زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

وأصحابنا رضوان الله عليهم استدلّوا بهذه الآية على أنّ الأنبياء يرثون المال ، وأنّ المراد بالإرث فيها المال دون العلم والنبوّة ، لأنّ لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلّا على ما ينقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ، ولا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز ، ولا يجوز الانتقال من الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.

وأيضا فإنّ زكريّا عليه‌السلام قال في دعائه : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي : اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك قولا وفعلا ، ممتثلا لأمرك. ومتى حملنا الإرث على النبوّة ـ كما زعم العامّة ـ لم يكن لذلك معنى ، وكان لغوا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد : اللهمّ ابعث إلينا نبيّا واجعله مرضيّا في أخلاقه ، لأنّه إذا كان نبيّا فقد دخل الرضا وما هو أعظم منه في النبوّة.

ويقوّي ما قلناه : أنّ زكريّا عليه‌السلام صرّح بأنّه يخاف بني عمّه بعده بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي). وإنّما يطلب وارثا لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة والعلم ، لأنّه كان أعلم بالله من أن يخاف أن يبعث نبيّا من ليس بأهل للنبوّة ، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل. ولأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في بعثته؟! فعلى هذا التحقيق : المراد بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) خفت تضييع الموالي مالي ، وإنفاقهم إيّاه في معصية الله عزوجل. فاستجاب الله دعاءه ، وأوحى إليه وعدا بإجابة دعائه.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))

١٦١

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) إنّا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور في وجهك ، وهو أن يولد لك ابن اسمه يحيى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لم يسمّ أحد بيحيى قبله.

وقال الصادق عليه‌السلام : «وكذلك الحسين عليه‌السلام لم يكن له من قبل سمّي ، ولم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا. قيل له : وما كان بكاؤها؟ قال : كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء ، وكان قاتل الحسين ولد زنا ، وقاتل يحيى ولد زنا».

وروى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد ، عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : «خرجنا مع الحسين عليه‌السلام ، فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا وقتله. وقال يوما : ومن هوان الدنيا على الله عزوجل أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل».

وفي الآية إشارة إلى أنّ التسمية بالأسامي النادرة الغريبة الّتي لم يسبق إليها أحد تنويه للمسمّى. ويحتمل أن يكون شرافته وفضله من حيث إنّ الله تولّى تسميته ، ولم يكلها إلى الأبوين.

وهو منقول عن فعل ، كـ : يعيش ويعمر ويزيد. وقيل : سمّي به لأنّه حيي به رحم أمّه ، أو لأنّ دين الله يحيى بدعوته. والأظهر أنّه أعجميّ.

١٦٢

وقيل : «سميّا» : شبيها ، كقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١) لأنّ كلّ متشاكلين يسمّى كلّ واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكلّ واحد منهما سمّي لصاحبه.

وقالوا : لم يكن له مثل في أنّه لم يعص ، ولم يهتمّ بمعصية قطّ. وأنّه ولد بين شيخ فإن وعجوز عاقر. وأنّه كان حصورا ، أي : كان على صفة العقر.

(قالَ) استعجابا لا استبعادا (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) جساوة (٢) ويبسا في المفاصل والعظام. وأصله : عتوو ، كقعود ، فاستثقلوا توالي الضمّتين والواوين ، فكسروا التاء ، فانقلبت الواو الأولى ياء ، ثمّ قلبت الثانية وأدغمت. وقرأ حمزة والكسائي وحفص : عتيّا بالكسر.

قال الحسن : إنّما قال ذلك على جهة الاستخبار ، أي : أتعيدنا شابّين أم ترزقنا الولد شيخين؟! وقيل : إنّما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر ، اعترافا بأنّ المؤثّر فيه كمال قدرته ، وأنّ الوسائط عند التحقيق ملغاة ، ولذلك (قالَ) أي : الله ، أو الملك المبلّغ للبشارة ، تصديقا له : (كَذلِكَ) الأمر كذلك.

ويجوز أن تكون الكاف منصوبة بـ «قال» في (قالَ رَبُّكَ) وذلك إشارة إلى مبهم يفسّره (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فأردّ عليك قوّتك حتّى تقوى على الجماع ، وأفتق رحم امرأتك بالولد ، ولا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب. ونحو ذلك قوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٣) و (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) مفسّر لذلك.

