زبدة التّفاسير - ج ٤

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٤

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-06-X
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٠٨

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

ثمّ عطف على قصّة نوح عليه‌السلام ، قصّة داود وسليمان. ووجه تخصيصهما بالذكر بعد قصّته : مزيّة علوّ رتبتهما دينا ودنيا على أنبياء بني إسرائيل ، وتنبيه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّهما مع كونهما ملكين عظيمين ، لا يمنع ملكهما وحشمتهما عن تبليغ الأحكام الشرعيّة وسائر وظائف العبوديّة ، فينبغي أن يكون اهتمامك في أداء وظائف العبادة وتبليغ الرسالة أبلغ منهما ، لقلّة سعيك بالأمور الدينيّة ، فقال : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي : اذكرهما (إِذْ يَحْكُمانِ) وهو بدل منهما ، أي : واذكر حين يحكم داود وسليمان (فِي الْحَرْثِ) في الزرع. وقيل : في كرم تدلّت عناقيده. (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) حين رعته ليلا. يقال : نفشت الغنم والإبل ، تنفش نفشا ، إذا رعت ليلا بلا راع ، فلا يكون النفش إلّا بالليل. (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما (شاهِدِينَ) عالمين ، لم يغب عنّا منه شيء.

٣٤١

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الضمير للحكومة أو الفتوى.

روي أنّ داود حكم بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان ـ وهو ابن إحدى عشرة سنة ـ : غير هذا يا نبيّ الله أرفق بالفريقين.

قال : وما ذاك؟

قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع ، فينتفع بألبانها وأولادها وأشعارها ، والحرث إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتّى يعود كهيئة يوم أفسد ، ثمّ يترادّان.

فقال داود : القضاء ما قضيت ، وأمضى الحكم بذلك.

والصحيح أنّهما جميعا حكما بالوحي ، إلّا أنّ حكومة سليمان نسخت حكومة داود ، لأنّ الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظنّ والاجتهاد ولهم طريق إلى العلم.

وفي قوله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) دليل على أنّ كليهما كانا مصيبين ، ويبطل قول البلخي وأضرابه من العامّة أنّه يجوز أن يكون ذلك الحكم عن اجتهاد.

وتنقيح المبحث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان يوحى إليه ، وله طريق إلى العلم بالحكم ، فلا يجوز أن يحكم بالظنّ. على أنّ الحكم بالظنّ والاجتهاد والقياس ، قد بيّن أصحابنا في كتبهم أنّه لم يتعبّد بها في الشرع إلّا في مواضع مخصوصة. ولأنّه لو جاز للنبيّ أن يجتهد ، لجاز لغيره أن يخالفه ، كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا ، ومخالفة الأنبياء عليهم‌السلام تكون كفرا.

هذا وقد قال الله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١). فأخبر سبحانه أنّه إنّما ينطق عن جهة الوحي.

إن قلت : لم لا يجوز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي ، وكان تأخير الحكم ضررا؟ وحينئذ لا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم ، إذ الفرض عدمه.

قلت : إنّ الحكم حينئذ ليس باجتهاد ، لدلالة الوحي على نفي الضرر ، فيكون حكما بالنصّ النوعي.

__________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

٣٤٢

واعلم أنّ حكم هذه المسألة في شرعنا ضمان مالك الماشية مع التفريط لا بدونه ، تمسّكا بالروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وقال بعض أصحابنا والشافعي ، يضمن ليلا لا نهارا ، تمسّكا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين دخلت ناقة البراء حائطا فأفسدته : «على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل».

وعند أبي حنيفة : لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جرح العجماء جبار (١)».

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) يقدّسن الله معه ، بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلّم موسى. وهو حال بمعنى مسبّحات. أو استئناف لبيان وجه التسخير ، كأنّ قائلا يقول : كيف سخّرهنّ؟ فقال : يسبّحن. و «مع» متعلّقة به ، أو بـ «سخّرنا».

وقيل : معنى التسبيح السير ، يعني : يسرن معه حيث شاء. من السباحة.

وقيل : معناه : يسبّح من رآها تسير بتسيير الله عزوجل. فلمّا حملت على التسبيح وصفت به.

(وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال ، أو مفعول معه. وقدّم الجبال على الطير ، لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة ، وأدخل في الإعجاز ، لأنّها جماد ، والطير حيوان ، إلّا أنّه غير ناطق.

