زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

(فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) فيجب عليكم عقوبتي ، من : حلّ الدّين يحلّ إذا وجب أداؤه (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) هلك. وأصله : أن يسقط من جبل فيهلك. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده. وقيل : وقع في الهاوية. وقرأ الكسائي : فيحلّ ... ويحلل بالضمّ ، من : حلّ يحلّ إذا نزل.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) عن الشرك (وَآمَنَ) بما يجب الإيمان به (وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ثمّ استقام وثبت على الهدى حتّى يموت.

وعن الباقر عليه‌السلام : «ثمّ اهتدى إلى ولا يتنا أهل البيت عليهم‌السلام ، فو الله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ، ثمّ مات ولم يجيء بولايتنا ، لأكبّه الله في النار على وجهه».

رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني (١) بإسناده. وأورده العيّاشي (٢) في تفسيره من عدّة طرق.

وكلمة التراخي دلّت على تباين المنزلتين ، دلالتها على تباين الوقتين في : جاءني زيد ثم عمرو. أعني : أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه ، لأنّها أعلى منها وأفضل. ونحوه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٣).

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٤٩١ ح ٥١٨ ـ ٥١٩ ولم يذكر ذيل الحديث.

(٢) المطبوع من تفسير العيّاشي إلى آخر سورة الكهف ، ولم يصل إلينا ويا للأسف بقيّة الكتاب.

(٣) فصّلت : ٣٠.

٢٦١

وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

روي : أنّ الله سبحانه واعد موسى جانب الطور الأيمن ، فتعجّل موسى من بينهم ـ وهم السبعون الّذين اختارهم موسى ـ شوقا إلى ربّه ، وخلّفهم ليلحقوا به. فقال الله سبحانه له سائلا عن سبب العجلة : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) أيّ شيء عجّل بك؟ وبأيّ سبب خلّفتهم وسبقتهم وجئت وحدك؟ فيه إنكار ، من حيث إنّ العجلة نقيصة في نفسها ، مع انضمام إغفال القوم إليها ، وإيهام التعظّم عليهم ، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين.

وقدّم الجواب ببسط العذر. وتمهيد العلّة في نفس ما أنكر عليه ، لأنّه أهمّ.

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) من ورائي يدركونني عن قريب ، ما تقدّمتهم إلّا بخطى يسيرة لا يعتدّ بها عادة ، وليس بيني وبينهم إلّا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدّمهم. وعن أبي عمرو ويعقوب : إثري بالكسر. والإثر أفصح من الأثر. هكذا في الكشّاف (١).

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٨٠.

٢٦٢

ثمّ اعتذر للعجلة بقوله : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) حرصا على تعجيل رضاك ، أي : لأزداد رضا إلى رضاك ، فإنّ المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مزيّة مرضاتك.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أي : ابتليناهم وامتحنّاهم بعبادة العجل ، وبما حدث فيهم من أمره ، بأن شدّدنا عليهم التكليف ، وألزمناهم عند ذلك النظر ليعلموا أنّه ليس بإله (مِنْ بَعْدِكَ) من بعد انطلاقك (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي : دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه ، وضلّوا عند دعائه. أضاف سبحانه الفتنة إلى نفسه والضلال إلى السامريّ ، ليدلّ على أنّ الفتنة غير الإضلال كما فسّرنا.

وقيل : المعنى : عامله بهم معاملة المختبر المبتلي ، ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق ، فيوالي المخلص ، ويعادي المنافق.

وأراد بالقوم المفتونين الّذين خلّفهم موسى عليه‌السلام مع هارون. وكانوا ستّمائة ألف ، ما نجا من عبادة العجل منهم إلّا اثنا عشر ألفا.

والسامريّ منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل : السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. وقيل : كان من أهل باجرما (١) بالقصر ، وهو موضع. وقيل : كان علجا (٢) من كرمان ، واسمه موسى بن ظفر ، وكان منافقا قد أظهر الإسلام ، وكان من قوم يعبدون البقر.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) بعد ما استوفى الأربعين : ذا القعدة وعشر ذي الحجّة ، وأخذ التوراة (غَضْبانَ) عليهم (أَسِفاً) حزينا ، أو جزعا متلهّفا بما فعلوا. وفي الكشّاف : «الأسف : الشديد الغضب. ومنه قوله عليه‌السلام في موت الفجأة : رحمة للمؤمن ،

__________________

(١) باجرما : قرية من أعمال البليخ قرب الرقّة من أرض الجزيرة. معجم البلدان ١ : ٣١٣.