ويجوز أن يكون مفعول «قال» الثاني محذوفا ، أي : أفعل ذلك هو عليّ هيّن.

(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) بل كنت معدوما صرفا ، وإزالة عقر زوجتك

__________________

(١) مريم : ٦٥.

(٢) الجساوة : اليبس والصلابة.

(٣) الحجر : ٦٦.

١٦٣

وإزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء. وروى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّما ولد يحيى بعد البشارة له من الله بخمس سنين».

وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء. وقرأ حمزة والكسائي : وقد خلقناك.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة أعلم بها وقوع ما بشّرتني به (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) سويّ الخلق أي : علامتك أن تمنع الكلام ، فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح صحيح البنية والآلات ، ما بك من خرس ولا بكم. وإنّما ذكر الليالي هنا والأيّام في آل عمران (١) ، للدلالة على أنّه استمرّ عليه المنع من كلام الناس والتجرّد للذكر والشكر ثلاثة أيّام ولياليهنّ.

قال ابن عبّاس : اعتقل لسانه من غير علّة ومرض ثلاثة أيّام ، فإنّه كان يقرأ الزبور ويدعو إلى الله سبحانه ويسبّحه ، ولا يمكنه أن يكلّم الناس. وهذا أمر خارج عن العادة.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) من المصلّى. سمّي محرابا لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته. والأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّا عن أهله.

__________________

(١) آل عمران : ٤١.

١٦٤

قالوا : وكان زكريّا قد أخبر قومه بما بشّر به ، فلمّا خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه ، فسرّوا به.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) بيده ، لقوله : (إِلَّا رَمْزاً) (١). وعن ابن عبّاس : كتب لهم على الأرض. (أَنْ سَبِّحُوا) صلّوا. وتسمّى الصلاة سبحة وتسبيحا ، لما فيها من التسبيح.

وقيل : أراد التسبيح بعينه كما هو الظاهر ، أي : نزّهوا ربّكم. (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) طرفي النهار. ولعلّه كان مأمورا بأن يسبّح ويأمر قومه بأن يوافقوه. و «أن» تحتمل أن تكون مصدريّة ، وأن تكون مفسّرة.

قال ابن جريج : أشرف عليهم من فوق غرفة كان يصلّي فيها ، لا يصعد إليها إلّا بسلّم ، وكانوا يصلّون معه الفجر والعشاء ، وكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه ، فلمّا اعتقل لسانه خرج على عادته وأذن لهم بغير كلام ، فعرفوا عند ذلك أنّه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى ، فمكث ثلاثة أيّام لا يقدر على الكلام معهم ، ويقدر على التسبيح والدعاء.

(يا يَحْيى) فيه اختصار عجيب ، تقديره : فوهبناك يحيى ، وأعطينا له العقل والفهم ، وقلنا له : يا يحيى (خُذِ الْكِتابَ) التوراة (بِقُوَّةٍ) بجدّ ، وصحّة عزيمة ، واستظهار بالتوفيق. أو بما قوّاك الله عليه وأيّدك.

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يعني : الحكمة. يقال : حكم حكما كحلم ، أي : صار حكيما وحليما. وهو فهم التوراة ، والفقه في الدين ، والعمل به. وقيل : النبوّة وأنّ الله أحكم عقله في صباه واستنبأه.

قيل : دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبيّ فقال : ما للعب خلقنا. وعن ابن عبّاس : أنّه أوتي النبوّة وهو ابن ثلاث سنين. وروي ذلك عن أبي الحسن الرضا عليه الصلاة والسلام.

__________________

(١) آل عمران : ٤١.

١٦٥

وروي العيّاشي بإسناده عن عليّ بن أسباط قال : «قدمت المدينة وأنا أريد مصر ، فدخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه‌السلام ، وهو إذ ذاك خماسيّ ، فجعلت أتأمّله لأصفه لأصحابنا بمصر ، فنظر إليّ وقال يا عليّ : إنّ الله قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوّة ، فقال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (١).