وروي : أنّه كان يمرّ بالجبال مسبّحا وهي تجاوبه. وكذلك الطير يسبّح معه بالغداة والعشيّ معجزة له.

(وَكُنَّا فاعِلِينَ) لأمثاله ، فليس ببدع منّا ، وإن كان عجبا عندكم.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) عمل الدرع. وهو في الأصل اللباس. قال :

__________________

(١) العجماء : البهيمة. والجبار : الهدر. أي : جرح البهيمة هدر ، لأنّها لا تقاصّ بما فعلت.

٣٤٣

البس لكلّ حالة لبوسها

إمّا نعيمها وإمّا بوسها

قال قتادة : أوّل من صنع الدروع داود ، وإنّما كانت صفائح ، جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين ، فهو أوّل من سردها (١) وحلقها ، فجمعت الخفّة والتحصين.

(لَكُمْ) متعلّق بـ «علّم». أو صفة للبوس. (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) ليحرزكم ويمنعكم من وقع السلاح. وقيل للسلاح : بأسكم. وقيل : معناه : من حربكم ، أي : في حالة الحرب والقتال ، فإنّ البأس في اللغة هو شدّة القتال. وهذا بدل من «لكم» بدل الاشتمال ، بإعادة الجارّ. والضمير لداود ، أو للبوس.

وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء للصنعة ، أو للبوس على تأويل الدرع. وفي قراءة أبي بكر ورويس بالنون لله عزوجل.

(فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.

روي : أنّ سبب إلانة الحديد لداود عليه‌السلام أنّه كان نبيّا ملكا ، وكان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أحوال عمّاله ومتصرّفيه ، ليدفع المنكر إن صدر منهم. فاستقبله جبرئيل عليه‌السلام ذات يوم على صورة آدميّ ، فسلّم عليه. فردّ السلام ، وقال : ما سيرة داود؟

فقال : نعمت السيرة لو لا خصلة فيه.

قال : وما هي؟

فقال : إنّه يأكل من بيت مال المسلمين.

فتنكّره وأثنى عليه ، وقال : لقد أقسم داود إنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين.

فعلم الله سبحانه صدقه ، فألان له الحديد ، كما قال : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٢).

وروي : أنّ لقمان الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك ، فصبر ولم يسأله حتّى فرغ من ذلك ، فقام ولبس وقال : نعمت الجنّة للحرب. فقال لقمان : الصمت حكمة ، وقليل فاعله.

__________________

(١) سرد الدرع : نسجها. ويقال لصانع الدرع : سرّاد.

(٢) سبأ : ١٠.

٣٤٤

(وَلِسُلَيْمانَ) عطف على (مَعَ داوُدَ الْجِبالَ). ويحتمل أن يكون اللام فيه دون الأوّل ، لأنّ الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له ، وفي الأوّل أمر يظهر في الجبال والطير مع داود وبالإضافة إليه (الرِّيحَ عاصِفَةً) شديدة الهبوب ، من حيث إنّها مرّت بكرسيّه وأبعدت به في مدّة يسيرة ، كما قال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١). فكانت عاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان ، رخاء في نفسها ، طيّبة كالنسيم.

وقال ابن عبّاس : كانت رخاء في وقت ، وعاصفة في وقت آخر ، حسب إرادته.

وذلك قوله : (رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٢).

(تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بمشيئته. حال ثانية ، أو بدل من الأولى ، أو حال من ضميرها.

(إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فنجري الأشياء كلّها على ما تقتضيه حكمتنا وعلمنا. فإنّما أعطيناه ما أعطيناه ، لما علمناه من المصلحة.

قال وهب : وكان سليمان يخرج إلى مجلسه ، فتعكف عليه الطير ، ويقوم له الإنس والجنّ ، حتّى يجلس على سريره ، ويجتمع معه جنوده ، ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في البحار ، ويستخرجون جواهرها النفيسة. والغوص هو النزول إلى تحت الماء. و «من» عطف على الريح. أو مبتدأ خبره ما قبله. وهي نكرة موصوفة.

(وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) سواه ، أي : يتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر ، كبناء المدن والقصور ، واختراع الصنائع الغريبة ، كقوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ

__________________

(١) سبأ : ١٢.

(٢) ص : ٣٦.

٣٤٥

وَتَماثِيلَ) (١).

(وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أن يزيغوا عن أمره ، أو يفسدوا فيما هم مسخّرون فيه ، على ما هو مقتضى جبلّتهم ، أو يهربوا منه ويمتنعوا عليه.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

ثمّ عطف قصّة أيّوب على القصص السابقة ، وبيّن فيها شدّة ابتلائه ، تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في احتمال شدّة المتاعب ، فقال : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) أي : اذكر يا محمّد أيّوب حين دعا ربّه لمّا امتدّت المحنة به (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) بأنّي نالني الضرّ ، وأصابني الجهد. والضرّ بالضمّ خاصّ بما في النفس ، كمرض وهزال ، وبالفتح شائع في كلّ ضرر.

(وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي : ولا أحد أرحم منك. وصف ربّه بغاية الرحمة ، بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها. واكتفى بذلك التعريض عن التصريح بالمطلوب ـ الّذي هو إزالة ما به من البلاء ـ لطفا في السؤال.

وكان روميّا من ولد عيص بن إسحاق بن يعقوب ، استنباه الله ، وكثر أهله وماله.

وكان له سبعة بنين ، وسبع بنات ، وله أصناف البهائم ، وخمسمائة فدان (٢) ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكلّ عبد امرأة وولد ونخيل. فابتلاه الله بهلاك أولاده ، بأن انهدم عليهم البيت فهلكوا ، وبذهاب أمواله ، وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. وعن قتادة : ثلاث

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «الفدان : البقر مع آلاته للحرث. والفدادين جمعه. منه».

٣٤٦

عشرة سنة. وعن مقاتل : سبعا وسبعة أشهر وسبع ساعات.

وروي : أنّ امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف ، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف ، قالت له يوما : لو دعوت الله؟ فقال لها : كم كانت مدّة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة ، فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه ، وما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أزلنا ما به من الأوجاع والأمراض ، ونشفيه منها ، لينقطعوا إلينا ، ويتوكّلوا علينا في حالة الشدّة (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) بأن ولد له ضعف ما كان. وروي : أنّ الله تعالى أحيا ولده ، ورزقه مثلهم ، ونوافل منهم. وروي : أنّ امرأته ولدت بعد ذلك ستّة وعشرين ابنا.

وعن ابن عبّاس وابن مسعود : ردّ الله سبحانه أهله بأعيانهم وأشخاصهم ، وأعطاه مثلهم معهم. وكذلك ردّ الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها ، وأعطاه مثلها معها. وبه قال الحسن وقتادة. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

(رَحْمَةً) على أيّوب (مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) وتذكرة له ولغيره من العابدين ، ليصبروا كما صبر ، فيثابوا كما أثيب في الدارين. أو لرحمتنا للعابدين ، وذكرنا إيّاهم بالإحسان.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

ثمّ ذكر غيرهم من الأنبياء الصابرين على مشاقّ التكاليف وحسن عواقبهم ببركة صبرهم ، فقال : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) يعني : إلياس. وقيل : يوشع بن نون. رواه ابن بابويه عن الرضا عليه‌السلام في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام. وقيل : زكريّا.

سمّي به لأنّه كان ذا حظّ من الله. وقيل : كفل مائة نبيّا ، أي : ضمّهم إلى نفسه حتّى نجّاهم من القتل ، أو تكفّل مريم. وقيل : لأنّه كان له ضعف عمل أنبياء زمانه ، وضعف

٣٤٧

ثوابهم. والكفل يجيء بمعنى النصيب والكفالة والضعف.

وروي : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين : إسرائيل ويعقوب ، إلياس وذو الكفل ، عيسى والمسيح ، يونس وذو النون ، محمّد وأحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقيل : إنّ ذا الكفل نبيّ كان بعد سليمان ، وكان يقضي بين الناس كقضاء داود ، ولم يغضب قطّ إلّا لله عزوجل.

وقيل : هو اليسع بن خطوب الّذي كان مع إلياس ، تكفّل لملك جبّار إن هو تاب دخل الجنّة ، ودفع إليه كتابا بذلك. فتاب الملك ، وكان اسمه كنعان ، فسمّي ذا الكفل.