(٢) العلج : الرجل الضخم القويّ من كفّار العجم. وبعضهم يطلقه على الكافر عموما.

٢٦٣

وأخذة أسف للكافر» (١).

(قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور ، ولا وعد أحسن من ذاك وأجمل. وروي أنّها كانت ألف سورة ، كلّ سورة ألف آية ، يحمل أسفارها سبعون جملا. وقيل : أربعون.

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي : الزمان. يعني : زمان مفارقته لهم. يقال : طال عهدي بك ، أي : طال زماني بسبب مفارقتك.

(أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ) يجب عليكم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بعبادة ما هو مثل في الغباوة (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) وعدكم إيّاي بالثبات على الإيمان بالله ، والقيام على ما أمرتكم به.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) بأن ملكنا أمرنا ، أي : لو ملكنا أمرنا وخلّينا ورأينا ، ولم يسأل لنا السامريّ ، لما أخلفناه ، ولكن غلبنا من جهة السامريّ.

وقرأ نافع وعاصم : بملكنا بالفتح. وحمزة والكسائي بالضمّ. وتثليثها في الأصل لغات في مصدر : ملكت الشيء.

(وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً) أحمالا (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) من حليّ القبط الّتي استعرناها منهم حين قصدنا الخروج من مصر باسم العرس. وقيل : استعاروا لعيد كان لهم ، ثمّ لم يردّوا عند الخروج مخافة أن يعلموا بخروجهم ، فحملوها. وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه.

وقيل : سمّوها أوزارا ، لأنّها آثام ، فإنّ الغنائم لم تكن تحلّ بعد ، أو لأنّهم كانوا مستأمنين في دار الحرب ، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربيّ.

وقرأ ابن عامر وحفص ونافع وابن كثير : حمّلنا ، بضمّ الحاء وكسر الميم والتشديد ، على بناء المجهول من التحميل ، أي : جعلنا أن نحمل. وقرأ أبو عمرو وحمزة

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٨٢.

٢٦٤

والكسائي وأبو بكر وروح : حملنا بالفتح والتخفيف.

(فَقَذَفْناها) ألقيناها في نار السامريّ الّتي أوقدها في الحفرة ، وأمرنا أن نطرح فيها الحليّ (فَكَذلِكَ) فمثل ما ألقينا

نحن من هذه الحليّ في النار (أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما كان معه من الحليّ. وعن الجبائي : ألقى السامريّ أيضا ليوهم أنّه منهم.

وفي الكشّاف : «أراهم أنّه يلقي حليّا في يده مثل ما ألقوا ، وإنّما ألقى التربة الّتي أخذها من موطئ حيزوم (١) فرس جبرئيل عليه‌السلام ، أوحى إليه وليّه الشيطان أنّها إذا خالطت مواتا صار حيوانا. وهذه كرامة آثر الله روح القدس بهذه الكرامة الخاصّة. ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع» (٢).

وقيل : إنّ هذا الكلام مبتدأ من الله ، حكى عنهم أنّهم ألقوا ، ثمّ قال : وكذلك ألقى السامريّ.

وروي : أنّهم لمّا حسبوا أنّ العدّة قد كملت ، لأنّهم حسبوا عشرين ليلة بأيّامها أربعين ، قال لهم السامريّ : إنّما أخلف موسى ميقاتكم لما معكم من حليّ القوم ، وهو حرام عليكم ، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجّر فيها نارا ونقذف كلّ ما معنا فيها ، ففعلوا.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) من تلك الحليّ المذابة في الحفرة (لَهُ خُوارٌ) صوت العجل (فَقالُوا) يعني : السامريّ ومن افتتن به أوّل ما رآه (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي : فنسيه موسى هاهنا ، وذهب يطلبه عند الطور. وقيل : إنّه قول الله تعالى.

والمعنى : فنسي السامريّ ، أي : ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

(أَفَلا يَرَوْنَ) يعلمون (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أنّه لا يرجع إليهم كلاما ، ولا يردّ

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «حيزوم : علم لفرس جبرئيل عليه‌السلام. وسبب منع الصرف التأنيث والعلميّة ، لأن جبرئيل عليه‌السلام نزل راكب الماذيانة. منه». والماذيانة معرّبة : ماديان الفارسيّة ، وهي بمعنى : الأنثى.