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) عطف على الحكم ، أي : وآتيناه رحمة منّا عليه. أو رحمة وتعطّفا في قلبه على أبويه وغيرهما ، فإنّ «حنّ» في معنى : ارتاح واشتاق ، ثمّ استعمل في العطف والرأفة ، وقيل لله : حنان ، كما قيل : رحيم ، على سبيل الاستعارة. ومنه : حنين الناقة ، وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها.

(وَزَكاةً) وطهارة من الذنوب ، أو صدقة ، أي : تصدّق الله به على أبويه ، أو مكّنه ووفّقه على أن يتعطّف على الناس ويتصدّق عليهم (وَكانَ تَقِيًّا) مطيعا ، متجنّبا عن المعاصي.

(وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) وبارّا بهما ومطيعا (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) متكبّرا متطاولا على الناس (عَصِيًّا) عاقّا ، أو عاصيا ربّه.

(وَسَلامٌ) من الله (عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من عذاب القبر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) من عذاب النار وهول القيامة. وإنّما قال : «حيّا» تأكيدا لقوله : «يبعث».

خصّه سبحانه بالكرامة والسلامة في هذه المواطن الثلاثة الّتي هي أوحش المواطن ، فإنّ يوم الولادة يوم يرى الإنسان نفسه خارجا ممّا كان فيه ، ويوم الموت يوم يرى أشياء ليس له بها عهد ، ويوم البعث يوم يرى نفسه في محشر عظيم.

__________________

(١) القصص : ١٤.

١٦٦

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

ثمّ عطف قصّة مريم وعيسى على قصّة زكريّا ويحيى عليهما‌السلام ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في القرآن (مَرْيَمَ) يعني : قصّتها العجيبة ، من ولادتها عيسى بلا أب ، وفرط صلاحها ليقتدي الناس بها ، ولتكون معجزة لك (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) إذ اعتزلت منهم وتخلّت للعبادة.

وهذا بدل من «مريم» بدل الاشتمال ، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه : أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ، لوقوع هذه القضيّة العجيبة فيه. أو بدل الكلّ ، لأنّ المراد بمريم قصّتها ، وبالظرف الأمر الواقع فيه ، وهما ـ أعني : قصّة مريم ، والأمر الواقع فيه ـ واحد. أو ظرف لمضاف مقدّر ، أي : قصّة مريم إذ انتبذت.

وقيل : «إذ» بمعنى «أن» المصدريّة ، كقولك : أكرمتك إذ لم تكرمني ، فتكون بدلا لا محالة.

(مَكاناً شَرْقِيًّا) في مكان ممّا يلي شرقيّ بيت المقدس ، أو شرقيّ دارها ، ولذلك اتّخذ النصارى المشرق قبلة. و «مكانا» ظرف كما فسّر ، أو مفعول ، لأنّ «انتبذت»

١٦٧

متضمّن معنى : أتت.

(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) سترا يستر خلفه (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني : جبرئيل. سمّاه الله الروح وأضافه إلى نفسه ، لأنّ دينه يحيا به وبوحيه ، أو محبّة له وتقريبا وتشريفا ، كما تقول لحبيبك : أنت روحي. (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) فانتصب بين يديها في صورة آدميّ صحيح لم ينتقص من الصورة البشريّة شيء.

وقيل : قعدت في مشرفة (١) للاغتسال من الحيض في يوم شديد البرد ، محتجبة بحائط أو بشيء يسترها ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها ، فإذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبرئيل متمثّلا بصورة شابّ أمرد ، وضيء الوجه ، جعد الشعر ، سويّ الخلق ، لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكيّة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه ، وكان تمثيله على تلك الصورة الحسنة ابتلاء لها وسبرا (٢) لعفّتها.

قيل : كانت في منزل زوج أختها زكريّا ، ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريّا عليه‌السلام إذا خرج أغلق عليها الباب ، فتمنّت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي (٣) رأسها ، فانشقّ السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل ، فأتاها الملك.

وقيل : قام بين يديها في صورة ترب (٤) لها اسمه يوسف ، من خدم بيت المقدس.

ودلّ على عفافها وورعها أنّها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن ، بأن (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : إن كان يرجى منك أن تتّقي الله

__________________

(١) أي : في موضع عال مطلّ على غيره. ومشارف الأرض : أعاليها. والواحدة : مشرفة.

