زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

الملائكة ، فعصى ، فلعن ومسخ شيطانا. وتفصيل هذا المبحث قد مرّ (١) في سورة البقرة.

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ) الهمزة للإنكار والتعجّب ، كأنّه قيل : أعقيب ما وجد منه تتّخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ) أولاده أو أتباعه. وسمّاهم ذرّيّة مجازا. (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) أي : تستبدلونهم في ، فتطيعونهم بدل طاعتي (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي : بئس البدل من الله إبليس وذرّيّته لمن استبدله ، فأطاعه بدل طاعته.

ثم نفى مشاركتهم في الإلهيّة بقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأعتضد بهم في خلقهما (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢). فنفى إحضار إبليس وذرّيّته خلق السماوات والأرض ، وإحضار بعضهم خلق بعض ، ليدلّ على نفي الاعتضاد بهم في ذلك ، كما صرّح به بقوله : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي : أعوانا ، ردّا لاتّخاذهم أولياء من دون الله شركاء له في العبادة ، فإنّ استحقاق العبادة من توابع الخالقيّة ، والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. فوضع «المضلّين» موضع الضمير ذمّا لهم بالإضلال ، واستبعادا للاعتضاد بهم ، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق ، فما لكم تتّخذونهم شركاء في العبادة؟! وقيل : الضمير للمشركين. والمعنى : ما أشهدتهم خلق ذلك ، ولا خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم ، حتّى لو آمنوا تبعهم الناس كما يزعمون ، فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين ، فإنّه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلّين لديني.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥))

__________________

(١) راجع ج ١ ص ١٣٢ ذيل الآية ٣٤ من سورة البقرة.

(٢) النساء : ٢٩.

١٢١

(وَيَوْمَ يَقُولُ) أي : الله تعالى للكفّار. وقرأ حمزة بالنون. (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنّهم شركائي وشفعاؤكم ، ليمنعوكم من عذابي. وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. والمراد : كلّ ما عبد من دونه. وقيل : إبليس وذرّيّته.

(فَدَعَوْهُمْ) فنادوهم للإغاثة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) فلم يغيثوهم (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) بين الكفّار وآلهتهم (مَوْبِقاً) مهلكا يشتركون فيه ، وهو النار. اسم مكان من : وبق يبق وبوقا ، ووبق يوبق وبقا ، إذا هلك ، وأوبقه غيره.

ويجوز أن يكون مصدرا ، كالمورد والموعد. يعني : وجعلنا بينهم واديا من أودية جهنّم ، هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا ، يهلكون فيه جميعا.

وعن الحسن : «موبقا» عداوة. والمعنى : عداوة هي في شدّتها هلاك.

وقال الفراء : البين الوصل ، أي : وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.

ويجوز أن يريد الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم ، وبالموبق : البرزخ البعيد ، أي : وجعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده ، لأنّهم في قعر جهنّم ، وهم في أعلى الجنان.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا) فأيقنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) مخالطوها واقعون فيها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) انصرافا ، أو مكانا ينصرفون إليه.

١٢٢

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) تصريفها ترديدها من نوع واحد وأنواع مختلفة ليتفكّروا فيها (وَكانَ الْإِنْسانُ) أي : النضر بن الحارث. وقيل : أبيّ بن خلف ، أو جميع الكفّار (أَكْثَرَ شَيْءٍ) يتأتّى منه الجدل (جَدَلاً) خصومة بالباطل.

وانتصابه على التمييز. يعني : جدل الإنسان أكثر من جدل كلّ شيء. ونحوه : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (١).

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) أي : من الإيمان (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) وهو الرسول الداعي ، أو القرآن المبين (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) ومن الاستغفار من الذنوب (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) إلّا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنّة الأوّلين ، وهي الاستئصال ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) عذاب الآخرة (قُبُلاً) عيانا من حيث يرونه. وتأويله : أنّهم بامتناعهم من الإيمان بمنزلة من يطلب هذا.

وقرأ الكوفيّون بضمّتين. وهو لغة فيه ، أو جمع قبيل بمعنى أنواع. وانتصابه على الحال من الضمير أو العذاب.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

__________________

(١) يس : ٧٧.

