المقصود منكم. والنافع عند ربّكم (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فأجازيكم عليه. هذا هو السبب الداعي إلى إصلاح العمل ، فإنّ العاقل إذا عمل لمن يعلم عمله ، ويجازيه على حسب ما عمل ، فقد أصلح العمل.

(وَإِنَّ هذِهِ) أي : ولأنّ هذه. والمعلّل به «فاتّقون». أو واعلموا أنّ هذه. وقيل : إنّه معطوف على «ما تعملون». وقرأ ابن عامر بالتخفيف. والكوفيّون بالكسر على الاستئناف. (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ملّتكم ملّة واحدة ، أي : متّحدة في العقائد واصول الشرائع. ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١) ، أي : على ملّة ودين. أو هذه جماعتكم جماعة واحدة متّفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة.

ونصب «أمّة» على الحال. (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) عن المعصية ومخالفة الكلمة ، أي : فلأجل هذا فاتّقون.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أمر دينهم (بَيْنَهُمْ) أي : جعلوه أديانا مختلفة. أو فتفرّقوا وتحزّبوا. و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أو التمييز. والضمير لما دلّ عليه الأمّة من أربابها ، أولها. (زُبُراً) قطعا. جمع الزبور الّذي بمعنى الفرقة. وهو حال من «أمرهم» أو

__________________

(١) الزّخرف : ٢٣.

٤٤٧

من الواو ، أو مفعول ثان لـ «تقطّعوا» فإنّه متضمّن معنى : جعل. وقيل : كتبا ، من : زبرت الكتاب. فيكون مفعولا ثانيا ، أو حالا من «أمرهم» على تقدير مثل : كتبا مختلفة.

(كُلُّ حِزْبٍ) من هؤلاء المتحزّبين المتقطّعين دينهم (بِما لَدَيْهِمْ) من الدين (فَرِحُونَ) راضون بما عندهم من الأديان الباطلة ، معتقدون أنّهم على الحقّ.

(فَذَرْهُمْ) يا محمّد (فِي غَمْرَتِهِمْ) في جهالتهم. شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة ، لأنّهم مغمورون فيها. أو شبّهوا باللاعبين في غمرة الماء ، لما هم عليه من الباطل ، كقوله : كأنّني ضارب في غمرة لعب (١) (حَتَّى حِينٍ) إلى أن يقتلوا أو يموتوا فيجازوا.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

ثمّ سلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونهاه عن الاستعجال بعذابهم ، والجزع من تأخيره ، فقال : (أَيَحْسَبُونَ) هؤلاء الكفرة (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) أنّ ما نجعله مددا لهم ، بأن نعطيهم

__________________

(١) لذي الرمّة. وتمامه :

ليالي اللهو يعطبيني فأتبعه

كأنّني ضارب ..........

أي : اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه ، كأنّني سابح في لجّة من الماء تغمر القامة ، لعب فيها.

٤٤٨

مستمرّا (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان لـ «ما». وليس خبرا له ، فإنّه غير معاتب عليه ، وإنّما المعاتب عليه اعتقادهم أنّ ذلك خير لهم. فخبره قوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) والراجع محذوف ، كما في قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي : يحسبون أنّ الّذي نمدّهم به نسارع به لهم فيها فيه خيرهم وإكرامهم. والهمزة للإنكار عمّا يحسبون.

والمعنى : أنّ هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم إلى المعاصي ، واستجرارا إلى زيادة الإثم ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ، وفيما لهم فيه نفع وإكرام ، ومعاجلة بالثواب قبل وقته.

(بَلْ لا يَشْعُرُونَ) استدراك لقوله : «أيحسبون». يعني : بل هم كالبهائم ، لا فطنة لهم ولا شعور ، ليتأمّلوا أنّ ذلك استدراج لا مسارعة في الخير.

روى السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تعالى يقول : يحزن عبدي المؤمن إذا اقترت عليه شيئا من الدنيا ، وذلك أقرب له منّي ، ويفرح إذا بسطت له الدنيا ، وذلك أبعد له منّي. ثمّ تلا هذه الآية إلى قوله : «بل لا يشعرون». ثمّ قال : إنّ ذلك فتنة لهم».