(٢) سبر الأمر سبرا : جرّبه واختبره.

(٣) فلى يفلي رأسه أو ثوبه : نقّاهما من القمل.

(٤) الترب : من ولد معك ، وكان على سنّك. وجمعه : أتراب.

١٦٨

وتحتفل بالاستعاذة. وعن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «علمت أنّ التقيّ ينهاه التقى عن المعصية».

وجواب الشرط محذوف بقرينة ما قبله ، أي : فإنّي عائذة به منك. أو فتتّعظ بتعويذي ، أو فلا تتعرّض بي. ويجوز أن يكون للمبالغة ، أي : إن كنت تقيّا متورّعا فإنّي أعوذ منك ، فكيف إذا لم تكن كذلك؟! فلمّا سمع جبرئيل منها هذا القول (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) الّذي استعذت به (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) لأكون سببا في هبته بوسيلة النفخ في الدرع. ويجوز أن يكون حكاية لقول الله تعالى. ويؤيّده قراءة أبي عمرو وابن كثير عن نافع ويعقوب بالياء. (زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب ، أو ناميا على الخير ، أي : مترقّيا من سنّ إلى سنّ على الخير والصلاح. وعن ابن عبّاس : يريد نبيّا.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : ولد (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ولم يباشرني رجل بالحلال ، فإنّ المسّ كناية عنه ، كقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (١) (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) (٢). أمّا الزنا فإنّما يقال فيه : خبث بها وفجر ، ونحو ذلك. ويعضده عطف قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) عليه ، أي : فاجرة تبغي الزنا.

وهو فعول من البغي ، قلبت واوه ياء وأدغمت ، ثمّ كسرت الغين اتباعا للياء ، ولذلك لم تلحقه التاء. أو فعيل بمعنى فاعل ، ولم تلحقه التاء ، لأنّه للمبالغة ، أو للنسب كطالق. والمعنى : أنّي لست بذات زوج وغير ذات الزوج لا تلد إلّا عن فجور ، ولست فاجرة.

(قالَ كَذلِكِ) أي : الأمر كما وصفت لك (قالَ رَبُّكِ هُوَ) أي : إحداث الولد من غير زوج (عَلَيَّ هَيِّنٌ) سهل لا يشقّ عليّ (وَلِنَجْعَلَهُ) تعليل معلّله محذوف ، أي : ونفعل ذلك لنجعله آية. أو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبيّن به قدرتنا ولنجعله آية.

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

(٢) النساء : ٤٣.

١٦٩

أو عطف على «لأهب» على طريقة الالتفات. (آيَةً لِلنَّاسِ) علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا (وَرَحْمَةً مِنَّا) على العباد يهتدون بإرشاده (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) كائنا محتوما تعلّق به قضاء الله في الأزل ، وقدّر وسطر في اللوح. أو كان أمرا حقيقا بأن يقضى ويفعل ، لكونه آية ورحمة.

وفي هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنّ من المعلوم أنّ مريم ليست بنبيّة ، وأنّ رؤية الملك على صورة البشر ، وبشارة الملك إيّاها ، وولادتها من غير وطء ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي أتاها الله بها ، من أكبر المعجزات. ومن لم يجوّز إظهار المعجزات على غير الأنبياء ، اختلفت أقوالهم في ذلك ، فقال الجبائي وابنه : إنّها معجزات لزكريّا. وقال البلخي : إنّها معجزات لعيسى على وجه الإرهاص (١) والتأسيس لنبوّته.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤))

__________________

(١) أرهص الشيء : أسّسه وأثبته.

١٧٠

عن ابن عبّاس : لمّا سمعت مريم قول جبرئيل اطمأنّت إلى قوله ، فدنا منها فأخذ ردن (١) قميصها بإصبعيه ، فنفخ فيه فدخلت النفخة في جوفها (فَحَمَلَتْهُ) في ساعتها ، ووجدت حسّ الحمل.

وروي عن الباقر عليه‌السلام «أنّه تناول جيب مدرعتها (٢) فنفخ فيه نفخة ، فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر ، فخرجت من المستحمّ (٣) وهي حامل محج (٤) مثقل ، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ، ومضت مريم على وجهها مستحية من خالتها ومن زكريّا».