١٢٣

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أزاح العلّة ، وأظهر الحجّة ، وأوضح المحجّة ، فقال : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) للمؤمنين والكافرين (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات ، والسؤال عن قصّة أصحاب الكهف ونحوها تعنّتا (لِيُدْحِضُوا بِهِ) ليزيلوا بالجدال (الْحَقَ) عن مقرّه ويبطلوه. من إدحاض القدم ، وهو إزلاقها. وذلك قولهم للرسل : ما أنتم إلّا بشر مثلنا ، ولو شاء الله لأنزل ملائكة ونحو ذلك. (وَاتَّخَذُوا آياتِي) يعني : القرآن (وَما أُنْذِرُوا) وإنذارهم ، أو والّذي أنذروا به من العقاب (هُزُواً) استهزاء.

وقرأ نافع والكسائي وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر وابن كثير بضمّتين وإبدال الواو همزة. وحفص : هزوا بضمّتين. وحمزة : هزءا ، بسكون الزاء والهمزة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ) أي : ليس أحد أظلم لنفسه (مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) وعظ بالقرآن (فَأَعْرَضَ عَنْها) فلم يتدبّرها ، ولم يتذكّر بها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) عاقبة ما كسبت من الكفر والمعاصي ، ولم يتفكّر في عاقبتهما ، ولم ينظر في أنّ المحسن والمسيء لا بدّ لهما من جزاء.

ثمّ عللّ إعراضهم ونسيانهم بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي : إنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة أن يفقهوه ، فأعرض عنها ولم يتذكّر حين ذكر ، ولم يتدبّر. وتذكير الضمير وإفراده للمعنى. (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ثقلا يمنعهم

١٢٤

أن يستمعوه حقّ استماعه. وقد تقدّم (١) بيان هذا فيما مضى. وجملته أنّه على التمثيل ، كما قال في موضع آخر : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (٢). فالمعنى : كأنّ على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا أن يسمع.

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) فلا يكون منهم اهتداء البتّة ، كأنّه محال منهم ، لشدّة تصميمهم على الكفر والعناد مدّة التكليف كلّها. و «إذا» كما عرفت جزاء وجواب ، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول ، بمعنى أنّهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه ، وعلى أنّه جواب للرسول على تقدير قوله : مالي لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) البليغ المغفرة (ذُو الرَّحْمَةِ) الموصوف بالرحمة. ثمّ استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكّة عاجلا ، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم بدر ، أو يوم القيامة (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) منجا. يقال : وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه.

(وَتِلْكَ الْقُرى) يعني : قرى عاد وثمود وأضرابهم. و «تلك» مبتدأ خبره (أَهْلَكْناهُمْ). ويجوز أن يكون «تلك القرى» نصبا بإضمار «أهلكنا» على شرائط التفسير. والمعنى : وتلك أصحاب القرى أهلكناهم (لَمَّا ظَلَمُوا) بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي ، مثل ظلم أهل مكّة (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) لإهلاكهم وقتا معلوما ، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون. فليعتبروا بهم ، ولا يغترّوا بتأخير العذاب عنهم.

وقرأ أبو بكر : لمهلكهم بفتح الميم واللام ، أي : لهلاكهم. وحفص بكسر اللام حملا على ما شذّ من مصادر : يفعل ، كالمرجع والمحيض.

__________________

(١) راجع ج ٢ : ص ٣٧٤ ذيل الآية ٢٥ من سورة الأنعام ، وهنا ص ٤٠ ذيل الآية ٤٦ من سورة الإسراء.

(٢) لقمان : ٧.

١٢٥

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢))

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره (١) : لمّا أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشا بخبر أصحاب الكهف ، وانجرّ الكلام إلى هاهنا ، قالوا : أخبرنا عن العالم الّذي أمر الله تعالى موسى أن يتبعه من هو؟ وكيف تبعه؟ وما قصّته؟ فنزلت : (وَإِذْ قالَ مُوسى) بتقدير : اذكر (لِفَتاهُ) يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه‌السلام ، فإنّه كان يخدمه ويصحبه ويتبعه ، ولذلك سمّاه فتاه. وقيل : كان يأخذ منه العلم. وقيل : لعبده. وفي الحديث : ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ، ولا يقل : عبدي وأمتي.