ثمّ بيّن حال الأخيار الأبرار بعد بيان أحوال الكفّار الفجّار ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) من خوف عذابه (مُشْفِقُونَ) حذرون ، فيفعلون ما أمرهم به ، وينتهون عمّا نهاهم عنه.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) المنصوبة والمنزلة (يُؤْمِنُونَ) بتصديق مدلولها.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) شركا جليّا ولا خفيّا.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوه من الصدقات المفروضة والمندوبة.

وقيل : أعمال البرّ كلّها. (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة أن لا يقبل منهم ، وأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيؤاخذوا به (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي : لإيقانهم بأنّهم. أو لأنّهم راجعون إلى الله وجلت قلوبهم.

٤٤٩

(أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها. أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيويّة الموعودة على الأعمال الصالحة بالمبادرة إليها ، كقوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) (١). (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢). وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدّمة ، لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين.

عن الحسن : المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، والمنافع جمع إساءة وأمنا.

(وَهُمْ لَها سابِقُونَ) لأجلها فاعلون السبق. أو لأجلها سابقون الناس إلى الطاعة ، أو الثواب والجنّة. أو إيّاها سابقون ، أي : ينالونها قبل الآخرة ، حيث عجّلت لهم في الدنيا ، كقوله : (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٣).

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ

__________________

(١) آل عمران : ١٤٨.

(٢) العنكبوت : ٢٧.

(٣) المؤمنون : ٦٣.

٤٥٠

(٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يكلّف أحدا إلّا دون الطاقة ، بعد أن أخبر عن حال الكافرين والمؤمنين ، فقال : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قدر طاقتها يعني : أنّ هذا الّذي وصف به الصالحين غير خارج عن حدّ الوسع والطاقة ، وكذلك كلّ ما كلّفه عباده.

(وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) بالصدق. لا يقرؤن منه يوم القيامة إلّا ما هو صدق وعدل ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، ولا يوجد فيه ما يخالف الواقع.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم ، ولا يؤاخذون بذنب غيرهم. فما عملوه من الأعمال غير ضائع عندنا ، بل كلّ ما كلّفنا عبادنا في الدنيا مثبت في اللوح أو صحف أعمالهم ، ونجازيهم على وفقه.

(بَلْ) ردّ لما سبق من الكلام المشتمل على الوعد والوعيد في القرآن (قُلُوبُهُمْ) قلوب الكفّار (فِي غَمْرَةٍ) في غفلة غامرة لها (مِنْ هذا) من الّذي وصف به هؤلاء المؤمنون. أو من كتاب الحفظة. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) خبيثة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) متجاوزة لما وصف به المؤمنون. أو متخطّية عمّاهم عليه من الشرك. (هُمْ لَها عامِلُونَ) معتادون فعلها ، وصارت الأعمال القبيحة والأفعال الخبيثة دأبهم.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) متنعّميهم (بِالْعَذابِ) يعني : القتل يوم بدر ، أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فابتلاهم الله بالقحط ، حتّى أكلوا الجيف والكلاب والعظام

٤٥١

المحترقة والقدّ (١) والأولاد.أو المراد عذاب الآخرة.

(إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يضجّون ويجزعون ، ويصرخون باستغاثة ، لشدّة العذاب.

والجؤار : الصراخ باستغاثة. و «إذا» للمفاجأة ، أي : فاجئوا الصراخ بالاستغاثة. وهو جواب الشرط. و «حتّى» هذه هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. ويجوز أن يكون الجواب (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) فإنّه مقدّر بالقول ، أي : قيل لهم : لا تجأروا.

ثمّ علّل للنهي عن الجؤار بقوله : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي : لا تجأروا ، فإنّ الجواب غير نافع لكم ، إذ لا تغاثون ولا تمنعون منّا ، أو من جهتنا لا يلحقكم نصر ولا معونة. وهذا إيئاس لهم من دفع العذاب عنهم.

ثمّ بيّن علّة الإيئاس بقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي) يعني : القرآن (تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) تتأخّرون وتعرضون ، مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها. والنكوص : الرجوع قهقرى.

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الضمير للبيت العتيق. أو للحرم ، فإنّهم كانوا يقولون : لا يغلب علينا أحد ، لأنّا أهل الحرم. واستكبارهم بالبيت ، وافتخارهم بأنّهم ولاته وقوّامه ، مشهور معروف. فبهذا أغنى عن سبق ذكر مرجعه. ويجوز أن يرجع إلى آياتي ، فإنّها بمعنى كتابي.

والباء متعلّقة بالمستكبرين. ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكبارا.