وعن مجاهد : أوحى الله إلى اليسع أنّي أريد قبض روحك ، فأعرض ملكك على بني إسرائيل ، فمن يكفل لك أن يصلّي بالليل ولا يفتر ، ويصوم بالنهار ولا يفطر ، ويقضي بين الناس ولا يغضب ، فادفع ملكك إليه ، ففعل ذلك. فقام شابّ فقال : أنا أتكفّل لك هذا ، فتكفّل ووفى به. فشكر الله ذلك له وأثنى عليه. ولذلك سمّي ذا الكفل. والعلم عند الله.

(كُلٌ) أي : كلّ هؤلاء (مِنَ الصَّابِرِينَ) على التكاليف الشاقّة والنوائب الشديدة.

(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي : غمرناهم بالرحمة. وهي نعمة الآخرة. فلو قال : رحمناهم لما أفاد ذلك ، بل أفاد أنّه فعل بهم الرحمة. وقيل : المراد بالرحمة النبوّة. (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح. وهم الأنبياء ، فإنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

٣٤٨

وبعد ذكر الأنبياء الصابرين على البلاء ، بيّن قصّة يونس ، وترك ندبه الّذي هو عدم ثباته على الصبر ، تنبيها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإقدام بفعل الذنب ، لئلّا يعاتب كما عوتب يونس ، فقال : ى(وَذَا النُّونِ) واذكر يا محمّد صاحب الحوت يونس بن متّى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه ، لمّا برم (١) بقومه ، لطول ما ذكّرهم فلم يذكروا ، لفرط عنادهم ، وشدّة شكيمتهم ، فهاجر عنهم قبل أن يؤمر.

وقيل : وعدهم بالعذاب ، فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ، ولم يعرف الحال ، فظنّ أنّه كذبهم ، وغضب من ذلك. والمغاضبة من بناء المغالبة للمبالغة ، أو لأنّه أغضبهم بالمهاجرة ، لخوفهم لحوق العذاب عندها.

(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لن نضيّق عليه ، من القدر بسكون الدال. أو لن نقضي عليه بالابتلاء ، من القدر بمعنى القضاء. أو لن نعمل فيه قدرتنا.

وقيل : هو من باب التمثيل. بمعنى : كانت حاله ممثّلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه ، من غير انتظار لأمرنا. وذلك لحسبانه أنّ ذلك يسوغ له ، حيث لم يفعله إلّا غضبا لله ، وأنفة لدينه ، وبغضا للكفر وأهله. ولكن كان الأولى به أن يصابر ، وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم ، فابتلي ببطن الحوت.

ومن قال : إنّه خرج مغاضبا لربّه ، وأنّه ظنّ أن لن يقدر الله على أخذه ، بمعنى أنّه يعجز عنه ، فقد أسند الكفر إلى الأنبياء والعياذ بالله ، فإنّ مغاضبة الله كفر أو كبيرة عظيمة ، وتجويز العجز على الله سبحانه أيضا كذلك. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ، وتبرّأ أنبياؤه عن هذه المظنّة الفاسدة.

وعن ابن عبّاس : أنّه دخل على معاوية ، فقال له : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصا إلّا بك. قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه

__________________

(١) أي : سئم وضجر.

٣٤٩

الآية. وقال : أيظنّ نبيّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر ، لا من القدرة. يعني : أن لن نضيّق عليه ، كما في قوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (١).

وروي : أنّه أتى ببحر الروم ، وإذا سفينة محشوّة ، فركب فيها حتّى إذا توسّطت الماء ركدت لا تتقدّم ولا تتأخّر. فقال أهل السفينة : إنّ لسفينتنا شأنا.

قال يونس : قد عرفت شأنها.

قالوا له : وما شأنها؟

قال : ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة.

قالوا : ومن هو؟

قال : لأنا ، فاقذفوني من سفينتكم في البحر.

قالوا : ما نطرحك من بيننا حتّى نعذر في شأنك.

فقال لهم : فاستهموا حتّى تنظروا إلى من يقع عليه السهم.

فاقترعوا ، فادحض (٢) سهم يونس. ففعلوا ذلك مرارا ، وخرجت القرعة عليه في كلّ مرّة. فألقى نفسه في البحر ، فإذا حوت فاغر فاه (٣) فالتقمه.

(فَنادى فِي الظُّلُماتِ) في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت. وقيل : ظلمات ثلاث : بطن الحوت ، والبحر ، والليل. كذا قاله ابن عبّاس. وقيل : ابتلع حوته حوت آخر أكبر منه ، فحصل في ظلمتي بطني الحوتين.

(أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) بأنّه لا إله إلّا أنت. أو بمعنى «أي» التفسيريّة. (سُبْحانَكَ) أن يعجزك شيء (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة قبل أن تأذن لي.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) أي : أزلق ، من : أدحض الرجل : أزلقها.

(٣) أي : فاتح.

٣٥٠

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له ، لقوله تعالى عقيب ذلك : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه. وقيل : ثلاثة أيّام. وقيل : أربعين يوما. وبقاؤه في بطن الحوت في هذه المدّة معجزة له. والغمّ غمّ الالتقام. وقيل : غمّ ترك الندب.

(وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من الغموم إذا دعونا بالإخلاص ، كما أنجينا ذا النون.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

ثمّ قصّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصّة زكريّا ، وانقطاعه إلى الله عمّا سواه ، فقال : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) وحيدا بلا ولد يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي ، فإنّك خير وارث.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي : أصلحناها للولادة بعد عقرها. أو لزكريّا بتحسين خلقها ، وكانت سيّئة الخلق.

(إِنَّهُمْ) يعني : الأنبياء المذكورين (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون إلى أبواب الخير (وَيَدْعُونَنا رَغَباً) ذوي رغب. أو راغبين في الثواب ، راجين للإجابة.

أو في الطاعة. أو يرغبون رغبا. (وَرَهَباً) ذوي رهب. أو راهبين. أو يرهبون رهبا من العقاب أو المعصية.

(وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ذللا لأمر الله. وعن ابن عبّاس : متواضعين. وعن مجاهد : الخشوع : الخوف الدائم في القلب. يعني : دائمي الوجل. ومعنى الآية : إنّهم نالوا

٣٥١

من الله ما نالوا بهذه الخصال.

وفي الآية دلالة على أنّ المسارعة إلى كلّ طاعة مرغّب فيها ، وعلى أن الصلاة في أوّل الوقت أفضل.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

ولمّا كان عيسى وأمّه متأخّرين عن الأنبياء السابقة بالزمان ، قال بعد ذكر قصصهم : (وَالَّتِي) أي : اذكرها. وهي مريم بنت عمران. (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) إحصانا كلّيّا من الحلال والحرام جميعا ، كما قالت : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (١).

(فَنَفَخْنا فِيها) أي : نفخنا الروح في عيسى فيها ، أي : أحييناه في جوفها. ونحو ذلك أن يقول الزمّار : نفخت في بيت فلان ، أي : نفخت في المزمار في بيته. فالنفخ بمعنى الإحياء ، كما في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢) أي : أحييته. أو معناه : فعلنا النفخ فيها.

(مِنْ رُوحِنا) أي : أجرينا فيها روح المسيح ، كما يجري الهواء بالنفخ. وإضافة الروح إلى نفسه على وجه الملك ، أي : من الروح الّذي هو بأمرنا. أو المعنى : من جهة روحنا ، وهو جبرئيل ، يعني : أمرنا جبرئيل فنفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.

(وَجَعَلْناها وَابْنَها) أي : قصّتهما. أو حالهما. ولذلك وحّد قوله : (آيَةً لِلْعالَمِينَ). وهي ولادتها إيّاه من غير فحل ، وتكلّمه في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب ، فإنّ من تأمّل حالهما تحقّق كمال قدرة الصانع تعالى.

__________________

(١) مريم : ٢٠.

(٢) الحجر : ٢٩.

٣٥٢

(إِنَّ هذِهِ) أي : ملّة الإسلام الّتي جميع الأنبياء المذكورين عليها (أُمَّتُكُمْ) أي : ملّتكم الّتي يجب عليكم أن تكونوا عليها. والخطاب للناس كافّة. (أُمَّةً واحِدَةً) ملّة واحدة ، غير مختلفة فيما بين الأنبياء ، ولا مشاركة لغيرها في صحّة الاتّباع. وأصل الأمّة الجماعة الّتي على مقصد واحد. فجعلت الشريعة أمّة لاجتماعهم بها على مقصد واحد.

(وَأَنَا رَبُّكُمْ) الّذي خلقكم ، لا إله لكم غيري (فَاعْبُدُونِ) لا غير.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

ثمّ ذكر حال اليهود والنصارى بالاختلاف ، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لينعى عليهم تفرّقهم في دينهم إلى المؤمنين ، ويقبّح عندهم فعلهم ، فقال : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي : جعلوا أمر دينهم قطعا موزّعة بقبيح فعلهم.