(لا أَبْرَحُ) أي : لا أزال أسير ، فحذف الخبر ، لدلالة حاله ـ وهو السفر ـ وقوله : (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) من حيث أنّه يستدعي ذا غاية ، على الخبر المحذوف.

ويجوز أن يكون أصله : لا يبرح مسيري حتّى أبلغ ، على أنّ «حتّى أبلغ» هو الخبر ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فانقلب الضمير والفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلّم. وهو وجه لطيف. وأن يكون «لا أبرح» بمعنى : لا أزول عمّا أنا عليه من السير والطلب ، بمعنى : ألزم المسير والطلب ، ولا أفارقه حتّى أبلغ ، فلا يستدعي الخبر.

ومجمع البحرين ملتقى بحري فارس والروم ممّا يلي المشرق ، وعد لقاء الخضر فيه. وقيل : هو طنجة. وقيل : أفريقية. وقيل : البحران موسى وخضر عليهما‌السلام ، فإنّ موسى كان

__________________

(١) تفسير على بن إبراهيم ٢ : ٣٧.

١٢٦

بحر علم الظاهر ، والخضر كان بحر علم الباطن.

(أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أو أسير زمانا طويلا. والمعنى : حتّى يقع إمّا بلوغ المجمع ، أو أن أمضي زمانا أتيقّن معه فوات المجمع. والحقب : الدهر. وقيل : ثمانون سنة. وقيل : سبعون.

واعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ موسى الّذي حكاه الله عنه هو موسى بن عمران ، وفتاه يوشع بن نون ، كما مرّ.

وقال محمّد بن كعب بقول أهل الكتاب : إنّ موسى الّذي طلب الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف ، وكان نبيّا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران.

وأمّا الّذي عليه الجمهور وأجمع عليه الإماميّة أنّه موسى بن عمران ، ولأنّ إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران ، كما أنّ إطلاق محمّد ينصرف إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن سعيد بن جبير : أنّه قال لابن عبّاس : إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران ، وأنّ موسى هو موسى بن ميشا. فقال : كذب عدوّ الله.

وقال عليّ بن إبراهيم : حدّثني محمّد بن عليّ بن بلال ، عن يونس ، قال : اختلف يونس وهشام بن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان أعلم؟ وهل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته ، وهو حجّة الله على خلقه؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام يسألانه عن ذلك. فكتب في الجواب : «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر ، فسلّم عليه موسى ، فأنكر السلام ، إذ كان بأرض ليس بها سلام.

قال : من أنت؟

قال : أنا موسى بن عمران.

قال : أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه الله تكليما؟

قال : نعم.

قال : فما حاجتك؟ قال : جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشدا.

١٢٧

قال : إنّي وكّلت بأمر لا تطيقه ، ووكّلت بأمر لا أطيقه» (١).

وروي أنّه لمّا ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط واستقرّوا بها ، أمره الله أن يذكّر قومه النعمة. فقام فخطب خطبة بليغة أعجب خطبة ، فذكر نعمة الله وقال : إنّه اصطفى نبيّكم وكلّمه. فقالوا له : قد علمنا هذا هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال : لا.

فبعث الله عليه جبرئيل حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى إليه : بل أعلم منك عبدلي عند مجمع البحرين ، وهو الخضر. وكان الخضر في أيّام أفريدون قبل موسى. وكان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر ، وبقي إلى أيّام موسى.

وقيل : إنّ موسى سأل ربّه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال : الّذي يذكرني ولا ينساني.

قال : فأيّ عبادك أقضى؟

قال : الّذي يقضي بالحقّ ، ولا يتّبع الهوى.

قال : فأيّ عبادك أعلم؟

قال : الّذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى ، أو تردّه عن ردى.

فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منّي فادللني عليه.

قال : أعلم منك الخضر.