وقيل : كان مدّة حملها ستّة أشهر. وقيل : سبعة. وقيل : ثمانية. ولم يعش مولود

__________________

(١) الردن : أصل الكمّ. وجمعه أردان.

(٢) المدرعة : جبّة مشقوقة المقدّم ، أو ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود.

(٣) المستحمّ : موضع الاستحمام.

(٤) حجا يحجوا الأمر : ظنّه فادّعاه ظانّا ولم يستيقنه.

١٧١

وضع لثمانية غيره. وقيل : ثلاث ساعات. وقيل : حملته في ساعة ، وصوّر في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عبّاس : مدّة الحمل ساعة واحدة ، كما حملته نبذته. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : تسع ساعات. وسنّها يومئذ ثلاث عشرة سنة.

وقيل : عشر. وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا : ما من مولود إلّا يستهلّ (١) إلّا عيسى عليه‌السلام.

(فَانْتَبَذَتْ بِهِ) فاعتزلت وتنحّت وهو في بطنها. والجارّ والمجرور في موضع الحال. ونحوه قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٢) أي : تنبت ودهنها فيها. (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل : أقصى الدار.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) فألجاها الطلق ، وهو وجع الولادة. وهو في الأصل منقول من : جاء ، إلّا أنّه قد خصّ بالإلجاء في الاستعمال ، كـ : آتى في : أعطى. والمخاض مصدر : مخضت المرأة إذا تحرّك الولد في بطنها للخروج. ومنه : المخيض ، لتقلقله في الظرف.

(إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. وهو ما بين العرق والغصن. وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمرة ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء.

والتعريف إمّا للجنس ، أي : جذوع هذه الشجرة خاصّة ، أو للعهد ، إذ لم يكن ثمّ غيرها ، فكانت كالمتعالم عند الناس ، فإذا قيل : جذع النخلة فهم منه ذاك دون غيره من جذوع النخل. وكأنّ الله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ، ويطعمها الرطب الّذي هو خرسة (٣) النفساء الموافقة لها.

(قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) استحياء من الناس ، ومخافة لومهم. وروي عن الصادق عليه‌السلام : «تمنّت الموت لأنّها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزّهها من السوء». وقرأ

__________________

(١) استهلّ الصبيّ : رفع صوته بالبكاء عند الولادة.

(٢) المؤمنون : ٢٠

(٣) الخرس : طعام الولادة. والخرسة : طعام النفساء نفسها.

١٧٢

أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر : متّ ، من : مات يموت.

(وَكُنْتُ نَسْياً) ما من شأنه أن ينسى ويطرح ولا يطلب ، كخرقة الطامث.

ونظيره : الذبح اسم ما من شأنه أن يذبح. وقرأ حمزة وحفص : نسيا بالفتح. وهو لغة فيه ، أو مصدر ـ كالحمل ـ سمّي به. (مَنْسِيًّا) متروك الذكر بحيث لا يخطر ببالهم.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) وهو عيسى. وقيل : جبرئيل ، كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل : «تحتها» أسفل من مكانها.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وروح : من تحتها بالكسر والجرّ ، على أنّ في «نادى» ضمير أحدهما. وقيل : الضمير في «تحتها» للنخلة.

(أَلَّا تَحْزَنِي) أي : لا تحزني ، أو بأن لا تحزني (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) جدولا. هكذا روي مرفوعا. قيل : ضرب جبرئيل برجله ، فظهر ماء عذب.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «ضرب عيسى عليه‌السلام برجله فظهرت عين ماء تجري».

وقيل : السريّ : السيّد الشريف ، من السرو ، وهو عيسى. وعن الحسن : كان والله عبدا سريّا.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) وأميليه إليك. والباء مزيدة للتأكيد ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١). أو المعنى : افعلي الهزّ والإمالة به ، أو هزّي الثمرة بهزّه.

والهزّ تحريك بجذب ودفع. (تُساقِطْ عَلَيْكِ) تتساقط ، فأدغمت التاء الثانية في السين. وحذفها حمزة. وقرأ يعقوب بالياء. وحفص : تساقط ، من : ساقطت ، بمعنى : أسقطت. (رُطَباً جَنِيًّا) نضيجا. تمييز أو مفعول على حسب القراءة.