(٢) الكشّاف ٣ : ٨٢.

٢٦٥

عليهم جوابا. ولا يجوز أن تكون «أن» ناصبة ، لأنّها لا تقع بعد أفعال اليقين. (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم ، ومن كان بهذه الصفة فإنّه لا يصلح للعبادة.

روي عن مقاتل : لمّا مضى من موعد موسى خمسة وثلاثون يوما ، أمر السامريّ بني إسرائيل أن يجمعوا ما استعاروه من حليّ آل فرعون ، وصاغه عجلا في السادس والثلاثين والسابع والثامن ، ودعاهم إلى عبادته في التاسع ، فأجابوه ، وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤))

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) قبل عود موسى إليهم ، أو من قبل أن يقول لهم السامريّ ما قال. كأنّه أوّل ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهّم ذلك ، وبادر تحذيرهم بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) بالعجل. يعني : أنّ الله شدّد عليكم التعبّد ، فلا تعبدوا العجل (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) لا غير (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في الثبات على الدين.

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ) لا نزال (عَلَيْهِ) على العجل وعبادته (عاكِفِينَ) مقيمين

٢٦٦

(حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) وهذا الجواب يؤيّد الوجه الأوّل.

فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا. فلمّا رجع موسى وهو ممتلئ غيظا منهم ومن عبادتهم العجل ، وسمع الصياح ، إذ كانوا يرقصون حول العجل ويضربون الدفوف والمزامير ، فلمّا سمع موسى منهم ما سمع ألقى الألواح وأخذ يعاتب هارون (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) بعبادة العجل (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أن تتّبعني في الغضب لله ، وشدّة زجرهم عن الكفر ، ومقاتلتهم. أو أن تأتي عقبي وتلحقني. و «لا» مزيدة ، كما في قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (١).

(أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) بالصلابة في الدين ، والمحاماة عليه ، وإصلاحهم. يريد به قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٢).

هذا في صورة الاستفهام ، والمراد به التقرير والفرض ، لأنّ موسى عليه‌السلام كان يعلم أنّ هارون نقيّ الجيب من الذنوب ، بريء الساحة من العيوب ، فلا يعصيه في أمره.

ولمّا كان موسى رجلا حديدا ، شديد الغضب لله ولدينه ، مجبولا على الحدّة والخشونة والتصلّب في ذات الله ، لم يتمالك حين رأى القوم يعبدون العجل ـ بعد رؤيتهم المعجزات والآيات ـ أن ألقى الألواح ، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة ، لفرط غضبه لله وحميّة لدينه ، وعنّف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدوّ المجاهر بالعداوة ، قابضا على شعر رأسه ، إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه ووجهه ، ولذلك أخذ رأس أخيه يجرّه إليه ، كما أنّ من صدر من قومه وأهله شيء قبيح مستهجن غاية القبح والاستهجان ، فعل ذلك وإن كان صديقا محبّا له غاية الصداقة والمحبّة.

(قالَ يَا بْنَ أُمَ) قال هارون لموسى : يا ابن أمّ. خصّ الأمّ ـ وإن كان من الأب والأمّ ـ استعطافا وترقيقا ، ليسكن شدّة غضبه. (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي : بشعر

__________________

(١) الأعراف : ١٢ و ١٤٢.

(٢) الأعراف : ١٢ و ١٤٢.

٢٦٧

رأسي. يعني : لا تقبض عليهما ، واسكن عن شدّة الغضب.

(إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض لتفرّقوا فرقا. ففريق يلحقون بك معي ، وفريق يقيمون مع السامريّ على عبادة العجل ، وفريق يتوقّفون شاكّين في أمره. مع أنّي لم آمن إن تركتهم أن يصيروا بالخلاف إلى تسافك الدماء ، وشدّة التصميم والثبات على اتّباع السامريّ ، فتقول عتابا : فرّقت بينهم.

(وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) لم تعمل بوصيّتي ولم تحفظها حين قلت : اخلفني في قومي وأصلح ، فإنّ الإصلاح كان في حفظ الدهماء وحقن الدماء والمداراة لهم إلى أن ترجع إليهم ، فتتدارك الأمر برأيك.

وقال القاضي النيشابوري : للشيعة في هذا المقام مباحث مع الطائفة الضالّة بهذا الكلام «قال أهل السنّة هاهنا : إنّ الشيعة تمسّكوا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع ، بل صعد المنبر وصرّح بالحقّ ، ودعا الناس إلى متابعته ، فلو كانت أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ أن يفعل ما فعل هارون من غير تقيّة وخوف.