قال : أين أطلبه؟

قال : على الساحل ، عند الصخرة الّتي عندها ماء الحياة ، عند مجمع البحرين.

قال : يا ربّ كيف لي به؟ قال : خذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك.

فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني. فذهبا يمشيان (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي : مجمع البحرين. و «بينهما» ظرف أضيف إليه على الاتّساع ، أو بمعنى

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢ : ٣٨.

١٢٨

الوصل. (نَسِيا حُوتَهُما) غفل موسى أن يطلبه ويتعرّف حاله ، لاستغراقه في جناب القدس ، وتوجّهه التامّ إلى المبدأ الحقيقي. ولذلك أيضا غفل يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر.

قيل : كان الحوت سمكة مملوحة. وقيل : إنّ يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل (١) ، فنزل ليلة على شاطئ عين تسمّى عين الحياة ، ونام موسى ، فلمّا أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت. وروي أنّهما أكلا منها.

وقيل : إنّ موسى رقد فاضطرب الحوت المشويّ ووثب في البحر ، معجزة لموسى أو الخضر.

وقيل : توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة ، فانتضح الماء عليه ، فعاش ووثب في الماء.

وقيل : نسيا تفقّد أمره وما يكون منه ، أمارة على الظفر بالمطلوب.

(فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) فاتّخذ الحوت طريقه (فِي الْبَحْرِ سَرَباً) مسلكا ، من قوله : (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (٢). وقيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه ، وحصل منه في مثل السرب. ونصبه على المفعول الثاني ، و «في البحر» حال منه ، أو من السبيل. ويجوز أن يكون «في البحر» متعلّقا بـ «اتّخذ».

(فَلَمَّا جاوَزا) مجمع البحرين. وهو الموعد الّذي فيه الصخر. (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) ما نتغدّى به (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) تعبا وشدّة. قيل : لم ينصب حتّى جاوز الموعد ، فلمّا جاوزه وسار الليلة والغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع والنصب. وقيل : لم يعي موسى في سفر غيره. ويؤيّده التقييد باسم الاشارة.

__________________

(١) المكتل : زنبيل من خوص يحمل فيه التمر وغيره.

(٢) الرعد : ١٠.

١٢٩

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

ولمّا طلب موسى الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، فدهش وطفق يسأل موسى عن سبب ذلك (قالَ) يوشع (أَرَأَيْتَ) ما دهاني (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) يعني : الصخرة الّتي رقد عندها موسى. وقيل : هي الصخرة الّتي دون نهر الزيت (١). (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) فقدته ، أو نسيت ذكره بما رأيت منه.

ثمّ اعتذر عن نسيانه ، فقال : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) وما أنساني ذكره إلّا الشيطان ، فإنّ «أن أذكره» بدل من الضمير. والحال وإن كانت عجيبة لا ينسى

__________________

(١) في هامش النسخة الخطيّة : «سمّي نهر الزيت لكثرة أشجار الزيت على شاطئه. منه غفر الله له».

١٣٠

مثلها ، لكنّه لمّا ضرى (١) بمشاهدة أمثالها عند موسى وألفها قلّ اهتمامه بها ، أو نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار ، وانجذاب شراشره إلى جناب القدس ، بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة. وإنّما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه ، أو لأنّ عدم احتمال القوّة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعدّ من نقصان.

(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) سبيلا عجبا ، وهو كونه كالسرب. أو اتّخاذا عجبا. والمفعول الثاني هو الظرف. وقيل : هو مصدر فعله المضمر ، أي : قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه : عجبا ، تعجّبا من تلك الحال. وعن ابن عبّاس : الفعل لموسى ، أي : اتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا.

(قالَ ذلِكَ) أي : أمر الحوت (ما كُنَّا نَبْغِ) نطلب ، لأنّه أمارة المطلوب. حذف الياء لدلالة الكسرة عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا ، وابن كثير مطلقا. (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) فرجعا في الطريق الّذي جاءا فيه (قَصَصاً) يقصّان قصصا ، أي : يتّبعان آثارهما اتّباعا. أو فارتدّا مقتصّين حتّى أتيا الصخرة الّتي هي مدخل الحوت.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) الجمهور على أنّه الخضر كما مرّ. واسمه بليا بن ملكان. وقيل : اليسع. وقيل : إلياس. (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) هي : الوحي والنبوّة (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ممّا يختصّ بنا ، ولا يعلم إلّا بتوفيقنا. وهو علم الغيوب.