والمعنى : ألا ترون أيّها المؤمنون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، وهو أنّهم جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزّع الجماعة الشيء ويقسّمونه ، فيصير لهذا نصيب ولذاك نصيب ، تمثيلا لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتّى ، متبرّأ بعضهم من بعض ، بالشيء المتوزّع.

ثم توعّدهم بقوله : (كُلٌ) من الفرق المتحزّبة (إِلَيْنا) الى حكمنا في وقت لا يقدر على الحكم سوانا (راجِعُونَ) فنجازيهم بأعمالهم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) شيئا ، مثل صلة الرحم ، ومعونة الضعيف ، ونصر المظلوم ، والتنفيس عن المكروب ، وغير ذلك من أنواع الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالله ورسله ، لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله ، فهذا لقطع طمع الكفّار الثواب لهذه المذكورات (فَلا كُفْرانَ) فلا تضييع (لِسَعْيِهِ) استعير الكفران لمنع الثواب ، كما استعير الشكر لإعطائه إذا قيل : إنّ الله شكور. ونفى نفي الجنس ليكون أبلغ

٣٥٣

من أن يقول : فلا نكفر سعيه. (وَإِنَّا لَهُ) لسعيه (كاتِبُونَ) مثبتون في صحيفة عمله ، بأن نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك ويثبتوه ، وما نحن مثبتوه فهو غير ضائع ، ويثاب عليه صاحبه.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

ثم هدّد كفّار مكّة بأنّهم إن عذّبوا وأهلكوا ، لم يرجعوا إلى الدنيا لجبران ما فات منهم من الإيمان والعمل الصالح ، كغيرهم من الأمم المهلكة السابقة ، فقال : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) أي : ممتنع على أهلها غير متصوّر منهم. فاستعير الحرام للممتنع وجوده.

ومنه قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ). (١) أي : منعهما منهم ، وأبى أن يكونا لهم.

وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي : وحرم ، بكسر الحاء وسكون الراء. وهما لغتان ، كحلال وحلّ.

(أَهْلَكْناها) حكمنا بإهلاكها ، أو وجدناها هالكة بالعقوبة (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) «لا» مؤكّدة لمعنى الامتناع ، والجملة الاسميّة مرفوع المحلّ بالابتداء ، و «حرام» خبره ، أو بأنّه فاعل له سادّ مسدّ خبره. والمعنى : ممتنع عليهم البتّة رجوعهم إلى الدنيا للتوبة عن الكفر والمعاصي ، وكسب الايمان والعمل الصالح.

__________________

(١) الأعراف : ٥٠.

٣٥٤

روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «كلّ قرية أهلكهم الله بعذاب فإنّهم لا يرجعون».

يعني : أنّ قوما عزم الله على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا وينيبوا ، إلى أن تقوم القيامة ، فحينئذ يبعثون ويقولون : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (١).

وقيل : «لا» غير مزيدة. والمعنى : ممتنع عليهم أنّهم لا يرجعون إلى الجزاء في الآخرة. ويجوز أن يكون التقدير : وحرام عليها ذلك المذكور في الآية المتقدّمة من السعي المشكور غير المكفور ، لأنّهم لا يرجعون عن الكفر. وحينئذ «حرام» مسند بضميره ، و «أنّهم» مقدّر بحرف الجرّ لتعليل الحرام.

وقوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) متعلّق بـ «حرام». أو بمحذوف دلّ عليه الكلام. أو بـ «لا يرجعون» أي : يستمرّ الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى أن فتحت يأجوج ومأجوج ، أي : سدّهما بحذف المضاف. يعني : إلى ظهور أمارة قيام الساعة ، وهو فتح سدّهما. وهما قبيلتان من الإنس. روي : أنّ الناس عشرة أجزاء : تسعة منها يأجوج ومأجوج. و «حتّى» هي التي يحكى الكلام بعدها ، والمحكيّ هي الجملة الشرطيّة. وقرأ ابن عامر ويعقوب : فتّحت بالتشديد.