وللشيعة أن يقولوا : إنّ هارون صرّح بالحقّ ، ثمّ خاف وسكت ، ولهذا عاتبه موسى بما عاتب ، فاعتذر بـ (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (١). وهكذا عليّ عليه‌السلام امتنع أوّلا من البيعة ، فلمّا آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا» (٢). انتهى كلامه.

وما أحسن إنصافه ومقاله ، وإن ذيّله بقوله : وإنّما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصّب.

وتفصيل هذا المجمل ذكره ابن أبي الحديد ، وهو أيضا من أعيان أهل السنّة في

__________________

(١) الأعراف : ١٥٠.

(٢) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري ٤ : ٥٦٧.

٢٦٨

شرح نهج البلاغة ، قائلا : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا أخرج من بيته ، وجاؤا به إلى أبي بكر ، اخرج ملبّبا يرفض رفضا. فما مرّ على ملأ إلّا قالوا : اذهب وبايع.

فمرّ على مربض غنم فوجد شياها ، فقال : لو أنّ لي بعدد هذه الشياه أنصارا لأزلت ابن آكلة الأكباد عن مكانه. فلمّا وافى المسجد وجد سيوف بني أميّة مشهورة.

فقال له عمر منتهرا : إلى كم تقيم في بيتك تنتظر نزول الوحي عليك؟ مدّ يدك فبايع ، وادخل فيما دخل فيه الناس. قال : فإن لم أبايع؟ قال : تقتل صغارا لك وذلّا». (١)

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

ولمّا سمع موسى عليه‌السلام اعتذار هارون أقبل على السامريّ (قالَ) منكرا (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) ما طلبك له؟ وما الّذي حملك عليه؟ وهو مصدر : خطب الشيء إذا طلبه.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي : علمت ما لم يعلم بنو إسرائيل ، وفطنت لما

__________________

(١) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ٦ : ٤٥. ففيه ما يقرب المتن هنا. والظاهر أن جملة «لو أنّ لي ـ إلى ـ ابن آكلة الأكباد عن مكانه» زائدة من زلّة القلم أو زيادات النسّاخ ، إذ لم يكن لمعاوية حينذاك شأن يذكر حتى يخاطبه عليه‌السلام بهذا الكلام.

٢٦٩

لم يفطنوا له ، وهو أنّ الرسول الّذي جاءك روحانيّ محض لا يمسّ أثره شيئا إلّا أحياه. أو رأيت ما لم تروه ، وهو أنّ جبرئيل جاءك على فرس الحياة. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ، خطابا لموسى وبني إسرائيل.

وقيل : إنّما عرفه لأنّ أمّه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون ، فكان جبرئيل يغذوه حتى استقلّ.

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) من تربة موطئه. والقبضة المرّة من القبض فأطلق على المقبوض ، كضرب الأمير. والرسول جبرئيل. ولم يسمّه لأنّه أراد أن ينبّه على الوقت ، وهو حين حلّ ميعاد الذهاب إلى الطور ، فأرسل الله عزوجل إلى موسى جبرئيل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامريّ فقال : إنّ لهذا شأنا. فقبض قبضة من تربة موطئه. فلمّا سأله موسى عن قصّته قال : قبضت من أثر فرس الرسول الذي جاء به إليك يوم حلول الميعاد. ولعلّه لم يعرف أنّه جبرئيل عليه‌السلام.

(فَنَبَذْتُها) في الحليّ المذاب ، أو في جوف العجل حتّى حيي (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) زيّنته وحسّنته إليّ.

قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ موسى قصد أن يقتل السامريّ ، فأوحى الله تعالى إليه : لا تقتله يا موسى ، فإنّه سخيّ».

فعند ذلك (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) عقوبة على ما فعلته (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) خوفا من أن يمسّك أحد فيأخذك الحمّى ومن مسّك. فصار السامريّ يهيم في البرّيّة مع الوحش والسباع ، ولا يمسّ أحدا ، ولا يمسّه أحد. يعني : عاقبه الله تعالى في الدنيا بعقوبة لا شيء أطمّ (١) منها وأوحش ، فإنّه منع من مخالطة الناس منعا كلّيا ، وحرّم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته ، وكلّ ما يعايش به الناس بعضهم بعضا. وإذا اتّفق أن يماسّ أحدا ـ رجلا أو امرأة ـ حمّ الماسّ والممسوس ، فتحامى الناس وتحاموه.