وقيل : إنّ موسى رآه على طنفسة خضراء فسلّم عليه. فقال : وعليك السلام يا نبيّ بني إسرائيل. فقال له موسى : وما أدراك من أنا؟ ومن أخبرك أنّي نبيّ؟ قال : من دلّك عليّ. وقيل : سلّم عليه موسى فعرّفه نفسه ، فقال : وأنّى بأرضنا السلام.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) وهو في موضع الحال من الكاف (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) علما ذا رشد ، وهو إصابة الخير. وقرأ البصريّان بفتحتين. وهما لغتان ، كالبخل والبخل. وهو مفعول «تعلّمني». ومفعول «علّمت» العائد

__________________

(١) أي : اعتاد وألف. وأصله من الضراوة ، وهي الدربة والعادة.

١٣١

المحذوف. وكلاهما منقولان من «علم» الّذي له مفعول واحد. ويجوز أن يكون «رشدا» علّة لـ «أتّبعك» أو مصدرا بإضمار فعله.

ولا ينافي نبوّته وكونه صاحب شريعة أن يتعلّم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين ، فإنّ الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممّن أرسل إليه فيما بعث به من اصول الدين وفروعه لا مطلقا. وقد راعي في ذلك غاية التواضع والأدب ، فاستجهل نفسه ، واستأذن أن يكون تابعا له ، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه.

وإنّما سمّي خضرا ، لأنّه إذا صلّى في مكان اخضرّ ما حوله.

(قالَ) الخضر (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي : يثقل عليك الصبر ولا يخفّ عليك. وإنّما قال ذلك لأنّ موسى عليه‌السلام كان يأخذ الأمور على ظواهرها ، والخضر كان يحكم بما علّمه الله من بواطنها ، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك. فنفى استطاعة الصبر منه على وجه التأكيد ، كأنّها ممّا لا يصحّ ولا يستقيم.

وعلّل ذلك واعتذر عنه بقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي : وكيف تصبر وأنت نبيّ على ما أتولّى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك؟ والرجل الصالح لا يصبر على ذلك ، فكيف إذا كان نبيّا؟! لا يتمالك أن يشمئزّ ويمتعض (١) ويجزع إذا رأى ذلك ، ويأخذ في الإنكار. و «خبرا» تمييز ، أي : لم يحط به خبرك أو مصدر ، لأنّ «لم تحط» بمعنى لم تخبره ، فنصبه نصب المصدر.

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) معك غير منكر عليك (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) عطف على «صابرا» أي : ستجدني صابرا وغير عاص أو على «ستجدني».

وتعليق الوعد بالمشيئة إمّا للتيمّن ، أو لعلمه بصعوبة الأمر ، فإنّ مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد ، خصوصا على الأنبياء.

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «معضت من ذلك الأمر وامتعضت ، إذا غضبت وشقّ عليك. منه غفر الله له».

١٣٢

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) فإن اقتفيت أثري (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته منّي ، ولم تعلم وجه صحّته (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) حتّى أبتدئك ببيانه. وقرأ نافع وابن عامر : فلا تسألنّي ، بالنون الثقيلة. وهذا من أدب المتعلّم مع العالم ، والمتبوع مع التابع.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣))

(فَانْطَلَقا) على الساحل يطلبان السفينة (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) قال أهلها : هما من اللصوص ، وأمروهما بالخروج. فقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء. وقيل : عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول (١). فلمّا لججوا أخذ الخضر فأسا (خَرَقَها) فخرق السفينة ، بأن قلع لوحين من ألواحها ممّا يلي الماء ، فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه.

(قالَ) منكرا عليه (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) فإنّ خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها. وقرأ حمزة والكسائي : «ليغرق أهلها» على إسناده إلى الأهل.