روي أنّها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر ، وكان الوقت شتاء ، فهزّتها ، فجعل الله لها رأسا وخوصا ورطبا في غير أو انه دفعة واحدة ، فإنّ العادة أن يكون نورا أوّلا ، ثمّ يصير بلحا ، ثمّ بسرا في أوانه. وفيه : تسليتها بذلك ، لما فيه من المعجزات الدالّة على براءة ساحتها ، فإنّ مثلها لا يتصوّر لمن يرتكب الفواحش ، والمنبّهة لمن رآها على أنّ من

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

١٧٣

قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء ، قدر أن يحبلها من غير فحل.

ولما كان في الرطب من الطعام والشراب رتّب عليه الأمرين ، فقال : (فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من عصير الرطب ، أو من ماء السريّ (وَقَرِّي عَيْناً) وطيبي نفسك ، وارفضي عنها ما أحزنك. واشتقاقه من القرار ، فإنّ العين إذا رأت ما تسرّ به النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره. أو من القرّ ، فإنّ دمعة السرور باردة ، ودمعة الحزن حارّة ، ولذلك قالوا : قرّة العين للمحبوب ، وسخنتها للمكروه.

وعن الباقر عليه‌السلام : «لم تستشف النفساء بمثل الرطب ، لأنّ الله تعالى أطعمه مريم في نفاسها».

وقيل : إذا عسر ولادتها لم يكن لها خير من الرطب.

(فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فإن تري آدميّا يسألك عن ولدك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) صمتا ، أي : إمساكا عن الكلام ، أو صياما ، وكانوا لا يتكلّمون في صيامهم. وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن صوم الصمت ، فنسخ هذا في شريعته. (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) بعد أن أخبرتكم بنذري ، وإنّما أكلّم الملائكة وأناجي ربّي.

وقيل : أخبرتهم بنذرها بالإشارة. والأصحّ أنّه سوّغ لها ذلك بالنطق. وأمرها بذلك لكراهة المجادلة ، وللاكتفاء بكلام عيسى ، فإنّه كاف في قطع الطاعن.

(فَأَتَتْ بِهِ) مع ولدها (قَوْمَها) راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس (تَحْمِلُهُ) حاملة إيّاه ملفّا بخرقة. حال من الضمير المرفوع في «فأتت» ، أو من الهاء المجرور في «به» ، أو منهما جميعا.

قيل : احتمل يوسف النجّار مريم وابنها إلى غار ، فلبثوا فيه أربعين يوما حتّى سلمت من نفاسها ، ثمّ جاءت تحمله ، فكلّمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أمّاه أبشري فإنّي عبد الله ومسيحه ، فلمّا دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا.

(قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) بديعا منكرا ، من فري الجلد. يقال : فريت.

الجلد إذا قطعته ، وفريت الشيء ، أي : حززته ، أو من الافتراء ، وهو الكذب.

(يا أُخْتَ هارُونَ) يعنون هارون النبيّ ، وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة

١٧٤

الإخوة ، وبينها وبينه ألف سنة وأكثر.

وقيل : كانت من أولاد هارون. وإنّما قيل : أخت هارون ، كما يقال : يا أخا همدان ، أي : يا واحدا منهم.

وقيل : هو رجل صالح كان في زمانهم شبّهوها به ، أي : كنت عندنا مثله في الصلاح ، ولم ترد إخوة النسب. وهذا مرويّ عن ابن عبّاس وقتادة وكعب وابن زيد والمغيرة ، يرفعه إلى النبيّ.

وقيل : إنّه لمّا مات شيّعه أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون ، تبرّكا به وباسمه. فقال قومها : كنّا نشبّهك بهارون هذا.

وقيل : كان هو رجلا فاسقا مشهورا بالعهر والفساد ، فنسبت إليه ، وقيل لها : يا شبيهته في قبح فعله.

(ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) تقرير لقولهم : إنّ ما جاءت به فريّ ، وتنبيه على أنّ الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) إلى عيسى ، أي : هو الّذي يجيبكم فكلّموه (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولم نعهد صبيّا في المهد كلّمه عاقل. و «كان» زائدة. والظرف صلة «من». و «صبيّا» حال من المستكن فيه ، أو تامّة ، أو دائمة ، كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١). أو بمعنى : صار.

وفي الكشّاف : «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده. وهو هاهنا لقريبه خاصّة. والدليل عليه مبنى الكلام ، وأنّه مسوق للتعجّب.

ووجه آخر : أن يكون «نكلّم» حكاية حال ماضية ، أي : كيف عهد قبل عيسى أن يكلّم الناس صبيّا في المهد فيما سلف من الزمان حتّى نكلّم هذا؟!» (٢).

وعن قتادة : معناه : صبيّا في الحجر رضيعا. وكان المهد حجر أمّه الّذي تربّيه ، إذ لم

__________________

(١) النساء : ١٧.

(٢) الكشّاف ٣ : ١٥.

١٧٥

تكن هيّأت له المهد.

وعن السدّي : لمّا أشارت إليه غضبوا وقالوا : لسخريّتها بنا أشدّ علينا من زناها.

وروي : أنّه كان يرضع ، فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه ، واتّكأ على يساره ، وأشار بسبّابته.

ثمّ (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) أنطقه الله أوّلا لأنّه أوّل المقامات ، وللردّ على من يزعم ربوبيّته من النصارى (آتانِيَ الْكِتابَ) الإنجيل (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) نفّاعا معلّما للخير. والتعبير بلفظ الماضي إمّا باعتبار ما سبق في قضائه ، أو بجعل المحقّق وقوعه كالواقع. وعن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين : أنّ الله أكمل عقله واستنبأه طفلا. وهو الظاهر. (أَيْنَ ما كُنْتُ) حيث كنت (وَأَوْصانِي) وأمرني (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) زكاة المال إن ملكته. أو المراد تطهير النفس عن الرذائل. (ما دُمْتُ حَيًّا) مكلّفا.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) عطوفا عليها ، مؤدّيا شكرها. عطف على «مباركا». (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) متجبّرا متكبّرا (شَقِيًّا) عند الله لفرط تكبّره. والمعنى : إنّي بلطفه وتوفيقه كنت محسنا إلى والدتي ، متواضعا في نفسي ، حتّى لم أكن من الجبابرة والأشقياء.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) كما هو على يحيى.

والتعريف للعهد ، كقولك : جاءنا رجل ، فكان من فعل الرجل كذا. فالمعنى : أنّ السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ. والأظهر أنّه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه ، فإنّه لمّا جعل جنس السلام على نفسه عرّض بأنّ ضدّه عليهم ، كقوله تعالى :(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (١) فإنّه تعريض بأنّ العذاب على من كذّب وتولّى.

قيل : كلّم عيسى بذلك القول ، ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان.

(ذلِكَ) أي : الّذي تقدّم نعته هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لا ما يصفه النصارى. وهو

__________________

(١) طه : ٤٧.

١٧٦

تكذيب لهم فيما يصفونه ـ من أنّه ابن الله وأنّه إله ـ على الوجه الأبلغ والطريق الأوضح ، حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه.

(قَوْلَ الْحَقِ) خبر محذوف ، أي : هو قول الحقّ الّذي لا ريب فيه. والإضافة للبيان. والضمير للكلام السابق ، أو لتمام القصّة. وقيل : صفة عيسى أو بدل ، أو خبر ثان. ومعناه : كلمة الله.

وإنّما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحقّ» لأنّه لم يولد إلّا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله : «كن» من غير واسطة أب ، تسمية للمسبّب باسم السبب.

وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب : قول بالنصب ، على أنّه المدح إن فسّر بكلمة الله ، أو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق ، كقولك : هو عبد الله حقّا.

(الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) في أمره يشكّون ، من المرية ، وهي الشكّ. أو يتنازعون ، فقالت اليهود : ساحر كذّاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثالثة.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

ثمّ كذّب الله النصارى ، ونزّه ذاته عمّا بهتوه ، فقال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) يعني : ما كان ينبغي لله أن يتّخذه ، أي : ما يصلح له ولا يستقيم ، فإنّ من اتّخذ

١٧٧

ولدا فإنّما يتّخذه من جنسه ، لأنّ الولد مجانس للوالد ، والله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يكون له ولد ، ولا يتّخذ ولدا.