__________________

(١) أي : أعظم وأدهى ، من : طمّ الأمر ، إذا عظم وتفاقم. ولذا قيل للقيامة : الطامّة الكبرى.

٢٧٠

وكان يصيح : لا مساس. وصار في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ، ومن الوحشيّ النافر في البرّيّة. ويقال : إنّ قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم ، إن مسّ واحد من غيرهم واحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت.

(وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) في الآخرة (لَنْ تُخْلَفَهُ) لن يخلفك الله موعده الّذي وعدك على جزاء الشرك والفساد في الأرض ، ينجّزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا. فأنت ممّن خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين.

وقرأ ابن كثير والبصريّان بكسر اللام ، أي : لن تخلف الواعد إيّاه ، وسيأتيك لا محالة. فحذف المفعول الأوّل ، لأنّ المقصود هو الموعد. ويجوز أن يكون من : أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا.

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) ظللت على عبادته مقيما. فحذف اللام الأولى تخفيفا. (لَنُحَرِّقَنَّهُ) أي : بالنار. وهذا يدلّ على أنّه كان حيوانا : لحما ودما.

أو لنبردنّه بالمبرد (١) ، من : حرق إذا برد. وهذا يدلّ على أنّه كان ذهبا وفضّة ، ولم يصر حيوانا. (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) لنذرينّه رمادا أو مبرودا (فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ذريّا ، فلا يبقى منه شيء. من : نسفت الريح إذا ذرت (٢). وهذه عقوبة ثالثة. وهي إبطال ما افتتن (٣) به وفتن ، وإهدار سعيه. والمقصود من ذلك زيادة عقوبته ، وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

ثمّ أقبل موسى عليه‌السلام على قومه فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ) المستحقّ لعبادتكم (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)

__________________

(١) المبرد : آلة البرد. وبرد الحديد : أخذ منه بالمبرد. وحرقه بالمبرد : برده.

(٢) ذرت الريح التراب : أطارته وفرّقته.

(٣) في هامش النسخة الخطّية : «افتتن الرجل : إذا اصابته فتنة ، فذهب ماله أو عقله. وكذلك : فتن. منه».

٢٧١

تمييز. وهو في المعنى فاعل ، أي : وسع علمه كلّ ما يصحّ أن يعلم ، لا العجل الّذي يصاغ ويحرق ، وإن كان حيّا في نفسه كان مثلا في الغباوة.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

ثمّ قال لنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَذلِكَ) مثل ذلك الاقتصاص ، ونحو ما اقتصصنا عليك من قصّة موسى وفرعون (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من سائر أخبار الأمور الماضية ، وأحوال الأمم السالفة ، تبصرة لك ، وزيادة في علمك ، وتكثيرا لمعجزاتك ، وتذكيرا للمستبصرين من أمّتك ، وتأكيدا للحجّة على من عاندك وكابرك.

(وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) التنكير للتعظيم ، أي : كتابا عظيما ، وقرآنا كريما مشتملا على ذكر هذه الأقاصيص والأخبار ، حقيقا بالتفكّر والاعتبار. وقيل : ذكرا جميلا مرضيّا عظيما بين الناس ، من أقبل عليه نجا وسعد في الدارين.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) عن الذكر الجامع لوجوه السعادة والنجاة. وقيل : عن الله.

(فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) عقوبة ثقيلة على كفره ومعاصيه. سمّاها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب ، وصعوبة احتمالها ، بالحمل الّذي يثقل الحامل وينقض ظهره ، ويلقي عليه ضيق النفس. أو إثما عظيما ، هو جزاء الوزر.

٢٧٢

(خالِدِينَ فِيهِ) في الوزر ، أو في حمله. والجمع فيه والتوحيد في «أعرض» للحمل على المعنى واللفظ ، فإنّ «من» مطلق متناول للواحد والكثير. ونحوه قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (١).

(وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي : بئس لهم. وفيه ضمير مبهم يفسّره «حملا».

والمخصوص بالذمّ محذوف ، لدلالة الوزر السابق عليه ، تقديره : ساء حملا وزرهم ، كما حذف في قوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٢) أي : نعم العبد أيّوب. ومنه قوله تعالى : (وَساءَتْ مَصِيراً) (٣) أي : وساءت مصيرا جهنّم. واللام في «لهم» للبيان ، كما في (هَيْتَ لَكَ) (٤).