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أتيت أمرا عظيما ، من : أمر الأمر إذا عظم.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ) حين رغبت في اتّباعي (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) تذكير لما ذكره قبل ، فتذكّر موسى ما بذل له من الشرط.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) بالّذي نسيته ، أي : غفلته ، من التسليم لك وترك

__________________

(١) أي : بغير أجرة وعطيّة. والنون : العطيّة.

١٣٣

الإنكار عليك. أو بشيء نسيته ، يعني : وصيّته بأن لا يعترض عليه. أو بنسياني إيّاها.

وهو اعتذار بالنسيان ، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها ، لأنّه لا مؤاخذة على الناسي.

وقيل : أراد بالنسيان الترك ، أي : لا تؤاخذني بما تركت من وصيّتك أوّل مرّة ، كما روي عن ابن عبّاس : بما تركت من وصيّتك وعهدك. وعلى هذا ، فيكون النسيان بمعنى الترك ، لا بمعنى الغفلة والسهو.

وقيل : إنّه من معاريض الكلام الّتي يتّقى بها الكذب مع التوصّل إلى الغرض ، كقول إبراهيم : هذه أختي وإنّي سقيم. فمراده شيء آخر نسيه.

(وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) فلا تغشّني عسرا من أمري ، وهو اتّباعه إيّاه.

يعني : ولا تعسّر عليّ متابعتك ، ويسّرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة والمضايقة والمؤاخذة على المنسيّ. و «عسرا» مفعول ثان لـ : ترهق ، فإنّه يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إيّاه.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))

(فَانْطَلَقا) أي : بعد ما خرجا من السفينة انطلقا يمشيان في البرّ. ولم يذكر يوشع ، لأنّه كان تابعا لموسى ، أو كان قد تأخّر عنهما. وهو الأظهر ، لاختصاص موسى بالنبوّة ، واجتماعه مع الخضر في البحر. (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) قيل : فتل عنقه ، وكان يلعب

١٣٤

مع الصبيان. وعن سعيد بن جبير : كان من أحسن أولئك الغلمان وأصبحهم. وقيل : ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكّين. والفاء للدلالة على أنّه لمّا لقيه قتله من غير تروّ واستكشاف حال ، ولذلك (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي : طاهرة من الذنوب.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ورويس عن يعقوب : زاكية. والأوّل أبلغ. وقال أبو عمرو : الزاكية : الّتي لم تذنب قطّ ، والزكيّة الّتي ثمّ غفرت. ولعلّه اختار زاكية لذلك ، فإنّها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم ، أو أنّه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها.

(بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس يوجب القود. يعني : لم تقتل نفسا فيقتصّ منها ، بل قتلت نفسا تقاد بها. نبّه به على أنّ القتل إنّما يباح حدّا أو قصاصا ، وكلا الأمرين منتف.

ولعلّ تغيير النظم ، بأن جعل خرقها جزاء للشرط ، واعتراض موسى مستأنفا في الأولى ، وفي الثانية قتله من جملة الشرط ، واعتراضه جزاء ، لأنّ القتل أقبح ، والاعتراض عليه أدخل ، فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ، ولذلك فصّله بقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي : منكرا أشدّ من الإمر ، فإنّ الخرق يمكن تداركه بالسدّ ، وهذا لا سبيل إلى داركه.

وقرأ نافع في رواية قالون وورش وابن عامر ويعقوب وأبو بكر : نكرا بضمّتين.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زاد فيه «لك» لزيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصيّة ، والوسم بقلّة الثبات والصبر ، لمّا تكرّر منه الاشمئزاز والاستنكار ، ولم يرعو بالتذكير أوّل مرّة ، حتّى زاد في الاستنكار ثاني مرّة.

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) بعد هذه المرّة (فَلا تُصاحِبْنِي) وإن سألت صحبتك. وعن يعقوب : فلا تصحبني ، أي : فلا تكن صاحبي. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد وجدت عذرا من قبلي لمّا خالفتك ثلاث مرّات. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك ، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب».

