زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) كأنّه قيل : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا العذاب ، فإنّ إفراط العجلة من الإنسان ، وقلّة تأنّيه في الأمور ، على وجه كأنّه خلق منه. وهذا كقولك : خلق زيد من الكرم ، فجعل ما لا ينفكّ عنه إلّا نادرا بمنزلة المطبوع منه ، مبالغة في لزومه. ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد.

(سَأُرِيكُمْ آياتِي) نقماتي في الدنيا ، كوقعة بدر ، وفي الآخرة عذاب النار (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) بالإتيان بها.

وعلى ما فسّرنا ؛ لا يرد أنّ ذلك من باب تكليف ما لا يطاق ، لأنّ النهي متعلّق بما هو مخلوق ومجبول في الإنسان. سلّمنا أنّه مجبول ومطبوع ، لكن ذلك لا يستلزم التكليف بالمحال ، لأنّه من قبيل أنّه سبحانه ركّب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها. ولا شبهة أنّه لا يستلزم التكليف بالمحال ، لأنّه أعطاه القدرة الّتي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة.

وعن ابن عبّاس : أنّه أراد بالإنسان آدم ، وأنّه حين بلغ الروح شراسيف (١) صدره ، أراد أن يقوم فلم يتمكّن منه.

وروي : أنّه لمّا دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنّة ، ولمّا دخل جوفه اشتهى الطعام.

وقيل : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة ، قبل غروب الشمس. فأسرع في خلقه قبل مغيبها.

وقيل : العجل الطين ، بلغة حمير. وقال شاعرهم : والنخل ينبت بين الماء والعجل (٢). فالمعنى : خلق آدم من طين.

(وَيَقُولُونَ) إنكارا واستبعادا (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وقت وعد العذاب ، أو القيامة

__________________

(١) شراسيف جمع شرسوف ، وهو طرف الضلع المشرف على البطن.

(٢) صدره : النبع في الصخرة الصمّاء منبته

٣٢١

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنون : النبيّ وأصحابه.

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) لا يدفعون (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) يعني : أنّ النار تحيط بهم من جميع جوانبهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) جواب «لو» محذوف ، و «حين» مفعول لـ «يعلم» أي : لو يعلمون الوقت الّذي يستعجلون منه بقولهم : متى هذا الوعد؟ وهو وقت صعب شديد ، تحيط بهم النار من ورائهم وقدّامهم ، بحيث لا يقدرون على دفعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ، لمّا كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الّذي هوّنه عندهم.

ويجوز أن يترك مفعول «يعلم». والمعنى : لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و «حين» منصوب بمضمر ، أي : حين لا يكفّون عن وجوههم النار يعلمون أنّهم كانوا على الباطل ، وينتفي عنهم هذا الجهل العظيم.

وإنّما وضع الظاهر فيه موضع الضمير ، للدلالة على أنّ ما أوجب لهم ذلك هو الكفر.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ) العدة ، أو النار ، أو الساعة (بَغْتَةً) فجأة. مصدر أو حال.

(فَتَبْهَتُهُمْ) فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجّة : مبهوت. ومنه : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (١) أي : غلب إبراهيم عليه‌السلام الكافر. أو فتحيّرهم.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي : ردّ الوعد ، فإنّه بمعنى النار أو العدة. أو ردّ الحين ، فإنّه بمعنى الساعة ، ويجوز أن يكون للنار أو للبغتة. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون. وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ

__________________

(١) البقرة : ٢٥٨.

٣٢٢

رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

ثمّ سلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن استهزائهم به بقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزأ هؤلاء بك ، فلك بالأنبياء أسوة (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فحلّ بهم جزاء استهزائهم. وفيه وعد له بأنّ ما يفعلون به ـ يعني : جزاءه ـ يحيق بهم ، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء.

(قُلْ) يا محمد للمستهزئين (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من بأسه وعذابه إن أراد بكم. والاستفهام في معنى النفي ، تقديره : قل لا حافظ لكم من الرحمن. وفي لفظ «الرحمن» تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامّة ، وأنّ اندفاعه بمهلته.