(وَهُمْ) يعني : يأجوج ومأجوج (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) مكان مرتفع من الأرض (يَنْسِلُونَ) يسرعون. من نسلان (٢) الذئب. يعني : أنّهم يتفرّقون في الأرض ، فلا ترى أمكنة إلّا وقوم منهم يصعدون منها مسرعين. وعن مجاهد : الضمير للناس كلّهم. يعني : يخرجون كلّهم من قبورهم إلى الحشر.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) وهو القيامة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب الشرط. و «إذا» للمفاجأة ، تسدّ مسدّ الفاء الجزائيّة ، كقوله تعالى :

__________________

(١) الأنبياء : ٩٧.

(٢) نسل في مشيه نسلانا : أسرع.

٣٥٥

(إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (١). فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط ، فيتأكّد. ولو قيل : إذا هي شاخصة ، أو فهي شاخصة ، كان سديدا. والضمير للقصّة ، أو مبهم يفسّره الأبصار.

(يا وَيْلَنا) أي : يقولون هذه الكلمة. وهو واقع موقع الحال من الموصول ، تقديره : قائلين يا ويلنا. (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي : غفلنا عن هذا اليوم وصحّة وقوعه ، لاشتغالنا بأمور الدّنيا (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بالإخلال بالنظر والتفكّر فيه.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

ثمّ هدّد سبحانه مشركي مكّة ، فقال خاطبا لهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني : الأوثان (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ما يحصب به ، أي : ما يرمى به إليها وتهيج به. من : حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء.

ويحتمل أن يراد بقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) الأصنام وإبليس وأعوانه ، لأنّهم بطاعتهم لهم واتّباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. ويصدّقه ما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما ، فجلس إليهم ، فعرض له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النظر بن الحارث ، فكلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أسكته ، ثمّ تلا عليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية.

فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتسارّون. فقال : فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن

__________________

(١) الروم : ٣٦.

٣٥٦

المغيرة بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته. فدعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له ابن الزّبعرى : أأنت قلت ذلك؟

قال : نعم.

قال : قد خصمتك وربّ الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا ، والنصارى عبدوا المسيح ، وبنو مليح عبدوا الملائكة؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ) (١) الآية.

وروي أنّ ابن الزبعرى قال بعد نزول هذه الآية : هذا شيء لآلهتنا خاصّة أو لكلّ من عبد من دون الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ من عبد من دون الله».

فيكون قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) بيانا للتجوّز أو التخصيص تأخّر عن الخطاب.

والفائدة في مقارنتهم بآلهتهم أنّهم قدّروا أنّهم يشفعون لهم عند الله ، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدّروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم. ولأنّهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ وحسرة ، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم ، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب.

وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) استئناف ، أو بدل من «حصب». واللّام معوّضة من «على» للاختصاص. والمعنى : أنتم أيّها المشركون مع آلهتكم مخصوصون بدخول جهنّم (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً) كما تزعمون (ما وَرَدُوها) ما دخلوا النار ، لأنّ المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها (وَكُلٌ) من العابد والمعبود (فِيها خالِدُونَ) لا خلاص لهم عنها.

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) صوت كصوت الحمير. وهو أنينهم ، وشدّة تنفّسهم. وهو من إضافة فعل البعض إلى الكلّ للتغليب ، إن أريد بـ «ما تعبدون» الأصنام ، فإنّه إذا كانوا هم وأصنامهم في قرن (٢) واحد جاز أن يقال : لهم زفير ، وإن لم يكن الزافرين إلّا هم دون

__________________

(١) الأنبياء : ١٠١.

(٢) القرن : حبل يقرن به البعيران.

٣٥٧

الأصنام ، للتغليب ، ولعدم الإلباس.

(وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) لشدّة الهول والعذاب. وقيل : لا يسمعون ما يسرّهم ويتنعّمون به ، وإنّما يسمعون صوت المعذّبين ، وصوت الملائكة الّذين يعذّبونهم. وقيل : يجعلون في توابيت من نار ، فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره. ويجوز أن يصمّهم الله كما يعميهم.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

ثمّ قال الله تعالى ردّا لقول ابن الزبعرى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الخصلة المفضّلة في الحسن ، تأنيث الأحسن. وهي السعادة ، أي : علمنا بسعادتهم ، أو التوفيق للطاعة ، أو البشرى بالجنّة. يعني : عزيرا وعيسى والملائكة. (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لأنّهم يرفعون إلى أعلى علّيّين. وقيل : الآية عامّة في كلّ من سبقت له السعادة.