١٣٥

وقرأ نافع : لدني ، بتحريك النون ، والاكتفاء بها عن نون الدعامة. وأبو بكر : لدني ، بتحريك النون وإسكان الدال ، إسكان الضاد من عضد.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) قرية أنطاكية. وقيل : أبلّة بصرة. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «هي قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة ، وبها سمّيت النصارى نصارى».

١٣٦

وقيل : باجروان أرمينية. وهي أبعد أرض الله من السماء. (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) من : ضيّفه إذا أنزله وجعله ضيفه. وأصل التركيب للميل ، يقال : ضاف السهم عن الغرض إذا مال.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كانوا أهل قرية لئاما».

وقيل : شرّ القرى الّتي لا يضاف الضيف فيها ، ولا يعرف لابن السبيل حقّه. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لم يضيّفوهما ، ولا يضيّفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة».

(فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) تدانى أن يسقط ، فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ، كما استعير الهمّ والعزم وأمثال ذلك أيضا لذلك ، كما يقال : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ. وإذا كان القول والإباء ، والعزم والعزّة ، والنطق والشكاية ، والصدق والكذب ، والسكوت والتمرّد والطواعية ، وغير ذلك مستعارة للجماد ولسائر ما لا يعقل ، فما بال الإرادة؟ و «انقضّ» انفعل ، مطاوع : قضضته إذا كسرته. ومنه انقضاض الطير والكوكب لهويّه. أو افعلّ من النقض.

(فَأَقامَهُ) بعمارته أو بعمود عمده به. وقيل : مسحه بيده فقام. وقيل : نقضه وبناه. وقيل : كان طول الجدار في السماء مائة ذراع.

ولمّا بخلوا عليهما بالطعام ، وأقام الخضر جدارهم المشرف على الانهدام ، عجب موسى من ذلك (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي : طلبت على عملك جعلا ، تحريضا على أخذ الجعل ، لينتعشا به ، وليسدا جوعتهما. أو تعريضا بأنّه فضول ، لما في «لو» من النفي ، كأنّه لمّا رأى الحرمان ومساس الحاجة ، واشتغاله بما لا يعنيه ، لم يتمالك نفسه.

و «اتّخذ» افتعل من : تخذ ، كاتّبع من : تبع. وليس من الأخذ عند البصريّين. وقرأ ابن كثير والبصريّان : لتخذت ، أي : لأخذت. وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال ، وأدغمه الباقون.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله : فلا تصاحبني.

١٣٧

أو إلى الاعتراض الثالث. أو الوقت ، أي : هذا الاعتراض سبب فراقنا ، أو هذا الوقت وقته.

وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتّساع ، وكرّر «بين» تأكيدا.

(سَأُنَبِّئُكَ) سأخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه ، لكونه منكرا من حيث الظاهر.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) لمحاويج لا شيء لهم يكفيهم (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) للتعيّش. وهو دليل على أنّ المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه.

وقيل : سمّوا مساكين لعجزهم عن دفع الملك ، أو لزمانتهم ، فإنّها كانت لعشرة إخوة : خمسة زمنى ، وخمسة يعملون في البحر.

(فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أجعلها ذات عيب (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) قدّامهم ، كقوله : من ورائهم برزخ ، أو خلفهم. وكان رجوعهم عليه ، واسمه جلندى بن كركر. وفيه لغة اخرى ، وهي جلنداء ممدودة. (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) من أصحابها.

وكان حقّ النظم أن يتأخّر قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) عن قوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) لأنّ إرادة التعييب مسبّب عن خوف الغصب ، وإنّما قدّم للعناية. أو لأنّ السبب لمّا كان مجموع الأمرين : خوف الغصب ومسكنة الملّاك ، رتّبه على أقوى الجزأين وادّعاهما ، وعقّبه بالآخر على سبيل التقييد والتتميم.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) وهو كافر. ويؤيّده ما روي عن أبيّ وابن عبّاس : أنّ الغلام كان كافرا ، وأبواه مؤمنين. وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «وأمّا الغلام الّذي قتله ، فإنّما قتله لأنّه كان كافرا».