(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) لا يخطرونه ببالهم ، ولا يتفكّرون فيه ، فضلا أن يخافوا بأسه ، حتّى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ ، وصلحوا للسؤال عنه. والمراد أنّه أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسؤالهم عن الكالئ.

ثمّ بيّن أنّهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. ثمّ أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل» ، وقال توبيخا وتقريعا : (أَمْ لَهُمْ) أي : بل ألهم (آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) من العذاب (مِنْ دُونِنا) تتجاوز منعنا وحفظنا. أو من عذاب يكون من عندنا. والإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب ، فإنّه عن المعرض الغافل عن الشيء بعيد ، وعن المعتقد لنقيضه أبعد.

ثمّ استأنف إبطال ما اعتقدوه بقوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) ومنعها عن

٣٢٣

العذاب. ولا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم. (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) ولا يصحبهم النصر والتأييد من الله. ومن لا يقدر على نصر نفسه ، ولا يصحبه نصر من الله ، فكيف يمنع غيره وينصره؟! ثمّ أضرب عمّا توهّموا ، ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم ، وهو الاستدراج والتمتيع بما قدّر لهم من الأعمار. أو أضرب عن الدلالة على بطلانه ، ببيان ما أوهمهم ذلك ، فقال : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) أمهلناهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنّما هو بتمتيعنا إيّاهم بالحياة الدنيا وإمهالنا ، كما متّعنا غيرهم من الكفّار ، وأمهلناهم حتّى طال عليهم الأمد ، وامتدّت بهم أيّام الروح والطمأنينة ، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك ، لا يغلبون ، ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم ، وذلك طمع فارغ ، وأمل كاذب.

ثمّ عقّبه بما يدلّ على أنّه أمل كاذب ، فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي : يأتي أمرنا أرض الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتسليط المسلمين عليها ، وإظهارهم على أهلها ، وردّها إلى دار الإسلام. أسند سبحانه الإتيان والنقص إلى ذاته تعالى ، تصويرا لما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأنّ عساكرهم وسراياهم كانت تغزوا أرض المشركين ، وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها ، أرضا فأرضا ، وقوما فقوما ، فيأخذون قراهم وأرضهم.

(أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين. الهمزة للإنكار ، أي : ليسوا بغالبين ، ولكنّهم المغلوبون ، ورسول الله وناصروه هم الغالبون.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ

٣٢٤

(٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) بما أوحي إليّ (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) وقرأ ابن عامر : ولا تسمع ، على خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واللام في «الصمّ» إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، فهي للعهد لا للجنس. والأصل : ولا يسمعون ، فوضع الظاهر موضع ضميرهم.

وسمّاهم الصمّ للدلالة على تصامّهم ، وسدّهم أسماعهم إذا انذروا ، وعدم انتفاعهم بما يسمعون ، فهم في ذلك بمنزلة الأصمّ الّذي لا يسمع.

(إِذا ما يُنْذَرُونَ) منصوب بـ «يسمع» أو بالدعاء. والتقييد به ، لأنّ الكلام في الإنذار ، أو للمبالغة في تصامّهم وتجاسرهم ، أي : هم على صفة التصامّ وصدّ الأسماع من آيات الإنذار جرأة وجسارة.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أدنى شيء. وفيه مبالغات ثلاث : ذكر المسّ ، وما في النفحة من معنى القلّة ، فإنّ أصل النفخ هبوب رائحة الشيء ، والبناء الدالّ على المرّة.

(مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) من الّذي ينذرون به (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لدعوا على أنفسهم بالويل ، واعترفوا عليها بالظلم ، حتّى تصامّوا وأعرضوا.

ثمّ قال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) العدل توزن بها الأعمال. وهو ميزان له كفّتان ولسان.

يروى : «أنّ داود عليه‌السلام سأل ربّه أن يريه الميزان ، فلمّا رآه غشي عليه ثمّ أفاق ، فقال : يا إلهي من الّذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال : يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة».

وفي وزن الأعمال مع أنّها أعراض قولان : أحدهما : توزن صحائف الأعمال.

والثاني : أن تجعل في كفّة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفّة السيّئات جواهر سود

٣٢٥

مظلمة.