ولا يجوز أن يكون في «ساء» ضمير شيء بعينه غير مبهم ، وهو الوزر ، والحال أنّ حكمه حكم «بئس». ولو نقل عن ظاهره ، وحمل على معنى : أحزن ، كما وقع في قوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٥) بمعنى : أهمّ وأحزن ، وأرجع الضمير الّذي فيه للوزر. أشكل (٦) أمر اللام ، ونصب «حملا» ، ولم يفد مزيد معنى.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقرأ أبو عمرو بالنون ، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له ، أو للنافخ ، لأنّ الملائكة المقرّبين وإسرافيل منهم بالمنزلة الّتي هم مخصوصون بها من ربّ العزّة ، فصحّ لكرامتهم عليه وقربهم منه أن يسند ما يتولّونه إلى ذاته تعالى. والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة لبعث الموتى.

(وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي : الكافرين (يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) زرق العيون. ومعنى

__________________

(١) الجنّ : ٢٣.

(٢) ص : ٤٤.

(٣) النساء : ٩٧.

(٤) يوسف : ٢٣.

(٥) الملك : ٢٧.

(٦) جواب «ولو نقل» قبل سطرين.

٢٧٣

الزرقة الخضرة في سواد العين ، كعين السنّور. وصفوا بذلك لأنّ الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، لأنّ الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العيون. ولذلك قالوا في صفة العدوّ : أسود الكبد ، أصهب (١) السبال ، أزرق العين. وقيل : «زرقا» بمعنى : عميا ، لأنّ حدقة من ذهب نور بصره تزراقّ. وقيل : عطاشا يظهر في عيونهم كالزرقة ، مثل قوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٢).

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) يخفضون أصواتهم مسارّة بينهم ، لما يملأ صدورهم من الرعب والهول. من الخفت ، وهو خفض الصوت وإخفاؤه. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) ليال عشر. يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا ، إمّا لما يعاينون من الشدائد الّتي تذكّرهم أيّام النعمة والسرور ، فيتأسّفون عليها ، ويصفونها بالقصر ، لأنّ أيّام السرور قصار ، كقوله :

تمتّع بأيّام السرور فإنّها

قصار وأيّام الهموم طوال

وإمّا لأنّها ذهبت عنهم وتقضّت ، والذاهب وإن طالت مدّته قصير بالانتهاء. وإمّا لاستطالتهم مدّة الآخرة ، وأنّها أبد سرمد ، يستقصر إليها عمر الدنيا ، ويستقلّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) وهو مدّة لبثهم. ثمّ استرجح الله قول من يكون أشدّ رأيا وصوابا منهم في قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أو فرهم عقلا ، وأصوبهم رأيا. وقيل : أكثرهم سدادا عند نفسه. (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) ونحوه قوله تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (٣). وقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤). وإنّما قال ذلك لأنّ اليوم الواحد والعشرة إذا قوبلا

__________________

(١) أي : أشقر الشوارب.

(٢) مريم : ٨٦.

(٣) المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٣.

(٤) النازعات : ٤٦.

٢٧٤

بيوم القيامة وما لهم من الإقامة في النار ، كان اليوم الواحد أقرب إليه.

وقيل : إنّهم قالوا ذلك بعد انقطاع عذاب القبر عنهم ، لأنّ الله يعذّبهم ثمّ يعيدهم.

وروي عن ابن عبّاس : يعني : من النفخة الأولى إلى الثانية ، وذلك لأنّه يكفّ عنهم العذاب فيما بين النفختين ، وهو أربعون سنة.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣))

روي : أنّ رجلا من ثقيف سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها ، وما يكون حالها؟ فنزلت : (وَيَسْئَلُونَكَ) أي : ويسألك منكروا البعث عند ذكر القيامة (عَنِ الْجِبالِ) ما حالها؟ (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) يقلعها من أماكنها ، ثمّ

٢٧٥

يجعلها كالرمل ، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما تذرى الحبوب.

(فَيَذَرُها) فيذر مقارّها ، أو الأرض. وإضمارها وإن لم يجر ذكرها لدلالة الجبال عليها ، كقوله تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (١) (قاعِداً) خالية ملساء (صَفْصَفاً) أي : أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر ، كأنّ أجزاءها على صفّ واحد. قال في الصحاح : «الصفصف : المستوي من الأرض» (٢). (لا تَرى فِيها عِوَجاً) اعوجاجا (وَلا أَمْتاً) ولا نتوّا يسيرا.