(فَخَشِينا) فخفنا ، لعلمنا من عند الله أنّه إن بقي (أَنْ يُرْهِقَهُما) أي : يغشيهما (طُغْياناً) عليهما (وَكُفْراً) لنعمتهما ، بعقوقه وسوء صنيعه ، فيلحقهما شرّا وبلاء. أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. أو يعديهما بدائه ، فيرتدّا بإضلاله ، أو بممالأته على طغيانه وكفره حبّا له. وإنّما خشي ذلك لأنّ الله أعلمه بحاله ، واطّلعه على سريرة أمره.

١٣٨

وعن ابن عبّاس : أنّ نجدة الحروري (١) كتب إليه : كيف قتله ـ أي : قتل الخضر الغلام ـ وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه : إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل.

ويجوز أن يكون قوله : «فخشينا» حكاية قول الله عزوجل. فمعنى «خشينا» : علمنا.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) أن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه (زَكاةً) طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) رحمة وعطوفة على والديه. قيل : ولدت لهما جارية ، فتزوّجها نبيّ ، فولدت له نبيّا هدى الله به أمّة من الأمم.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّهما أبدلا بالغلام المقتول جارية ، فولدت سبعين نبيّا».

وقرأ نافع وأبو عمرو : يبدّلهما بالتشديد. وابن عامر ويعقوب وعاصم : رحما بالتخفيف. وانتصابه على التمييز ، والعامل اسم التفضيل. وكذلك «زكوة».

وفي الآية دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه ، لأنّ المفهوم من الآية أنّه تدبير من الله تعالى لم يكن يجوز خلافه ، وأنّه إذا علم من حال الإنسان أنّه يفسد عند شيء ، يجب عليه في الحكمة أن يذهب ذلك الشيء ، حتّى لا يقع هذا الفساد.

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) قيل : اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) من ذهب وفضّة. روي ذلك مرفوعا.

والذمّ على كنز الذهب والفضّة في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) (٢) لمن لا يؤدّي زكاتهما وما تعلّق بهما من الحقوق.

وقيل : صحف فيها علم ، كما روي عن ابن عبّاس : ما كان ذلك الكنز إلّا علما.

وقيل : كان لوحا من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟! وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟! وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟!

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «الحرورا قرية الخوارج. منه».

(٢) التوبة : ٣٤.

١٣٩

وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله. والظاهر لإطلاقه أنّه مال.

(وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) تنبيه على أنّ سعيه ذلك كان لصلاحه. وكان سيّاحا ، واسمه كاشح.

وعن جعفر بن محمّد عليه‌السلام : «كان بين الغلامين وبين الأب الّذي حفظا فيه سبعة آباء».

ومعنى «حفظا فيه» : حفظا في حقّه. يقال : اللهمّ احفظنا في نبيّك ، أي : في حقّه ولأجله. ويقال : أخ في الله ، أي : من أجل الله. وقال عليه‌السلام : «إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ودويرات حوله ، فلا يزالون في حفظ الله ، لكرامته على الله تعالى».

(فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي : الحلم وكمال الرأي (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مرحومين من ربّك. ويجوز أن يكون علّة أو مصدرا لـ «أراد» ، فإنّ إرادة الخير رحمة. وقيل : متعلّق بمحذوف تقديره : فعلت ما فعلت رحمة من ربّك. ولعلّ إسناد الإرادة أوّلا إلى نفسه «لأنّه المباشر للتعييب ، وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنّه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأنّ الأوّل في نفسه شرّ ، والثالث خير ، والثاني ممتزج.

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) عن رأيي واجتهادي ، وإنّما فعلته بأمر الله عزوجل. ومبنى ذلك على أنّه متى تعارض ضرران يجب تحمّل أهونهما لدفع أعظمهما. وهو أصل ممهّد ، غير أنّ الشرائع في تفاصيله مختلفة. (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي : ما لم تستطع ، فحذف التاء تخفيفا.

ومن فوائد هذه القصّة أن لا يعجب المرء بعلمه ، ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه ، فلعلّ فيه سرّا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلّم ، ويتذلّل للمعلّم ، ويراعي الأدب في المقال ، وأن ينبّه المجرم على جرمه ، ويعفو عنه حتّى يتحقّق إصراره ، ثمّ

١٤٠