وإفراد القسط لأنّه مصدر وصف به للمبالغة ، كأنّها في نفسها قسط ، أو على حذف المضاف ، أي : ذوات القسط.

وقيل : وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة ، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة. فمثّل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. ومصداقه قول قتادة : إنّ معناه : نضع العدل في المجازاة بالحقّ لكلّ أحد على قدر استحقاقه ، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقّه ، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقّه.

(لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) لجزاء يوم القيامة. أو لأهله ، أي : لأجلهم. أو فيه ، كقولك : جئت لخمس خلون من الشهر.

(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي : لا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزيد في إساءة مسيء (وَإِنْ كانَ) العمل أو الظلم (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ). ورفع نافع «مثقال» على «كان» التامّة ، كقوله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) (١). (أَتَيْنا بِها) أحضرنا المثقال. وتأنيثه لإضافته إلى الحبّة ، كقولهم : ذهبت بعض أصابعه. (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

٣٢٦

ولمّا تقدّم ذكر الوحي بيّن عقيبه أنّ إنزال القرآن على نبيّه ليس ببدع ، فقد أنزل على موسى وهارون التوراة ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي : أعطيناهما الكتاب الجامع ، لكونه فارقا بين الحقّ والباطل ، وضياء يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة ، وذكرا يتّعظ به المتّقون. أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. أو ذكر الشرف.

وعن ابن عبّاس : الفرقان : الفتح والنصر ، كقوله : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) (١). وعن الضحّاك : فلق البحر. وعن محمّد بن كعب : المخرج من الشبهات.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) صفة للمتّقين. أو مدح لهم منصوب أو مرفوع. (بِالْغَيْبِ) حال من الفاعل ، أو المفعول (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) من القيامة وأهوالها (مُشْفِقُونَ) خائفون. وفي تصدير الضمير ، وبناء الحكم عليه ، مبالغة وتعريض.

ولمّا وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الّذي آتاه نبيّنا ، فقال : (وَهذا ذِكْرٌ) يعني : القرآن (مُبارَكٌ) كثير خيره ، وغزير منفعته ، من المواعظ والزواجر ، والأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق والأفعال (أَنْزَلْناهُ) على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ ، أي : فلما ذا تنكرونه وتجحدونه مع كونه معجزا؟!

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤))

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من قصّة موسى وهارون بقصّة إبراهيم عليه‌السلام ، الّذي

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

٣٢٧

هو من أجداد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعرب كانوا يفتخرون به ، لانتهاء أنسابهم إليه ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) الاهتداء لوجوه الصلاح. وقيل : هو الحجج الموصلة إلى التوحيد. وقيل : النبوّة. وإضافته إليه ليدلّ على أنّه رشد مثله ، وأنّ له شأنا.

(مِنْ قَبْلُ) من قبل موسى وهارون ، أو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : من قبل استنبائه ، أو بلوغه حيث قال : إنّي وجّهت.

(وَكُنَّا بِهِ) أي : بأنّه أهل لما آتيناه من الخلّة والنبوّة (عالِمِينَ) يعني : علمنا منه أحوالا بديعة ، وأسرارا عجيبة ، وصفات قد رضينا بها ونحمدها ، حتّى أهّلناه لخلّتنا ومخالصتنا. وهذا كقولك في خيّر من الناس : أنا عالم بفلان. فكلامك هذا دالّ على علمك بمحاسن أوصافه ومكارم خصاله. وفيه إشارة إلى أنّ فعله تعالى باختيار وحكمة ، وأنّه عالم بالجزئيّات.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته بعد موت أبيه. والظرف متعلّق بـ «آتينا» أو بـ «رشده» أو بمحذوف ، أي : اذكر من أوقات رشده وقت قوله لأبيه (وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) فيه تحقير لشأن آلهتهم المصوّرة بصور أجسام ذوات أرواح ، وتوبيخ لإجلالهم لها ، فإنّ التمثال صورة لا روح فيها ، فلا يضرّ ولا ينفع.

وأصله الشيء المصنوع مشبّها بخلق من خلق الله. من : مثّلت الشيء بالشيء إذا شبّهته به. واسم ذلك الممثّل تمثال ، وجمعه تماثيل. وقيل : إنّهم جعلوها أمثلة للأجسام العلويّة.