ثمّ بكّتهم بالاستدلال على انتفاء الولد عنه بقوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : إذا أراد شيئا أوجده بـ «كن» ، ومن كان كذلك كان منزّها عن شبه الخلق ، أو الحاجة في اتّخاذ الولد بإحبال الإناث. وقرأ ابن عامر : فيكون بالنصب على الجواب.

والقول هاهنا مجاز. ومعناه : أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقّف ، فشبّه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) طريق واضح فالزموه.

وقرأ الحجازيّان والبصريّان : وأنّ بالفتح ، على : ولأنّ. وقيل : لأنّه معطوف على «الصلاة». وقرأ غيرهم بالكسر ليكون ابتداء كلامهم من الله.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) اليهود والنصارى. أو فرق النصارى. نسطوريّة قالوا : إنّه ابن الله. ويعقوبيّة قالوا : هو الله ، هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السماء. وملكانيّة قالوا : هو عبد الله ونبيّه.

(فَوَيْلٌ) فشدّة عذاب (لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) من شهود يوم عظيم هوله وحسابه ، وهو يوم القيامة. أو من وقت الشهود. أو من مكانه فيه. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء ، وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، بكفرهم وسوء أعمالهم. أو من وقت الشهادة. أو من مكانها. وقيل أمر : هو ما شهدوا به في عيسى وأمّه.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) تعجّب. ولمّا كان الله سبحانه لا يوصف بالتعجّب ، فالمراد أنّ أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجّب منهما. (يَوْمَ يَأْتُونَنا) أي : يوم القيامة بعد ما كانوا صمّا عميا في الدنيا. والمراد أنّهم في الدنيا جاهلون ، وفي الآخرة عارفون جدّا ، حيث لا تنفعهم المعرفة.

وقيل : معناه : تهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ ممّا يسوءهم ويصدع قلوبهم.

١٧٨

وقيل : أمر بأن يسمعهم الرسول ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه.

والجارّ والمجرور على الأوّل في موضع الرفع ، وعلى الثاني في محلّ النصب.

(لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أوقع الظالمين موقع الضمير إشعارا بأن لا ظلم أعظم من ظلمهم أنفسهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم ، وسجّل على إغفالهم بأنّه ضلال بيّن.

والمعنى : إنّ الكافرين في الدنيا آثروا الهوى على الهدى ، ولم ينظروا إليه ولم يسمعوا به ، فهم في ذهاب عن الدين وعدول عن الحقّ.

(وَأَنْذِرْهُمْ) وخوّف يا محمّد كفّار مكّة (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم يتحسّر الناس ، المسيء على إساءته ، والمحسن على قلّة إحسانه. وقيل : الحسرة يومئذ مختصّة بمن يستحقّ العقاب ، والمؤمن الصالح لا يتحسّر أصلا.

(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب ، وحكم بين الخلائق بالعدل ، وتصادر الفريقان إلى الجنّة والنار. و «إذ» بدل من اليوم ، أو ظرف للحسرة.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حالان متعلّقان بقوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، وما بينهما اعتراض. أو بـ «أنذرهم» ، أي : أنذرهم غافلين غير مؤمنين. فيكونان حالين متضمّنين للتعليل.

روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنّة ، فيسرعون وينظرون. وقيل : يا أهل النار ، فيسرعون وينظرون. فيجاء بالموت وكأنّه كبش أملح (١) ، فيقال لهم : تعرفون الموت؟ فيقولون : هذا هذا. وكلّ قد عرفه. قال : فيقدّم فيذبح. ثمّ يقال : يا أهل الجنّة! خلود فلا موت. ويا أهل النار! خلود فلا موت. قال : وذلك قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ).

ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام. ثمّ جاء في آخره : «فيفرح أهل

__________________

(١) الكبش الأملح : إذا كان أسود يعلو شعره بياض.

١٧٩

الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا» (١).

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ : ٢١٨٨ ـ ٢١٨٩ ح ٤٠ ـ ٤١.

١٨٠