ضمّن «مستكبرين» معنى : مكذّبين ، فعدّي تعديته. أو المعنى : مستكبرين بسببه ، فإنّه يحدث لهم استماعه استكبارا وعتوّا منهم ، فهم كانوا يستكبرون على المسلمين بسببه.

ويجوز أنّ تكون متعلّقة بقوله : (سامِراً). وهو في الأصل مصدر بمعنى السمر ، وهو التحديث في الليل ، جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة ، ولهذا يطلق على الجمع.

فالسامر هم القوم الّذين يسمرون. والمعنى : يتحدّثون في الليل بذكر القرآن والطعن فيه.

__________________

(١) القدّ : جلد السخلة. والقدّ : السير يقدّ ـ أي : يقطع ـ من الجلد غير المدبوغ.

٤٥٢

(تَهْجُرُونَ) من الهجر بالفتح ، إمّا بمعنى القطيعة أو الهذيان ، أي : تعرضون عن القرآن ، أو تهذون في شأنه. أو الهجر بالضمّ ، أي : الفحش. ويؤيّد الثاني قراءة نافع : تهجرون ، من : أهجر في منطقه إذا أفحش.

روي : أنّهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون ، وكانت عامّة سمرهم ذكر القرآن ، وتسميته سحرا وشعرا ، وسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ قال سبحانه ردّا عليهم : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي : أفلم يتدبّروا القرآن ليعلموا أنّه الحقّ من ربّهم ، بإعجاز لفظه ومتانة معناه ووضوح مدلوله ، فيصدّقوا به ، أو ليخافوا عند تدبّر آياته (أَمْ جاءَهُمْ) بل أجاءهم (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الرسول والكتاب ، فلذلك أنكروه واستبدعوه. أو من الأمن من عذاب الله ، فلذلك لم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون ، وهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان ، فآمنوا به وكتبه ورسله وأطاعوه.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا مضر ولا ربيعة ، فإنّهما كانا مسلمين. ولا تسبّوا قسّا ، فإنّه كان مسلما. ولا تسبّوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مرّ ، فإنّهم كانوا على الإسلام. وما شككتم فيه من شيء فلا تشكّوا في أنّ تبّعا كان مسلما».

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) محمّدا بأمانته ، وصدقه ، وحسن خلقه ، وكمال علمه ، ووفور فضله ، مع عدم تعلّمه ، واتّسامه بينهم بأنّه خير فتيان قريش ، إلى غير ذلك ممّا هو صفة الأنبياء (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) دعواه لأحد هذه الوجوه ، إذ لا وجه له غيرها ، فإنّ إنكار الشيء قطعا أو ظنّا إنّما يتمّ إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص ، أو بحث عمّا يدلّ عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) جنون ، فلا يبالون بقوله ، وقد كانوا يعلمون أنّه أرجحهم عقلا ، وأدقّهم نظرا. وفي هذا دلالة على جهلهم ، حيث أقرّوا له بمتانة العقل ورزانة الرأي ، ثمّ نسبوه إلى الجنون.

٤٥٣

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) الدين القويم والطريق المستقيم. وهو وحدانيّته تعالى عن الشرك والندّ. (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنّه يخالف شهواتهم وأهواءهم ، ولم يوافق ما ألفوه ونشأوا عليه ، وخلط بلحومهم ودمائهم من اتّباع الباطل ، ولم يمكنهم دفعه ، لأنّه الحقّ الأبلج والصراط المستقيم ، فمالوا إلى البهت ، وعوّلوا على كذبهم من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.

وإنّما قيّد الحكم بالأكثر ، لأنّه كان من الصناديد والرؤساء من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه ، بأن يقولوا : ترك دين آبائه وتديّن بالدين المستحدث ، لا كراهة للحقّ.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

ثمّ دلّ سبحانه على عظم شأن الحقّ بأنّ السماوات والأرض ما قامت ولا من فيهنّ إلّا بالحقّ ، فقال : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) بأن كان في الواقع آلهة شتّى (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) كما سبق تقريره في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

وقيل : لو اتّبع الحقّ أهواءهم وانقلب باطلا ، لذهب ما قام به العالم ، فلا يبقى له

__________________

(١) راجع ص ٣١٠ ذيل الآية (٢٢) من سورة الأنبياء.