واللام للاختصاص ، لا للتعدية ، فإنّ تعدية العكوف بـ «على». والمعنى : وأنتم فاعلون العكوف لها ، أو واقفون لها. فلو قصد تعدية العكوف لعدّاه بصلته الّتي هي «على» ، كقوله : (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) (١). أو يضمّن العكوف معنى العبادة.

روى العيّاشي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّ بقوم

__________________

(١) الأعراف : ١٣٨.

٣٢٨

يلعبون الشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله».

ولمّا كان الاستفهام مستلزما لسؤاله إيّاهم عمّا اقتضى عبادتها وحملهم عليها (قالُوا) في جواب إبراهيم حين لم يجدوا حجّة في عبادتها : (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فقلّدناهم.

(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أراد أنّ المقلّدين والمقلّدين جميعا منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة ، لعدم استناد الفريقين إلى دليل ، بل إلى هوى متّبع ، وشيطان مطاع. والتقليد إن جاز فإنّما يجوز لمن علم في الجملة أنّه على حقّ ، كتقليد المقلّد المجتهد في فروع الإسلام لا في أصوله. وما أعظم كيد الشيطان للمقلّدين حين استدرجهم إلى أن قلّدوا آباءهم في عبادة التماثيل ، وعفّروا لها جباههم ، وهم معتقدون أنّهم على شيء ، وجادّون في نصرة مذهبهم ، ومجادلون لأهل الحقّ عن باطلهم. وكفى أهل التقليد عارا وسبّة (١) أن عبدة الأصنام منهم.

و «أنتم» من التأكيد الّذي لا يصحّ الكلام مع الإخلال به ، لأنّ العطف على ضمير مستتر هو في حكم بعض الفعل ممتنع. ونحوه : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (٢).

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

__________________

(١) السبّة : العار ، ومن يكثر الناس سبّه.

(٢) البقرة : ٣٥.

٣٢٩

ولمّا استبعدوا أن يكون ما هم عليهم ضلالا ، بقوا متعجّبين من تضليله إيّاهم ، وحسبوا أنّ ما قاله إنّما قاله على وجه المزاح والمداعبة ، لا على طريق الجدّ (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أجادّ أنت فيما تقول محقّ عند نفسك ، أم لاعب مازح؟

(قالَ) إضرابا عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادّعاه : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) الضمير للسّماوات والأرض ، أو للتماثيل. وهو أدخل في تضليلهم ، وإلزام الحجّة عليهم.

(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) المذكور من التوحيد (مِنَ الشَّاهِدِينَ) المتحقّقين له ، والمبرهنين عليه ، فإنّ الشاهد من تحقّق الشيء عنده وحقّقه. فشهادته على ذلك احتجاجه عليه ، وتصحيحه بالحجّة ، كما تصحّح الدعوى بالشهادة. كأنّه قال : وأنا أبيّن ذلك وأبرهن عليه ، كما تبيّن الدعاوي بالبيّنات ، لأنّي لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجّة ، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ، ولم تزيدوا على أنّكم وجدتم عليه آباءكم.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأجتهدنّ في كسرها (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) عنها (مُدْبِرِينَ) إلى عيدكم. وإيثار التاء على الباء ـ مع أنّ الباء هي الأصل ، فإنّ التاء بدل من الواو المبدلة منها ـ لما في التاء من زيادة معنى ، وهو التعجّب. وذكر الكيد لتوقّفه على نوع من الحيل ، فكأنّه تعجّب من تسهّل الكيد على يده وتأتّيه ، لأنّ ذلك كان أمرا مقنوطا منه ، لصعوبته وتعذّره. ولعمري أنّ مثله صعب متعذّر في كلّ زمان ، خصوصا في زمن نمرود ، مع عتوّه واستكباره وقوّة سلطانه ، وحرصه على نصرة دينه ، ولكن : إذا الله سنّى (١) عقد شيء تيسّرا (٢).

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «سنّى الأمر : إذا سهّله. وسنّى العقدة إذا حلّها. منه».