واعلم أنّ هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ، ونفي الإعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. وذلك أنّك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلّاحة (٣) ، واتّفقتم على أنّه لم يبق فيها اعوجاج قطّ ، ثمّ استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسيّة ، لعثر في مواضع كثيرة منها على عوج لا يدرك بحاسّة النظر أو البصر ، ولكن بالقياس الهندسي. فنفى الله عزوجل ذلك العوج الّذي دقّ ولطف عن الإدراك ، اللهمّ إلّا بالقياس الّذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة.

ولمّا كان ذلك الاعوجاج لم يدرك إلّا بالقياس دون الإحساس ألحقه بالمعاني ، فقال فيه : عوجا بالكسر ، لأنّه يخصّ بالمعاني ، لا العوج بالفتح ، لأنّه يخصّ بالأعيان.

فالأحوال الثلاثة مترتّبة ، لأنّ الأوّلين باعتبار الاحساس ، والثالث باعتبار المقياس ، كما ذكرنا.

وقال الحسن والمجاهد : العوج ما انخفض من الأرض ، والأمت ما ارتفع من

__________________

(١) فاطر : ٤٥.

(٢) الصحاح ٤ : ١٣٨٧.

(٣) في هامش النسخة الخطّية : «الفلّاحة كالنسّابة ، صفة الجماعة. وأصل الفلح : الشقّ. منه». والفلّاحة جمع الفلّاح.

٢٧٦

الروابي (١). يعني : لا ترى فيها واديا ولا رابية. وقيل : «لا ترى» استئناف مبيّن للحالين.

(يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ نسفت ، على إضافة اليوم إلى وقت النسف. ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من (يَوْمَ الْقِيامَةِ). (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) داعي الله إلى المحشر. قيل : هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس ، فيقبلون من كلّ أوب إلى صوبه.

(لا عِوَجَ لَهُ) لا يعوّج له مدعوّ ، ولا يعدل عن ندائه ، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا ، بل يستوون إليه من غير انحراف ، متّبعين لصوته.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) وخفضت الأصوات من شدّة الفزع لمهابته (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) صوتا خفيّا. ومنه الحروف المهموسة. وقيل : هو من همس الإبل ، وهو صوت أخفافها إذا مشت ، أي : لا تسمع إلّا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر.

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) استثناء من الشفاعة بتقدير مضاف ، أي : إلّا شفاعة من أذن. أو من أعمّ المفاعيل ، أي : لا تنفع الشفاعة شخصا من الأشخاص إلّا من اذن في أن يشفع له ، فإنّ الشفاعة تنفعه. فـ «من» على الأوّل مرفوع على البدليّة. وعلى الثاني منصوب على المفعوليّة. و «أذن» يحتمل أن يكون من الإذن ، كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢). أو من الأذن بمعنى الاستماع.

(وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي : ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة ، من الأنبياء والأولياء والصدّيقين والشهداء. أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. أو قوله لأجله وفي شأنه.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما تقدّمهم من الأحوال (وَما خَلْفَهُمْ) وما بعدهم ممّا لا يستقبلونه (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ولا يحيط علمهم بمعلوماته. وقيل : بذاته. وقيل : الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما ، فإنّهم لم يعلموا جميع ذلك ، ولا تفصيل ما

__________________

(١) الروابي جمع الرابية ، وهي ما ارتفع من الأرض.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

٢٧٧

علموا منه.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) ذلّت وخضعت له في عبادته خضوع الأسير في يد الملك القهّار. وظاهرها يقتضي العموم.

وقيل : المراد بالوجوه الرؤساء والقادة والملوك ، أي : يذلّون وينسلخون عن ملكهم وعزّهم.

ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين ، فإنّهم إذا عاينوا ـ يوم القيامة ـ الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية ، أي : ذليلة خاشعة مثل وجوه العناة ، وهم الأسارى. ونحوه قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١).

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢). وعلى هذا يكون اللام بدل الاضافة. وإنّما أسند الفعل إلى الوجوه ، لأنّ أثر الذلّ يظهر عليها. وحقيقة المعنى : خضع أرباب الوجوه ، واستسلموا لحكم الّذي لم يمت ولا يموت.