٤٥٤

بعده قوام. أو لو اتّبع الحقّ الّذي جاء به محمّد ـ وهو الإسلام ـ أهواءهم ، وانقلب شركا ، لجاء الله بالقيامة ، ولأهلك العالم ، ولم يؤخّرها من فرط غضبه.

وعن قتادة : الحقّ هو الله. ومعناه : لو كان الله إلها يتّبع أهواءهم ، بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي ، لخرج عن الألوهيّة ، ولما قدر أنّ يمسك السماوات والأرض.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) بالكتاب الّذي هو ذكرهم ، أي : وعظهم. أوصيتهم وشرفهم وفخرهم. أو الذكر الّذي تمنّوه بقولهم : لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنّا عباد الله المخلصين. (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يلتفتون إليه ، وراضون بالباطل أو بالذلّ.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أجرا على أداء الرسالة (فَخَراجُ رَبِّكَ) رزقه في الدنيا ، أو ثوابه في العقبى (خَيْرٌ) لسعته ودوامه ، ففيه مندوحة لك عن عطائهم. والخرج بإزاء الدخل ، يقال لكلّ ما تخرجه إلى غيرك. والخراج غالب في الضريبة على الأرض. وهي ما تخرجه إلى الإمام ، أو إلى كلّ عامل ، من زكاة الأرض وأجرتها وجعلها. ففيه إشعار بالكثرة واللزوم ، فيكون ابلغ من الخرج ، فإنّ زيادة اللفظ لزيادة المعنى.

والمعنى : أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق؟ فإنّ الكثير من عطاء الخالق خير لوسعته.

وقرأ ابن عامر : خرجا فخرج ربّك. وحمزة والكسائي : خراجا فخراج ربّك ، للمزاوجة.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تقرير لخيريّة خراجه.

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تشهد العقول السليمة على استقامته ، لا عوج فيه يوجب اتّهامهم له.

واعلم أنّه سبحانه ألزمهم الحجّة في هذه الآيات ، وقطع معاذيرهم وعللهم ، بأنّ الّذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سرّه وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله

٤٥٥

للرسالة من بين ظهرانيّهم. وأنّه لم يعرض له حاجة حتّى يدّعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلّا إلى دين الإسلام الّذي هو الصراط المستقيم. وهم لفرط شغفهم بدين آبائهم الضلّال من غير برهان ، وتوغّلهم في العتوّ والاستكبار ، تعلّلوا بأنّه مجنون ، بعد ظهور الحقّ وثبات التصديق من الله ، بالمعجزات الباهرة والآيات النيّرة ، وأعرضوا عمّا فيه حظّهم من الذكر والشرف ، ومزيّة المرتبة في الدارين.

ولمّا كان خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ وسلوك طريقة ، قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ) عن الصراط السويّ والطريق القويم (لَناكِبُونَ) لعادلون عنه.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

روي : أنّه لمّا أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ، ومنع الميرة من أهل مكّة ، وأخذهم الله بالسنين إجابة لدعوة رسوله ، حتّى أكلوا العلهز (١) ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال :بلى. فقال : قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع. فنزلت : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) يعني : القحط (لَلَجُّوا) لتمادوا عنادا (فِي طُغْيانِهِمْ) إفراطهم في الكفر ، والاستكبار عن الحقّ ، وعداوة الرسول والمؤمنين

__________________

(١) العلهز : طعام كانوا يتّخذونه من الدم ووبر البعير في سنّي المجاعة.

٤٥٦

(يَعْمَهُونَ) عن الهدى.

ثمّ استشهد على هذا القول بقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعني : قتل صناديدهم وأسرهم يوم بدر (فَمَا اسْتَكانُوا) فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة (لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) وما يقيمون على التضرّع ، بل أقاموا على عتوّهم واستكبارهم. والاستكان استفعال من الكون ، بمعنى الانتقال من كون إلى كون ، كالاستحالة بمعنى الانتقال من حال إلى حال ، فإنّ المفتقر انتقل من كون إلى كون. أو افتعال من السكون ، أشبعت فتحته. ولم يقل : وما تضرّعوا ، أو فما يستكينون ، لأنّ المعنى : محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة ، وما من عادة هؤلاء أن يستكينوا أو يتضرّعوا.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) يعني : الجوع ، فإنّه أشدّ من الأسر والقتل (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من كلّ خير ، حتّى جاءك أعتاهم يستعطفك. أو محنّاهم بكلّ محنة من القتل والجوع ، فما رؤي منهم لين مقادة ، وهم كذلك حتّى إذا عذّبوا بنار جهنّم فحينئذ يبلسون ، كقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١). (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٢).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠))

__________________

(١) الروم : ١٢.