(٢) تمام البيت :

٣٣٠

عن قتادة ومجاهد : إنّما قال ذلك سرّا من قومه ، ولم يسمع ذلك إلّا رجل منهم فأفشاه.

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) قطاعا. فعال بمعنى مفعول ، كالحطام. من : الجذّ ، وهو القطع.

وقرأ الكسائي بالكسر. وهو لغة ، أو جمع جذيذ ، كخفاف وخفيف. (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) للأصنام. يعني : كسر غيره واستبقاه.

روي أنّ آزر خرج بإبراهيم في يوم عيد لهم ، فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ، ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم ، وقالوا : إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا. فذهبوا وبقي إبراهيم ، فنظر إلى الأصنام ، وكانت سبعين صنما مصطفّة ، وثمّ صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب ، وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلّها بفأس في يده ، حتّى لم يبق إلّا الكبير ، فعلّق الفأس في عنقه.

(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لأنّه عليه‌السلام غلب على ظنّه أنّهم لا يرجعون إلّا إليه ، لتفرّده واشتهاره بينهم بعداوة آلهتهم ، فيحاجّهم بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) فيحجّهم.

وعن الكلبي : الضمير للكبير ، أي : لعلّهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها ، إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حلّ العقد ، فيبكّتهم بذلك إذا تبيّن لهم أنّه عاجز لا ينفع ولا يضرّ ، وظهر أنّهم في عبادته على جهل عظيم. أو إلى الله ، أي : يرجعون إلى توحيده عند تحقّقهم عجز آلهتهم.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ

__________________

وأعلم علما ليس بالظنّ أنّه

إذا الله ..........

أي : إذا سهّل الله صعوبة شيء وأزالها سهل تحصيله أو دفعه.

٣٣١

يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

(قالُوا) حين رجعوا إلى معبدهم ورأوا ما رأوا (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لشديد الظلم ، معدود في الظلمة بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام ، أو إفراطه في حطمها ، وتماديه في الاستهانة بها ، أو بتوريط نفسه للهلاك. و «من» يحتمل الاستفهام والموصول.

(قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعيبهم فلعلّه فعله. و «يذكر» صفة «فتى» مصحّحة لأن يتعلّق به السمع. وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه. (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) هو إبراهيم.

ويجوز رفعه بالفعل ، لأنّ المراد به الاسم لا المسمّى. وهذا أيضا صفة «فتى» ، إلّا أنّه لا يحتاج السمع إليه في تعلّقه ، بخلاف الأوّل.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) في محلّ الحال ، بمعنى : معاينا مشاهدا ، أي : بمرأى منهم ومنظر. و «على» وارد على طريق التشبيه ، أي : يثبت إتيانه في الأعين ، وتتمكّن صورته فيها تمكّن الراكب على المركوب. (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بفعله ، أو يحضرون عقوبتنا له.

روي : أنّ الخبر بلغ نمرود وأشراف قومه ، فأمروا بإحضاره ، فلمّا حضر (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) هذا من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع ، لا يتغلغل فيها إلّا أذهان

٣٣٢

الراضة (١) من علماء المعاني.

وتنقيح الكلام فيه : أنّ قصد إبراهيم عليه‌السلام لم يكن إلى أن ينسب العقل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنّما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجّة وتبكيتهم. وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخطّ رشيق ـ وأنت شهير بحسن الخطّ ـ : أأنت كتبت هذا ، وصاحبك أمّي لا يحسن الخطّ ، ولا يقدر إلّا على خرمشة (٢) فاسدة؟ فقلت له : بل كتبته أنت. كأنّ قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته للأمّي أو المخرمش ، لأنّ إثباته ـ والأمر دائر بينكما للعاجز منكما ـ استهزاء به وإثبات للقادر.

ولقائل أن يقول : غاضته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفّة مرتّبة ، وكان غيظ كبيرها أكبر وأشدّ ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه ، لأنّه هو الّذي تسبّب لاستهانته بها وحطمه لها ، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.

ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم إلزاما لهم. كأنّه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم؟ فإنّ من حقّ من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا وأشدّ منه.

ويحكى أنّه قال : فعله كبيرهم هذا حين غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها.