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) صوتها الّذي يحسّ. وهو بدل من «مبعدون» ، أو حال من ضميره ، سيق للمبالغة في إبعادهم عنها. (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من نعيم

٣٥٨

الجنّة (خالِدُونَ) دائمون في غاية التنعّم. وتقديم الظرف للاختصاص ، أو الاهتمام به. والشهوة طلب النفس اللذّة.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) الخوف الأعظم. وهو النفخة الأخيرة ، لقوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١). وعن الحسن : الانصراف إلى النار. وعن الضحّاك : هو عذاب النار حين تطبق على أهلها. وقيل : هو أن يذبح الموت على صورة كبش أملح ، وينادى : يا أهل الجنّة خلود لا موت ، ويا أهل النار خلود لا موت.

وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ثلاثة على كثبان من مسك ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ولا يكترثون للحساب : رجل قرأ القرآن محتسبا ، ثمّ أمّ به قوما محتسبا ، ورجل أذّن محتسبا ، ومملوك أدّى حقّ الله عزوجل وحقّ مواليه».

(وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : تستقبلهم مهنّئين لهم على أبواب الجنّة ، ويقولون : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) به في الدّنيا.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) مقدّر بـ : اذكر. أو ظرف لـ «لا يحزنهم» أو «تتلقّاهم». أو حال مقدّرة من العائد المحذوف من «توعدون» أعني : توعدونه. والطيّ ضدّ النشر.

يعني : أنّ السماء نشرت مظلّة لبني آدم ، فإذا انتقلوا قوّضت عنهم وطويت. (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي : طيّا كطيّ الصحيفة. وهي الطومار المجعول للكتابة ، أي : ليكتب ، أو لما يكتب فيه. وقرأ حمزة والكسائي وحفص : للكتب ، على الجمع ، بمعنى المكتوبات ، أي : المعاني الكثيرة المكتوبة فيه.

وقيل : السجلّ ملك يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه. وفي رواية عن ابن عبّاس : كاتب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعلى هذا ، فالكتاب اسم الصحيفة المكتوب فيها.

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) «ما» كافّة ، أو مصدريّة. و «أوّل» مفعول «نعيد» الّذي يفسّره «نعيده» ، والكاف متعلّق به. والمعنى : نعيد أوّل الخلق مثل ما بدأنا ، أو مثل

__________________

(١) النمل : ٨٧.

٣٥٩

بدئنا إيّاه. شبّه الإعادة بالإبداء في كونهما إيجادا عن العدم. والمقصود بيان صحّة الإعادة بالقياس المنصوص العلّة على الإبداء ، لشمول الإمكان الذاتي المصحّح للمقدوريّة ، وتناول القدرة القديمة لهما على السواء.

ويجوز أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسّره «نعيده» و «ما» موصولة ، أي : نعيد مثل الّذي بدأناه. و «أوّل خلق» ظرف لـ «بدأنا» أي : أوّل ما خلق. أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ ، الثابت في المعنى.

و «أوّل خلق» بمعنى أوّل الخلائق ، كقولك : زيد أوّل رجل جاءني ، تريد أوّل الرجال ، ولكنّك نكّرته ووحّدته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا.

والمراد بأوّله إيجاده عن العدم ، فكما أوجده أوّلا عن عدم ، يعيده ثانيا عن عدم.

وروي مرفوعا : أنّ معناه : كما بدأناهم في بطون أمّهاتهم حفاة عراق غرلا (١) ، كذلك نعيدهم.

(وَعْداً) مقدّر بفعله تأكيدا لـ «نعيده» أي : وعدناكم ذلك وعدا. أو منتصب به ، لأنّه عدة بالإعادة. (عَلَيْنا) أي : علينا إنجازه (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ذلك لا محالة.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) في كتاب داود (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي : التوراة. وقيل : المراد بالزبور جنس الكتب المنزلة ، وبالذكر اللوح المحفوظ. (أَنَّ الْأَرْضَ) أرض الجنّة. وقيل : الأرض المقدّسة. (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) يعني : عامّة المؤمنين المطيعين.

وقيل : أمّة موسى عليه‌السلام ، لقوله تعالى : (الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (٢)؟ وقوله : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣).

وقيل : المراد جميع أرض الدنيا يرثها أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتوح بعد إجلاء الكفّار ،

__________________

(١) غرلا جمع أغرل ، وهو الصبيّ الذي لم يختن. (٢ ، ٣) الأعراف : ١٣٧ و ١٢٨.

٣٦٠