(٢) الزّخرف : ٧٥.

٤٥٧

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المنعم على ما خلقه بأنواع النعم ، ليتدبّروا فيها ويمتثلوا أوامره ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) لتحسّوا بها ما نصب من الآيات (وَالْأَفْئِدَةَ) لتتفكّروا فيها ، وتستدلّوا بها ، إلى غير ذلك من المنافع الدينيّة والدنيويّة ما لا يتعلّق بغيرها ، فإنّ الدلائل كلّها مبنيّة عليها ، ولهذا خصّت بالذكر (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تشكرونها شكرا قليلا ، لأنّ العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله ، والإذعان لما نحها من غير إشراك ، ومن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها. و «ما» زائدة للتأكيد.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) خلقكم وبثّكم فيها بالتناسل (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم.

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي) يحييكم في أرحام أمّهاتكم (وَيُمِيتُ) ويميتكم عند انقضاء آجالكم (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) مختصّ به تعاقبهما ، ولا يقدر غيره على تصريفهما. أو لأمره وقضائه تعاقبهما ، أو انتقاص أحدهما وازدياد الآخر. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) بالنظر والتأمّل أنّ الكلّ منّا ، وأنّ قدرتنا تعمّ الممكنات كلّها ، وأنّ البعث من جملتها.

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المكذّبين بالبعث ، فقال : (بَلْ قالُوا) أي : كفّار مكّة (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) آباؤهم ومن دان بدينهم.

٤٥٨

(قالُوا) استبعادا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) ولم يتأمّلوا أنّهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا.

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إلّا أكاذيبهم الّتي كتبه الأوّلون ممّا لا حقيقة له. جمع أسطورة ، لأنّه يستعمل فيما يتلهّى به ، كالأعاجيب والأضاحيك. وقيل : جمع أسطار جمع سطر.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠))

ثمّ احتجّ على هؤلاء المنكرين للبعث والنشور ، فقال : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم من أهل العلم ، أو من العالمين بذلك ، أي : أجيبوني عمّا استعلمتكم منه إن كان عندكم فيه علم. فيكون استهانة بهم ، وتقريرا لفرط جهالتهم ، حتّى جهلوا مثل هذا الجليّ الواضح ، وإلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنّكاره. ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا ، فقال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لأنّ العقل الصريح قد اضطرّهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنّه خالقها.

(قُلْ) بعد ما قالوه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قدر على إيجادها ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته.

٤٥٩

ثمّ زاد في الحجّة فقال : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من مالكها والمتصرّف فيها. والعرش أعظم من السماوات السبع.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) إيراد اللام على المعنى ، لأنّ قولك : من ربّه ، ولمن هو ، في معنى واحد. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده ، على ما يقتضيه ظاهر لفظ السؤال.

(قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي : أفلا تخافون عقابه ، فلا تشركوا بعض مخلوقاته ، ولا تنكروا قدرته على جميع الممكنات ، ولا تعصوا رسله؟ (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) هو من صفات المبالغة في الملك ، كالجبروت والرهبوت. وقال مجاهد : ملكوت كلّ شيء خزائن كلّ شيء.

(وَهُوَ يُجِيرُ) يغيث من يشاء على من يشاء ، ويحرسه عنه (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ولا يغاث ولا يمنع منه أحد ، أي : ولا يغيث أحد أحدا ، ولا يمنعه منه. يقال : أجرت فلانا على فلان ، إذا أغثته ومنعته من المكروهات. وتعديته بـ «على» لتضمين معنى النصرة.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك فأجيبوا.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) فمن أين تخدعون عن توحيده وطاعته ، ويموّه عليكم ، فتصرفون عن الرشد ، مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلّة؟ قال امرئ القيس (١) : ونسحر بالطعام وبالشراب ... أي : نخدع. والخادع هو الشيطان والهوى. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) من التوحيد والوعد بالنشور (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) حيث أنكروا ذلك ، وادّعوا له ولدا ، ومعه شريكا.

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

__________________

(١) ديوان امرئ القيس (طبعة دار بيروت) : ٧٢. وصدره : أرانا موضعين لأمر غيب.

٤٦٠