وقيل : إنّه في المعنى متعلّق بقوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وما بينهما اعتراض. فعلّق الكلام بشرط لا يوجد ، فلا يكون كذبا ، كقول القائل : فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء.

وقيل : الضمير لـ «فتى» أو إبراهيم ، ولذلك وقف على «فعله» ، ويبتدأ فيقرأ : (كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ).

__________________

(١) أي : المهرة الخبراء في تذليل صعاب المسائل وتطويعها. جمع رائض.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «قال الأزهري : الخرمشة إفساد الكتاب والعمل ونحوه. منه». انظر تهذيب اللغة للأزهري ٧ : ٦٤٦.

٣٣٣

فلمّا ألقمهم الحجر ، وأخذ بمخانقهم ، وحاروا عن جوابه (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) وراجعوا عقولهم (فَقالُوا) فقال بعضهم لبعض (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) على الحقيقة بهذا السؤال ، أو بعبادة من لا ينطق ولا يضرّ ولا ينفع ، لا من ظلمتموه بقولكم : من فعل بهذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) النكس : القلب. تقول : نكسته أي : قلبته ، فجعلت أسفله أعلاه. وانتكس : انقلب.

والمعنى : استقاموا اوّلا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة ، ثمّ انتكسوا وانقلبوا عن تلك الحالة ، فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة. فشبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعليا على أعلاه. فقالوا جدالا : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تأمر بسؤالها؟! أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة ، لفرط إطراقهم خجلا وانكسارا وانخزالا (١) ممّا بهتهم به إبراهيم عليه‌السلام. فما أحاروا جوابا إلّا ما هو حجّة عليهم ، لأنّهم نفوا عن آلهتهم القدرة على النطق ، واعترفوا بأنّها ـ مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق ـ آلهة معبودة.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً

__________________

(١) أي : انقطاعا.

٣٣٤

إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

(قالَ) إنكارا لعبادتهم لها ، بعد اعترافهم بأنّها جمادات (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) لا تنفع ولا تضرّ ، بعيدة جدّا عن رتبة الألوهيّة ، وتضجّرا ممّا رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم ، وبعد وضوح الحقّ وزهوق الباطل.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) «أفّ» صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجّر. واللام لبيان المتأفّف به ، أي : لكم ولآلهتكم هذا التأفّف. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح صنيعكم.

ولمّا عجزوا عن المحاجّة وغلبوا ، أجمعوا رأيهم بإهلاكه (قالُوا حَرِّقُوهُ) فإنّ النار أهول ما يعاقب به (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بالانتقام لها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ناصرين لها نصرا مؤزّرا ، فاختاروا له أهول المعاقبات ، وهي الإحراق بالنار ، وإلّا فرّطتم في نصرتها. ولهذا عظّموا النار ، وتكلّفوا في تشهير أمرها ، وتفخيم شأنها ، ولم يألوا جهدا في ذلك. وهكذا حال المبطل إذا قرعت شبهته بالحجّة وافتضح ، لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ ، ولم يبق له مفزع إلّا مناصبته ، كما فعلت قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين عجزوا عن المعارضة.

والقائل بالتحريق فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون ، خسف به الأرض ، فهو يتجلجل (١) فيها إلى يوم القيامة. وقيل : نمروذ.

__________________

(١) تجلجل في الأرض أي : ساخ فيها ودخل.

٣٣٥

روي أنّهم حين همّوا بإحراقه حبسوه ، ثمّ بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى (١) ، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب ، حتّى إن كانت المرأة لتمرض فتقول : إن عوفيت لأجمعنّ حطبا لإبراهيم. ثمّ أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها (٢). ولمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه ، فجاء إبليس فدلّهم على المنجنيق ، وهو أوّل منجنيق صنعت ، فوضعوه فيها مقيّدا مغلولا ، فرموا به فيها.

فناداه جبرئيل حين أشرف على النار : يا إبراهيم هل لك حاجة؟

فقال : أمّا إليك فلا.

فقال : فسل ربّك.

قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.

فببركة هذا القول (قُلْنا) بواسطة جبرئيل (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) ذات برد وسلام (عَلى إِبْراهِيمَ) أي : ابردي بردا غير ضارّ.