ويؤيّد الأخير ذكر الوعيد عقيبه بقوله : (وَقَدْ خابَ) عن ثواب الله (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) شركا أو ظلما على العباد. وهذا استئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم ، أو حال.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) يعني : بعض الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) إذ الإيمان شرط في صحّة الطاعات وقبول الخيرات (فَلا يَخافُ ظُلْماً) منع ثواب مستحقّ بالوعد (وَلا هَضْماً) ولا كسرا منه بنقصان ، فإنّ الظلم أن تأخذ من صاحبك فوق حقّك ، أو تمنع من حقّه ، والهضم أن تكسر من حقّ أخيك فلا توفيه له.

وقيل : لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله ، ولا أن تبطل حسنة عملها.

وقيل : المراد جزاء ظلم وهضم ، لأنّه لم يظلم غيره ، ولم يهضم حقّه.

وقرأ ابن كثير : فلا يخف على النهي. والمعنى : فليأمن من الظلم والهضم.

__________________

(١) الملك : ٢٧.

(٢) القيامة : ٢٤.

٢٧٨

(وَكَذلِكَ) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُ) (١) أي : مثل إنزال هذه الآيات المتضمّنة للوعيد (أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) كلّه على هذه الوتيرة (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) كرّرنا فيه آيات الوعيد ، وبيّنّاها على وجوه مختلفة وبألفاظ متفرّقة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي ، فتصير التقوى لهم ملكة (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) عظة واعتبارا يذكّرهم عقاب الله للأمم فيثبّطهم عن النواهي. ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم ، والإحداث إلى القرآن.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

ولمّا صرّف الله سبحانه آياته من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه على حسب أعمالهم ، بيّن لهم عقيبها أمر ملكوته وكبرياء شأنه وجبروت سلطانه عليهم ، فقال : (فَتَعالَى اللهُ) في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين ، لا يماثل كلامه كلامهم ، كما لا تماثل ذاته ذاتهم (الْمَلِكُ) النافذ أمره ونهيه ، الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده (الْحَقُ) الثابت في ملكوته ويستحقّ الملك لذاته. أو الثابت في ذاته وصفاته.

ولمّا ذكر القرآن وإنزاله ، نهى على سبيل الاستطراد عن الاستعجال في تلقّي الوحي من جبرئيل ، ومساوقته في القراءة حتّى يتمّ وحيه ، فقال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) مخافة نسيانه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : إذا لقّنك جبرئيل عليه‌السلام ما يوحي إليك من القرآن فلا تعجل في قراءته قبل تقضّيه ، بل كن مستمعا غير متكلّم حين يسمعك ويفهمك ، ثم أقبل عليه بالتحفّظ بعد ذلك.

وقيل : المراد النهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيه بيانه. فمعناه : لا تقرأه لأصحابك حتّى يتبيّن لك ما كان منه مجملا.

__________________

(١) طه : ٩٩.

٢٧٩

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي : سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال ، فإنّ ما أوحي إليك تناله لا محالة. قيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلّا في العلم.

روت عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى الله ، فلا بارك الله لي في طلوع شمسه».

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

ولمّا ذكر تصريف الآيات ، وأمر عباده بالتذكّر بها ، وأن لا يتركوها وينسوها ، لئلّا يتورّطوا في المنهيّات ، عقّبه بذكر قصّة آدم ونسيانه الّذي كان سببا في نقص حظّه ، وفرط ندامته على فوت ما أمر به ، تأكيدا أو مبالغة لهم في التزام المأمورات واجتناب المنهيّات ، فقال عطفا على قوله : «وصرّفنا فيه» : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ) ولقد أمرناه. ويقال في أوامر الملوك ووصاياهم : تقدّم الملك إلى فلان ، وأوعز إليه ، وعزم عليه ، وعهد إليه ، إذا أمره.

واللام جواب قسم محذوف ، أي : وأقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم.

(مِنْ قَبْلُ) من قبل وجودهم ، ومن قبل أن نتوعّدهم ، ووصّيناه أن لا يقرب الشجرة ، وتوعّدناه بالدخول في الظالمين إن قربها (فَنَسِيَ) العهد ، ولم يهتمّ به ، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس ، حتّى غفل عنه ، وتولّد من ذلك النسيان. أو ترك ما وصّى به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها ، فخالف إلى ما نهي عنه ، وتوعّد في ارتكابه مخالفتهم ، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون إليه. كأنّه يقول : إنّ أساس

٢٨٠