وفيه مبالغات : جعل النار المسجّرة مسخّرة لقدرته ، مأمورة مطيعة له ، وإقامة : كوني ذات برد ، مقام : ابردي ، ثمّ حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

وعن ابن عبّاس : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.

وقيل : نصب «سلاما» بفعله ، أي : وسلّمنا سلاما عليه.

وعن ابن عبّاس : إنّما نجا إبراهيم بقوله : حسبي الله ونعم الوكيل.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «يا الله ، يا واحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد. فحسرت النار عنه».

روي : أنّه لما ادني إبراهيم عليه‌السلام إلى حظيرة النار ، جعلها الله روضة لم يحترق منه إلّا وثاقه (٣).

__________________

(١) كوثى : محلّة بالعراق ، ومحلّة بمكّة لبني عبد الدار. القاموس ١ : ١٧٣.

(٢) وهج النار : اتّقادها ، أو حرّها من بعيد.

(٣) الوثاق : ما يشدّ به من قيد وحبل ونحوهما.

٣٣٦

وروى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ نمروذ الجبّار لمّا ألقى إبراهيم في النار ، أتى إليه جبرئيل بقميص من الجنّة ، وطنفسة (١) من الجنّة ، فألبسه القميص ، وأقعده على الطنفسة ، وقعد معه يحدّثه» (٢).

روي : أنّ نمرود اطّلع عليه من الصرح فإذا هو في روضة خضراء ، ومعه جليس له من الملائكة ، فقال : عظيم ربّك يا إبراهيم ، إنّي مقرّب إلى إلهك ، فذبح أربعة آلاف بقرة ، وكفّ عن إبراهيم. وكان إبراهيم إذ ذاك ابن ستّ عشرة سنة.

وانقلاب النار هواء طيّبا ليس ببدع ، غير أنّه هكذا على خلاف المعتاد ، فهو إذن من معجزاته.

وقيل : كانت النار بحالها ، لكنّه تعالى نزع عنها طبعها الّذي طبعها عليه من الحرّ والإحراق ، وأبقاها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت ، والله على كلّ شيء قدير. ويجوز أن يدفع الله تعالى بقدرته عن جسم إبراهيم أذى حرّها ، ويذيقه فيها عكس ذلك ، كما يفعل بخزنة جهنّم ، وكما ترى في السمندر.

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) مكرا في إضراره (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أخسر من كلّ خاسر ، لمّا عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنّهم على الباطل وإبراهيم على الحقّ ، وموجبا لمزيد درجته واستحقاقهم أشدّ العذاب.

قال ابن عبّاس : إنّ الله تعالى سلّط على نمروذ وخيله البعوض ، حتّى أخذت لحومهم ، وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في دماغه حتّى أهلكته ، وذلك معنى قوله : (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

(وَنَجَّيْناهُ) من نمروذ وكيده (وَلُوطاً) وهو ابن أخيه (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) بأن أمرناهما أن يذهبا من العراق إلى الشام. وبركاته الواصلة إلى

__________________

(١) الطنفسة : البساط والحصير.

(٢) تفسير الوسيط ٣ : ٢٤٤.

٣٣٧

العالمين : أنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيه ، فانتشرت في العالمين شرائعهم الّتي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينيّة والدنيويّة.

وقيل : بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والثمر ، والخصب الغالب ، وطيب عيش الغنيّ والفقير.

وعن سفيان : أنّه خرج إلى الشام ، فقيل له : إلى أيّ موضع؟ فقال : إلى بلد يملأ فيه الجراب (١) بدرهم.

وقيل : ما من ماء عذب إلّا وينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس.

وروي : أنّه نزل بفلسطين ، ولوط بالمؤتفكة ، وبينهما مسيرة يوم وليلة.

وعن ابن عبّاس : نجّاهما إلى مكّة ، كما قال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٢).

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) عطيّة محض تفضّل منّا زائدة. فهي حال منهما. أو أعطيناه يعقوب هبة زائدة ، فإنّه سألنا ولدا حين قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣). ونحن وهبناه ولدا وولد ولد. فعلى هذا الحال تختصّ بيعقوب. ولا بأس به ، للقرينة.

(وَكُلًّا) يعني : الأربعة (جَعَلْنا صالِحِينَ) للنبوّة. أو وفّقناهم للصلاح ، وحملناهم عليه ، فصاروا كاملين.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم (يَهْدُونَ) الناس إلى طريق الحقّ (بِأَمْرِنا) لهم بذلك ، وإرسالنا إيّاهم ، حتّى صاروا مكمّلين عبادنا.

وفيه إشارة إلى أنّ من صلح ليكون قدوة في دين الله عزوجل ، فالهداية محتومة عليه ،

__________________

(١) الجراب : وعاء من جلد. وجمعه أجربة.

(٢) آل عمران : ٩٦.

(٣) الصافّات : ١٠٠.

٣٣٨

مأمور هو بها من جهة الله ، ليس له أن يخلّ بها ، ويتثاقل عنها. وأوّل ذلك أن يهتدي بنفسه ، لأنّ الانتفاع بهداية المهتدي أعمّ ، والنفوس إلى الاقتداء بالمهديّ أميل.

ولهذا قال عزوجل : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ليحثّوهم عليه ، فيتمّ كمالهم بانضمام العمل إلى العلم. وعن ابن عبّاس : هي شرائع النبوّة. وأصله : أن تفعل الخيرات ، ثم فعلا الخيرات ، ثمّ فعل الخيرات. وكذلك قوله : (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ). وهو من عطف الخاصّ على العامّ ، للتفضيل. وحذفت تاء الإقامة المعوّضة من إحدى الألفين ، لقيام المضاف إليه مقامها.

(وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) موحّدين مخلصين في العبادة. ولذلك قدّم الصلة.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

(وَلُوطاً) منصوب بفعل يفسّره قوله : (آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة ، أو نبوّة ، أو فصلا بين الخصوم (وَعِلْماً) بما ينبغي علمه للأنبياء.

(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم ، من أعظم القرى بالمؤتفكة (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) يعني : اللواط ، والتضارط في أنديتهم ، وقطع الطريق ، وغير ذلك من القبائح. وأراد بالقرية أهلها ، فوصفها بصفة أهلها ، أو أسندها إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه. ويدلّ عليه قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله تعالى. وهو كالتعليل لقوله : (تَعْمَلُ الْخَبائِثَ).

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) في أهل رحمتنا ونعمتنا. أو في جنّتنا. ومنه الحديث :

٣٣٩

«هذه ـ يعني : الجنّة ـ رحمتي أرحم بها من أشاء».

(إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الّذين سبقت لهم منّا الحسنى ، أي : بسبب أنّه من الصالحين الّذين أصلحوا أفعالهم ، فعملوا بما هو الحسن منها دون القبيح. وقيل : أراد أنّه من النبيّين.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

ثمّ عطف سبحانه قصّة نوح وداود على قصّة إبراهيم ، لما بينهما من الشبه في تحمّل المشاقّ العظيمة والأذى الكثيرة من الأمّة ، فقال : (وَنُوحاً إِذْ نادى) إذ دعى الله على قومه فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١) (مِنْ قَبْلُ) من قبل هؤلاء المذكورين (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الغمّ الشديد الّذي يصل حرّه إلى القلب ويقلقه. وهو الطوفان ، أو أذى قومه.

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من : نصرته فانتصر ، بمعنى : منعته فامتنع. فهو من النصر الّذي يطاوعه الانتصار ، لا من النصر الذي بمعنى الإعانة ، لأنّ «من» آبية عنه. يقال : اللهمّ انصرني منه ، أي : اجعلني منتصرا منه. فالمعنى : جعلناه منتصرا منهم. وعن أبي عبيدة : «من» بمعنى «على». فعلى هذا يكون المعنى : أعنّاه عليهم ، بأن نغلبه ونسلّطه عليهم بعد أن كان مغلوبا في أيديهم.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) لاجتماع الأمرين : تكذيب الحقّ ، والانهماك في الشرّ فيهم ، فإنّهما لم يجتمعا في قوم إلّا وأهلكهم الله.

__________________

(١) نوح : ٢٦.

٣٤٠